منذ أن أصدرت منظمة اليونسكو بجناحها العربي في سنة 1979 لائحة تضم 13 أغنية لمحمد عبد الوهاب متهمة إياه بسرقة ألحانها من أعمال موسيقية غربية وأنا أتناول هذا الموضوع في إطاره الموسيقي فقط بالكتابة عما اقتبسه الموسيقيون الغربيون الكبار بعضهم من بعض رجوعًا في التاريخ إلى يوهان سبستيان باخ (1685-1750) أب الموسيقى الكلاسيكية الغربية الحديثة الممتدة من القرن السابع عشر إلى أيامنا هذه. وكان الهدف من ذلك هو إبعاد تهمة السرقة عن محمد عبد الوهاب على أساس أنه مارس ما مارسه غيره من أساطين الموسيقى الغربية.
وقد تناولت هذا الموضوع أول مرة في صحيفة “السفير” اللبنانية سنة 1979، مما أدى إلى مساجلة طويلة بيني وبين الدكتور عزيز الحاج رئيس المجموعة العربية آنذاك في المنظمة المذكورة، لم تنتهِ إلا يوم 6/3/2000 بمقالة للدكتور فيكتور سحاب عنوانها “خاتمة سعيدة لقصة في ستة مشاهد” على صفحات السفير، ردًا على مقالة الدكتور الحاج على صفحات الصحيفة نفسها يوم 2/3/2000 الذي دافع فيها عن نفسه وعن اليونسكو بعد أن وافق مجلسها التنفيذي على إدراج اسم محمد عبد الوهاب ضمن الشخصيات التي تحتفل بها المنظمة بمناسبة ذكرى ميلاده المئوية.
وتناولت الموضوع مرة ثانية في مجلة الكواكب المصرية في بداية التسعينيات بعد استقراري في مصر سنة 1988، ردًا على ملحن مصري كرّس حياته لرصد اقتباسات محمد عبد الوهاب من الموسيقى الغربية واتهامه بالسرقة، حتى أنه لم يتردد في الكتابة في هذا الموضوع في مجلة “الهلال” في ذكرى وفاة محمد عبد الوهاب الأولى، متناسيًا مبدأ “اذكروا محاسن موتاكم”.
وتناولته مرات عديدة في مقابلات إذاعية وتليفزيونية وصحفية. ومع ذلك أرى أني لم أفِ الموضوع كامل حقه وذلك لحصري إياه في مجال الموسيقى فقط، وهذا ما أعطاه حجمًا أكبر مما لو وُضع بين أقرانه من الاقتباسات الفنية في جميع ميادين الفن المعروفة: المسرح – الشعر – الرواية – الرسم – السينما، ذلك كي يأخذ الموضوع حجمه الطبيعي الصغير، ولرفع الظلم عن فنان كبير أصبح رمزًا من رموز الحضارة العربية وأصبح أكبر من احتياجه للدفاع عنه، ولنثبت أن الاقتباس الفني في جميع ميادين الفن ومنذ أقدم العصور ظاهرة صحية موجودة ويمارسها كل الفنانين الكبار في جميع البلاد والعصور.
1– المسرح الكلاسيكي اليوناني والروماني:
بعد هذه المقدمة نبدأ باب الفنون الأوروبية وهو المسرح، ونعود إلى خمسة قرون قبل الميلاد، حين وصل المسرح إلى ذروته الفنية والشعبية على يد المسرحيين الإغريق العظام: أسخيلوس، سوفوكليس ويوريبيدس التراجيديين، وأريستوفانيس الكوميدي. بعد ذلك انتقل هذا الفن بعد سقوط الدولة الإغريقية إلى روما على يد المسرحي الروماني اليوناني الأصل ليڤيوس أندرونيكوس (284-204 قبل الميلاد) الذي دخل روما عبدًا ضمن اليونانيين الذين استعبدتهم روما. وقد ترجم ليفيوس أندرونيكوس المسرحيات اليونانية إلى اللاتينية. وقد وصل إلينا من تراثه تسع مسرحيات تراجيدية وثلاث كوميدية، تقول عنها المراجع الأدبية الأكاديمية حرفيًا أنها كلها بلا شك مقتبسة عن الأصل اليوناني ونذكر منها:
1– تراجيديا أيجيسثوس: التي عالجت نفس الموضوع الذي عالجه المسرحي التراجيدي الإغريقي أسخيلوس (525-456 ق.م.) في مأساته “أجاممنون”.
2– تراجيديا “أياس حامل السوط”: تعالج نفس الموضوع الذي عالجه سوفوكليس (497 ق.م.) في تراجيديا “أياس”.
3– تراجيديا “أندروميدا”: تعالج نفس الموضوع الذي عالجه المسرحي اليوناني يوريبيدس (480 ق.م.) في مسرحية تحمل نفس الاسم. سرقات أم اقتباسات ؟.
بلاوتوس: (254-184 ق.م.) أعظم كاتب مسرحي كوميدي روماني، وقد اعتبره النقاد أرستوفانيس الرومان، كتب بنفسه في مقدمة مسرحيته “كوميديا الحمير” أنها قصة مقتبسة عن مسرحية يونانية تسمى “أوناجوس” أي سائق الحمار للكاتب الإغريقي ديموفيلوس. سرقات أم اقتباسات ؟.
2– المسرح الفرنسي الكلاسيكي:
قفزة في التاريخ إلى الأمام، إلى القرن السابع عشر. نحن الآن في سنة 1636، على أحد مسارح باريس يعرض المؤلف المسرحي بيير كورنيي Pierre Corneille باكورة أعماله المسرحية: “السيد” (Le Cid) التي أحدث ظهورها هزة في الأوساط الأدبية عامة وفي الأوساط المسرحية خاصة، فأصبح يُؤرخ لتاريخ المسرح الفرنسي: قبل “السيد” وبعد “السيد”. وقد أبدعها كورنيي بمفاهيمه الجمالية التي تقف موقفًا وسطًا بين المفاهيم الجمالية لعصر النهضة القائمة على التحرر من أية قيود في الذوق والخيال والأبعاد، وبين المفاهيم الجمالية للمدرسة الكلاسيكية الوليدة التي قيدت الكتابة المسرحية بالوحدات الثلاث المعروفة: وحدة المكان والزمان والموضوع، وبضرورة اللجوء إلى التراث القديم. هذا ما نعرفه عن “السيد” لكورنيي. ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هذه المسرحية وحتى اسمها مأخوذان عن مسرحية لمؤلف مسرحي أسباني معاصر لكورنيي اسمه جييرمو دي كاسترو Guillermo Di Castro واسم مسرحيته “السيد” (El Cid). سرقة أم اقتباس ؟.
ننتقل بالزمن 25 سنة إلى الأمام. نحن في بداية الخمسينيات من القرن السابع عشر، العصر الكلاسيكي للفنون وبالذات المسرح، وكان يسيطر على الحياة المسرحية في باريس مؤلف شاب اسمه جان راسين Jean Racine. وكانت المفاهيم الجمالية الكلاسيكية قد أصبحت مترسخة وسائدة في جميع النواحي الفنية، وأهمها استلهام التراث القديم والوحدات الثلاث. فعادت مسرحيات يوريبيدس وأسخيلوس وسوفوكليس بمواضيعها وأبطالها الإغريقية إلى المسارح الفرنسية، فأعاد راسين في مسرحيته “أندروماك” قصة أوريست وبيروس وهرميون وأندروماك أرملة هكتور بطل حرب طروادة، واستعاد في مسرحيته “فيدرا” قصة فيدرا وهيبوليت. أما في مسرحيته بريتانيكوس فيلجأ راسين إلى قصة نيرون الطاغية والجرائم التي اقترفها بقتله والدته التي مهدت له اغتصاب العرش من أخيه بريتانيكوس الذي قتله نيرون بعد أن قتل زوجته التي حاولت ردعه عن جرائمه. سرقات أم اقتباسات ؟.
ننتقل إلى مؤلف كلاسيكي آخر، موليير Molière، لنرى أنه أخذ معظم مواضيع مسرحياته الكوميدية من مسرحيات أرستوفانيس الإغريقي. وأذكر أننا عندما درسنا موليير في السنة الثانية الثانوية قرأنا في كتاب الأدب الفرنسي وفي مسرحيته البخيل مقارنة بين نصين: الأول من الشمال من بخيل موليير والثاني من اليمين من بخيل أريستوفانيس. وكان التشابه بين النصين شبه حرفي لولا بعض الإضافات المبتكرة لموليير على النص الأصلي، ومنها أنه عندما كان البخيل يحقق في فقدانه صندوق ماله استدعى خادمه وطلب منه أن يريه يديه ففعل. هذا في النصين. هنا يضيف موليير من عنده: “أرني يديك الأخريين” متخيلاً أن له أربع أيدي من تأثير هلوسته لفقدانه ماله. وإلى جانب أرستوفانيس استلهم موليير نفس مسرحيته البخيل من مسرحية “أولولاريا” لأعظم شعراء الكوميديا الرومان بلاوتوس الذي اقتبسها بدوره عن بخيل أرستوفانيس. سرقات أم اقتباسات ؟.
3– الشعر الكلاسيكي:
كذلك أخذ لافونتين Jean de la Fontaine الشاعر الكلاسيكي الفرنسي الذي كتب القصص الشعرية عن الحيوانات وعن لسانها، أخذ معظم قصصه عن قصص المؤلف الإغريقي إيزوب Ezope عن الحيوانات. سرقة أم اقتباس ؟.
4– النثر الكلاسيكي:
كاتب كلاسيكي آخر هو لابرويير La Bruyère أخذ جُل مواضيعه في كتابه الأوحد “الشخصيات” (Les Caractères) عن كتاب بنفس الاسم للكاتب الإغريقي ثيوفراست Theophraste. وقد برر لابرويير في أول جملة من كتابه هذا، برر الحجم الكبير لاقتباس مواضيعه عن الكاتب الإغريقي بمقولة ذهبت مضرب الأمثال في الاحتياج الدائم للجوء إلى التراث والاقتباس. والمقولة هي: كل شيء قد قيل، ولقد جئنا متأخرين جدًا. Tout est dit et l’on vient trop tard سرقة أم اقتباس ؟.
5– الرواية:
ننتقل الآن إلى القرن التاسع عشر، وإلى أهم رواية في تاريخ فرنسا الأدبي، وأعني ملحمة البؤساء لڤيكتور هوجو. الفصل الثاني من الفصول الخمسة الضخمة التي تتألف منها الملحمة يحمل اسم كوزيت Cosette. بعد أن يقسم البطل جان ڤالجان في الفصل الأول عند انكشاف أمره أمام الشرطة بأنه سجين سابق، بعد أن يقسم أمام فانتين والدة كوزيت وهي تحتضر بأن يعتني بابنتها، يروي الكاتب بأسلوب غاية في الإبداع والإمتاع والروعة والعمق الإنساني والدرامي والانفعالي كيف يهرب من الشرطة ويذهب إلى بلدة مون فيرميي Mont fermeil التي كانت تعمل فيها كوزيت عند عائلة فيناردييه الذين يستغلونها أبشع استغلال أدى إلى وفاة والدتها من كثرة ما طالبوها من أموال بحجة الصرف على ابنتها. إن وقائع إنقاذ كوزيت كما وردت في هذه الملحمة مع اسم البلدة التي زارها فيكتور هوجو سنة 1845 يذكِّر بكثير من المواقع برواية “بائعة الحليب من مون فرميي” La Laitière de Mont fermeil التي كتبها الروائي بول دي كوك Paul de Kock سنة 1927 أي 35 سنة قبل رواية البؤساء. سرقة أم اقتباس ؟.
وإذا انتقلنا إلى روائي آخر من القرن التاسع عشر وهو ألكسندر دوما Alexander Dumas نرى أن اثنتين من أعظم رواياته وهما الكونت دي مونت كريستو والفرسان الثلاثة لهما علاقة وثيقة بالاقتباس. فقصة (إدمون دانتيس) بطل “الكونت دي مونت كريستو” من بدايتها حتى سجنه وهروبه من السجن مأخوذة حرفيًا عن محضر شرطة اطلع عليه ألكسندر دوما وبنى على أساسه روايته الشيقة، مغيرًا مصير البطل الذي يُقتل في الحقيقة بعد هروبه وهو يحاول الأخذ بالثأر من الذين تسببوا في سجنه سنوات طويلة، بينما يتمكن إدمون دانتيس من الحصول على كنز خرافي موجود على جزيرة مونتي كريستو يستعمله في عملية الثأر. كل هذا في سياق روائي من أروع ما كُتب في فن المغامرات والإثارة والتشويق. أما في ما يختص بهرب إدمون دانتيس من السجن فكثير من تفاصيله نجدها في مذكرات كازانوڤا (1725-1798) التي أخذها إلى مدينة “درسدن” كارلو أنچيوليني ابن أخت كازانوڤا بعد وفاة خاله مباشرة، أي 64 سنة قبل ظهور قصة الكونت.
التفاصيل التي نجدها عند دوما موجودة في مذكرات كازانوڤا في الجزء الأول من مذكراته – القسم الرابع – الفصل الثاني عشر، وفيها كل تفاصيل هرب إدمون دانتيس بطل الكونت دي مونت كريستو، بما فيها صنع الوسائل التي ساعدته في الهرب من السجن، بمساعدة راهب اسمه فاريا في الرواية وبالبي في المذكرات. سرقات أم اقتباسات ؟.
أما رواية ألكسندر دوما الثانية العظيمة “الفرسان الثلاثة” فنقرأ في مقدمتها التي كتبها الكاتب نفسه، المقدمة التي نؤكد فيها أنه بالرغم من أن الأسماء التي تنتهي بالأوس والإيس ([1]) فأبطال الرواية التي لنا شرف سردها على قرائنا ليس فيها أي شيء أسطوري. فمنذ سنة وأنا منكب على بحثي في المكتبة الملكية لكتابي “تاريخ لويس الرابع عشر” وقعت بالصدفة على “مذكرات السيد دارتانيان” ([2]). وفي مكان آخر نقرأ: “… ويروي دارتانيان أنه في الزيارة الأولى للسيدة دي تريفيل ([3]) قائد فرسان الملك، يلتقي بثلاثة شبان ينتمون لهذه الفرقة الشهيرة ويحملون أسماء آتوس وبروتوس وأراميس”. ويتابع الكاتب في مقدمته: “… ومنذ ذلك الحين لم نعد نعرف طعمًا لراحة ونحن نبحث في المكتبات عن أي كتاب لهذه الحقبة يحتوي على أي أثر لتلك الأسماء الخارقة التي أثارت فضولنا”. ويتابع: “… وبعد بحث طويل ومستمر كدنا فيه أن نيأس من إيجاد أي شيء، وعندما كدنا أن نهمل هذا البحث العقيم وجدنا مخطوطة بعنوان “مذكرات السيد الكونت دي لافير” المتعلقة ببعض الأحداث التي حصلت في فرنسا في نهاية عهد الملك لويس الثالث عشر وبداية عهد الملك لويس الرابع عشر” … ولكم أن تتصوروا كم كانت فرحتنا عظيمة ونحن نتصفح هذه المخطوطة عندما عثرنا في الصفحة العشرين على اسم آتوس والصفحة الحادية والعشرين على اسم بورتوس والصفحة الحادية والثلاثين على اسم أراميس”. إذن لم يأخذ الكاتب الكبير موضوع روايته العظيمة بكاملها فقط بل استعمل أسماء أبطالها أيضًا. سرقة أم اقتباس ؟.
وفيما يختص بالاقتباس عند ألكسندر دوما، يدافع الكاتب الفرنسي جاك لوران عن دوما وعن أخذه الكثير عن كتَّاب معاصرين وغير معاصرين، ومن مستويات مختلفة، في المقدمة التي كتبها لرواية “الكونت دي مونت كريستو”، يدافع بمقولة خطيرة تسري على كل الفنانين العظام الذين مارسوا الاقتباس في أعمالهم الفنية بغض النظر عن نوع الفن الذي أبدعوا فيه، فيقول حرفيًا: “لقد اكتشف المتخصصون ما يدين به دوما لماكيه (Maquet) وكيف أنه استلهم من كتب بوشيه (Peuchet) وأرنو (Arnoud) وحتى أوچين سو (Eugène Sue). وهذا التفصيل لا يهمني أكثر من القاذورات التي تُوضع في القوقعة لحثها على تقطير وبلورة اللؤلؤة” !!!.
6– الرسم:
ننتقل إلى الرسم، ونرى وجود نفس ظاهرة الاقتباس في أجلى مظاهرها. ومن مئات الأمثلة أختار أربعة رسامين وهم: ڤيلاسكيز وبيسارو وبيكاسو وسلفادور دالي.
في القرن السابع عشر اشتهر الرسام الإيطالي المعروف (كاراڤادچو) بأسلوبه الواقعي المبتكر البعيد كل البعد عن الأساليب الأكاديمية المدرسية للرسم. السبب هو عدم دراسته فنون الرسم في أية مدرسة أكاديمية. وكان لأسلوبه الواقعي هذا التأثير الكبير على فناني جيله. ومن بين من تأثر به الفنان الأسباني الشهير دييجو ڤيلاسكيز (1599-1660) خاصةً في بداية مشواره الفني. ففي سنة 1618 وهو في التاسعة عشر من عمره رسم لوحته الشهيرة (امرأة عجوز تطهو البيض) متأثرًا بواقعية كاراڤادچو التي تبدو واضحة في الفقر الشديد البادي في ثياب المرأة وعلى وجهها الضعيف والبارز العظام وفي عينيها الجامدتين الفارغتين من أي تعبير والأواني الكثيرة الفارغة. سرقة أم اقتباس ؟.
في ذروة سيطرة المدرسة الانطباعية في فرنسا جاء چورچ سورا (1859-1891) بثورة في عالم الرسم واضعًا نظرية اللون والأسلوب العلمي لمدرسة الانطباعية الجديدة Néo Impressionisme. وحسب نظريته يجب على الرسام أن يقسِّم اللون والنور والظل إلى بقع غاية في الصغر. هذه الطريقة أدت إلى ظهور مدرسة التنقيطية Pointillisme، أي الرسم بالنقط بطريقةٍ لو نظرنا إلى اللوحة من بعيد تضيع النقاط مؤلفةً المنظر العام لها. وظل معاصره كميل بيسارو المولود قبله بتسعة وعشرين عامًا (1830-1903) يبحث عن أسلوب جديد للرسم خارج المدرسة الانطباعية التي كان أحد أتباعها دون جدوى. إلى أن تعرف على سورا سنة 1883 وعلى مدرسة التنقيطية، فأحس أنه وجد أخيرًا الأسلوب الذي يجب أن يتبعه، فاعتنق التنقيطية على يد سورا وسار عليها لآخر عمره، وكانت السبب في شهرته التي يبحث عنها طوال حياته. سرقة أم اقتباس ؟.
في سنة 1927 عرض بيكاسو لوحة كان قد رسمها سنة 1906 اسمها “آنسات أڤينيون: (Les demoiselles d’Avignon) وجاءت هذه اللوحة كسرًا نهائيًا مع مرحلتيه الأوليين الزرقاء والوردية، وكانت بداية مرحلة جديدة ليس في فنه فقط بل وفي تاريخ الفن العالمي. ومن أهم ما رسم في هذه المرحلة إلى جانب اللوحة المذكورة: الكمان (1913)، الراقصات الثلاث (1925)، الچيرنيكا (1937)، امرأة في الكرسي الهزاز (1943)، رأس امرأة (1949). وقد امتدت هذه المرحلة إلى أكثر من خمسين عامًا، وكانت في أساس ظهور المدرسة التكعيبية في الرسم. أما سبب ظهور هذا التحول الخطير والمفاجئ في أسلوب بيكاسو فيرده النقاد والمؤرخون إلى وقوعه تحت تأثير معرض المنحوتات الخشبية الأفريقية البدائية الذي أُقيم في باريس سنة 1906. سرقات أم اقتباسات ؟.
وإذا انتقلنا إلى رسام آخر يعتبر مع بيكاسو من أهم رسامي القرن العشرين وهو سلڤادور دالي، فإن استعاراته الرمزية والتفاصيل التخيلية التي تمتلئ بها أعماله كلها نراها بكاملها عند فنان هولندي ألماني الأصل: چيروم بوسخ (Bosch) مواليد 1450 ولا يفرق بينهما سوى اختلاف أسلوب التنفيذ، وسببه القرون الخمسة التي تفصل بين الرسامين. سرقات أم اقتباسات ؟.
وطالما ذكرنا بوسخ فلابد من الإشارة إلى أن تعامله مع النور، وحسه في التأليف الفضائي، وإيحاء العمق والمسافة، كل هذه العناصر التي حققها في أعماله تذكِّر بأعمال الفنانين چان وهوبير ڤان آيك. كل هذا نراه بوضوح شديد عند سلڤادور دالي. سرقات أم اقتباسات ؟.
7– الشعر العربي الكلاسيكي:
الشاعران الكبيران البارودي وشوقي أخذا من الشعر العربي القديم أبياتًا كثيرة وأجزاء أبيات ضماها في سياق قصائدهما. وما لنا سوى ذكر “نهج البردة” لشوقي التي “نسخ” فيها بردة البوصيري نسخًا. سرقات أم اقتباسات ؟.
الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، الشاعر العباسي الكبير، في سعيه لتجديد شعره أخذ أبياتًا كاملة أو مجتزأة من أشعار بشار بن بُرد، الذي تأثر به كثيرًا، وأعادها في سياق قصائده. سرقات أم اقتباسات ؟.
أما ما أخذه شاعر العرب الأكبر المتنبي من شعراء عاصروه أو سبقوه فقد كُتب عنه كتب كثيرة ومنها “الكشف عن مساوئ المتنبي”، للصاحب بن عباد، وكتابة “الأبانة عن سرقات المتنبي” للعميدي، وكتاب “سرقات المتنبي ومشكل معانيه” لابن بسام. سرقات أم اقتباسات ؟.
8– الشعر العربي المعاصر:
كلنا نعرف قصيدة “مع الجريدة” التي ظهرت في أول ديوان لشاعرنا الكبير نزار قباني “قصائد”:
أخرج من معطفه الجريدة
وعلبة الثقاب
ودون أن يلاحظ اضطرابي ..
ودونما اهتمام
تناول السكر من أمامي ..
ذوب في الفنجان قطعتين
ذوبني .. ذوب قطعتين .. إلى آخر القصيدة …
ولكن من منا يعرف أن هذه القصيدة مترجمة شبه حرفيًا عن قصيدة من ديوان “كلمات” (Paroles) للشاعر الفرنسي الذي لمع اسمه في منتصف القرن العشرين چاك بريڤيز (Jaques Prevert). كلنا يعرف قصيدة نزار قباني “القصيدة الشريرة” التي ظهرت في نفس الديوان “قصائد” والتي يصف فيها علاقة آثمة بين امرأتين:
مطر مطر وصديقتها
معها ولتشربن نواح
والباب تئن مفاصله
ويعربد فيه المفتاح … إلى آخره.
ولكن من منا يعرف أن هذه القصيدة مأخوذة عن قصيدة بنفس الموضوع من ديوان “أزهار الشر” (Les Fleurs du Mal) لشاعر الواقعية الفرنسية بودلير (Baudlair). سرقات أم اقتباسات ؟.
9– السينما:
نوع آخر من الفنون، السينما. كل من رأى أفلام عبقري السينما شارلي شابلن يعرف أن كل المفردات الكوميدية للسينما مأخوذة حرفيًا منه، وأن من جاء بعده لم يخترعوا أية مفردة في هذا المضمار. من هذه المفردات ضرب الناس على وجوههم بالتورتات المصنوعة بالكريمة، أو إظهار نصف البطل من فوق بثياب أنيقة جدًا (سواريه) ومع رجوع الكاميرا إلى الخلف يظهر البطل وهو في ثيابه الداخلية من تحت؛ أو كسر الموقف الدرامي الذي يكاد أن يتحول إلى مأساة، بموقف كوميدي مفاجئ. سرقات أم اقتباسات ؟.
كل من رأى فيلم ألفريد هتشكوك المبدع الكبير لأفلام الإثارة (الطيور)، يعرف من أين أتت سلسلة أفلام الكوارث المتعلقة بالحيوانات التي تهاجم البشر: من تماسيح ضخمة وعناكب سامَّة وأسماك طائرة ونمل وأسماك قرش، كما في سلسلة أفلام (الفك المفترس)، والأفاعي الضخمة كما في فيلم (أناكوندا)، والأسماك المفترسة كما في فيلم (بيرانيا) والديناصورات كما في سلسلة أفلام (چيوراسيك بارك) والديدان العملاقة المدمرة والمفترسة كما في فيلم (تريمورز) (Tremors) الذي مثله كيڤن بيكون، وغيرها من الحيوانات والأفلام. سرقات أم اقتباسات ؟.
من رأى ويذكر فيلم “الرجل الذي عرف كثيرًا” (The Man Who Knew Too Much) تمثيل چيمس ستيوارت ودوريس داي وإخراج ألفريد هتشكوك يدرك من أين جاءت أساليب الإثارة في الأفلام الحالية خاصة عندما تتمشى الكاميرا ببطء شديد في ممرات طويلة مظلمة، كل هذا بمصاحبة صمت طويل مطبق يكتم أنفاس المشاهد ويرفع جرعة الإثارة والتوتر إلى أقصى حد. سرقات أم اقتباسات ؟.
كم فيلم أنتجته هوليوود عن تصنيع أوبئة والمصل المضاد لها مرة بواسطة الجيش الأمريكي للحصول على أسلحة دمار شامل ومرة أخرى بواسطة جماعات إرهابية لكسب أرباح خيالية من المصل المضاد، ليس أولها كان فيلم (آوت بريك) (Out Break) تمثيل داستين هوفمان ومورجان فريمان، الذي يتهم الجيش الأمريكي صراحة بتصنيع هذا الوباء وإخفاء مصله المضاد حفاظًا على أسرار الجيش العسكرية البيولوجية. ويظهر هذا الاتهام بوضوح في جملة قالها البطل داستين هوفمان وهو يبحث عن المصل المضاد لإنقاذ بلدة أمريكية من الدمار. قال هذه الجملة لمساعده الطيار: إنهم يريدون سلاحهم (They want their weapon) وكررها ثلاث مرات بشكل واضح ومتتالٍ وبنبرة واضحة وهادئة وخطابية. وليس آخر هذه الأفلام “مهمة مستحيلة 2” الذي قام بتمثيله توم كروز، أو فيلم الصخرة (The Rock) تمثيل شون كونري ونيكولاس كيدچ. سرقات أم اقتباسات ؟. كما أن فيلم “الجريمة الكاملة” لمايكل دوجلاس مأخوذ لغاية نصفه (لغاية محاولة قتل الزوجة) عن فيلم ألفريد هتشكوك (Dial M for Murder) الذي مثلته جريس كيلي. سرقات أم اقتباسات ؟.
وإذا انتقلنا إلى السينما العربية نرى عشرات الأفلام المقتبسة عن أفلام أجنبية، وقد أصدرها الناقد محمود قاسم في كتابه القيم “أفلام وأقلام 2” ويحتوي على أكثر من مائة فيلم مقتبس. فيلم خمسة باب (عادل إمام، فؤاد المهندس، نادية الجندي) مأخوذ عن فيلم “إيرما اللذيذة” (Irma la Douce) تمثيل چاك ليمون وشيرلي ماكلين. أما فيلم العندليب الأسمر “يوم من عمري” فمأخوذ عن فيلم “عطلة في روما” (Roman Holyday) الذي مثله جريجوري بيك (الصحافي) وفان جونسون (المصور) وأودري هيبورن (الأميرة)، ونالت على هذا الدور جائزة أوسكار على أول بطولة مطلقة تقوم بها. كذلك فيلم “شمس الزناتي” لعادل إمام المأخوذ عن فيلم يول برينر (الممثل الأصلع) “السبعة الرائعون” (The Magnificent Seven) المأخوذ بدوره عن الفيلم الياباني الذي أخرجه كيروساوا. فيلم “الإرهاب والكباب” فكرته مأخوذة عن فيلم “المدينة المجنونة” (Mad City) الذي مثله چون تراڤولتا وداستين هوفمان. فيلم “أمير الانتقام” لأنور وجدي مأخوذ عن فيلم “الكونت دي مونت كريستو” للممثل الفرنسي چان ماريه (1954)، ونقله فريد شوقي حرفيًا في فيلم “أمير الدهاء” بأسماء أبطاله في النسخة العربية. كذلك مصَّر فريد شوقي فيلم “البؤساء” (Les Miserables) الفيلم الفرنسي للممثل الكبير چان چابان (Jean Gabin). وأخيرًا وليس آخرًا نذكر فيلم “ويچا” المقتبس عن الفيلم الأمريكي “چومانچي”. سرقات أم اقتباسات ؟.
10– الموسيقى:
نصل الآن إلى الموسيقى، ونبدأ باب الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية الحديثة الذي اقتبس الكثير من موضوعات أعماله من موسيقيين معاصرين له: فريسكو بالدي الإيطالي، وبوكستيهوده الألماني. ومن أهم هذه الاقتباسات وأشهرها من بوكستيهوده موضوع الفوجا (Fuga) الخالدة من مقام صول صغير للأرغن. كذلك اقتبس باخ مقطوعات مجلده الشهير للأطفال (آنا مجدالينا باخ) من أغنيات شعبية ألمانية للملحن المعاصر لباخ: هوبوكين Hobboken. موتسارت اقتبس في عمله الخالد الريكوييم (Requiem) الموضوع الأول من فوجاكيري الايسون (يا رب ارحم) من أوراتوريو المسيح لهاندل.
ومن نفس الأوراتوريو اقتبس بيتهوفن حرفيًا من أنشودة هاللويا جملة استعملها في قداسه الاحتفالي في جزء آنيوس ديي Agnus Dei. بيتهوفن أخذ حرفيًا بداية أوبرا بستيان وبستيانا لموتسارت (لحنها وهو في الرابعة عشرة من عمره) في بداية سيمفونيته الثالثة. لحن بداية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن والذي يشكل الاتهام الأكبر لمحمد عبد الوهاب كونه استعمله في بداية أغنية (أحب عيشة الحرية) أخذه بيتهوفن نفسه من رقصة تارانتيلا إيطالية من القرن السادس عشر.
تشايكوفسكي اعترف باقتباسه حرفيًا لحنًا من أوبرا بيزيه (كارمن) واستعمله في كونشرتو الكمان في حركته الأولى. ويقول تشايكوفسكي في هذا الصدد أنه عندما ألف الكونشرتو كان مازال تحت تأثير الأوبرا. سرقات أم اقتباسات.
وهناك عشرات الأمثلة الأخرى لا مجال لسردها هنا وردت في مقالات أخرى لي في رد تهمة السرقة عن محمد عبد الوهاب منذ ظهور لائحة اليونسكو سنة 1979.
ماذا بقي الآن من هذا الاتهام لهذا الفنان الكبير ؟. إني أعتقد أن هذه التهمة ليس لها أية قيمة، وسببها إما عدم معرفة الذين يعتنقونها بدور الاقتباس في تطور جميع أنواع الفنون منذ ظهور الحضارة الإنسانية، وهذا نقص كبير في الثقافة الشاملة، أو تجاهلها لأسباب شخصية أو لأخرى كما حدث عند إصدار لائحة الاتهام، أو عدم معرفتهم أساسًا بوجود هذه الاقتباسات التي ذكرنا في جميع العصور وعند جميع الفنانين وفي جميع أنواع الفنون، أو ضمور المعرفة الثقافية عند بعض هؤلاء واقتصارها فقط على الموسيقى (أو جزء منها) وعدم وجود رؤيا ثقافية شاملة لديهم تجمع كل الفنون المعروفة وتواريخها.
إن الاقتباس ظاهرة كانت موجودة منذ أقدم العصور، قبل
محمد عبد الوهاب بقرون كثيرة، وفي أثناء حياته، وستظل موجودة إلى ما شاء الله،
طالما أن هناك فنونًا وفنانين يبدعون، وتواصلًا في التراكم الحضاري والإنساني.
([1]) يقصد أسماء أبطال الرواية آتوس وبورتوس وأراميس.
([2]) دراتانيان هو البطل الرئيسي للرواية.
([3]) يحتفظ الكاتب في الرواية بنفس الاسم لقائد الفرسان.