بلغت الحداثة ذروتها الفائقة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف العشرين، وهى النقطة التي انطلقت منها- بعد الحرب الثانية- مسيرة نقدها بهدف تلافي تناقضاتها، وحصار نزعة التمركز التي تتأسس عليها، إذ انطوت في داخلها على أنساق هيمنة وتسلط باسم مقولات كبرى من قبيل العقل، النظام الاجتماعي، الروح القومية.. الخ، تغذت بدورها على عوامل كالأنانية الفردية، والتفاوت الطبقي الحاد، وغياب العدالة في التعامل الدولي، حيث تسود جل مظاهر الظلم: احتلال، استعمار، وصاية اقتصادية، تبادل غير متكافئ، على نحو يقلل من إمكانية بناء سلام دائم حسب العظيم كانط، أو يغيب معه حس المسئولية وجوهر العدالة، حسب الأمريكي جون رولز. غير أن تيار نقد الحداثة الفائقة هذه قد تدفق في اتجاهين:
الاتجاه الأول: جسد نزوعا تفكيكيا نال من عقلانية التنوير، تمثل في تيار ما بعد الحداثة الذي عبر عنه بامتياز المزاج العقلي الفرنسي، منذ أعلن الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار بيانه / كتابه الشهير “الظرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة” 1979م، حيث واصلت الفلسفة الفرنسية منذ ذاك التأكيد على ما ذهب إليه الرجل، اتساقا مع مزاجها الشكي العميق منذ ديكارت على الأقل، مرورا بتيار الوجودية الملحدة منتصف القرن العشرين، خصوصا لدى سارتر، وصولا إلى جاك دريدا، الذي صوب جل أدوات النزعة التفكيكية على رأس الحداثة. إنه المزاج الذي يواجه لحظات عدم اليقين بالقطيعة الكاملة مع البنية القائمة، بدلا من محاولة نقدها في إطار الاستمرارية معها.
تشكك فلسفة ما بعد الحداثة في وجود حقائق صلبة منفصلة عن الذات العارفة، ومن ثم تبدي حذرا شديدا إزاء الأنساق الفكرية الشاملة، وليس فقط المغلقة، باعتبارها سرديات للهيمنة. كما تسعى إلى التقليل من دور التاريخ باعتباره السردية الكبرى عن مفهوم الحقيقة، ولكونه دليلا على فكرة التقدم, التي تكاد تمثل دين الحداثة. وأخيرا لا آخرا نزوعها إلى التقليل من مركزية الثقافة العالمة / السائدة / الكونية، لصالح الثقافات الفرعية / الإقليمية وما تجسده من هويات خاصة. وعلى هذا تتبدى ما بعد الحداثة كردة موضوعية وتاريخية عن المنطق العقلاني الصارم، والثقافة الكونية للحداثة، حيث باتت الذاتية محورية في إدراك (الحقيقة)، التي صارت محض تأويلات ذهنية لواقع محيط بالإنسان، فلم تعد هناك نظرية معرفية شاملة أو فكرة كلية عن حقيقة بذاتها بل ثمة حقائق متعددة تصدر عن الميول الشخصية والاستعدادات الذاتية. وإذا كانت روح الحداثة قد تأسست على أن صورة العالم الخارجية (الحقيقة) هي التي تنعكس في الإنسان لتشكل مذاهبه الفكرية وميوله الفلسفية، ولو من خلال العقل الذي يترجم العالم الواقعي إلى سلسلة من الحدوث التجريبية يمكن تأملها عبر العقل النظري بمبادئه الكلية وقواعده النظرية، كما تصور كانط في مفهومه عن المثالية التجريبية / النزعة النقدية، فقد ادعت ما بعد الحداثة أن صورة العالم ليست إلا انعكاسا لهذه المذاهب والميول الإنسانية، فالمتاح إذن حقائق متعددة، وليس صورا مختلفة لحقيقة واحدة. ومن ثم لا مفر من تفكيك الأنساق الفكرية الكبرى المستقرة في فلسفة الحداثة باعتبارها وليدة محيط ثقافي وتاريخي معين وليس العقل البشرى في كليته أو العالم الطبيعي في شموله. بل إن هذا التفكيك نفسه يجب ألا يستند إلى مبدأ مطلق، وإلا كان ثمة تناقض بين غياب المبدأ المطلق في عملية التركيب، وحضوره في عملية التفكيك.
وهكذا بات جوهر ما بعد الحداثة، كما وصفها جان فرانسوا ليوتار، هو إنكار المعتقدات الموروثة والتشكيك في القصص العظيمة، والثورة على السرديات الكبرى، التي طالما ملأت العقل، وشغلت الوعي الإنساني حتى اُعتبرت وكأنها من مسلماته التي لا يمكن التفكير سوى انطلاقا منها. وهنا يعطينا ليوتار مثلين متناقضين في الاتجاه ولكنهما متفقان في الدلالة. المثال الأول عن الدين / الإيمان، الذي تمحور حول القصة الأعظم في تاريخ الفكر البشرى، أي قصة (الإله)، الخالق للكون، العليم بأحوال البشر، القادر على رعايتهم من ناحية، والتحكم بأقدارهم من ناحية أخرى. ومن هذه الزاوية تبدو ما بعد الحداثة قرينا لكل النزعات الشكية واللا أدرية إزاء الإله، إن لم تكن قرينة الدعوة إلى موت الإله، والتي كانت الحداثة نفسها قد ادعته، خصوصا على لسان نيتشة وفرويد ودوركهايم، في ظل الحداثة الفائقة / المتطرفة، التي كانت تنبأت بنهاية الدين في الثلث الأخير للقرن التاسع عشر.
وأما المثال الثاني، فعن الإلحاد نفسه، والذي يعتبره ليوتار سردية كبيرة معارضة للأولى، احتلت مساحات متزايدة في الزمن الحديث، وأطلقت آراء عامة كلية مناقضة لقصة الألوهية بنوع من التعميم يحتاج هو الآخر إلى التفكيك، بالقدر الذي تحتاجه قصة الإله. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة وكأنها ردة عن النزعة المادية في الحداثة، أو الميول الإلحادية في التنوير.
لم تصرح ما بعد الحداثة برفض الألوهية أو الإلحاد، بل سعت فقط إلى التشكيك في الأسس الجوهرية التي تجعل من كليهما، الإلحاد والإيمان، سردية كبرى وإطار ناظم يحتشد داخله الجميع، أو يُقهرون على النظر إلى العالم من خلاله، على نحو ينزع عنهما المبالغة والتعميم والإطلاق. وهنا يكشف جاك دريدا، التفكيكي الشهير، الذي أكمل عمل ليوتار، عن شكوكه العميقة إزاء الاستقطاب الحاد بين الثنائيات الجامدة في فكر الحداثة، والتي يرى فيها تبسيطًا مخلاً. فالملحدون، مثلا، اختزلوا الدين في صيغ وعبارات تبسيطية تناسب أيديولوجيتهم الرافضة له، كما فعل ماركس عندما وصف الدين بأنه أفيون الشعوب المقهورة، الذي يكرس استغلالهم ويؤدي إلى اغترابهم. أو فرويد الذي رآه مصدرًا للرعب النابع من عقدة أوديب، أو إميل دوركهايم الذي رآه انعكاسا لعقدة قتل الأب البدائية، وهكذا. أما المؤمنون، خصوصا الأصوليون المتزمتون، فانغلقوا هم أيضا على رؤية تبسيطية تنفي غير المؤمن، وتجعل منه كائنا شريرا بالضرورة، يقف من المتدينين الموقف نفسه الذي وقفه الشيطان من الإنسان في قصة الخلق التي يؤمنون بها حرفيا.
تجاوزا لهذا الاستقطاب، يتحدث الفيلسوف الأمريكي جون دو كابوتو، ونظيره الإيطالي جيانى دي فاتيمو، عن ضرورة ما يسميانه بـ “الفكر الخافت” كطريق إلى التعايش بين المختلفين. والفكر الخافت، كما يفهمانه، هو طريقة في التفكير تقوم على سلب ونفي المفاهيم، أكثر مما تقوم على التحديد الإيجابي لها. إنه الفكر نفسه الذي دشنه فلاسفة التفكيك الفرنسيين، وبحسبه أو باسمه يجري حصار الادعاءات الكبرى للتنوير حول العقل والإنسان والتاريخ والحق والواجب.. الخ. كما يتحول العالم إلى فسيفساء من المعاني لا مركز لها، فيكاد ينتفي مفهوم الحقيقة من الأساس. فعلى صعيد نظرية المعرفة يصبح من الصعب بناء منظور واضح أو نموذج إرشادي مستقر نسبيا، أو مجتمع علمي متماسك يُتصور له قدر من الدوام والتجانس. وعلى صعيد نظرية الأخلاق تنتفي مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، ولا تبقى الفضيلة ذات معنى إنساني عام، ولا القيم ذات مغزى كوني شامل، بل تصير وليدة سياقات محلية وخبرات جزئية، ويصبح المعيار الأساسي لها ما تتواضع عليه أي جماعة بشرية ولو قل عددها. وهنا يكاد يصبح كل إنسان مشرعا أخلاقيا لنفسه، فالفضيلة هي ما يراها كذلك، والرذيلة أيضا. وعلى هذا تفضي ما بعد الحداثة، جوهريا، إلى تعميق التوجهات النسبية للحداثة. أما الفكر الخافت فلا يعدو أن يكون وصفة تعمى على مشكلتي: الحقيقة والفهم، بدلا من أن تحلها، تقود إلى اغتراب الروح الإنساني، فيما المطلوب وعي جديد يحفظ للحقيقة ممكنات حضورها كاملة، ويتجاوز في الوقت نفسه وثوقيتها الساذجة التي تعوق تعددية طرائق فهمها.
أما الاتجاه الثاني فيمثل نزوعا تجديديا للحداثة نفسها، ينزع عنها تصلبها الفائق، ويحيلها إلى “حداثة خافتة”، وهو ما يتجسد في المزاج العقلي الألماني، خصوصا في تياره النقدي، الذي أبدى ترددا كبيرا في القطع مع الحداثة، أو الاندراج في صيرورة التفكيك القائلة بتجاوزها. ورغم إيمانه بحاجتها إلى التجديد، فقد ارتأى هذا التيار، وفاء لموروثه النقدي، أن يكون نقدها تواصليا، فهي لديه كينونة لا تزال قادرة على العمل.
والواقع أننا نميل إلى هذا الاتجاه رغم عدم إنكارنا لما وقع من تغاير في البنية الأساسية للحداثة على صعيدين أساسيين: أولهما نمط الإنتاج، أي ركنها الأول، والذي كان مركنتيليا تجاريا لنحو القرنين في بداية الرأسمالية، ثم صناعيا لقرنين آخرين شهدا نضجها، قبل أن يترك مكانه لنمط إنتاج جديد قوامه المعرفة الرمزية والتكنولوجيا الفائقة. وثانيهما خطاب الشرعية، أي ركنها الثالث، باتجاه خطابات من قبيل النظام العالمي الجديد، والكوكبية، والعولمة، والمجتمع الكوني، وغيرها من مقولات تشرع لنظام الهيمنة القائم. ففي مواجهة تغاير هذين الركنين لم ينل التغيير من ذلك الركن الأكثر أساسية “المركزي” في بنية الحداثة، أي البنى السياسية والنظم الاقتصادية والقانونية، فلا نظم مجتمعية مختلفة كليا ولا نظم حكم جديدة جذريا، ولا حتى مذاهب سياسية مغايرة فعليا، تم إنتاجها قادرة على الوقوف بصلابة في مواجهة بنيات ونظم ومذاهب الحداثة. ولأن الفارق يبقى كبيرا بين عملية تاريخية يمكن وصفها بالسلب، تكتفي بتفكيك بعض أسس ما هو قائم، وبين عملية تاريخية تتسم بالإيجاب، قادرة على تأسيس وضع تاريخي جديد، تظل فلسفة ما بعد الحداثة قاصرة جوهريا عن تشكيل كينونة تاريخية جديدة، وتستمر فقط في نطاق “الما بعد”، أي كصيرورة متصاعدة تنسب إلى “الحداثة” نفسها ككينونة. وإذا كان ممكنا قبول مقولة “ما بعد التحديث” كمفهوم واقعي يشي بمرحلة تلي تجربة التحديث، يمكن قياس مؤشراتها موضوعيا وربطها بعصر ما بعد الصناعة، فمن الصعب التسليم بمقولة “ما بعد الحداثة” كمرحلة تاريخية تتجاوز الحداثة لدافعين أساسيين:
الدافع الأول هو النزعة النسبية التي تنطوي عليها الحداثة، كثمرة طبيعية للارتباط بين الحداثة والعلم الطبيعي بمنهجه التجريبي، الذي يمنحها قدرة دائمة على تجاوز نفسها، كما يشي تاريخها الممتد في عصور: النهضة، والإصلاح الديني، والتنوير، والثورة الصناعية، والثورات الديمقراطية، وهكذا نصبح أمام مسارات للحداثة لم تتبلور في زمن واحد، بل في أزمنة متباينة وعبر تحولات تدريجية امتلكت منطقها الخاص وتدرجها الطبيعي. ولهذا يرفض الفيلسوف الألماني المعاصر يورجن هابرماس، وريث النزعة النقدية وربيب مدرسة فرانكفورت، تصور أدورنو الذي يحدد بدء الحداثة حوالي 1850م، حيث نظر إليها بعيني شارل بودلير والفن الطليعي، وهو تصور قاصر لا يحيط بتاريخيتها كتجربة كبرى جسدت رؤية كلية للوجود، وضعت نفسها في علاقة تضاد مع العصور القديمة، لتدرك ذاتها كحركة عبور إلى الحديث، حيث استمر صراع الحداثيين مع القدماء من أتباع الذوق الكلاسيكي، ولم يتحرر عالمنا من السحر الذي مارسه العالم القديم على روح الحداثيين إلا مع حلول مُثُل التنوير الفرنسي، والتطور الحاسم في مدارات العلم والتكنولوجيا على النحو الذي رسخ مفهوم التقدم الإنساني.
ومن ثم يعتبر هابرماس أن توجه ما بعد الحداثة، ليس إلا نوعا من الاستيلاء قام به المحافظون الأحدث على خبرة الحداثة الجمالية الأساسية؛ أي تلك الذاتية غير المتمركزة، المتحررة من كل محدوديات المعرفة، والعمل الهادف، ومن كل أوامر العمل والمنفعة. وبمساعدة موقف حداثي يعلِّل هؤلاء عداءهم المرير للحداثة، ويناقضون العقل الأداتي بطريقة مانوية، بواسطة مبدأ لم يعد منفتحا إلا على إيقاظ المشاعر والتصورات لدى مشاهدة العمل الفني، بصرف النظر عما إذا كان هذا المبدأ هو إرادة القوة أو السيادة أو الوجود أو قوة الشعر الديونيسية. ولعل هذا هو ما دفع (فريدريك جيمسون) في كتابه “ما بعد الحداثة أو المنطق الحضاري للرأسمالية المتأخرة” إلى هجائها، باعتبارها “ليست إلا منتجا ثانويا أو فترة انتقالية داخل تاريخ الرأسمالية، بدلا من كونها تحليلا فلسفيا أو نقديا لهذا التاريخ، وأنها لذلك عاجزة عن الاستمرار كمهمة تاريخية، أو حتى عن التنظير لنفسها، كونها ليست إلا متاهة أو مركزا تجاريا للتسوق”.
ورغم الأزمات العديدة التي تعترض مسار الحداثة، لا يرى هنري لوفيفر في تلك الأزمات مبررا للقول بنهايتها، بل يمنح تلك الأزمات معنى إيجابيا في سياق تاريخها نفسه؛ إذ يرى في توالي الأزمات دليل خصوبة، فبقدر ما توجد الحداثة في حال تعارض مع ما هو قديم بقدر ما تختزن في عملياتها احتمالات الأزمة. فتحريك القديم يشكل خلخلة للموجود والمألوف. ومن ثم يتحدث عن ثلاث أزمات يرى أن الحداثة خرجت منها منتصرة. الأولى في أواخر القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية التي جسدت المُثل الحديثة في مجال السياسة. والثانية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، حيث بداية انهيار مُثُل التقدم والعقلانية والليبرالية أمام تصاعد حركة الجماهير و”الأهواء الجماعية” اللاعقلانية مثل النازية والفاشية والاشتراكية.. الخ. مع بروز دور القوى المكبوتة والتعبيرات المتنوعة التي عملت حركة الحداثة على تهميشها، مثل رموز اللاوعي التي لا تستجيب لمقاييس العقلانية. أما الثالثة فتفجرت في أواخر الستينات من القرن العشرين، وتتميز بسقوط كثير من الأيديولوجيات الجماهيرية، وبانتصار الخاص على العام، وبالنقد الجذري للنزعة الإنسانية، وهي الأزمة الممتدة حتى الآن أو المعركة التي تخوضها الحداثة بشراسة دفاعا عن كينونتها.
أما الدافع الثاني فهو الطبيعة الجدلية للحداثة، فهي ليست مجرد انعكاسات تلقائية ومباشرة لنظرية أو فلسفة بذاتها، بل استجابات مختلفة تتعدد بتنوع فضاءاتها: الفلسفية، والسياسية، والاجتماعية، والفنية والتكنولوجية، وجميعها أنساق لم تتطور في مسارات متوازية بالضرورة، بل إنها كثيرا ما تقاطعت وتداخلت معا. فمثلا نجد أن الإصلاح الديني الذي تلا عصر النهضة كان من الدموية والعنف ما يبرر اعتباره عصرا همجيا، تكاد تتفوق همجيته على كل العصور التي سبقت الحقبة الكلاسيكية وما شهدتها من مجتمعات متمدينة وإمبراطوريات مستقرة في أحضان الأديان. ولكن هذا العصر الدموي هو نفسه الذي أفضى في النهاية إلى معاهدة وستفاليا (1648م)، التي شقت الطريق أمام مفهوم الدولة القومية، ومن ثم الحداثة السياسية، على طريق الديمقراطية الليبرالية. كما أن لحظة الذروة في مسار الثورة الصناعية لم تكن هي لحظة الذروة على صعيد الحرية الفردية، بل لحظة اغتراب إنساني كبير أفضى إلى هجاء النزعة الرومانسية لها بين نهاية القرن الثامن عشر ومنتصف التاسع عشر، والذي اتخذ في البداية شكلا أدبيا وفلسفيا ينشد استعادة عوامل التفرد الإنساني من قبضة العقلانية التنويرية خصوصا مع جان جاك روسو في الثقافة الفرنسية، أو الانفلات من القبضة الخانقة للثورة الصناعية، خصوصا من قبل الشعراء والأدباء الإنجليز، كبايرون وألفريد تنيسون في قصيدته (للذكرى) 1850م، وتوماس إليوت في (الأرض الخراب)، وأخيرا تشارلز ديكنز في (أوقات عصيبة) 1854م، لتصور المدينة الصناعية الجديدة باعتبارها الجحيم الأرضي، المحكوم بعقل براجماتي مدمر للأخلاق الإنسانية وللنزعة الفردية. بل إن لحظة الذروة في مسار الحداثة السياسية مطلع القرن العشرين، خصوصا ذلك التطور الديمقراطي الذي أفضى إلى منح النساء حق التصويت في بريطانيا والولايات المتحدة، قد أعقبها انفجارات هائلة تجسدت في الحربين العالميتين، يمكن وصفها بالردة، خصوصا مع صعود النازية وما رافقها من مقولات رجعية تدعو إلى تطهير العرق الآري مما علق به من أدران الأعراق الأخرى. وفلسفيا يمكن اعتبار النزعات الوجودية حول منتصف القرن العشرين، خصوصا الملحدة، بمثابة ارتجاعات شكية، قياسا إلى مثل التنوير العليا كما تجسدت في النزعتين: النقدية الكانطية، والمثالية الهيجلية، وربما أيضا في البرجماتية الإنجليزية الهادئة، ونظيرتها الأمريكية الطاغية.
وهكذا تبدو الحداثة، بتاريخيتها وجدليتها، تجربة واسعة وثرية، غير محدودة بسقف تاريخي نهائي، بل موسومة بالقدرة على تجاوز ذاتها، فإذا ما تحقق ذلك لم يكن تجاوزا خارجيا لها ككينونة، بل داخليا فقط لأحد مراحلها على نحو قد يؤذن بدخولها في صيرورة جديدة. ومن ثم فكل تطور لها يمكن أن يُنسب إلى مفهومها، فالحداثة ليست فقط القدرة على تجاوز الفكر التقليدي الذي كان قائما في الجغرافيا الغربية قبل خمسة قرون مثلا، بل القدرة على التجاوز الدائم لكل فكر قائم، ما يعني أن ما كان حديثا بالأمس يمكن أن يصير غير ذلك اليوم، وما هو حديث اليوم قد لا يبقى كذلك في الغد، باسم الحداثة ذاتها، تعويلا على الملكتين الأساسيتين الكامنتين فيها: النسبية والجدلية.
لا ينفي ذلك الحاجة إلى تجديد الحداثة، ولكنها حاجة تظل مشروطة، حسب هابرماس، بإطلاق مسيرة للفهم والتفهم تعيد صوغها على نحو ديمقراطي عبر حوار تتشارك فيه جل الثقافات الحية والفاعلة. ومن ثم يصبح ممكنا للثقافات القائمة على الدين أن تدلى بدلوها، وأن يتم الاعتراف بالدين كمكون أساسي في الثقافة الإنسانية، يفتح له باب الدخول إلى الحضارة المعاصرة، فلا يضطر لاقتحامها من نافذة التمرد الأصولي. ومن جانبنا نقول، بوضوح، إن فلسفة الحداثة قد نهضت على قاعدة مكونات ثلاث أساسية: العقل والإرادة والطبيعة. العقل كفعالية معرفية قادرة على الفهم الموضوعي للعالم والتوظيف العملي للطبيعة بدلا من هالة القداسة التي أحاطت بها في الفكر التقليدي، الميثولوجي أو الديني. والإرادة باعتبارها انعكاسا للذات الإنسانية الحرة، القادرة على الاختيار، وعلى الخلاص الذاتي بعيدا عن سيطرة الكهنوت الديني؛ أي على طلب الحرية، وتحمل مسئوليتها. والطبيعة باعتبارها مجالا لفاعلية العقل والإرادة الإنسانيين، أو لممارسة المعرفة والحرية معا، حيث يجري تقييم مدى صوابية المسيرة البشرية على طريق التقدم والترقي بالقدرة على فك شفراتها وحسن توظيفها في خدمة الإنسان.
وفي هذا السياق نظرت الحداثة إلى وجود الله والثقة في حضوره باعتباره انتقاصا من ثقتها بالمكونات الثلاثة التي اعتبرتها مؤسسة لها، فأرادت التأكيد عليها، ومن ثم وضعته في موضع الميتافيزيقا التي لابد من التمرد عليها بذريعة مفهوم الحتمية العلمية. ولأن العلم الحديث كان بالضرورة نقيضا للميتافيزيقا، فقد تبدت الحداثة وكأنها في أفضل الأحوال محايدة إزاء الله، أما تياراتها المتطرفة فكانت بالقطع معادية له. ففي سياق التنوير المادي والعلمانية الوجودية بلغ رفض الألوهية حدا متطرفا لدى نقاد الدين الكبار من ماركس وفيورباخ مرورا بفرويد ودوركهايم، وصولا إلى الادعاء بموت الله لدى نيتشه. أما في سياق التنوير الروحي والعلمانية السياسية، فكان الشاغل الأساسي هو القدرة على تعقل الكون وكشف أسرار الطبيعة، بالاستقلال عن الله. وهكذا فإن أقصى ما قدمته الحداثة للدين، يتمثل في عدم التعصب ضده، وأقصى ما قدمته لـ (الله) هو عدم إنكار وجوده صراحة، وقد كان الهدف من هذا الموقف معرفيا بالأساس، وهو الخلاص من كل أثر للميتافيزيقا في العلم، فإن لم تكن هناك قدرة على نفى تلك الميتافيزيقا، فمن الممكن إزاحتها ولو إلى أعلى، فتتعالى على العقل من دون أن تصطدم به، ويتم الخلاص منها (عمليا)، لتنساب مسيرة العلم، ولم يكن الهدف بالقطع إيمانيا، يسعى إلى استحضار الله إلى عالمنا، والشعور العميق بعنايته لنا.
وهكذا بدا أن اعتراف الحداثة بالموقف الإلحادي أكثر أصالة من اعترافها بالموقف الإيماني؛ لأن العقل صار قادرا على العمل بالاستقلال عن الله، فيما الله صار رهينة للعقل، وهو الأمر الذي فتح الباب على توترات نفسية عميقة، إذ يكاد يحيل التكنولوجيا والمادة والسوق إلى آلهة جديدة تبث البشر أحلام خلاص استهلاكية وتفرض عليهم ميتافيزيقا دنيوية، وتدمجهم في طقوس تعبدية شبه مقدسة، ما أدخل الحداثة في أزمة معلنة لا يمكن إنكارها، كما لا يمكن لوصفة ما بعد الحداثة أن تتصدى لها، لأن المطلوب وصفة أخرى قادرة على تجاوز الوثوقية الساذجة التي ينظر بها إلى الحقيقة باعتبارها مادية / وضعية / براجماتية صرفة، أو على النقيض مثالية / ذاتية / روحية صرف.
وفى اعتقادنا أن الجذر الأساسي لهذه الوصفة، القادر على تحقيق التصالح والانسجام بين هذه المكونات الثلاثة، يتمثل في مفهوم “الألوهية” نفسه، الذي أهملته الحداثة، شرط أن نفهم الألوهية كمصدر سام للروحانية أو كمبدأ أخلاقي فعال في صوغ رؤية الوجود، يتجاوز مجرد اعتناق دين اسمي ما (يهودية، مسيحية، إسلام، هندوسية، بوذية.. الخ)، إلى كونه أساسا قويا لشعور عام بالتراحم الإنساني، مارست الحداثة في مواجهته، للأسف، إما نوعا من الإنكار الصريح أو من الرفض المبطن.
مزية هذا الجذر تكمن في قوة حضوره التاريخي داخل الضمير البشري، ومن ثم قدرته على تهذيب الحدود المتطرفة التي يمكن أن تذهب إليها المكونات الثلاث المؤسسة للحداثة، على النحو الذي يثير أزماتها ويفرض مهمة البحث عن أطر وذهنية وبنيات فكرية تتجاوزها أو تمثل الما بعد بالنسبة إليها. بل إنني أزعم أنه قادر على استخراج أفضل الصيغ من تلك المكونات الثلاث عبر تخصيبها بما يضيف إليها من عناصر قد تبدو للنظر المتعجل إنها مضادة لمفهوم الحداثة ومكوناته الثلاث.
فعلى صعيد الإرادة مثلا، قد يرى الفهم المادي المتصلب للحداثة أن الحضور الإلهي يمثل قيدا على الحضور الإنساني بالضرورة، ككائن حر وفعال يعيش على الأرض ولا ينتظر الملكوت السماوي، يملك السيطرة الكاملة على مصيره. ولكن هذا الفهم يبقى أحاديا في الحقيقة، إذ يقصر نفسه على طريق واحد لتوكيد الإنسان يتمثل في الأسطورة البروميثية، المؤسسة للخيال الميثولوجي اليوناني، والقارة بدورها في الخيال الثقافي الغربي والتي تكاد تكون المصدر الأساسي لإلهام التيار الإلحاد الغربي، الذي طالما استدعى العبقرية اليونانية في مواجهة العبودية المسيحية، منذ عصر النهضة الذي لم يكن في جوهره غير عملية إحياء واسعة للأدب اليوناني على حساب التراث المسيحي، وصولا إلى نيتشه الذي أعلن بوضوح أن التراث اليهودي ـ المسيحي ليس تراثا للعبودية، بعد أن كان هيجل نفسه قد صرح بإعجابه بأرسطو أكثر من المسيح.
كذا ولدت النزعة الإنسانية في الفكر الغربي ونمت على جسد الإله، ولم تر إمكانية لصوغ نزعة إنسانية لا تمر بطريق الإلحاد، ولا تستدعي تغييب الحضور الإلهي، بل تستند إلى ذلك الحضور. وظني أن ذلك الفهم قد انطلق من وعي فردي لم يخبر التجربة الروحية أو يعايشها من داخلها، كما من شعور تاريخي عام انتفض محقا ضد الكهانة الدينية ومحاكم التفتيش الكاثوليكية؛ وبفعل نزعة التمركز حول الذات الكامنة في تجربة الحداثة الأوروبية كان من السهل تعميم التجربة المسيحية باعتبارها التجربة الدينية عموما، فلم يتمكن هذا الشعور التاريخي من تصور إيمان روحي حي، قادر على تحرير الإنسان وجوديا، نظنه قائما وممكنا في الزهد البروتستانتي والتصوف الإسلامي النقي، حيث الانشغال الإيجابي بالعالم من تورط في ماديته الصرفة، الأمر الذي قد يفتح الباب على بناء نزعة إنسانية إيمانية، عجز الملحدون عن تقديرها حق قدرها، تربط عالمنا الدنيوي / العادي، بالحضور الإلهي، القادر على أن يهبنا قبسا من الشعور بالرعاية والعناية في مواجهة الضغوط التي نعانيها وما يبثه ذلك الشعور من طمأنينة نفسية، ورغبة في التسامي على نوازع الشر الظلم، وإن كان هذا العجز لدى الملحد هو ما أسهم فيه عموم المتدينين بنصيب كبير، على مر التاريخ، لسوء تمثلهم هذا الحضور، عندما حاولوا امتلاكه، والحديث باسمه، فجعلوه مدخلا للاستبداد والقهر، بديلا عن كونه رعاية للعالم وتحريرا للإنسان.
في هذا السياق وحده يتعين على العقل العربي التفكير في كيفية مقاربة الحداثة باعتبارها نتاجا لخبرة إنسانية مشتركة عوضا عن التفكير في صدها باعتبارها تجربة غربية خاصة وعدوانية. ولعلنا نكتشف عمق مشروعية تلك المقاربة الإنسانية إذا ما قمنا بتحرير المفاهيم المركزية للحداثة كالعقلنة والأنسنة والعلمنة من القوالب النهائية التي التصقت بها، كشفا عن تاريخيتها كحامل لقيم جوهرية، تصطبغ بأسماء ما في حقبة تاريخية بذاتها، وأسماء أخرى في حقبة تالية، رغم استمرارية مضمونها كقيم كونية لازمة، وسنن مجتمعية مصاحبة لأي نهضة بشرية، من قبيل تأكيد فعالية العقل الإنساني أو حرية الإرادة الإنسانية أو الانشغال الإيجابي بالعالم، إذ لا يمكن تصور نهضة حضارية لدى جماعة بشرية تجمد عقلها، أو اعتقلت إرادتها، أو فقدت اهتمامها بالواقع الدنيوي، وانشغلت فقط بملكوت أخروي أو عالم مفارق. غير أن تلك الفجوة بين الظاهر والباطن، بين السياقات المنتجة للمفاهيم والأخرى الحاضنة لها، قد حولت الجدل التاريخي بين الفكر العربي وهذه المفاهيم إلى صراعات عبثية أحيانا (الإسلام والحداثة) وعدمية أحيانا أخرى (الإسلام والعلمانية)، ومن ثم استمرت مجتمعاتنا المعاصرة، بفعل اندراجها واقعيا في سياق حضارة كونية، تواقة إلى الغرف من هوامشها التكنولوجية من دون مقاربة لمتونها الجوهرية، وقد آن الأوان لتجاوز شعورنا بالغربة عن الحداثة. بل إنه بقدر من التأويل الخلاق والتنظير المتقن يمكن للحضارة العربية رفد الحداثة بقيم إيجابية، روحية وأخلاقية، تحتاج إليها للحد من غطرستها وتعاليها، الأمر الذي يجعل من الإسلام مكونا أصيلا في تيار نقدها، ومصدر إلهام يسهم في تصويب مسيرتها.