لا تزال حياة نجيب محفوظ وأدبه يهدينا أسرارا وتأملات متواصلة، فالرجل لم يكتب سيرته الذاتية بشكل كامل جلي، تاركا هذا لآخرين كتبوا عنه، وسجلوا خلفه إجابات مستفيضة على أسئلة حوارية، عرفنا من سطورها شيئا عما ظل مخفيا عنه، وتجربته الثرية، التي تظل مفتوحة على تأويلات متعددة ومتواصلة.
وفي وقت متقارب نسبيا ظهرت ثلاثة كتب تغطي جوانب من حياة محفوظ، ومن عطائه في السرد والرأي السياسي والمواقف الفلسفية أو القيمية، أولها هو كتاب فاجأنا به الكاتب والباحث المصري إبراهيم عبد العزيز يصل حجمه إلى ألف صفحة سجل فيها كل ما دار في جلسات الأديب العربي الكبير في الفترة المتراوحة بين 5 يناير 2003 و 23 يوليو 2006، أي حتى قبل رحيله بسبعة وثلاثين يوما فقط، ولم يكتف بما أورده في كتاب سابق له حمل عنوان “أنا نجيب محفوظ” رسم فيه عبد العزيز ملامح السيرة الذاتية لمحفوظ من خلال تتبع تصريحاته وحواراته الصحفية وما سمعه منه مباشرة في جلسات متلاحقة، وبعض ما جاء في كتب الآخرين عنه، وسمات وصفات وقسمات بعض شخصيات رواياته التي كان قد أشار إلى أنها تعكس جانبا من شخصيته، لاسيما “كمال عبد الجواد” أحد أبطال الثلاثية.
لم يكتب محفوظ سيرته الذاتية، ونثرها في أعماله التي وصلت إلى خمسين كتابا، وحين قرر كتابة شيء عنها أتى غارقا في الصوفية والمجاز والغموض والحذر وذلك في عمله البديع “أصداء السيرة الذاتية”، وهي حقا أصداء، أما الصوت فربما أشمل ما عبر عنه هو الحوار الطويل الذي أجراه مع الكاتب والناقد رجاء النقاش ونشره في كتاب، وقال محفوظ عنه إنه أكثر الكتب تعبيرا عن حياته، ثم كتب أخرى لجمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد سلماوي، سعت جميعها إلى كشف ما خفي، وإجلاء ما غمض، في حياة محفوظ، وملامح مشروعه السردي الكبير.
لكن أحدا من هؤلاء لم يفكر في تسجيل ما يشبه يوميات لجلسة محفوظ الأسبوعية في “شبرد” وسط القاهرة، ليأتي إبراهيم عبد العزيز ويفعلها، بعد أن واظب على حضور تلك الجلسة أكثر من ثلاث سنوات، وكان يسجل كل ما فيها، الحرف والعبارة والإشارة والإيماءة والنكتة والقفشة والتعليق والتحليل، حتى تحسب أنه كان يعد على الجالسين، وفي مطلعهم محفوظ، أنفاسهم، وهم يخوضون في كل شيء، وينتقلون من موضوع إلى آخر تاركين أنفسهم لقانون تداعي المعاني.
والكتاب الذي صدر عن “دار بتانة” بالقاهرة في جزأين، اتبع ما يشبه كتابة المضابط في البرلمانات، أو محاضر الجلسات في الاجتماعات الرسمية، محافظا على الشكل الحواري المفتوح الذي كان سائدا في تلك الجلسات التي كان يحضرها أدباء وشخصيات من “شلة الحرافيش” وغيرهم، يتوسطهم محفوظ، الذي كان سمعه وبصره آخذان في الضعف، وكان جسده يوهن بتقدم العمر، فحرص على الإنصات أغلب الوقت، وإن تدخل ففي كلام مقتضب، لكنه عميق المعنى والرؤية، وفي الغالب كان لا يتحدث إلا إذا سأله الحاضرون، الذين كان بعضهم يستفيض في الكلام، مستعرضا ما يعرفه أحيانا، ومعلقا على الأحداث الجارية أحيانا، لاسيما أن تلك الفترة شهدت أحداثا رهيبة، مثل غزو العراق، ووفاة ياسر عرفات، وفوز حركة “حماس” بالانتخابات الفلسطينية، وفوز جماعة “الإخوان” بثمانية وثمانين مقعدا، لأول مرة في تاريخها الذي بدأ عام 1928، في الانتخابات البرلمانية المصرية، وظهور الحركة المصرية من أجل التغيير “كفاية” وبدء الاحتجاجات الاجتماعية في مصر.
وكان ضعف بصر محفوظ قد منعه من قراءة الصحف فكان أحيانا يسأل عن الأخبار، ويحرص على أن يسمع أكثر من رواية، قبل أن يعلق عليها إن طُلب منه ذلك، فإن لم يُطلب اكتفى بالسماع واحتفظ بالرأي لنفسه.
كان محفوظ يعلق على هذه الأحداث تباعا، وينصت أغلب الوقت للآراء التي يبديها الجالسون فيها، لكنه كان يجد نفسه أحيانا مضطرا للإجابة على أسئلة تخص كتاباته وشخصيات قصصه ورواياته وبعض أسرار جائزة نوبل التي حصل عليها عام 1988، لاسيما حين كان يزوره صحفيون لإجراء حوارات معه، أو يقع في مناقشات مع ضيوفه، إحداها هي تلك المناقشة الحادة مع الكاتبة صافيناز كاظم التي أخذت تقتحمه وتهاجمه، وهو عليها في صبر شديد، يقدح ذهنه، ويستدعي مخزون معرفته وحكمته ليحتوي غضبها، ويجيب على أسئلتها، ويصحح لها بعض الصور النمطية التي كانت تعشش في رأسها عنه.
ولم يرد إبراهيم عبد العزيز أن يترك ما جمعه هكذا دون أن يقول رأيه فيه، فاستفاض في كتابة مقدمة لكتابه، لخص فيها الكثير من المواقف التي مرت بمحفوظ خلال هذه الفترة، ووضع يده على القضايا البارزة التي شملتها تلك الجلسات، وكشف عن بعض الأسرار التي تخص محفوظ، كشخص وكاتب، ومنها موقفه من غضب الأديب الكبير يوسف إدريس من حصول محفوظ على نوبل، واتهامه له بأنه حصل على الجائزة الكبرى لرضى الدوائر اليهودية عنه، وموقفه من الهجوم اللاذع الذي شنه عليه الناقد والأكاديمي البارز د. صبري حافظ، وكشفه للمرة الأولى عن صحة الرواية التي كان يقولها الأديب سعيد الكفراوي عن أن محفوظ قد أبلغه أنه هو بطل روايته القصيرة “الكرنك” بعد أن حكى له الكفراوي عن تجربة اعتقاله وسجنه، وكانت الأوساط الأدبية تكذب ما يقوله على مدار العقود الفائتة.
أعتقد أن هذا الكتاب، المختلف في نوعه، يعد أحد الشهادات على موقف فريق من “الجماعة الثقافية” المصرية من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يموج بها العالم العربي في تلك الفترة العصيبة. وربما لو أتيح لعبد العزيز، أو غيره، أن يدونوا الجلسات الأخرى لمحفوظ، والتي تمتد لعقود من الزمن، لكان بين أيدينا الآن شهادات تنفع في دراسات معمقة في علم اجتماع المعرفة، وعلم اجتماع الثقافة، وتفيد بالقطع في سبر أغوار محفوظ نفسه.
فمحفوظ، وكثيرون مثله، كان لا يحرصون على التعليق المباشر على الأحداث والوقائع الجارية، وكثير منها مر دون أن نعرف آراءهم فيها، لأنهم كانوا يبدونها في جلسات خاصة، وحوارات مباشرة وجها لوجه، رغم أن الواقع أيامها كان يتطلب منهم أن يسمعوا الناس أصواتهم، بل إن كثيرين انتظروا من محفوظ أن يصدر بيانات أو يدلي بتصريحات يعبر فيها عن رفضه لأداء السلطة وقتها، خاصة أنه كان قد توقف عن الكتابة، ولم يعد مقبولا منه أن يتذرع بما كان يقوله في السابق من أنه يقول رأيه في سردياته القصصية والروائية.
إن محفوظ الكتوم المحاذر، الذي كان يخشى مضاهاة أبطال قصصه ورواياته بحياته الشخصية، لم يكن يعلم أن هناك من يحصي كل ما يخرج من فمه، وكان يستريب فيما يفعله إبراهيم عبد العزيز، حتى أنه كان أحيانا ينظر إليه وهو غارق في كتابة كل ما يسمع بدأب وسرعة شديدة، ويسأله: “ماذا تفعل يا إبراهيم بيه؟”، ووقتها لم يكن صاحب “ليالي محفوظ في شبرد” يكشف له حقيقة ما يفعل، ليظفر في النهاية بهذا الكتاب المختلف الذي أتى على ذكر أشياء حرص محفوظ على إخفائها زمنا طويلا.
والكتاب الثاني عن نجيب محفوظ ناقدا، وهي عبارة ما إن نراها تمثل عنوانا لكتاب تبلغ صفحاته أربعمائة وستين من القطع فوق المتوسط، فقد تندهش، وتنشغل بالتساؤلات التي تشتعل في رأسك، وتسارع إلى استعراض محتوياته أولا، لتستيقن من أن العنوان هو لافتة عريضة لمضمون حقيقي ثري يكافئ العنوان الجديد من نوعه في كل مسار محفوظ ومسيرته، لاسيما في مواجهة العبارة التي قالها يحيى حقي في حوار أجراه معه فؤاد دوارة عام 1964: “عندنا توفيق الحكيم ونجيب محفوظ لم يكتبا سطرا واحدا في نقد الإنتاج الأدبي”.
لكنك ستأخذ الموضوع على محمل الجد، لخمسة أسباب: أولها، أن الكاتب الدكتور تامر فايز، باحث وناقد متخصص، فهو أستاذ مساعد للأدب الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة، وسبق أن أصدر ثلاثة كتب، وله العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في دوريات مختلفة. كما أن الكتاب قد صدر بتقديم من الأستاذ الدكتور شمس الدين الحجاجي وهو واحد من أكبر أساتذة الأدب الشعبي في مصر، وأتصور أنه قد وجد في موضوع البحث ما يستحق النظر والاعتبار.
وثاني الأسباب يؤدي إلى ترسيخ هذه الجدية في نفسك حين تستعرض ملاحق الكتاب، التي تضم عددا كبيرا من الحوارات التي أجريت مع محفوظ على فترات متتابعة، والتي تمثل عينة كافية ومستوفية كي يرى الكاتب من خلالها أن أديبنا الكبير مارس النقد شفهيا، على الأقل، وكان جهده ملموسا في هذه الناحية إلى درجة أن الكاتب يوزعه على ألوان متعددة من النقد: الثقافي والتطبيقي الذاتي والغيري، فضلا عن التأريخ للأدب.
والسبب الثالث هو أن الكاتب وضع عنوانا فرعيا للكتاب دالا في تواضعه وإدراك ما في الموضوع من جِدة، يقول: “مقاربة تأويلية لحواراته في المجلات الأدبية”، وبذا أراد أن يبين لنا أن دراسته هي اقتراب بحثي، وليس أمرا مقطوعا به، وتعتمد على تأويل الكاتب، لأن محفوظ لم يمارس النقد بطريقة مباشرة بالطبع، ولم يصف نفسه في أي يوم، أو يصفه غيره، بأنه ناقد محترف أو حتى انطباعي.
أما الرابع فيتعلق بالخلفية الدراسية والمعرفية لمحفوظ نفسه، والتي تؤهله لتذوق الأدب، بمختلف أنواعه، الذي ينتجه أو يبدعه غيره. فمحفوظ درس الفلسفة، وكان يتطلع إلى إعداد أطروحة ماجستير في هذا الحقل المعرفي، الذي يمد من قطع فيه شوطا طويلا وأخذه بجدية، بإطار محكم يجعل بوسعه أن يسبر أغوار النصوص، ويكشف عما تحت طبقتها الظاهرة المتدثرة ببلاغة قوية، أو المقتصدة فيها، من معان وقيم ورؤى وتصورات وأشواق. وكان الأمر سيصبح ذا أثر قوي لو أن محفوظ مضى فيه، إذ أن أطروحته لو قدر لها أن ترى النور كانت في “فلسفة الجمال”، وهو اختيار واع لرجل زاوج، حتى في قراءاته، بين الأدب والفلسفة زمنا ليس بالقليل، إلى أن تغلب الأول على الثانية.
والسبب الخامس يحيلنا إلى المرحلة الأولى في حياة محفوظ، فهو لم يسع لمواصلة دراساته العليا في الفلسفة فحسب، بل أيضا كتب العديد من المقالات النظرية والفلسفية، وبعضها كان يرد فيه على الكثير من الأفكار والآراء النقدية التي كانت سائدة في مصر وقت أن كان محفوظ في ريعان شبابه، وبلغ في هذا مستوى جريئا ومتقدما مثل ذلك السجال مع العقاد حين فضَّل الشعر على الرواية وقال إن الأخيرة مثل الخرنوب قنطار خشب ودرهم حلاوة، فرد محفوظ “الرواية هي شعر الدنيا الحديثة”. كما أن القصص الأولى لمحفوظ كانت شيئا بين السرد والمقال، حتى إنه أوكل إلى السحار اختيار ثلاثين قصة فقط من بين ثلاثمائة كان قد نشرها، لتظهر في مجموعته الأولى “همس الجنون”. وأعتقد أن بقية القصص لو تم جمعها، فقد نجد في الشق الأقرب إلى المقال فيها رؤى وتصورات تفيد أي بحث عن رؤى محفوظ وتصوراته المباشرة، التي يمكن أن تشكل إطارا لعملية النقد وطرائقه.
ووفق المسرد الذي أورده تامر فايز، والمُستقى من حوارات محفوظ فإن أديبنا الكبير يصف الفلسفة بأنها “كانت أم المعارف قديما، ثم أصبحت الآن نظرية معرفية”، بل إن مفردات المسرد ومصطلحاته، هي في حد ذاته، تبين مدى تأثير الفلسفة في رؤية محفوظ التي يعبر عنها في أحاديثه وحواراته، مثلما أثرت، من دون شك، في نصه الأدبي، قصصيا كان أو روائيا.
وربما لمس د. الحجاجي ما في هذا الكتاب من لمسة تستحق النظر، حين كتب في معرض تقديمه له: “أدرك تامر فايز أن خطاب نجيب محفوظ ورسائله يتحول من كلام عادي إلى رمزي، تحمل رسائله العديد من اللمحات الكاشفة عن شخصيته ومدى ارتباطه بعصره وفنه. وقد تبدى في هذا الكتاب ناقدا تنظيريا متمكنا من مقولاته، وعمق اطلاعه على كتابات النقاد”.
كان من الطبيعي أن يدافع الحجاجي عن تلميذه النابه، الذي لم يخذله، فبذل جهدا واضحا في جمع حوارات محفوظ خلال الفترة المتراوحة بين 1957 و2005 وتصنيفها وترتيبها، ثم تحليل مضمونها، متوسلا بمنهج علمي دقيق، وهي مسألة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار حتى إن كان من بيننا الذين يتخذون موقفًا سلبيًا من الكتاب بمجرد أن تقع عيونهم على عنوانه، اتكاء على ما استقر في الأذهان والضمائر من أن محفوظ كان ساردا، يهرب بلا تردد من أي كتابة تعطله عن السرد، حتى إنه، وتحت إلحاح، قبِل أن يكتب زاوية في صحيفة “الأهرام” مكتفيا بها، رافضا أن تخصص له صفحة كاملة مثلما كان لتوفيق الحكيم ولويس عوض ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود وإحسان عبد القدوس. كما كان محفوظ رجلا مقتصدا في الكلام، لا يتحدث إلا إذا وجه إليه سؤال، ولا يتطوع بقول رأيه في ما يكتبه غيره إلا إذا واجه إلحاحا، وفي هذا تغلُب عليه المجاملة، ولا يبادر إلا في الحديث عمن سبقوه، مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، الذي طالما مدحه، ورأى أن نوبل كانت ستذهب إليه لولا وفاته، كما مدح يحيى حقي الذي كان في يوم من الأيام رئيسه في العمل. أما من قدحوا فيه مثل يوسف إدريس فإنه لم يقابل نقده اللاذع بنقد مضاد، إنما تسامى فوق الخلاف، وترك للناس أغلب الحُكم.
لكل هذا لا يمكن التفاعل، للوهلة الأولى، مع الكتاب بسهولة ويسر، لكن لا يمكن إنكار حالة الشغف والفضول التي تتملكنا ونحن نمضي في أولى صفحاته، لاسيما حين يكشف لنا المؤلف عن السبب الجوهري، والهدف الأساسي، لبحثه هذا، فيقول: “يدرك من يعمل في المجال الرحب للنقد الأدبي الحديث تنظيرا وتطبيقا أن ثمة تكرارا اجتراريا واضحا تجلى في كثير من الممارسات النقدية التي يقدمها أولو الاهتمام بهذا المجال المعرفي المتسع. وهو تكرار ينتج إما عن طبيعة الكتابات المتعلقة بالمجال ذاته من ناحية، وإما لتشابه مرجعيات النقاد في أطروحاتهم النقدية من ناحية ثانية. هكذا نبتت في ذهني فكرة دراسة تسعى للبحث عن مخرج من مأزق التكرار الاجتراري النقدي البادي بجلاء، لاسيما في الكتابات النقدية الحديثة”.
ولم يكن تامر فايز يريد من خلال تحليل حوارات نجيب محفوظ أن يثبت أنه ناقد بالمعنى المتعارف عليه بين الأدباء ودارسيه في كل مكان وزمان، إنما ليبين أن الرجل كان مُطلعا على نظريات الأدب وتطور نصوصه وما يكتبه النقاد عنه وعن غيره، وهنا يقول: “لم يكن هدفي، حين بدأت قراءة حوارات نجيب محفوظ، أن أظهره ناقدا أو أن أبحث عن آرائه النقدية المتنوعة، وإنما تمكنه النقدي، على تنوعاته وتشكلاته، هو ما فرض عليَّ وضع الفرضية الرئيسة لهذه الدراسة في ذلك الإطار”.
وقد انتهى المؤلف إلى إثبات هذه الفرضية بالفعل، فمحفوظ بدا من خلال ما أدلى به في حواراته، ممتلكا لأدوات الناقد، مثلما حازها معاصروه من النقاد، وإن كان إخلاصه للسرد، ورغبته في التفرغ له، لا يشغله شيء عنه، جعله يوظف ملكاته النقدية في خدمة نصوصه. ولا يعني هذا أنه كان يتعمد كتابة رواياته وقصصه وفق نظريات معينة، فالنظريات نفسها تنبت من بين النصوص، ومن رحم الميدان الفسيح الحافل بما يدعو للتبصر والتأمل، إنما كان واعيا بمدارس الأدب ومذاهبه واتجاهاته وتطوراته في الغرب، وكذلك ما يضيفه الجيل الجديد في بلدنا، وكان هذا الوعي يستقر في الخلفية، وربما كان يبرز أكثر، وقت مراجعة محفوظ لمسودات نصوصه، وقد بان أنه كان يفعل هذا غير مرة، وفق التحقيقات التي أجراها محمد شعير، ونشرها في صحيفة “أخبار الأدب”، ونشر أهمها في كتابه “أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة”.
ووصف تامر فايز ما كان لدى نجيب محفوظ في هذه الناحية بأنه “رؤية نقدية” و”شبه نظرية نقدية”، وهي مسألة يعتقد أنها لم تأخذ أي حظ من الانتباه، فيما سبق، وهذه حقيقة، فالكل لم يأت على ذكرها، حتى من قرؤوا مقالات محفوظ وتعليقاته المقتضبة في صحيفة الأهرام، والتي جُمعت في أربعة كتب، وكذلك من كتبوا دراسات عنه، وحوارات مطولة وذكريات معه مثل رجاء النقاش وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وزكي سالم، أو دراسات تفصيلية مثل التي قام بها مصطفى بيومي، وإن كان الأخير قد أظهر وعيا بقدرات محفوظ في هذه الناحية.
في المجمل العام فإن كتاب تامر فايز، يفتح الباب أمام سؤال مهم حول الوعي النقدي للمبدعين، شعراء كانوا أو كتاب رواية وقصة، سواء كان هذا الوعي رؤية نقدية أو فهما لدور النقد في خدمة الإبداع، وهي مسألة ليست هينة، أو على الأقل واحدة من تلك القضايا التي يجب أن نهتم بها في دراسة حياة مبدعي الأدب وما أبدعوه، والتي لا يكف النقاد والدارسين عن تجديدها، ومعرفة غرائبها، كما أظهرت كتابات كثيرة في الغرب والشرق.
أما الكتاب الثالث فهو عن نجيب محفوظ الموظف، وهو يجيب على سؤال مهم هو: كيف يبدع الموظف؟ .. فهذا واحد من الأسئلة المهمة في حياتنا الأدبية، لأن كثيرا من الأدباء لا يمكنهم الاستمرار على قيد الحياة والكتابة سوى بوظيفة يتقوتون منها، في بلاد لم تجد للروائيين والشعراء وكتاب القصة والمسرح خانة في سجل الوظائف المعتمدة يتم تسكينهم فيها، فكُتبت في هوياتهم أمام الوظيفة: مهن وحرف شتى، بعضها له علاقة بالكتابة عموما، مثل الصحافة، وبعضه لا علاقة له البتة بالإبداع الأدبي.
الوظيفة قيد، والأدب في حاجة إلى حرية. الوظيفة التزام، والكتابة الحقيقية بنت التمرد. الوظيفة طاعة، والكتابة مساءلة ومشاكسة ومعاندة. ربما لا شيء يجمع الاثنين سوى المكتب الذي يمكن أن يكون المكان الذي يجلس خلفه الموظف، وكذلك الكاتب، لكن بين المهمتين بونا شاسعا، فالأول تكون جلسته كي يدون في دفاتره وسجلاته بطريقة رتيبة مجترة اعتيادية يتحول فيها أحيانًا إلى أشبه بآلة، أما الثاني فيجلس ليخط على الورق ما تنفعل به نفسه، ويجود به ذهنه، وتهديه له قريحته المتوقدة، غير خاضع لتكرار نمطي أو رتابة تبعث على الملل، نظرا لتوالي الشخصيات والصور والمواقف وتعدد مستويات لغة الكتابة، وشكل المنتج الأدبي الذي ينجزه.
ويكون على الأدباء أن ينفصلوا عن وظائفهم، بلوائحها والتزاماتها وطرائق عيشها، حين يشرعون في كتابة الأدب، ليتحرك الواحد منهم بين عالمين متناقضين، ويكون عليه، بمرور الوقت، أن يتدرب على هذا، ويمتلك مهارة عالية، طالما أن الكتابة لا تدر عليه دخلا يكفيه، ومن يعولهم، وبذا لا يستطيع فكاكا منها، وفي الوقت نفسه فإن الطاقة الأدبية المخزونة والمركوزة في نفسه، تلح عليه بلا توقف، باحثة عن سبيل للوجود والتحقق.
وكان نجيب محفوظ واحدا من هؤلاء، أو على رأسهم، لاسيما أنه كان موظفا صارم الانضباط، لكنه اختلف عن غيره في أمرين: الأول أنه لم يدع الوظيفة بمتطلباتها الذهنية والنفسية والجسدية تعيقه عن الكتابة طويلا، بل إنه نقل الشكل الوظيفي في الكتابة الأدبية، فتصرف مع الأدب وكأنه وظيفة ثانية، يجب أن يكون منضبطا فيها، ومخلصا لها، ومطيعا لمقتضياتها، ولذا كان يكتب يوميا خلال كل الشهور التي لا يضطر للتوقف فيها إثر إصابته برمد ربيعي ومرض السكري. والثاني أنه حوَّل مشاهداته ومكابداته وانفعالاته وخبراته وعلاقاته في عالم الوظيفة إلى مادة طيعة لأدبه، شخصيات وسياقات وأحوالا وتأملات ومواقف وأحداث.
واستمر محفوظ في الوظيفة، على مضض، لأنه لم يملك ترف الابتعاد عنها، والتفرغ للأدب، نظرا لأنها توفر له الجزء الأكبر من احتياجاته المادية. ففي حوار أجراه معه فؤاد دوارة عام 1962 ونشره في كتابه “عشرة أدباء يتحدثون” يقول له محفوظ: “أصارحك أنني أعاني دائما قلقا من ناحيتين: المال والصحة”، وفي المال يقول: “لم أصل حتى الآن إلى مرتب يكفل لي ضروريات الحياة، وكل شهر أسدد بقية التزاماتي من الخارج. من أجر نشر الكتب والقصص ومكافآت الإذاعة ونحوها، والحالة مستورة والحمد لله، ولكني لا أستطيع أن أتخلص من ذلك الإحساس بالقلق، إذ ماذا يحدث لو لم تأت هذه التكميلات غير المنظورة، غير المضمونة”.
ولا تخطئ عين وعقل من قرأ أعمال نجيب محفوظ جميعا أو بعضها، وكذلك من تابع الكتابات النقدية عن أدبه، أن عالم الموظفين، بلوائحه وترتيباته وتراتبيته وعلاقاته واحتكاكاته ومماحكاته اليومية وما يضفيه على الموظفين من سمات، يشكل الضلع الثالث في مضمون سرد أديبنا الكبير إلى جانب مجتمع الحارة، وعوالم التصوف وتجلياته، ولعل رواية “حضرة المحترم” تقدم كنموذج كامل لحياة الوظيفة في أدب محفوظ.
وكنا نعرف بعض ما يقال ويكتب عن محفوظ الموظف في التزامه وانضباطه واعتماده على راتبه من وزارة الأوقاف كمصدر أساسي لدخله، حتى لو أتاحت له الظروف أن ينتقل إلى العمل منتدبا في أماكن أخرى أو يبيع بعض قصصه ورواياته للسينما، لكن أحدا لم يفكر في البحث عن الملف الوظيفي لمحفوظ، لنعرف حقيقة هذا، وبعضه كان قد ورد على لسان أديبنا العربي الكبير في حواراته وكتاباته وبوحه وشكواه.
وجاء الكاتب الصحفي الأستاذ طارق الطاهر، رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب، ليمضي على هذا الدرب، حتى وصل إلى الملف المقصود، وقلَّب في تؤدة وتمهل أوراقه التي تربو على ثلاثمائة، وخرج لنا بكتاب كامل عنوانه “نجيب محفوظ بختم النسر”، لتصبح أول سيرة وظيفية كاملة له، يكشف فيها عن جوانب أخرى ظلت مخفية من حياة محفوظ بين المكاتب في ثلاثة أماكن، جامعة القاهرة، ووزارة الأوقاف، ووزارة الإرشاد القومي، التي تنقل فيها ما بين مصلحة الفنون ومؤسسة السينما، حيث شغل فيها مدير الرقابة، ومدير مؤسسة دعم السينما، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما، وهي رحلة استمرت سبعة وثلاثين عاما، تحديدا ما بين 1934 و 1971.
وإذا كان الحديث عن انضباط محفوظ الصارم قد قُتل بحثا، فإن تفاصيل هذا الانضباط لم تشرح على النحو السليم، فالرجل كان مطيعا في واجباته، لكنه لم يكن خانعا حيال نيل حقوقه، فعندما تخطته ترقية في وزارة الأوقاف هب مدافعا عما له، وكتب إلى رؤسائه شاكيا. كما أن حياته الوظيفية لم تمض دون أزمات، بل عصفت بها مشكلات بين حين وآخر. وأفرد الكاتب فصلا لهذا، أبان لنا فيه أن أولى هذه الأزمات حين تم استدعاؤه لمقابلة وكيل وزارة الأوقاف أحمد حسين شقيق الدكتور طه حسين، بعد نشر رواية “فضيحة في القاهرة” مسلسلة بمجلة آخر ساعة، وهي التي نُشرت فيما بعد تحت عنوان “القاهرة الجديدة” و”القاهرة 30″، وحين علم أنه تلميذ عميد الأدب العربي، وأن ما كتبه رواية خيالية، حفظ التحقيق ونصحه قائلا: “لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرض نفسك للمشاكل .. اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنا”. وعندما نشر “أولاد حارتنا” تم استبعاده من منصبه كمدير للرقابة بالسينما، وتوالت أزماته الوظيفية بسبب كتاباته الأدبية تارة، وقراراته التي رفضها بعض المخرجين تارة أخرى، بل وجد نفسه أحيانا في مواجهة كبار المسئولين السياسيين حين أصدروا قرارات مست السينما، فاستخدم قدرته الهائلة على التحايل والإقناع في حل المشكلات، وجعل العواصف تمر بسلام.
وبدا محفوظ في أول طريقه ساعيا إلى الوظيفة سعيا حثيثا عقب تخرجه في كلية الآداب جامعة القاهرة، لأنها كانت بالنسبة لأبناء جيله تمثل أمانا، ولم يكن أمامه من سبيل لتحقيق ذلك سوى عبر واسطة مكنته من العمل في البداية موظفا بجامعة القاهرة، قبل أن ينتقل إلى الأوقاف. ولعل هذا الاحتياج، ساعده كثيرا في رسم الحالات النفسية وتصرفات أبطال روايته “القاهرة الجديدة”، الذين كان شغلهم الشاغل وهم طلبة في كلية الحقوق هو الحصول على وظيفة بعد التخرج.
وإذا كانت كتابات محفوظ عن عالم الموظفين أو “طبقة الأفنديات”، لاسيما ما جاء في رواية “المرايا”، قد وصفت ملامح جانب مهم مما يصيب سلطة المكاتب من فساد وتحجر وتراتبية صارمة ونفاق ومداهنة، فإن الكتاب يبين كيف حافظ محفوظ، حتى وهو مخلص لوظيفته، على نفسه من أن يسقط في فخ أي من هذه الخصال السيئة. وأعتقد أن الأمر لا يعود فقط إلى تربيته الخلقية، وسماته النفسية، وخلفيته الثقافية، إنما أيضا إلى أن الرجل كان ينظر إلى الوظيفة، في الغالب الأعم، على أنها مجرد باب رزق ليس أمامه خيار لغلقه، لأن غيره ليس مأمونا ولا مضمونا. فمحفوظ عاش طيلة حياته يتمنى أن يجد سعة من المال، تمكنه من الاستقالة والتفرغ لكتابة الأدب، لكن هذا لم يتيسر له حتى أحيل إلى التقاعد وهو في سن الستين، شأنه شأن بقية الموظفين الأقحاح.
إن كتاب طارق الطاهر، يغلق جزءا من الدائرة التي تريد أن تحيط بمحفوظ، أدبه وحياته بما انطوت عليه من أسرار وأحوال. ويسد الكتاب في موضوعه، جانبا لا يستهان به من هذه الدائرة، لاسيما أننا أمام كاتب، وإن بلغت شهرته الآفاق، فإن كتمانه الشديد ومداراته ومواراته وتحايله وحرصه على فصل حياته الخاصة عن صيته الأدبي، تجعل دوما هناك إمكانية لاكتشاف زوايا جديدة في حياته وأدبه.