2021العدد 186ملف خاص

الفضاء الإلكتروني كساحة جديدة في الصراع الدولي

مادام هناك بشر، فلابد أن يكون  ثمة صراع يجد أساسه في الاختلاف بينهم، وليس بالضرورة أن يكون هذا الصراع سيّئًا أو مؤدّيًا إلى شرور، فهناك من الصراعات ما يؤدي إلى تنافس إيجابي تترتب عليه منافع أو فوائد كثيرة، وبالتالي فكما توجد صراعات بين الأفراد توجد أيضًا صراعات بين الجماعات وصولًا إلى الصراعات بين الدول، وإذا كانت الصراعات الفردية لصيقة بحياة البشر، فإنَّه لا يمكن تخيل إنتهاء الصراعات الدولية في أي وقت.

وإذا كان الإنسان قد نجح وإلى حدٍ كبير في جعل الصراعات الفردية تدار بإسلوب يُعظّم من إمكانية تحويله إلى تنافس إيجابي عن طريق الإهتداء إلى المباريات الرياضية (فردية كانت أم جماعية)؛ ليكون هناك فائز ومهزوم بشكلٍ سلمي، لكنَّ هذا النجاح الذي حققه الإنسان في الألعاب الرياضية لم يحقق مثله خارج الملاعب- خاصةً في ميدان الصراع بين الدول، أو ما نُطلق عليه الصراع الدولي، وهو الذي يكون غالبًا بين الدول؛ لإمتلاك عناصر القوة السياسية والإقتصادية والعسكرية والثقافية كليًّا أو جزئيًّا.

لكن من المؤكد أنَّ هناك جهود تستهدف تهذيب هذه الصراعات الدولية، وهي عبارة عن قيود الشرعية الدولية المتمثلة في القانون الدولي الإنساني وما شابهه؛ حتى لا تنفلت الصراعات إلى حروب مدمرة،  لكنَّ -أيضًا-غالبًا ما تواجه هذه الجهود الكثير من العقبات فتعيده للوراء.

ويعتبر الفضاء الإلكتروني أو الفضاء السيبراني الوسيط الذي تتواجد فيه شبكات الحاسبات الإلكترونية ويحصل من خلالها التواصل الإلكتروني، وبمفهوم أشمل فهو مجال مُركب (مادي وغير مادي) يشمل مجموعة من العناصر هي: ( أجهزة الكمبيوتر، أنظمة الشبكات ، البرمجيات، حساب المعلومات، نقل وتخزين البيانات وكذلك مستخدمي كل هذه العناصر).

وقد اشتهر هذا المصطلح في تسعينات القرن الماضي بعد ما أصبحت استخدامات الإنترنت والشبكات والاتصال الرقمي تنمو بشكلٍ كبير، وبالتالي أصبح مصطلح (الفضاء الإلكتروني) قادرًا على تمثيل العديد من الأفكار والظواهر الجديدة التي ظهرت، فحسب إحصاءات عام 2017 م  وصل عدد مستخدمي الإنترنت 2,1 مليار مستخدم و2,4  مليار مستخدم للشبكات الاجتماعية و3,146 مليار حاسب إلكتروني و5,9 مليار مستخدم للمحمول ومليار فيديو تم فتحه من اليوتيوب، إذًا أصبح هذا العصر حقيقةً هو عصر المعلومات، وبالتالي أصبح من أهم أشكال الصراع في عصر المعلومات هذا هما (حرب الشبكات ، وحرب الفضاء الإلكتروني).

ونتيجة لتزايد الاعتماد على التقنيات المتطورة في كافة شؤون الحياة اليومية تغيَّرت المفاهيم التقليدية للعلاقات الدولية، وظهرت بشكلٍ أكثر وضوحًا في تلك العلاقات الدولية المرتبطة بالأمن القومي سواءً في (الحرب والصراع والردع والدفاع)، لذلك تم إعادة تعريف مفهوم الحرب؛ ليُبرز الشق السيبراني لها- خاصةً مع ظهور أوجه غير عسكرية له-، وأيضًا تمت إعادة تعريف مفهوم القوة؛ ليُظهر شكلًا جديدًا من أشكال القوة السيبرانية، كذلك تمت إعادة صياغة مفهوم الردع؛ ليكون الردع السيبراني جزءًا أساسيًّا منه، وبالتالي تتشابك هذه المفاهيم الثلاثة معًا لتُكَوِّن مفهوم الأمن السيبراني الذي صار جزءًا جديدًا في مفاهيم العلاقات الدولية، وبالتالي ظهر الصراع الدولي على السيادة السيبرانية أي على الفضاء الإلكتروني المنتشر في كل مكان بوصفه مشتركًا عالميًّا.

وبذلك دخل المجال الإلكتروني ضمن المحددات الجديدة للقوة وأبعادها الجديدة من حيث طبيعتها وأنماط استخدامها بل وأيضًا طبيعة الفاعلين فيها، وهو ما كان له انعكاس على قدرات الدول وعلاقاتها الخارجية- ما أضفى خصائص جديدة للقوة التي بحوزة الدولة يمكن أن يستخدمها صانع القرار في فعلٍ مؤثرٍ يحقق مصالحها، وتؤثر في سلوك الوحدات السياسية الأخرى.

لكنَّ هذا الفضاء الإلكتروني لا يخضع لسيادة دولة واحدة أو مجموعة من الدول، كما أنَّه ليس محصّنًا من السيادة الإقليمية أو الولاية القضائية للدول، لذلك مارست الدول ولايتها القضائية على الجرائم السيبرانية، وأنشأت البنية التحتية السيبرانية المادية التي تتصل بدورها بشبكة الكهرباء الوطنية، فالدول عملت دومًا على التأكيد على حقها في تمام السيطرة وحماية البنية التحتية للأنشطة السيبرانية على أرضها من تدخل الأفراد أو الدول عبر حدودها. 

من هنا أصبح الفضاء الإلكتروني يُمثل مجالًا جديدًا في العلاقات الدولية سواءً تعاونًا أو صراعًا لما له من أهميةٍ بالغةٍ في التأثير على العلاقات الدولية تأثيرًا ظاهرًا في مكونات السياق الدولي، وطبيعة وخصائص أطراف العلاقات الدولية، وهو ما سُمي بـ(صعود السيبربوليتكس في العلاقات الدولية)، وذلك في إطار بزوغ ظاهرة الفضاء الإلكتروني في حركة العلاقات الدولية؛ تحديًّا للإفتراضات التقليدية من قبل طبيعة دور الفاعلين في العلاقات الدولية، وبالتالي خرجت قضية العلاقة بين الفضاء الإلكتروني والعلاقات الدولية من بُعدها التكنولوجي لأبعاد أخرى (سياسية وأمنية وإقتصادية وقانونية)، وتحوَّلت لدور وظيفي وحيوي سواءً (التعبئة السياسية أو الإستحواز على القوة، وفي تشكيل السياسة الخارجية للدول، والتأثير في الرأي العام العالمي، وإتاحة الفرصة لتشكيل التحالفات الدولية)، لكن لابد من معرفة أنَّ قضية أمن الفضاء الإلكتروني صارت تدخل في استراتيجيات الأمن القومي للعديد من الدول من أجل الاستحواذ على مصادر القوة داخل الفضاء الإلكتروني؛ للعمل على الحيلولة دون تعرض بنيتها التحتية الحيوية للخطر الذي ينجم جراء قطع خدمة الإنترنت أو ضرب مواقعها أو توقف رسائل البث الإذاعي أو التلفزيوني أو توقف موجات الراديو أو سقوط شبكات المحمول أو البث الفضائي، وأصبح لها تأثير عميق على المجتمع والإقتصاد على النطاق الدولي.

وبالتالي إذا نظرنا إلى دور الفضاء الإلكتروني في تشكيل التحالفات الدولية، ودوره في الاستحواذ على القوة – وهما دوران متناقضان – سوف تتأكد على الفور أنَّ للفضاء الإلكتروني دورًا هامًا وخطيرًا في العلاقات الدولية، وكما سبق وأن ذكرنا أنَّه ( تعاونًا أو صراعًا). وإذا كانت الصراعات التقليدية تستعمل شتى أنواع أسلحة التدمير العسكرية والاقتصادية والإعلامية، فللصراع الإلكتروني أيضًا أنواعه، فهناك (الصراع الإلكتروني المدمر) والذي يتميز بألَّا تصاحبه دماء وأشلاء بالضرورة فهو قد يتضمن التجسس والتسلل ثم النسف، لكن لا دخان ولا أنقاض ولا غبار، كما أنَّ عمل أطرافه تتسم بالسرية والغموض، وفي نفس الوقت تكون تداعياته خطيرة سواءً عن طريق تدمير المواقع على الإنترنت ونسفها وقصفها بوابل من الفيروسات، أو النيل من سلامة المواقع، كما أنَّ أسلحة هذا الصراع الذي قد يكون مدمرًا يَسهل الحصول عليها، والتعليم على كيفية استخدامها من خلال مواقع الأنترنت نفسها. وبالتالي فإنَّ هذا الصراع يمكن أن يكون صراعًا ممتدًا من خلال الكر والفر بين الأطراف المتصارعة، وذلك لطبيعة الفضاء الإلكتروني نفسه؛ لأن هذا الصراع تُحركه دوافع سياسية، وبالتالي يمكن أن يأخذ شكلًا عسكريًا ويتم فيه استخدام قدرات هجومية ودفاعية عبر ذلك الفضاء الإلكتروني، بهدف إفساد النظم المعلوماتية والشبكات والبنية التحتية.

 والنوع الآخر من الصراع الإلكتروني هو (صراع ذو طبيعة ناعمة)، ويكون هدفه الحصول على المعلومات، أو التأثير على المشاعر والأفكار، أو شن الحرب النفسية والإعلامية بغرض التأثير على السكان والإخلال باستقرار المجتمع، وبما يؤثر في تنامي شعوره بالعجز وعدم الثقة في مؤسسات الدولة والاحتماء بالولاءات التقليدية الأولية، بما يُشكل بداية استخدام (الدين والقبيلة والعرق) كدافع من دوافع الصراع، والتي يمكن أن تؤدي إلى تقويض سلطة الدولة، ويتم أيضًا هذا النوع من الصراع الإلكتروني من خلال تسريب المعلومات عبر منصات إعلامية، بما يؤثر على طبيعة العلاقات الدولية، كالدور الذي لعبه موقع “ويكيلكس” في الدبلوماسية الدولية.

وإجمالًا فإنَّه إذا كان الأمن القومي لأي دولة يُعنى بحماية وغياب التهديد لقيم المجتمع الأساسية، وغياب الخوف من خطر تعرض هذه القيم للهجوم، فإنَّ الفضاء الإلكتروني قد فرض إعادة التفكير في مفهوم الأمن، والذي يتعلق بتلك الدرجة التي تُمكّن الدولة من أن تصبح في مأمن من خطر التعرض للهجوم العسكري أو الإرهابي، وإجراءات الحماية ضد تعرض المنشأت الحيوية للبنية التحتية للأعمال العدائية، من خلال الاستخدام السيئ لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات.

إذًا على الدولة هنا أن تعي أنَّ مفهوم القوة الإلكترونية يتضمن تغطية كافة القضايا التي تندرج تحت إطار الصراع الإلكتروني بشكلٍ يختلف عن مُسمى الحرب الإلكترونية والذي يشير إلى التطبيقات العسكرية للفضاء الإلكتروني، ويتم الإشارة إليه بالهجوم الإلكتروني عندما يتم إعتباره نمطًا من أنماط الهجوم يتم شنّه من قبل الدولة أو الفاعلين من غير الدول، والتي يكون لها تداعيات على الأمن القومي للدول والأمن العالمي. لذلك  يمكننا القول هنا أنَّ عناصر القوة الإلكترونية ترتكز على وجود نظام متماسك من القوة المتحصلة من التناغم بين القدرات التكنولوجية والسكان والإقتصاد والصناعة والقوة العسكرية، وإرادة الدولة… وغيرها من العوامل التي تسهم في دعم إمكانيات الدولة على ممارسة الإكراه، أو الإقناع، أو ممارسة التأثير السياسي على أعمال الدول الأخرى، أو على الحكام في العالم بغرض الوصول للأهداف الوطنية من خلال قدرات التحكم والسيطرة على الفضاء الإلكتروني. وقد حدث كل ذلك نتيجة لتغيير طبيعة القوة في العلاقات الدولية ببروز مجال جديد للصراع الدولي، وإنتقال معايير القوة من الخصائص المعروفة من (السكان والمساحة وعدد قوات الجيش وموارد الدولة ) إلى أبعاد جديدة تتعلق بدور الدولة في الإبتكار والدخول في عصر التكنولوجيا، حيث أصبحت دولة مثل سنغافورة لديها ناتج محلي إجمالي يفوق دول لديها القوة القومية بالمعايير القديمة، ولم تعد القوى الكبرى تحتكر القوة وحدها مع بروز ظاهرة الاعتماد المتبادل وتعدي الشبكات للحدود الدولية بما فتح المجال أمام لاعبين دوليين جدد، فضلًا عن أنَّ تكلفة الحصول على القوة أصبحت ممكنةً مع ثورة المعرفة والاتصالات، وهو ما مكَّن أطرافًا جديدة من المشاركة في التطورات الدولية والتأثير في بعض معطياتها.

وفى أحوال كثيرة تحوَّل الفضاء الإلكتروني لساحة من ساحات القتال، وهذه الساحة إمَّا أن تكون ساحة قتال ناعم أو مرن أو تكون ساحة قتال خشن أو صلب، وتمثل الساحة الإيرانية حالة فريدة لاستقبال النموذجين على أراضيها. ففي إطار المواجهة بين إيران من جهة وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، استخدمت كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية قدراتها في تحريك القوة الناعمة داخل إيران لدعم احتجاجات الشعب الإيراني عام 2009 م، وتقديم الدعم الفني للمعارضة عقب الانتخابات الرئاسية، في نهاية عام 2011 م.

هذا فضلًا عن تدشين الولايات المتحدة الأمريكية سفارة إلكترونية؛ لتزويد الإيرانيين بالمعلومات حول التأشيرات عبر الإنترنت، والتواصل مع الطلاب الإيرانيين وهو ما يلائم عملية قطع العلاقات الدبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية منذ ثلاثين عامًا، وهو ما دفع إيران إلى حجب موقع السفارة وتجريم محاولة الدخول عليها، على اعتبار أنَّها تمثل تهديدًا للأمن القومي لديها.

أمَّا بالنسبة لنموذج استخدام القوة الخشنة أو الصلبة عبر الفضاء الإلكتروني، فقد تم شن هجمات؛ لتخريب البرنامج النووي الإيراني والعمل على تعطيله، وكان آخر هذه الهجمات في17 فبراير 2012 م حين أعلنت الاستخبارات الإيرانية أنَّ فيروس “ستاكس نت” قد أصاب ما يقدر بـستة عشر ألف جهاز كمبيوتر، وذلك بعد أن تعرضت لهجوم ثالث عبر فيروس “دوكو” وفيروس “ستار”، وذلك في ضربات متتالية هذا وقد تبنت إسرائيل شن هذه الهجمات بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية للعمل على تعطيل المشروع النووي الإيراني ومنشآته، وكان يمثل ذلك جزءًا من منصة لإطلاق الفيروسات الخطرة  التي تم تطويرها عام 2007 م، وتمت التجارب بالكامل في إسرائيل، ويضاف إلى ذلك منذ هذا التاريخ تصاعد دور الفضاء الإلكتروني في تنامي النشاطات السرية الدولية في الشرق الأوسط، والتي كان من أبرزها نشاط أقمار التجسس، وقيام الموساد الإسرائيلي بإختراق أجهزة ونظم الإتصالات للعديد من الدول العربية.

ولكل ما تقدم فإنَّه أصبح من الأهمية بل ومن الأهمية القصوى للدولة -أي دولة – أن تتبنى استراتيجية وطنية للأمن السيبراني، وهذه الاستراتيجية هي التي ستعتبر مدخلًا مهمًا؛ لحفظ الأمن والإقتصاد معًا، خاصةً أنَّ عدم تبني الدولة لمثل هذه الاستراتيجية له تداعيات في المجال السياسي والإجتماعي والثقافي. وبالتالي فإنَّ الأهداف الرئيسية لتبني الدول لاستراتيجية وطنية للأمن السيبراني هي (تحديد الرؤية والأهداف والمبادئ والأولويات)، التي تحدد طرق معالجة الدولة لقضية الأمن السيبراني، والعمل على دعم مشاركة أصحاب المصلحة في عملية دعم الأمن السيبراني، وتحديد الأدوار، والمسؤليات، ووصف للخطوات والبرامج والمبادرات التي ستعتمدها الدولة؛ لحماية بنيتها التحتية الإلكترونية الوطنية، والعمل على أن تتسم بقدرٍ كبيرٍ من المرونة، مما يؤدي إلى تكريس وتثبيت الأمن.

كما أنَّ وضوح رؤية هذه الاستراتيجية يُمكّن الحكومات من النظر إلى الأمن السيبراني بشكلٍ كلي عبر النظام الأيكولوجي الرقمي الوطني، وبالتالي يسمح للحكومة من تبني استراتيجية وفق الأولويات الوطنية، وأيضًا توفر هذه الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني فرصة للتوافق بين أولويات الأمن السيبراني مع الأهداف الأخرى المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات والإتصالات، وذلك لدورها المركزي في تحقيق الأهداف (الإجتماعية والإقتصادية) للإقتصاد الوطني للدولة.

وللوصول إلى تحقيق هذه الاستراتيجية بالشكل المرجو والذي يحقق فعلًا كافة الأهداف، لابد أن تعمل الدولة على زيادة الإنفاق على تنمية القدرات في مجال الدفاع السيبراني، وتخصيص موارد في الميزانية العامة للدولة، أو في ميزانيتها المعنية بالأمن والدفاع، إلى جانب تشكيل مجالس تُعنى بوضع السياسات المتعلقة بالأمن السيبراني بوصفه رافدًا من روافد الأمن القومي. 

اظهر المزيد

عصام عاشور

كــاتب وبـــاحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى