أحرزت الجهود الفلسطينية الرامية إلى وضع جرائم إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بعض التقدم، بعد قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة الصادر في (5 فبراير 2021 م)،([1]) – بأغلبية (اثنين إلى واحد) – بأنَّ ” للمحكمة اختصاصًا قضائيًّا على دولة فلسطين التي تشمل (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية)، باعتبارها دولة طرفًا في (ميثاق روما)”، وقد أتى هذه القرار بعد أن أقرت المُدَّعية العامة للمحكمة (فاتو بنسودا) في عام 2019 م بوجود “أساس معقول للشروع في إجراء تحقيق في الحالة في فلسطين، وبأنَّ جرائم حرب قد ارتكبت أو تُرتكب في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة”،([2]) لكنها طلبت من الدائرة التمهيدية للمحكمة البتّ في نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة، أي ما النطاق الإقليمي لهذا الاختصاص؟ ذلك أنَّ حدود دولة فلسطين غير محددة حتى الآن، يفتح هذا القرار الطريق أمام المُدَّعية العامة للانتقال من مرحلة التحقيق الأولى إلى مرحلة التحقيق في عدد من الملفات التي أحيلت إليها، أبرزها الجرائم التي ارتكبت في الحرب على غزة في عام 2014 م والاستيطان.
أولًا: الجهود الفلسطينية والمحكمة الجنائية الدولية:
تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي هي محكمة دولية دائمة بموجب معاهدة (نظام روما الأساسي) في (1 يوليو 2002 م)([3]) وتتمثل سلطتها في ممارسة ولايتها القضائية على أشخاص فيما يتعلق بأخطر الجرائم التي تثير قلقًا دوليًّا، والمعروفة بأنَّها (جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، وجريمة العدوان)، والأهم من ذلك أنَّ ولاية المحكمة الجنائية الدولية مكمّلة لـلولاية القضائية الجنائية الوطنية، وهناك (123) دولة طرفًا في النظام الأساسي، وقد وقَّعت عليه (الولايات المتحدة وإسرائيل) عام 2000 م، ولكنهما أبلغتا الأمين العام للأمم المتحدة بعد ذلك بعامين أنَّهما لن تصادقا عليه، وبالتالي لن تكونا مقيّدتين بأي التزامات تترتب عليه، وبدون هذا التصديق، فإنَّهما ليستا طرفًا في المعاهدة. أمَّا الدول الأخرى التي ليست أطرافًا في النظام الأساسي، فلديها فرصة للانضمام إليه عبر إيداع صكّ انضمامها لدى الأمين العام للأمم المتحدة.
في (يناير 2009 م)، وعقب العدوان الإسرائيلي الأول على قطاع غزة، أودع (علي خشان) وزير العدل الفلسطيني السابق – إعلانًا رسميًّا بموجب المادة (12) – (3) من (نظام روما الأساسي) لدى مكتب المُدَّعي العام (لويس مورينو أوكامبو)، والذي بموجبه يقبل بولاية المحكمة على الأراضي الفلسطينية، وقام المُدَّعي العام – آنذاك – بالمماطلة بدعوى البحث بمسألة وضع فلسطين كدولة في القانون الدولي، وبعد ثلاث سنوات في 2012 م،([4]) امتنع المُدَّعي العام عن اتخاذ قرار، حيث طلب تسوية الأمر في الأمم المتحدة رغم التأكيد على وضع فلسطين كدولة في (أكتوبر2011 م) عندما صوتت غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لصالح عضويتها في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
وكان قد تم قبول فلسطين كدولة (مراقب غير عضو) في عام 2012 م؛ وبسبب (الفيتو الأمريكي) في عام 2014 م، وقَّع الرئيس الفلسطيني (محمود عباس) على الاتفاقية التأسيسية للمحكمة (نظام روما الأساسي)، ومنذ ذلك التاريخ تمت إحالة الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل من قبل فلسطين إلى المحكمة، ولكن حتى صدور القرار، ظل ما إذا كانت المحكمة مختصة في الأراضي الفلسطينية مسألة خلافية؛ بسبب أنَّ إسرائيل لم تكن من الدول الموقّعة على الاتفاقية، حيث أنَّ الطرف الذي ارتكب الانتهاكات غير موقّع على الاتفاقية، وبناءً على ذلك ففي (2 يناير 2015 م)، أودع المسؤولون الفلسطينيون صكّ انضمامهم إلى المحكمة الجنائية الدولية لدى الأمين العام للأمم المتحدة – آنذاك – (بان كي مون)، الذي أشار إلى أنَّ (نظام روما الأساسي) “سيدخل حيّز التنفيذ لدولة فلسطين في (1 أبريل 2015 م) “، وفي الوقت نفسه أشار إلى أنَّه “يتعين على الدول أن تتخذ قرارها الخاص فيما يتعلق بأي مسائل قانونية تثيرها الصكوك التي عممها الأمين العام للأمم المتحدة”.([5])
لكن بعد قرار الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إلى القدس، كان الرد الرسمي الفلسطيني في بداية عام 2018 م بإحالة الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، والطلب من المُدَّعية العامة “التحقيق بالجرائم التي حصلت، والتي تحصل حاليًا، والتي سوف تحصل في المستقبل، والتي هي ضمن اختصاص المحكمة”،([6]) وقد أزالت هذه الإحالة بعض المعوقات الإجرائية التي كان من الممكن أن تؤخر أي تحقيق في الحالة.
وفي (22 مايو 2018 م)، أحال وزير الخارجية الفلسطيني (رياض المالكي) الوضع في فلسطين إلى مكتب المُدَّعي العام،([7]) مطالبًا المُدَّعي العام لـلمحكمة الجنائية الدولية ” بالتحقيق وفقًا للولاية القضائية الزمنية لـلمحكمة في الجرائم السابقة والجارية والمستقبلية في إطار السلطة القضائية للمحكمة، والتي تُرتكب في جميع أنحاء أراضي دولة فلسطين”، ووفقًا للطلب فإنَّ دولة فلسطين تضم الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 م، كما حددها (خط الهدنة) لعام 1949 م، وتشمل الضفة الغربية، بما فيها (القدس الشرقية، وقطاع غزة).
وكما ذُكر أعلاه، فإنَّ أي محاكمات مستقبلية من قبل المحكمة الجنائية الدولية بشأن الوضع في فلسطين يمكن أن تنطوي على إحضار مواطنين إسرائيليين وفلسطينيين أمام قضاة المحكمة في (لاهاي)، وعلى الجانب الإسرائيلي، يمكن الشروع في محاكمات ضد شخصيات سياسية وعسكرية حالية أو سابقة، والتي تشمل كبار القادة مثل: ( بنيامين نتنياهو، وبيني غانتس)، وعلى الجانب الفلسطيني قد يكون أعضاء من حركة (حماس) وجماعات مسلحة أخرى من بين المتهمين.
وفي (20 ديسمبر 2019 م)، وبعد إجراء التدقيق التمهيدي الإلزامي، أعلنت المُدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية (فاتو بنسودة)، أنَّه: ” تم استيفاء جميع المعايير القانونية… لفتح التحقيق”، وبالنظر إلى المسائل القانونية والوقائعية الفريدة والمثيرة للجدل لهذه القضية، فمع ذلك قررتْ السعي للحصول على قرار من الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بشأن نطاق الولاية الإقليمية للمحكمة في وضع فلسطين، والتأكيد على أنَّ “الأراضي التي يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها عليها بموجب المادة (12) (2) (أ) تشمل الضفة الغربية، بما فيها (القدس الشرقية، وقطاع غزة)”.([8])
وفي اليوم نفسه، نشرت إسرائيل موقفها الخاص في هذا الشأن، بإشارتها إلى أنَّ المحكمة الجنائية الدولية لا تملك الولاية القضائية الإقليمية؛ لأن (فلسطين) لا يمكن اعتبارها دولة، ويرجع ذلك أساسًا إلى افتقارها إلى السيطرة الفعلية على الأراضي التي تدَّعيها، وقدَّم الفلسطينيون موقفهم إلى المحكمة في (16 مارس 2020 م)، وأشاروا فيه إلى العدد الكبير من الدول والمنظمات الدولية التي تعتبر فلسطين دولة، وإلى ضرورة أن تحكم المحكمة الجنائية الدولية في ولايتها وفقًا للغرض من نظامها التأسيسي، وسمحت الدائرة التمهيدية أيضًا لـ(7) دولٍ و(36) منظمةً / فردًا بتقديم ملاحظاتهم بحلول (16 مارس)، مُطالِبةً مكتب المُدَّعي العام بالرد بحلول (30 مارس)، وتم تمديد الموعد النهائي في وقت لاحق لمدة شهرٍ واحد.([9])
ثانيًا: الجنائية الدولية والولاية القضائية الإقليمية لـ (فلسطين):
إنَّ الدول السبعة التي قدمت ملاحظات هي (أستراليا والنمسا والبرازيل وتشيكيا وألمانيا والمجر وأوغندا)، وقالت هذه الدول بأنَّ (دولة فلسطين) لا تستوفي حاليًا الشروط التي بموجبها يمكن اعتبارها دولة على النحو المقصود في المادة (12) (2) (أ) من (نظام روما الأساسي)، ويجدر مقارنة هذا الموقف بأنماط تصويتها على عضوية الفلسطينيين في (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) (يونيسكو) في (31 أكتوبر 2011 م)، وعلى تبني قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (67/19) في (4 ديسمبر 2012 م)، الذي حدد لفلسطين “صفة الدولة المراقبة غير العضو في الأمم المتحدة”:
ومن الجدير بالذكر أيضًا علاقة كل دولة بإسرائيل، فقد أقامت ثلاث من الدول السبعة (أستراليا وتشيكيا وألمانيا) علاقات قوية بشكلٍ خاص مع إسرائيل، وكثيرًا ما كانت متعاطفة مع مخاوفها ومواقفها قبل وقتٍ طويل من إحالة الوضع الفلسطيني إلى المحكمة الجنائية الدولية، أمَّا بالنسبة للدول الأخرى، فهناك علاقات ودية متزايدة بين رئيس الوزراء (نتنياهو) وقادة (النمسا والبرازيل والمجر وأوغندا).
ولم تطلب (الولايات المتحدة وكندا) – اللتان شاركتا في كثيرٍ من الأحيان مواقف إسرائيل في المحافل الدولية- الإذن من المحكمة الجنائية الدولية لتقديم ملاحظات بشأن (الوضع في فلسطين) بصفتهما صديقتا المحكمة، وفي رسالة إلى المحكمة في (14 فبراير 2019 م)، كررت وزارة الخارجية الكندية الموقف الذي عبَّرت عنه لأول مرة بعد أن طلب الفلسطينيون الانضمام إلى )نظام روما الأساسي( – أي أنَّ فلسطين “لا تستوفي معايير الدولة بموجب القانون الدولي وغير معترف بها من قبل كندا كدولة”، ووفقًا لذلك كتب (نتنياهو) إلى رئيس الوزراء الكندي (جوستين ترودو) يطلب صراحةً إظهار مثل هذا الدعم، وبالمثل ففي بيان صدر في (20 ديسمبر 2019 م)، كرر وزير الخارجية الأمريكي (مايك بومبيو) موقف الولايات المتحدة: “لا نعتقد أنَّ الفلسطينيين مؤهلون كدولة ذات سيادة، ولهذا هم ليسوا مؤهلين للحصول على عضوية كاملة أو المشاركة كدولة في المنظمات أو الكيانات أو المؤتمرات الدولية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية”.([10])
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الولايات المتحدة التي وقفت دائمًا إلى جانب إسرائيل، هددت المُدَّعي العام وقضاة المحكمة بعد قرار المحكمة بفتح تحقيق في جرائم الحرب في (أفغانستان)، لكن من ناحية أخرى يقدم الاتحاد الأوروبي (EU) دعمًا واضحًا بشأن هذه القضية، ويُعرب عن تضامنه مع المحكمة، ومن جهتها ندَّدت إسرائيل بالقرار الذي يدينها على جرائم الحرب التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين والجرائم ضد الإنسانية، حيث لم تعاقب على ما اقترفته منذ أكثر من (70) عامًا. قال رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، الذي أدلى ببيان حول هذا الموضوع: ” إنَّه يعتبر المحكمة مؤسسة سياسية وليست هيئة قانونية، وادعى أنَّ المحكمة لا يمكنها الحكم عليهم؛ لأن إسرائيل لا تخضع لـ(نظام روما الأساسي)”، وصرَّح (نتنياهو) بأنَّهم :”سوف يستمرون في حماية مواطنيهم وجنودهم، الذين سيتهمون بهذه الجرائم، من (اضطهاد المحكمة)”، وادعى أنَّ “المحكمة تجاهلت الحقائق، ووصف هذا القرار بأنَّه(معاداة للسامية) مستخدمًا ردودًا كلاسيكية”.([11])
ولم تكتفِ إسرائيل بمحاولة تشويه سُمعة مضمون الحكم، فقد بدأت أيضًا في الادعاء بأنَّ الحكم متحيزٌ، وبالتالي من المستحيل تنفيذه من خلال توجيه اتهامات غير مبررة ضد كل من المحكمة والمُدَّعي العام، ففي التصريحات التي تم الإدلاء بها حول انحياز القرار، تم تقديم صور لقاءات المُدَّعية العامة (بنسودا) مع مسؤولي الإدارة الفلسطينية على أنَّها منحازة، رغم أنَّها كانت اجتماعات روتينية ومع ذلك، فإنَّ إسرائيل التي وجهت إليها هذه الجرائم حذَّرت جنودها السابقين – وكثير منهم ناشطون في السياسة حاليًا- وطلبت منهم توخي الحذر في حال كان هناك محاكمات محتملة، وذكرت أنَّه “يجب أن يكونوا مستعدين لاعتقالات مفاجئة”.([12])
وعوضًا عن ذلك، فإنَّ الفلسطينيين ليسوا وحدهم في التأكيد على أنَّ المحكمة الجنائية الدولية تمتلك الولاية الضرورية، إذ أنَّ موقفهم مدعوم بطلبات (أصدقاء المحكمة) من قبل (جامعة الدول العربية)، التي تمثل (22) دولة، و(منظمة التعاون الإسلامي)، التي تمثل(57) دولة – العضوية الفلسطينية مدرجة في هذه الأرقام، كما أنَّ سوريا مدرجة أيضًا، على الرغم من التعليق المستمر لعضويتها.
ومشكلة إسرائيل الحالية بعد إصدار القرار أنَّه ليس من حقّها الاستئناف ضده؛ بسبب مقاطعتها المحكمة الدولية ورفضها التعاون معها- ناهيك عن أنَّ قرار المحكمة يعترف بحدود دولة فلسطين، التي تشمل جميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل في (الرابع من يونيو 1967 م)، وبالتالي يكون الفلسطينيون قد استعادوا أرضًا خسروها في اتفاق (غزة – أريحا) أولًا وما تلاه من اتفاقيات، فالقرار رسم حدود الدولة الفلسطينية بدقة، ولن يكون بمقدور من أصدر أوامر اعتقال أو بناء مخالف على أرضٍ فلسطينية أو قتل وتعذيب فلسطيني بمنأى عن تنفيذ القانون ضده.
ثالثاً: تملص إسرائيل من فخ المحكمة الجنائية الدولية:
منذ صدور قرار المُدَّعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية (فاتو بنسودا) بفتح تحقيق في ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية وحق فلسطين في التوجه للمحكمة؛ لمقاضاة إسرائيل على جرائمها وانتهاكاتها، اتجهت إسرائيل إلى دراسة القرار بشكلٍ يسمح لها بالهروب أو التنصل من القرار، تعمل إسرائيل الآن على وضع قائمة سريَّة بأسماء المئات من ضباط الجيش والمخابرات، الذين قد يتعرضون للاعتقال في الخارج، في حال فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا بحقهم، وأشارت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية في (16 يونيو 2020 م)، “أنَّ القائمة تضم الآن ما بين (200 – 300) مسؤول، لم يتم إبلاغ بعضهم”.([13])
وتتبع إسرائيل سريَّة كبيرة فيما يخص هذا الموضوع؛ لأن مجرد الكشف عن وجود القائمة يمكن أن يُعرض الأشخاص الموجودين فيها للخطر، ومن المرجح أن تنظر المحكمة الجنائية إلى قائمة الأسماء على أنَّها اعتراف إسرائيلي رسمي بتورط هؤلاء المسؤولين في الحوادث قيد التحقيق – بحسب الصحيفة- ولم تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي تجاه هذه التحركات التي قد تُشكل صداعًا كبيرًا لـ(تل أبيب)، على حد تعبير مسؤولين كبار لوسائل إعلام إسرائيلية، قالت: إنَّ “إسرائيل ستعمل على نزع الشرعية عن المحكمة، وستطلب من الولايات المتحدة فرض مزيد من العقوبات ضدها”.
ووفق ذلك أيضًا وضع معهد أبحاث الأمن القومي في (تل أبيب) تصوراته لهذه المحكمة، وقدَّم توصيات لمتخذي القرار في إسرائيل حول كيفية التعامل مع القرار، ووصف المعهد التحقيق بـ (مسار مستمر ومركّب)، حيث يتطلب جمع الأدلة والشهادات، وفي هذا الجانب لا يمكن للمحكمة تنفيذ مثل هذه الخطوة من دون تعاون إسرائيل، التي رفضت وترفض التعامل مع المحكمة والتجاوب مع مطالبها.
فوفق قرار المحكمة الجنائية الدولية من المتوقع التحقيق مع(120) إسرائيليًّا، بدءًا من رئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو)، ووزير الأمن (بيني غانتس)، وسابقيه من وزراء الأمن ورؤساء الأركان الذين وقفوا خلف قرارات لعمليات عسكرية في (غزة) يشملها القرار، إضافة إلى ضباط وجنود وقيادة مستوطنين، وبحسب ما تبين من تقرير معهد أبحاث الأمن القومي فقد قدَّمت المحكمة على مدار (19) عامًا منذ تأسيسها لوائح اتهام ضد (46) متهمًا فقط – معظمهم من الضباط والجنود- ما يعني أنَّ عملية التحقيق والمحاكمة تتطلب فترة طويلة من الزمن، لكنَّ التقرير حذَّر في الوقت نفسه، من احتمال إصدار أوامر اعتقال سريَّة دون معرفة الشخص الذي يشمله القرار وإلزام جميع الدول الـ(123)، باعتقال من صدرت ضدهم أوامر اعتقال خلال وجودهم في هذه الدول.([14])
وسيكون إصدار مثل هذا القرار بالأساس، حول العمليات العسكرية وقتل مدنيين فلسطينيين أبرياء في هذه العمليات… وغيرها من المواجهات العسكرية وحتى في الاعتقالات غير القانونية، أمَّا بالنسبة للمستوطنات، فيرى خبراء معهد أبحاث الأمن القومي أنَّ التعامل معها سيكون مختلفًا وأقل خطورة على الإسرائيليين كون إسرائيل لا ترى في المستوطنات نشاطًا غير قانوني، وأشار التقرير إلى أنَّ الادعاءات في هذا الجانب ستتمحور في المستوى القضائي من حيث صلاحيات التحكيم أو نوع التهمة، وكل ما يتعلق بتعريف المستوطنات كـ (جريمة حرب).
ووفق ذلك، أشار تقرير معهد أبحاث الأمن القومي، الذي أعدَّته الرئيسة السابقة لقسم القضاء الدولي في الادعاء العسكري(بنينا باروخ)، وضع أمام متخذي القرار في إسرائيل اقتراح عمل على أربعة مستويات متوازية:([15])
- المستوى الأول: إجراء تحقيقات في كل ما يتعلق بالدعاوى المقدمة ضد الجيش الإسرائيلي والقوى الأمنية، بحيث تضمن هذه التحقيقات نوعًا من الاستقلالية والموضوعية، وترى (باروخ) أنَّ الإمكانية ما زالت قائمة في طرح إسرائيل ادعاء أنَّها تُجري تحقيقات في هذا الجانب، ما يعني أنَّ (لا مكان لتدخل المحكمة الدولية).
- المستوى الثاني: يقضي بتركيز الادعاءات القضائية في مستوى الصلاحيات وتعريف جرائم الحرب، سواءً أمام المحكمة أو في القانون الدولي.
- المستوى الثالث: هو خوض إسرائيل معركة دبلوماسية دولية تضمن من خلالها تجنيد جهات دولية إلى جانبها، خصوصًا تلك التي لديها مصالح مشتركة مع إسرائيل،و بما يتعلق بمواجهة المنظمات (الإرهابية) في المناطق المأهولة بالسكان.
- المستوى الرابع: فتقترح معدة التقرير تركيز إسرائيل على البعد السياسي بمعنى التقدم نحو تسوية سياسية مع الفلسطينيين، مما سيولد حالة من الضغط على المحكمة وبالتالي عدم التقدم في التحقيق.
وإلى جانب ذلك، ففي إسرائيل هناك اطمئنان بعض الشيء سواءً بسبب مغادرة (بنسودا) المحكمة في (يونيو 2021 م)، أو للفترة الزمنية الطويلة المتوقعة حتى تنتهي التحقيقات وتقديم لوائح الاتهام، وقد اختارت الجمعية العامة للدول الأعضاء في المحكمة المحامي البريطاني (كريم خان) لتقلُّد المنصب، ويذكر أنَّ (خان) – الذي كان قد ترأس في السابق طاقم الدفاع عن سيف الإسلام (القذافي) في الدعاوى ضده في المحكمة الجنائية الدولية- كان المرشح المفضل لإسرائيل لخلافة (بنسودا)،([16]) وسوف يكون للمُدَّعي العام الجديد تأثير كبير في أولويات الادعاء، وكذلك في مجريات التحقيق واختيار الملفات.
وبحسب) يوفال شنيه( من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، فإنَّه سيتعين على الادعاء في )لاهاي( – حتى ذلك الحين – بلورة موقفه بالنسبة لمسألة إذا ما كانت تكفي تحقيقات الجيش الإسرائيلي لمنع تقديم الجنود إلى المحاكمة، وفي هذا الجانب موضوعًا مشابهًا حول جنودٍ بريطانيين وفق الادعاء “ارتكبوا جرائم حرب في العراق، وقد نفذت المحكمة مؤخرًا مقاييس متدنية جدًا للتحقيق المناسب، الأمر الذي يزيد الاحتمال بأن تكون التحقيقات العسكرية بالنسبة للجرف الصامد تمنع إجراءات ضد جنود الجيش الإسرائيلي في سياق هذه الحملة”.([17])
اللافت هنا هو أنَّ مضمون الاعتراض الإسرائيلي ممجوج؛ ذلك لأنَّه لا يستند إلى الدفاع بأنَّ الكيان العبري لم يرتكب جرائم حرب، بل يطالِب بأن تحاكِم المحكمة دولًا وكيانات أخرى (غير ديموقراطية)، لا إسرائيل (ذات النظام الديموقراطي)، والواقع أنَّ هذه المحاجَّة مردودة من ناحية قانونية، كون المحكمة لا تقول إنَّها ليست ذات صلاحية في النظر في جرائم هي من اختصاصها تتعلّق بالدول التي تقصدها إسرائيل في ردّها، ومن بينها (إيران وسوريا وكوريا والصين… وغيرها)، بل إنَّ صلاحية الجنائية الدولية تشمل إسرائيل كما الدول الأخرى، سواء تلك التي ذكرتها (تل أبيب) أو التي لم تذكرها. والقرار هنا (قرار صلاحية)، ولا يتعلّق بجريمة حرب محددة.
رابعاً: معنى قرار المحكمة الجنائية الدولية وتداعياته:
يعتقد أنَّ المسؤولين وصناع القرار الإسرائيليين المتورطين في الحوادث – التي تبدأ بالحرب في (غزة) في صيف 2014 م – سيكونون أول من يواجه تدقيق المحكمة، بالإضافة إلى كل ما يخص الاستيطان في الضفة الغربية واعتقال إسرائيل للفلسطينيين، ومن بين المتورطين في جرائم حرب رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو)، وزراء الدفاع السابقون(موشيه يعلون، وأفيغدور ليبرمان، ونفتالي بينيت)، ورئيسا الأركان السابقان في الجيش الإسرائيلي (بيني غانتس، وجادي أيزنكوت)، ورئيس الأركان الحالي (أفيف كوخافي)، والرئيسان السابق والحالي لجهاز الأمن العام (الشاباك) (يورام كوهين، ونداف أرغمان)، ويُظهر طول القائمة أنَّها تشمل أشخاصًا في وظائف أصغر بكثير، بما في ذلك ضباط عسكريين من الرتب الدنيا، وربما تطال مسؤولين ضالعين في إصدار أنواع مختلفة من تصاريح البناء في المستوطنات والبؤر الاستيطانية؛ لأن قضية الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية هي أيضًا ضمن نطاق التحقيق المطلوب.
إلَّا أنَّ هذه التحقيقات والمحاكمات تستغرق وقتًا طويلًا، ويمكن لبعض الجناة الإفلات من المحاكمات والعقوبات بالدعم الذي يتلقونه من دولهم، لذلك لا يُتوقع من المسؤولين عن الجرائم ضد الفلسطينيين – وتحميهم دولة إسرائيل – أن يحالوا إلى المحكمة، لكن حتى الشروع في مثل هذه المحاكمة سيجعل من الصعب على إسرائيل الاستمرار في سياسة الاحتلال المتبعة حتى الآن، وفي الوقت نفسه فإنَّ الموقف السلبي للمجتمع الدولي تجاه الإدارات التي تحمي المدانين بارتكاب مثل هذه الجرائم، سيهز الأسطورة الحالية عن الحصانة الإسرائيلية.
ومن ناحية أخرى، يجب التعامل مع هذا القرار بحذر على أساس أنَّ حماس والجهاد الإسلامي وجماعات مُسلحة أخرى قد يُحاكمون في المستقبل بتهمة ارتكاب جرائم حرب. في النهاية فإنَّ إسرائيل لم تتبع أيًّا من قرارات القانون الدولي،و لم تخضع لعقوبات، وأنَّ هذا القرار قد لا يؤدي إلى شيء، كما يجعل قرار المُدَّعية العامة الفلسطينيين أمام احتمالات عدة، تتطلب جميعها العمل الجادّ للمرحلة اللاحقة والبناء على القرار، يُمكن أن تنجح المحكمة في البدء بالتحقيق، ما يتجه إلى مساعي الإدانة ويتطلب هذا استغلال القرار في حشد الدعم الدولي للشعب الفلسطيني، على أساس ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب بحق مواطني دولة فلسطين، كما من شأن القرار تشجيع لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان على إصدار (القائمة السوداء) للشركات العاملة في المستوطنات، فقد قالت صحيفة (يديعوت أحرنوت) الإسرائيلية:” إنَّ اللجنة تنوي الإعلان عن القائمة، ووصفته أنَّه تصاعد للحملة الديبلوماسية التي تهدف إلى محاربة الاستيطان المخالف لقرارات الجمعية العامة”.([18])
فمن جانبها، قالت (بنسودا): “أنَّها مقتنعة بوجود جرائم حرب قد ارتُكبت وتُرتكب في الضفة والقطاع، وأنَّها ستسمح للمجني عليهم والدول المعنية والأطراف الأخرى بالمشاركة في إجراءات إصدار قرار الدائرة التمهيدية، ما يعني إمكانية مشاركة فلسطين في المتابعة مع الدائرة، من خلال إمدادها بالآراء القانونية والملفات”.
وبالتالي، تحاول إسرائيل سحب البساط من تحت يد المحكمة الدولية، من خلال اللجوء إلى محاكمات صورية تدّعي خلالها البدء بمحاكمة قادتها وضباط جيشها، إذ يعتبر قضاء المحكمة (تكميليًّا) للقضاء الوطني، حيث لا يمكن للجنائية الدولية محاكمة أي أشخاص يحاكمون أو حُوكموا في بلادهم، وبذلك تُجرد إسرائيل المحكمة من ولايتها، لكن الأمر يبدو مستبعدًا في الوقت الحالي، إذ أثبتت العديد من المواقف صعوبة قبول إسرائيل لصورة المُدان أمام المجتمع الدولي؛ كما يصعب تطبيق هذا القرار في بعض الجوانب من قبيل محاكمة قادة المستوطنين، الذين أقاموا بؤرًا استيطانيّة، أو محاكمة المسؤولين الذين صادقوا على بنائها، ما يجعل غالبية القادة الإسرائيليين في محط الاستهداف.
ويمكن أيضًا تعطيل عمل المحكمة من خلال الضغوط السياسية أو مجلس الأمن، حيث خول (نظام روما) مجلس الأمن دورًا سلبيًّا يستطيع من خلاله أن يشل عمل المحكمة ويُقرر تأجيل التحقيق أو المحاكمة، لمدة (12) شهرًا قابلة للتمديد،([19]) إذا ما تدخلت الاعتبارات السياسية في الأمر، وهذا ما يُمَكن لـ(إسرائيل والولايات المتحدة) العمل عليه.
ومع أنَّ مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية قد وثقت العديد من الجرائم وجمعت أدلة كثيرة على ذلك، فإنَّ التحقيق في الجرائم الدولية مسألة معقدة وتتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين، ومن المتوقع أيضًا أن تعمل إسرائيل جديًّا على عرقلة هذه التحقيقات سياسيًّا ولوجستيًّا، وفعلًا بدأت إسرائيل منذ فترة طويلة في العمل السياسي والدبلوماسي مع دول حليفة؛ لثني المحكمة عن النظر في الجرائم، ويأتي المرسوم الرئاسي الذي أصدره (ترامب) بشأن العقوبات ضد طاقم المحكمة في هذا السياق،([20]) وإضافة إلى الجهد السياسي، ففي استطاعة إسرائيل أن تصعّب عمل المحققين لوجستيًّا بطرق شتى، كمنعهم من زيارة (الضفة الغربية وقطاع غزة)، أو منع الشهود من الإدلاء بشهادتهم عن طريق الترهيب، أو حتى إصدار أمر عسكري أو قانون في الكنيست الإسرائيلي يُجرّم التعامل مع المحكمة أو المساهمة في عملها، فضلًا عن العمل المخابراتي غير المعلن الذي قد يستهدف المحققين والخبراء والشهود، كحملات الابتزاز والتضليل والقرصنة الإلكترونية.
ومع ذلك، من المفيد الإشارة إلى التالي، منعًا للوقوع في خطأ التقدير:([21])
- في ضوء ازدواجية المعايير نجد أنَّ (المجتمع الدولي) لن يسمح للمحكمة- كما هو الحال مع محافل دولية أخرى – بالإضرار الفعلي بإسرائيل، التي ستستطيع أن تُؤمن هذا المستوى من الضرر، وتمامًا كما ورد في تحذيرها للدول الغربية، فإنَّ ما يحدث لها سيحدث لتلك الدول لاحقًا، إلَّا أنَّ للمنع حدودًا، إذ يُتوقّع أن تتعامل الدول الوازنة مع (الجنائية الدولية) وقرارها الأخير بوصفه عامل ضغط مؤثرعلى إسرائيل، يمكن تفعيله أو تفعيل جزء منه؛ لحثّها على فعل أو الامتناع عن فعل يرتبط بسياسات الغرب، وتحديدًا بالإدارة الأمريكية الجديدة، أي أنَّ القرار الأخير وعلى الرغم من(الامتعاض) الكلامي الأمريكي منه، سيكون واحدًا ممّا يتوقّع أن تواجهه إسرائيل في الفترة المقبلة، بعد تناغم إلى حدّ التوافق مع تطرّفها( طوال السنوات الأربعة الماضية) من قِبَل الإدارة الأمريكية السابقة.
- بات بإمكان صاحب المصلحة والصفة أن يرفع دعواه أمام المحكمة، وهو ما يستتبع (وجع رأس) دعائيًّا لإسرائيل عبر إعادة الحديث عن جرائمها التي يتناساها الإعلام الدولي، الأمر الذي يؤمّن تذكير الرأي العام العالمي بطبيعة هذا الكيان ومنهجه العدائي القائم على الاحتلال.
- على رغم ما تقدّم، يجب التأكيد أن مسؤولي إسرائيل، مِمّن ارتكبوا جرائم حرب كواحدة من أهمّ أدواتهم لفرض إرادتهم على الآخرين، سواءً كانوا سياسيّين أو عسكريّين أو أمنيّين، لن يخضعوا لمساءلة فعلية تتبعها عقوبات، فهذا بعيد جدًّا، إن لم يكن منتفيًّا.
في الخلاصة: الأَوْلى أن تبتعد التقديرات عن التعامل مع قرار المحكمة، حتى وإن استتبع لوائح اتهام، بوصفه عامل كبح أو تقليص لدائرة الفعل العدائي الإسرائيلي، وتوثّب الكيان الدائم لخرق القوانين الدولية، صحيح أنَّ القرار سيّئ جدًّا لإسرائيل، لكنه غير مؤثّر إلى حدٍ يلجم أفعالها واعتداءاتها، التي تُعدّ جزءًا لا يتجزّأ من ماهيّتها ووجودها، بل هو واحد من أهمّ دعائم استمرار هذا الوجود.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنَّ التكاملية قد تكون عائقًا فيما يتعلق بجرائم إسرائيل في (غزة)، لكنها لن تكون عائقًا فيما يتعلق بالاستيطان، فإسرائيل لا ترى في الاستيطان في الأراضي المحتلة جريمة حرب، ولا يوجد ما يجرّمه في القانون الإسرائيلي ولم تفتح أي تحقيقات حوله، بل على العكس هو السياسة الرسمية للحكومة، لذا سيكون التحقيق بشأن الاستيطان الأسهل قانونيًّا وتقنيًا، إذ إنَّ المعايير القانونية بشأن تحريم الاستيطان واضحة ولا جدال فيها، وقد شددت عليها أذرع الأمم المتحدة المختلفة، بما فيها مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية.
كما أنَّ التحقيق في هذا الموضوع سيكون أقل تعقيدًا؛ بسبب كون الاستيطان سياسة رسمية للدولة، فإنَّ الوثائق التي تتعلق به والأشخاص الذين أمروا به وصدّقوا عليه موجودة وجزء من الوثائق الرسمية الموجودة في الحيز العام، كما أنَّ سلسلة القيادة تمتد من صغار الضباط في الإدارة المدنية ووزارة الدفاع إلى رئيس الوزراء. كذلك الأمر بالنسبة إلى جريمة (الأبارتهايد)، فنظريًّا يمكن إثبات عناصر الجريمة من دون تحقيقات تفصيلية، التي هي في حاجة إلى شهود ووجود في ميدان الجريمة، ويوجد ما يكفي في الحيز العام من وثائق تعكس السياسات والإحصائيات التي تثبت جريمة (الأبارتهايد).
يأتي هذا النقاش حول القضاء الجنائي الدولي في سياقٍ أوسع، وهو مدى إمكانيات العمل القانوني فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومحدوديته، فمع وجود إمكانيات لتحقيق بعض الإنجازات، فإنَّ الاستراتيجية القانونية يجب أن تكون مبنية على فهم القانون الدولي باعتباره نتاج علاقات قوة وتعبيرًا عنها، فهو نوع من السياسة، لكن بقواعد مُعينة ومنطق مختلف، ويعتمد بدرجة كبيرة على مواقف وأفعال الدول (أي السياسية)، إذ يفتقر إلى آلية تنفيذ مركزية، الأمر الذي يُبقي تنفيذه في يد الدول التي تتعامل مع الموضوع بحسب مصالحها.
ويجب الانتباه إلى أنَّ العديد من المصائب التي حلَّت بالفلسطينيين هي من صنع القانون الدولي. صحيح أنَّ تطورات في المنظومة الدولية جعلت القانون الدولي عاملًا مهمًا لا يمكن إهماله، وقد استخدمته منظمة التحرير الفلسطينية وحركات تحرر وطني أخرى في (سبعينيات القرن الماضي)، لكنه في حدِّ ذاته ليس أداة تحرير، بل قد يكون له دور في إطار مشروع نضالي سياسي، أمَّا خارج أي مشروع سياسي نضالي فقد يكون مصيره مثل مصير قرارات الجمعية العامة، وحتى مجلس الأمن بشأن فلسطين، والتي لا تنفذ، هذا مع أهمية وضع أسماء مسؤولين إسرائيليين بوصفهم مشبوهين أو حتى مطلوبين، وهو ما تخشاه إسرائيل لناحية مكانتها الدولية.
خاتمة:
يتوجب على الفلسطينيين العمل على جانبيْن، الأول: التعاون مع الدائرة التمهيدية في المحكمة، من أجل إصدار قرارٍ سريع يضمن عدم إهمال ملف التحقيق.
والثاني: استثمار القرار في تشكيل وسائل ضغط على إسرائيل لوقف جرائمها وحشد التضامن مع الشعب الفلسطيني، ففي السابق أخذت فلسطين العديد من القرارات التي لم تُستثمر بالشكل المناسب.
ويتطلب ذلك حشد كل الأدوات القانونية والدبلوماسية على اعتبار أن المحكمة أقرّت بوجود جرائم ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، والذهاب نحو إقرار الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، التي طالبت بها فلسطين مرارًا، ولا يجب إغفال انتخاب فلسطين كعضو في المكتب التنفيذي لجمعية الدول الأعضاء في الجنائية الدولية، بتاريخ (2/12/2019 م)، الذي يُشرف على عمل الجمعية، والذي يتضمن اتخاذ ما يلزم لضمان قيام المحكمة بمهامها، فهذه إحدى الأدوات التي يجب على فلسطين العمل من خلالها في إسناد الدائرة التمهيدية.
وحتى لا نُبالغ في تقدير أهمية قرار محكمة (لاهاي) هذا، وفي انتظار ما سيسفر عنه من تطورات في الفترة المقبلة، سنكتفي بتسجيل ما يلي:
أولًا: يتماشى هذا القرار إلى درجة كبيرة مع المقاربة الذاهبة إلى إنَّه يتعيّن على العالم أن يدرك أنَّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لا يمكن إزالته بالاكتفاء بتوجيه مناشدات مهذّبة إلى المحتلّ، وإنَّما بالعزم والخطوات الدوليّة الحاسمة، وهي للعلم مقاربة تلّح عليها أيضًا جهات في إسرائيل نفسها- وإن كانت هامشية – في مقدمتها المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان.
ثانيًا: دأبت إسرائيل خلال الأعوام القليلة الفائتة على معارضة الانتقادات الدولية ضد الاحتلال والاستيطان والتصدي لها، من خلال الاتكاء على الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة (دونالد ترامب)، فخلال أعوام ولاية هذا الأخير، كما تُشير المعطيات الجافة وحسب، واصلت إسرائيل مثلًا محاربة حركة المقاطعة، سواءً على الصعيد القانوني – القضائي، أو في نطاق النشاط على شبكات التواصل الاجتماعي، أو على صعيد منع دخول أعضائها وناشطيها إلى إسرائيل، وجاء إعلان المُدَّعية العامة في محكمة (لاهاي) بشأن التحقيق في جرائم حرب محتملة ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في (الضفة الغربية وقطاع غزة)، في إطار موجة متصاعدة ومتسعة من النقد للاحتلال والاستيطان، شملت أيضًا قرار المحكمة الأوروبية بشأن منتجات المستوطنات الإسرائيلية، واتسمت حملات الرد والتصدي الإسرائيلية بشن هجمات شخصية ضد المنتقدين، والاعتراض على صلاحية المحكمة الجنائية الدولية، ونزع الشرعية عن الادعاءات التي طُرحت، والاعتماد على إدارة الرئيس (ترامب)، على الرغم من تأثيرها الدولي الأقل بصورة واضحة عما كان عليه تأثير الإدارات الأمريكية السابقة.
غير أنَّ ما ثبت حتى الآن هو أنَّ وجود إدارة أمريكية جديدة لن يفضي إلى موقف مغاير من جانب الولايات المتحدة حيال هذه المحكمة الدولية، وهو ما سارعت الخارجية الأمريكية أيضًا إلى تأكيد انتفاء حدوثه، وفي ضوء ذلك تتجه الأنظار إلى جهات دولية أخرى ذات وزن، وفي طليعتها دول أوروبا، بعد أن قدّم لها هذا القرار طرقًا أخرى يمكن من خلال السير فيها إبداء العزم على اتخاذ خطوات عقابية تساهم في وضع حد للظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.
(*)باحث في العلوم السياسية -القاهرة
([1]) – Decision on the Prosecution Request Pursuant to Article 19 (3) for a Ruling on the Court’s Territorial Jurisdiction in Palestine, International Criminal Court, 5/2/2021. https://bit.ly/3dfZ5bZ
([2]) – Statement of ICC Prosecutor, Fatou Bensouda, on the Conclusion of the Preliminary Examination of the Situation in Palestine, and Seeking a Ruling on the Scope of the Court’s Territorial Jurisdiction, International Criminal Court, 19/12/2019. http://bit.ly/2ZeXk6L
([3]) – Rome Statute of the International Criminal Court (The Netherlands: Published by the International Criminal Court 2011). https://www.icc-cpi.int/resource-library/Documents/RS-Eng.pdf
([4]) المُدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية،( فاتو بنسودا) تفتح دراسة أوّلية للحالة في فلسطين، المحكمة الجنائية الدولية، 16 يناير 2015 م.
([5]) قرار الجنائية الدولية بشأن فلسطين (انتصار دبلوماسي) يُثير عواقب محتملة، جريدة الأمة الإلكترونية، 14 فبراير 2021 م.
([6]) – Referral from the State of Palestine Pursuant to Articles 13(a) and 14 of the Rome Statute, ICC Legal Tools Database, 22/5/2018. https://bit.ly/2ZbX5cy
([7]) – See: Situation in Palestine: Referral by the State of Palestine Pursuant to Articlesl3 (a) and 14 of the Rome Statute, 15 May 2018. https://www.icc-cpi.int/itemsDocuments/2018-05-22_ref-palestine.pdf
([8]) بيان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية( فاتو بنسودا،) بشأن اختتام الدراسة الأولية للحالة في فلسطين، واستصدار قرار بشأن نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة، موقع المحكمة الجنائية الدولية، 20 ديسمبر 2019 م.
([9]) – See: THE INTERNATIONAL CRIMINAL COURT’S LACK OF JURISDICTION OVER THE SOCALLED “SITUATION IN PALESTINE”, STATE OF ISRAEL – OFFICE OF THE ATTORNEY GENERAL, 20 December, 2019.
([10]) عندما تعطي الإدارة الأمريكية تعريفاتها للعدالة الجنائية الدولية، المعهد الاسكندنافي لحقوق الانسان، (6 مارس 2020 م).
([11]) قرار الجنائية الدولية بشأن فلسطين (انتصار دبلوماسي) يُثير عواقب محتملة، مصدر سابق.
([12]) مخاوف إسرائيلية من إصدار مذكرات توقيف ضد مسؤولين كبار، جريدة المال المصرية،(7 فبراير 2021 م).
([13]) – Noa Landau, Israel Drafts Secret List of Hundreds of Officials Who May Stand Trial at International Court, Haaretz, 16 Jul 2020. https://www.haaretz.com/israel-news/.premium-israel-forms-secret-list-of-hundreds-of-officials-who-may-stand-trial-at-icc-1.8997620
([14]) إسرائيل وقرار محكمة لاهاي: انقسام بين المطالبة بالتعاون مع المحكمة ومواجهتها داخليًا ودوليًا، المجلة، العدد 1832، 25( ديسمبر 2020م) ، ص 29.
([15]) – Pnina Sharvit Baruch, A Green Light for the ICC to Open an Investigation of Israel, The Institute for National Security Studies, February 10, 2021, p. 4. https://www.inss.org.il/wp-content/uploads/2021/02/no.-1436.pdf
([16]) – UK’s Karim Khan Elected next ICC Prosecutor, will Replace Controversial Bensouda, The Times of Israel, 13/2/2021. http://bit.ly/2ZlIQSp
([17]) إسرائيل وقرار محكمة (لاهاي): انقسام بين المطالبة بالتعاون مع المحكمة ومواجهتها داخليًا ودوليًّا، المجلة، العدد 1832، 25( ديسمبر 2020 م)، ص 31.
([18]) – UN to publish blacklist of companies operating in settlements next month, Yedioth Internet, 12.22.19. https://www.ynetnews.com/article/rJxaq3h0r
([19]) المادة (16) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
([20]) – Blocking Property of Certain Persons Associated with the International Criminal Court, Federal Register, 11/6/2020. http://bit.ly/3agEQce
([21]) يحيى دبوق، (عاصفة)إسرائيلية بوجه (الجنائيّة الدولية): أوقفوا قراراتها… وإلا!، جريدة الأخبار اللبنانية، 8 فبراير 2020 م.