ارتبط العالم ما بعد الحديث، الذي أخذ ينبثق في العقود الأخيرة من القرن العشرين والأولى من الحادي والعشرين، بمحاولات الخروج من أسر كوكبنا الأرضي، إلى كواكب أخرى سواء لفهم المعمار الكوني، أو للاستفادة منه والاستثمار فيه؛ حيث جرى الهبوط على سطح القمر قبل ستة عقود ونيِّف، وبات تنظيم الرحلات السياحية إلى المريخ أمرًا ممكنًا منذ سنوات. يكشف هذا- دون شك- عن مسيرة ارتقاء العقل البشري، الذي استطاع بما طوره من علوم نظرية، خصوصًا فيزيائية، ومن تطبيقات تكنولوجية، خصوصًا الفضائية_ من تحقيق سيطرة أكبر على عالمه، لكن المؤسف أن الإنسان الذي يزداد تطلعه إلى اكتشاف ممكنات الحياة في الكواكب الأخرى، يزداد عجزه عن العيش الآمن والكريم على كوكب الأرض نفسه؛ ولذا نجد أن تطلعاته لزراعة المريخ والسياحة على وجه القمر تترافق وسلوكياته المدمرة لممكنات زراعة الأرض والسياحة فيها. نعم أعطانا نمط الحياة الحديث، وما بعد الحديث، مرافق حياة أساسية أكثر عصرية، وتنظيمات اجتماعية أكثر رسوخًا، ومؤسسات للعدالة والعقاب أكثر فاعلية، وأشكال للترفيه والتسلية أكثر جاذبية، ما يعكس تزايدًا في ممكنات القوة لدى البشرية، لكن نمط الحياة هذا- وفي المقابل- سمح باستمرار بل بتغذية الجشع الفردي، والتناقض الطبقي، والتحيز الدولي، الأمر الذي جعل منها معاول هدم وأدوات هَدر وقيود حديدية تعوق حركة الإنسان نحو آفاق وفضائل كـ (العدالة، والحرية، والسلام)، ما يعكس تراجعًا في مستوى الحكمة البشرية.
لقد أنتج التاريخ عبر حِقَبه المختلفة، حكامًا كبارًا (فراعنة، وقياصرة، وملوك، وخلفاء)، كان من بينهم مصلحون وبناة دول أسسوا الإمبراطوريات وعمَّروا المدن. وفي المقابل، كان من بينهم من خرَّب هذه وأحرق تلك، وعمم الخراب على الجميع. ففي الحالين معًا، ساد قانون القوة في أغلب الأحوال، وسعى شيوخ القبائل الصغيرة- مثلهم في ذلك مثل أباطرة الإقطاع العسكري وحكام الإمبراطوريات العابرة للأقاليم- إلى التحكم فيما جاورهم من قبائل ومجتمعات ودول، والتوسع في أراضيهم، طالما كانت موارد القوة كافية لبسط السيطرة، فالحرب كانت سلوكًا يوميًّا، وعادة اجتماعية، بل حركة طبيعية تشبه حركتي الشهيق والزفير، لا تنظيمات دولية تمنعها ولا قوانين متمدينة تهذبها. غير أن التخلف التكنولوجي الساحق في جل العصور السابقة لعصرنا، أبقى للموت حدودًا محتملة رغم قسوته، وللخراب حدودًا متصوَّرة رغم اتساعه؛ حيث كانت عضلات المجتمع البشري لا تزال رخوة، تتوازى وحكمة التاريخ التي لم تزل ناقصة.
المشكلة الكبرى في عالم اليوم تكمن في الخلل المتزايد الذي أنتجته حركة التاريخ في المعادلة القارة بين (القوة، والحكمة)؛ فالقدرة المتزايدة على امتلاك التقنية والسلاح، أي القوة النازعة إلى الهيمنة والتسلط وممارسة القتل، لم يرافقها ارتقاء في مستوى الفضائل والمُثُل العليا، أي الحكمة البشرية النازعة إلى (الوئام، والانسجام، والسلام). هكذا تجاوزت قدرة الإنسان المعاصر على الإيذاء الفردي حدها البدائي المعروف إلى أُفْق غير محدود، مثلما تجاوزت قدرة الجماعات البشرية على القتل حدها التقليدي المألوف إلى مستوى نووي غير مسبوق. وفي المقابل، لم تنمو الفضيلة الذاتية للإنسان أو الحكمة العامة للجماعة بالدرجة نفسها رغم كل اللمحات الفكرية للحداثة والإشراقات الفلسفية للتنوير. والمحصلة النهائية، هي أن القدرة المتزايدة على التدمير صارت حقيقة مؤكدة، فيما ظلت الرغبة العميقة في السلام مجرد احتمال، ومن ثم استمرت المذابح تفتك بتعساء البشر، يتورط فيها الجشعون وتجار الدماء وأمراء الحرب الأغبياء، يخططون لها ويحيكون خيوطها، ولا يتورعون عن مد أطرافها بما ينتجونه من سلاح ويبثونه من شكوك تلعب دور الوقود اللازم لإشعال الحرائق. ولعل المتأمل في المقتلة السورية التي امتدت بطول العقد الثاني من القرن العشرين والألم المتولد عنها، والناظر إلى محرقة غزة الدائرة الآن فصولها، والمذابح التي تقع في إطارها، يجد كل عناصر المأساة الإنسانية، ويدرك كيف بدت الادعاءات الليبرالية والنزعات الإنسانية والمنظومات الحقوقية في مواجهتيهما محض خطابات أيديولوجية جوفاء يلوكها الأقوياء في القاعات المكيفة، أو عقود من اللؤلؤ الثمين، تزين فقط أعناق سيدات القصور، فيما تمتنع على أعناق سيدات الحقول والبيوت الطينية، المكافحات لأجل لقمة العيش، وكيف أن ما ينطبق على إنسان أوكرانيا المحاصر لا يكاد ينطبق على إنسان سوريا وفلسطين المكلوم.
السردية الفلسطينية والرأي العام العالمي:
طالما هيمنت السردية الصهيونية حول الصراع العربي الإسرائيلي على عقول وقلوب الشعوب الغربية، فيما ظلت السردية الفلسطينية محاصرة، إما غائبة بالمطلق، أو حبيسة في عقول بعض الدوائر النخبوية والمنتديات الثقافية أو في صدور بعض أصحاب النزعة الإنسانية، تلك المعضلة إنما تنطوي على إشكاليتين أساسيتين: الإشكالية الأولى: تتمثل في عجز الرأي العام الغربي نفسه عن إدراك حقيقة الصراع، واتخاذ موقف عادل وأخلاقي منه. هذه الإشكالية تبدو لنا منطقية إلى حد كبير؛ فأغلبية البشر لا يملكون حسًا نقديًّا يُمكِّنهم من إدراك جوهر القضايا المعقدة، فيكتفون بتداول المتاح عنها، خضوعًا لسلطة الثقافة السائدة والإعلام الرائج. وقد ظلت إسرائيل منذ قيامها قبل ثلاثة أرباع القرن بمثابة حالة خاصة في المجتمعات الغربية؛ إذ تشكل إجماع واسع حول تصور ما لطبيعتها ولدورها بين النُّخب الفاعلة (ثقافيًّا، وإعلاميًّا، وماليًّا)، صار بمرور الوقت أقرب إلى باراديم، منظور معرفي سائد، قالب ذهني جاهز، يمكن للفرد العادي أن يلوذ به ويختبأ داخله، أن يستدعي مقولاته كلما احتاج إلى التعبير عن رأيه في إسرائيل نفسها كنموذج للاستعمار الاستيطاني، أو في ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض. يتورط الفرد العادي في ذلك الفخ هروبًا من عبء التفكير النقدي وخوفًا من الألم المصاحب لاكتشاف حقيقة صادمة، وما يترتب على ذلك الاكتشاف من أعباء أخلاقية، ولهذا تعاطى الجمهور الغربي مرارًا مع الصراع عبر انطباعات ذاتية، انطوت على تحيزات، تحكمت فيها عوامل كثيرة من قبيل: حسن النية، وضعف الثقافة، واستسهال مجاراة التيار السائد، خصوصًا وأن القضية لا تمس مصالحه المباشرة، وهو ما أجادت النظم الحاكمة استغلاله في الحصول على ما يشبه تفويض دائم بحرية التصرف إزاء الصراع، بل إن موقفًا أكثر خطورة سرعان ما تشكل، وهو صيرورة الموقف الإيجابي إزاء إسرائيل معيارًا لإسباغ الشرعية على بعض الحكومات كحال ألمانيا، ومدخلًا لانتخاب بعض الرؤساء كحال الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المقابل، صيرورة الموقف السلبي منها بابًا يُفتح على جحيم مشتعل من الاتهام بمعاداة السامية، وما يليه من حصار ثقافي أو عقاب مهني خصوصًا في الدوائر الإعلامية والفنية والأكاديمية، ولعل ما حدث مؤخرًا لرئيسة جامعة هارفارد هو خير مثال؛ إذ اُضطرت للاستقالة من منصبها تحت ضغط الحملات الدعائية للأيباك، والضغوط السياسية للكونجرس، لمجرد أنها تسامحت مع حق الطلاب في التعبير عن آرائهم، رغم أن حرية التعبير تمثل قيمة أمريكية، تدافع عنها الولايات المتحدة في كل مكان، ولكنها تتقاعس عن تطبيقها على أراضيها نفسها عندما يتعلق الأمر بدولة إسرائيل كاستثناء ثقافي.
بالقطع، كان ثمة من استطاعوا الخروج على ذلك النمط الفكري السائد، وتلك القوالب الجاهزة، من أحرار العقول ذوي الهمة المعرفية والإرادة النفسية، الذين يملكون الجدية الكافية في طلب الحقيقة، وكذلك القدرة على تحمل مسؤولياتها، لكن هؤلاء يظلوا قليلين، مجرد نخبة بين المثقفين والأكاديميين والفنانين، المفارقة أن من بينهم يهود، بل إن اليهود منهم كانوا الأكثر وعيًا بجوهر الصراع من غيرهم، والأكثر عمقًا في نقد السردية الصهيونية، والدور الأمريكي في ترسيخها ورعايتها، ولعل (نعوم شومسكي، ونورمان فلنكشتاين، وريتشارد بن كرامر) يمثلون الدليل الأبرز، ناهيك عن جل المنتمين إلى حركة المؤرخين الجدد داخل إسرائيل نفسها (بني مورييس، وآفي شلايم، وجرسون شافير، وباروخ كمرلنج، وتوم سيجيف، وعاموس عوز، وخصوصًا إيلان باييه). لقد أدرك هؤلاء طبيعة الصراع بجذوره العميقة ومآلاته المحتملة، لم يتنكروا جوهريًّا لما قامت به الصهيونية العلمانية من جهد في تأسيس الدولة الإسرائيلية، لكنهم حذروا من مغبة إنكارها لوجود الشعب الفلسطيني على مستقبلها نفسه، غير أن هؤلاء ظلوا دائمًا صوتًا غير مسموع إلا في قاعات المحاضرات والندوات، محض هامش نحيف على متن تيار عريض دافق بالسردية الصهيونية في كل مكان، في مؤسسات التربية والتثقيف، وفي أروقة الأعلام السائد، بل في الشوارع والأزقة والمقاهي الحافلة بالحكايات، حتى رحل بعضهم دون تأثير حاسم في مجرى الصراع.
بِشارة اليوم، رغم المرارات والآلام التي صنعتها الوحشية الإسرائيلية الكامنة في عملية السيوف الحديدية، التي طالت لأربعة أشهر ونصف الشهر عند كتابة هذه السطور، هي تهتك الغلاف الغليظ الذي ضربته الثقافة السائدة والحجاب الحاجز الذي فرضه الإعلام الرائج حول السردية الفلسطينية، فالوحشية الإسرائيلية- إذ جاءت فوق كل حد، مصورة لحظة بلحظة في زمن الآفاق المفتوحة، متداولة عبر الهواء مباشرة وعلى الهواتف المحمولة- صارت عصية على أقوى مهارات الإخفاء، وكل صنوف الإنكار التي مارسها الإعلام التقليدي (الرسمي، وغير الرسمي)، بل إنها باتت تطارد خيال عموم الناس، وتهاجم أرباب الضمائر الحية في يقظتهم قبل نومهم، ومن ثم اندفعوا إلى كسر حواجز الجهل، قفزوا فوق أسوار الغفلة، وخرجوا في مظاهرات عارمة طلبًا لراحة الضمير وخلاصًا من ألم الحقيقة، وقد صارت جلية بقدر ما إنها مريرة، وبالذات منذ جرى قصف المستشفى المعمداني الذي قارب عدد ضحاياه الخمسمئة شهيد. ففي بريطانيا، شهدت العاصمة لندن تظاهرات عدة تندد بالعدوانية الإسرائيلية، كان أكبرها تلك المسيرة الحاشدة التي انطلقت يوم السبت 21 أكتوبر مطالبة بالوقف الفوري للعدوان. قبل ذلك أدان أعضاء البرلمان الأيرلندي إسرائيل بصراحة تامة، حتى أن أحد الأعضاء قاد مظاهرة تحدث فيها بجسارة نادرة عن ممارسة إسرائيل لنوع من الأبارتيد أكثر بشاعة مما كان سائدًا في جنوب إفريقيا. وفي فرنسا، قامت مظاهرات عدة تطالب بالحرية لفلسطين كلها وليس فقط لغزة المحاصرة، رغم رفض وزارة الداخلية الفرنسية للتظاهر، وهو القيد الذي أزاله تاليًا مجلس الدولة الفرنسي. في هولندا، التي طالما نُظر إليها على أنها مؤيدة لإسرائيل نظرًا للكثرة النسبية لليهود بين سكانها، وكذلك في: السويد، والدانمرك، والنرويج، دول شمال غرب أوروبا التي اعتدنا عدم اكتراثها بصراعات الشرق الأوسط، حيث خرجت تظاهرات عدة عبرت عن الامتعاض نفسه من الهمجية الإسرائيلية، على لسان إعلاميين وأكاديميين ومثقفين. أما النائبة الأيرلندية في البرلمان الأوروبي، فألقت نصًا رائعًا أدانت فيه ازدواجية النظر إلى الروح الإنسانية، والتصرف إزاء الفلسطينيين وكأنهم ليسوا بشرًا. أما المفارقة الأكبر فجاءت من الولايات المتحدة، التي شهدت تظاهرات عديدة، حاصر بعضها البيت الأبيض، وأربك بعضها الآخر حركة المرور في ميدان “تايمز سكوير” الأشهر في نيويورك، لكن أكبرها حجمًا وأكثرها دلالة هي التي قادتها منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام، التي اقتحم متظاهروها مبنى الكونجرس، وعبروا بلغة واضحة ومؤثرة عن غضبهم من الدعم الأمريكي لإسرائيل بالسلاح مرددين: “لا تقتلوا باسمنا”، ما دعا قوات الأمن للقبض على الكثيرين منهم، بينهم أربعة وعشرين حاخامًا.
فضلًا عن ذلك، كان التعاطف هائلًا في وسائط التواصل الاجتماعي من قبل شخصيات موصوفة بالتأثير، امتلكت من الضمير الحي ما يكفي للتنديد بوحشية إسرائيل الدامية، وتسمية سلوكها بما يستحق من أوصاف على رأسها جريمة الإبادة الجماعية، فعل ذلك فنانون من طراز “ميل جيبسون”، الذي لم يكتفِ بإدانة إسرائيل، بل قال بنهايتها القريبة، مؤكدًا على شعورها نفسها كدولة بذلك ومدلِّلًا عليه باتباعها سياسة الأرض المحروقة، فهي تدمر كل شيء لأنها تدرك أنها سوف تفقد كل شيء. وهناك أيضًا نجوم كرة القدم من طراز البرتغالي “كريستيانو رونالدو”، الفائز بالكرة الذهبية كأحسن لاعبي العالم خمس مرات، والمعروف عنه مناصرته الدائمة للفلسطينيين وتبرعه السخي لأهل غزة في مناسبات عدة سابقة، “وإريك كانتونا” نجم كرة القدم الفرنسي المعتزل، الذي لعب محترفًا في صفوف فريق مانشستر يونايتد في عصره الذهبي، حيث ندد بسياسة بلاده المنحازة لإسرائيل. وأيضًا الشابة الصغيرة ابنة المدرب الإسباني الشهير “بيب جوارديولا”، التي عبرت بحس إنساني رقيق عن اشمئزازها من همجية إسرائيل وقتلها الأطفال والمرضى، وهو موقف أيده الأب. لن أتحدث هنا عن اللاعبين العرب ولا حتى عن الأوروبيين من أصول عربية فهم كثر، ولكن أُثمن بالذات موقف “كريم بنزيمة” الواضح، والذي أفضى إلى مطالبة وزير الداخلية الفرنسية بسحب جنسيته، بذريعة تأييده لحماس وانتمائه لأيديولوجية الإخوان المسلمين، وهو ما رد عليه اللاعب، الحائز على جائزة الأفضل في العالم، برفع قضية تشهير ضد الوزير.
أفضى التحرر من قفص الإعلام الرائج إلى قدر لا بأس به من التحرر من قبضة الثقافة السائدة، فالكثير ممن طالعوا الجرائم الإسرائيلية مصورة، بدؤوا يتشككون في الرواية الصهيونية المختزَلة عن تلك الدولة الديمقراطية الصغيرة المحاطة بدول كثيرة مستبدة وشريرة، كما دخل بعضهم في مغامرة معرفية تنشد الإحاطة بجذور الصراع، تسأل عن فلسطين تاريخًا وجغرافية، فكانت النتائج أحيانًا مدهشة؛ إذ لم يدرك هؤلاء فقط أن فلسطين دولة عريقة، موجودة على خريطة العالم منذ عشرات القرون، بل أدركوا أيضًا أن إسرائيل لم تكن موجودة حينما وُلد البعض منهم، كما صرحت بذلك سيدة يهودية أمريكية على مشارف الثمانين عامًا من العمر. هكذا يمكن القول بأن القضية الفلسطينية تقدمت خطوات واسعة في معركة العقول والقلوب؛ لتحتل مكانها اللائق في ضمير الإنسانية، كقضية تحرر وطني من أنياب أقبح وآخر استعمار استيطاني استئصالي، ولكن يظل السؤال: هل يكفي النجاح في تلك المعركة الرمزية لتغيير مواقف الدول الكبرى، وقبولها بالتطبيق الحاسم والفعال لقرارات الأمم المتحدة حول الدولة الفلسطينية؟
الهُوَّة بين الشعوب والحكومات:
هنا نصبح أمام الإشكالية الثانية: التي تواجه السردية الفلسطينية في العالم الغربي، والمتعلقة بتلك الهوة الواسعة بين مواقف الرأي العام، وقد اقتربت من حدود الإنصاف والعدل، وبين مواقف نظم الحكم، والتي أبدت انحيازًا مطلقًا لإسرائيل منذ اللحظة الأولى، خصوصًا (الولايات المتحدة، وألمانيا، وبريطانيا)، وحتى عندما أعادت بعض الدول تقييم مواقفها تحت ضغط الوحشية الإسرائيلية كـ (فرنسا، والولايات المتحدة)، فإنها لم تغير سوى اللهجة والمصطلحات دون السياسات والإجراءات؛ ولأننا إزاء دول ديمقراطية، يفترض أن تعبر حكوماتها عن توجهات شعوبها، يبدو التناقض هنا أقرب إلى مفارقة تحتاج إلى تفسير. والحقيقة إن الافتراض يظل صحيحًا في المجمل، لكن يجري الإخلال به في حالات استثنائية، ولدوافع مختلفة، يأتي على رأسها ثلاثةٌ أساسية:
الدافع الأول: اقتصادي، يتعلق بمراكز القوة والنفوذ التي تتوافر للشركات الكبرى، عابرة القارات، والتي تعمل في مجالات حيوية، وتتأثر بالمزاج السياسي السائد، خصوصًا شركات التكنولوجيا المتقدمة والتصنيع العسكري، فالمؤكد أن مصالح تلك الشركات يتم مراعاتها من قبل دولة المنشأ، سواء لما تمثله من نسب وازنة في اقتصادياتها، أو لما تملكه من تأثير على فرص نجاح المرشحين في الانتخابات العامة البرلمانية والرئاسية، فالإنفاق على الدعاية الانتخابية يفوق كثيرًا طاقة جل المرشحين، ما يتطلب تمويلًا عامًا من أفراد وشركات على نحو يعترف به القانون وينظمه. ولعل المثال الأبرز على ذلك هو الولايات المتحدة؛ حيث التأثير الحاسم للمجمع الصناعي العسكري على السياسة الخارجية، إلى الحد الذي يدفعه أحيانًا نحو إشعال الحروب وتغذية الانقلابات ضد النظم القائمة، خصوصًا في بلدان العالم الثالث أو الجنوب؛ لما يضمنه ذلك من رواج هائل لصناعة السلاح، الصناعة الوحيدة التي تعاني البوار حال استقرار الأمن وسيادة السلام.
والدافع الثاني: يتمثل في وجود جماعات ضغط قوية، تملك أهدافًا سياسية خاصة بها، لا تندرج بالضرورة في سياق المصلحة العامة، رغم أنها تتمتع بالمشروعية وتعمل في إطار القانون، على منوال منظمة الأيباك- اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة- وهو الأكبر من نوعه في العالم. تستقطب تلك المنظمة أموالًا هائلة من تبرعات الأمريكيين اليهود لتمويل نشاطها في دعم إسرائيل، وتستثمر لصالح هذا النشاط- سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- في كثير من السياسيين الأمريكيين المؤثرين، خصوصًا أعضاء مجلسي (النواب، والشيوخ)، وحكام الولايات، ناهيك عن المقعد الرئاسي، فمن خلال الإنفاق المباشر على حملاتهم الانتخابية، أو العمل من خلال وسائل الإعلام على ترويج دعايتهم السياسية أو على العكس التركيز على مواقفهم السلبية وقضاياهم الجنائية، وأحيانًا نشر فضائحهم الجنسية، يمكن التأثير في مواقف هؤلاء جميعًا، والضغط عليها لاتخاذ مواقف لا تتفق مع المصلحة الأمريكية العامة بالضرورة، ولا حتى مع ميول الرأي العام السائد.
والدافع الثالث: يتمثل في وجود نوع من الخبرة الثقافية الاستثنائية لدى الجماعة البشرية إزاء طائفة ما بذاتها، يثير لدى المزاج العام ضعفًا عاطفيًّا نحوها، إلى درجة تمنحها نوعًا من الخصوصية، هذه الخبرة الاستثنائية تأخذ أحد شكلين: أحدهما موجب، يأخذ شكل الشعور بالشراكة في المصير، وهو ما يتجسد بوضوح في تآلف المسيحية الإنجيلية ذات الحضور الوازن في العقل الأمريكي، مع الصهيونية الدينية الراسخة في العقل اليهودي؛ إذ يؤمن المسيحيون الإنجيليون بسفري دانيال، وحزقيال في العهد القديم، ورؤيا يوحنا في العهد الجديد، وجميعها تبشر بالعقيدة الألفية، أي عودة المسيح ليحكم العالم ألف عام يسودها السلام والرخاء، بعد مواجهته لقوى الشر في العالم، وهزيمتها في موقعة دموية قاسية (هرمجدون) يُقتل فيها ثلثا العالم، حيث يرتبط هذا الحدث التدشيني بعودة اليهود إلى أرض الميعاد، وقيامهم ببناء الهيكل، الذي يمثل والحال هذه بشارة العصر الألفي. لكن، وعند هذه النقطة يبدأ الخلاف بين المسيحية الإنجيلية وبين الصهيونية الدينية؛ فاليهود يدركون هذا الحدث باعتباره تدشينًا لعودتهم إلى موقع الشعب المختار، بعد فاصل طويل من الشتات، انطلاقًا من تصور، هو إن الله كان قد تخلى عنهم منذ استقلت المسيحية كدين عنهم، ثم خراب أورشليم وتدمير الهيكل عام 70م، واتجه في المقابل إلى الأمم ليقيم علاقة مباشرة معهم، لكن- ومع المجيء الثاني للمسيح- ينتهي زمن الأمم، ويعود الله مرة ثانية إلى إسرائيل وحدها، ورغم أن المسيح في مجيئه الأول رفض تأسيس ملك أرضي، وهو ما دفع اليهود إلى رفض نبوته، فإن مجيئه الثاني سيكون تلبية لحلمهم القديم في مسيا (مخلص) مسلح بالقوة والعنف، وهكذا تعود المسيحية إلى الشجرة الأم، وكأنها لم تكن سوى مرحلة وسطى تنتهي بانتهاء مهمتها، ذائبة في اليهودية. أما المسيحيون الإنجيليون فيرون- على العكس- أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ليست انتصارًا لليهودية، بل بداية لتحول اليهود أنفسهم إلى المسيحية، ما يعني أن المسيحية هي قلب خطة الرب لنهاية التاريخ وليس اليهودية؛ ولأن الهيكل لم يُبنى بعد، والمسيح لم يعد ثانية حتى الآن، تظل لحظة الصدام مؤجلة، ويصبح تعضيد إسرائيل بمثابة لاهوت سياسي أمريكي، خصوصًا لدى اليمين المسيحي، الذي يشكل قاعدة قوية للحزب الجمهوري. وفي موازاة ذلك، نُسجت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على منوال استثنائي؛ حيث جرى النظر لإسرائيل كولاية أمريكية، واعتبر أمنها جزء من الأمن القومي الأمريكي، وحمايتها في كل الظروف هدفًا أساسيًّا، حتى أن جميع السلوكيات العدوانية التي قامت وتقوم بها إسرائيل من حروب هجومية، وتوسعات استيطانية، لاقت تأييدًا لا يمكن تفسيره إلا على قاعدة تلك العاطفية الدينية لدى الإنجيليين الأمريكيين.
أما الشكل الآخر للخبرة الثقافية الاستثنائية فسالب، يأخذ شكل العقدة، وهو ما يتجسد خصوصًا في الحالة الألمانية؛ حيث تظل المحرقة النازية لليهود (الهولوكست) بمثابة الإثم الكبير، المستقر في الضمير الجمعي، والذي يشعر الألمان بخزي وألم استثنائيين، يدفعان حكومتهم إلى تقديم دعم اقتصادي سنوي لإسرائيل كدولة نجحت في طرح نفسها وريثًا لحقوق اليهود في أربعة أنحاء العالم، خصوصًا في أوروبا. كما يدفعهم إلى التأييد التلقائي لسياستها العدوانية، أيًّا كان تقييمهم لها، على النحو الذي يبرز جليًّا في كل مواقفها الصراعية من العرب وضمنها العدوان الأخير على غزة؛ إذ لم تحل الوحشية الإسرائيلية دون التأييد المبدئي والتلقائي.
جنوب إفريقيا وفلسطين.. توأمة الألم والأمل:
في سجنه الطويل والمرير قرأ مانديلا كثيرًا عن (الحياة، والإنسان، والتاريخ)، لكن ما ميزه عن الآخرين هو عمق إيمانه بما عرف، وتكريس حياته في خدمة إيمانه؛ أدرك يقينًا وباكرًا، أن للأفكار دورة حياة لابد وأن تكملها، وأن الرد العنيف على فكرة متطرفة لا يزيل تطرفها بل يصنع فكرة أكثر تطرفًا منها، فلا سلام حتى تتنازل كل فكرة عن غرورها، ليجري التصالح بينهما؛ ولذا فإن أكبر ميزات الرجل العظيم لم تكن فقط قلبه النبيل، بل عقله الرحيب الخالي، لم يسعَ قط للانتقام من مضطهديه، بل أحب سجانه الذي كان يمرر له الكتب- فقط الكتب- خصوصًا أعمال ويليم شكسبير، وعندما تُوج كفاحه بالخلاص من القهر والعنصرية مع الجلوس في سُدة الحكم، كانت التجربة الأصعب في حياته: فإن تحكم بالعدل تكن إنسانًا عظيمًا، أما أن تعدل مع جلاديك وتصفح عن ظالميك، فأنت بالضرورة أكبر من مجرد إنسان، ولهذا كان جهاد الرجل لنفسه، لألمه وغضبه، جهادًا مريرًا، استحق معه أن يكون أحد أبطال الإنسانية.
كان قائدًا لحزب شيوعي عندما دخل السجن للمرة الأولى عام 1962م، ولكنه ظل مسيحيًّا طيبًا ينعم بكل طاقات الحب وملكات التسامح، لم يتوانَ يومًا عن إبداء تعاطفه مع الفلسطينيين توأم بلاده في معاناة العنصرية والتمييز، ولا عن إبداء احترامه لناصر، قائد تحرير إفريقيا. كان ذا ميول اشتراكية؛ ولأنه يدافع عن شعب بائس، يعاني شظف العيش ضد أقلية بيضاء تمتلك جل الثروة، كان الأسهل له تأميم كل شيء، وتسخير أدوات الدولة للقصاص من تلك الأقلية، لكنه لم يفعل بل قدم دعمًا لرجال الأعمال الأثرياء طالبًا منهم أن يتعاملوا مع العمال السود بعدالة، وأن يسهموا في النهوض باقتصاد البلاد، فهكذا تحل المشكلة تدريجًا بدلًا من الدخول في فلك نزعات الثأر والانتقام. لم يكره مانديلا منتديات البيض ورموزهم، وعلى رأسها فريق الرجبي- اللعبة الأكثر شعبية في البلاد- والتي لم يكن يمارسها غير البيض، حتى أن منتخب البلاد لم يكن به لاعب واحد أسودُ، بل تصالح مع ذلك الرمز مطالبًا بتنظيم بطولة العالم في بلاده، قبل أن يفاجئ الجميع بحضوره أولى مباريات المنتخب ولعب ضربة البداية، في مشهد لا أظن أن البيض سوف ينسَوْه أبدًا، حيث قدم المظلوم، وهو في عز قوته وأوج مجده، قربان المصالحة لظالمه، ولذا رثاه أسقف جنوب إفريقيا الأكبر “ديزموند توتو” في حفل تأبينه قائلًا: “علمنا كيف نعيش معًا.. أن نؤمن بأنفسنا ونؤمن بالآخرين كذلك”.
كان الفيلسوف أفلاطون قد نظر بعين الريبة إلى الإنسان العادي، وأبدى تشككًا في قيمة الإرادة العامة للجماهير (الديمقراطية) معتبرًا أن الحاكم الوحيد الذي يصلح لمدينته الفاضلة هو ذلك الرجل الحكيم (الفيلسوف)، الذي يمكنه إدراك مواقع الفضيلة والتحرك نحوها ووضع نفسه في خدمتها، لكن- وعبر عصور طويلة- ظلت مدينة أفلاطون خارج هذا العالم، ولم يحكم الفيلسوف أبدًا، فإذا ما تصادف ومارس الحكم لم يعد فيلسوفًا؛ لأن للحكم مقتضياته، هكذا قال الحكيم الصيني “كونفوشيوس” لتلاميذه الذين انتشروا في مرافق الإمبراطورية وصنعوا شخصيتها قرونًا طوال. وهكذا أكد: مكيافيللي، وهوبز، وهيجل، … وغيرهم من مفكرين فصلوا السياسة عن الأخلاق وصبغوها بالأنانية والدنيوية والشمولية. وحده مانديلا، حقق الحلم الأفلاطوني، حيث صار الحكيم حاكمًا، ناضل لأجل العدالة وثار على الظلم من دون كراهية للظالمين خِشية أن ترتد الكراهية بآثارها على المظلومين. لقد أدرك الرجل- وهذا سر عبقريته- أن الحياة تتسع للجميع، وأن الكراهية مميتة للجميع، وأن الانتقام الحقيقي من ماضٍ قبيح هو صناعة مستقبل أجمل، أكثر عدلًا وأوسع أملًا؛ ففي خطاب تتويجه رئيسًا نهاية القرن العشرين (1994م)، أعلن تسامحه مع من طردوه من فضاء الحرية وأوثقوه بالأغلال، وهو ما لا يتأتى إلا من روح عظيمة، تلهمها مُثُل علُيا وتغذيها أفكار كبرى، تدرك أن الظلم متاهة الظالم لا المظلوم، وأن الثأر متاهة المظلوم لا الظالم، وأن العدل والحق كالخير والحب، ساحة واسعة لأمل صادق ويقين دائم، يسعُ الجميع.
هذا هو الإرث الكبير الذي دفع دولة جنوب إفريقيا (البلد الوحيد خارج العالم العربي، الذي اجتمع فيه الرأي العام مع نظام الحكم على دعم الحق الفلسطيني) إلى مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة الإبادة الجماعية لأهل غزة، وذلك في لحظة استأسد فيها الظلم وخَفُت صوت العدل، حيث الأقوياء سادرون في الغي، لا تكاد ضمائرهم تستفيق إلا لمحة، والآخرون من ذوي القربى يتلعثمون في لغة الخوف، لا تكاد تخرج الحروف من أفواههم إلا عَنوة. فيما كان صوت الرئيس الجنوب إفريقي “سيريل رامافوزا” يردد بلغة إنسانية سامقة: “لن تكتمل حريتنا إلا بتحرر فلسطين”. وكان فريقه القانوني الرائع يقدم في أربعٍ وثمانين صفحة، فضلًا عن فيديوهات عديدة مصورة، ما يثبت وقائع جريمة الإبادة بركنيها المادي والمعنوي، والتي عرفتها اتفاقية روما 1948م، بـالتدمير الإرادي والقتل العمدي لجماعة بشرية على أساس عرقي أو ديني، في حق إسرائيل؛ حيث المذابح الهائلة للمدنيين -خصوصًا النساء والأطفال، مع النية والقصد المعلنين على ألسنة المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين، والظاهرين في سلوك القادة الميدانيين والجنود المقاتلين، الذين طالما احتفلوا بقدرتهم على التدمير والقتل، وأبدوا الشماتة في الضحايا المغدورين والمنكوبين.
لقد كان الحادي عشر من يناير- بغض النظر عما تلاه أو سيتلوه- تاريخًا كاشفًا لنمطين نقيضين من الروح الإنساني؛ فثمة أرواح سوية، عانت الظلم فكرهت مذاقه لنفسها ولغيرها، فلم تمارسه ضد غيرها، حتى على ذلك الذي ظلمها، بل كرست جهدها للقضاء عليه انتصار لحرية الإنسان التي لا تقسيم فيها ولا تمييز، وتلك هي حالة جنوب إفريقيا، التي تكاد تمثل توأمًا للفلسطينيين في تجربة الألم والمعاناة من التمييز العرقي والفصل العنصري، التي مارستها الأقلية البيضاء من المستوطنين الأوروبيين ضد الغالبية السوداء من أصحاب الأرض لقرون عدة، كما مارسها الإسرائيليون الصهاينة المحتلون ضد أصحاب الأرض من العرب لعقود شتى. وثمة أرواح سادية، عانت من الظلم، فلم تكرهه، بل عشقته وأدمنت ممارسته على غيرها، والأخطر من ذلك، بل الأبشع، أنها لم تمارسه ضد من ظلمها بالفعل، لمجرد أنه قوي وأنها لا تستطيع النيل منه، بل مارسته ضد الطرف الذي لم يظلمها قط، بل إنه الطرف المنتمي للثقافة الوحيدة التي عطفت على أسلافه واحتوتهم داخل مجتمعاتها، بل منحتهم أدوارًا مؤثرة في بنية حياتها، وتلك قطعًا هي حالة إسرائيل، التي عانت من المحرقة النازية لليهود، فلم تتردد في إشعال محرقة إسرائيلية للفلسطينيين، لم يرَ عقلها الصهيوني المراوغ في ذلك تناقضًا، بل تجارة، يذرف دموع الألم عند قدم الأقوياء؛ ليمنحوه من القوة المالية والعسكرية، زادًا يضرب به الضعفاء، وهكذا جعل من الألم والظلم سيفًا وضعه على رقبة غيره من المقهورين، ليتناسل الظلم وتتكرر المآسي، دونما اعتبار لحكمة التاريخ أو لصوت الضمير.