قامت ثورات بفعل “فايسبوك”، وتأججت أحداث بوازع من تغريدات، وبقيت حوادث في بؤرة الاهتمام بفضل هاشتاقات. شاشات فضية تعثرت، وفقدت مصداقيتها، ولم تنهض قليلاً إلا عندما أطلت على نوافذ عنكبوتية، فصار مصدر الخبر تغريدة، ومنبع الغضب تدوينة، والأصل في المشاهدة “تريند” قرر أن يكون اليوم على رأس قائمة الاهتمام، ثم تبخر في هواء الغد تاركًا القيل والقال من نصيب الواقع.
الواقع لم يعد يشير إلى تهديد قادم لوسائل الإعلام التقليدية مصدره شبكة عنكبوتية غير واضحة المعالم أو الملامح، بل يؤكد أن التهديد جاء قبل قليل، وأعلن عن أثره الكبير، ثم فرض نفسه، واتخذ مكانه متصدرًا المشهد، وترك بقية الأطراف تحاول جاهدة أن تجد لنفسها دورًا وترسم لوجهها ملامح بناء على توسطه الصورة.
الصورة في قاعة المحاضرات في كلية الإعلام في الجامعة العريقة متغيرة الملامح والمعالم. حتى قبل عقدين من الزمان كان الطلاب يجلسون أمام أستاذ الإذاعة والتلفزيون أو محاضر الكتابة الصحافية أو مدرب فنون التحرير، يكتبون بالقلم على الأوراق ما يقال، ويخططون بالألوان المقاطع المهمة في الكتب والملازم. وفي نهاية العام، يصب الجميع ما حفظ من نظريات وما تدرب عليه من مهارات في الكتابة لمجلة الجامعة، وهلم جرا إلى أن يحين موعد التخرج للبحث عن فرصة في جريدة هنا أو مجلة هناك أو أمام ميكرفون في ستوديو هنا أو هناك.
لكن القاعة نفسها هذه الأيام واقعة في حيص بيص. صحيح أن الأستاذ ما زال موجودًا، والطلاب مازالوا على مقاعدهم، والكتب مازالت توزع عليهم، لكن الجميع يعلم في قرارة نفسه أن ما يدرسونه صار في واد، وما هم مقبلون عليه في واد آخر تمامًا.
في “وادي السيليكون” على الجانب الآخر من الأطلسي، يعلم الجميع ويعرف المراقبون لصناعة الأخبار أن مجريات الأمور في هذا الوادي لم تعد مجرد صناعة برمجيات وتطبيقات وقواعد بيانات، لكنها فرضت نفسها على ما نحصل عليه، ونتداوله ونصنعه من أخبار.
تشير الأخبار الواردة من جامعة أوريجون الأميركية، وتحديدًا عبر دراسة عنوانها “حال مواقع التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط في 2018” إلى أن “فايسبوك” عربيًا بمستخدميه الذين بلغ عددهم نحو 168 مليون مستخدم عربي (بعد ما كان عددهم لا يتجاوز 56 مليون مستخدم في عام 2013)يتربع على عرش مواقع التواصل الاجتماعي بين العرب. ونحو 50 في المئة من هذا العدد – وأعمارهم تتراوح بين 18 و24 عامًا بحكم التقسيمة الديموغرافية- يقولون أن “فايسبوك” هو مصدرهم الرئيسي، وفي أغلب الأحوال الوحيد، لمعرفة الأخبار. وهذه النسبة شهدت زيادة بنحو 15 في المئة مقارنة بالعام 2017.
هذا التصاعد المستمر لمواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما “فايسبوك”، باعتبارها مصدر الأخبار الرئيسي أو الوحيد، على حساب مصادر الأخبار التقليدية الأخرى من صحف ومجلات وقنوات إذاعية وتلفزيونية. وبحسب تقرير الحقوق الرقمية الصادر في عام 2019، فإن مواقع التواصل الاجتماعي متاحة في مصر بنسبة 57 في المئة للمواطنين البالغة أعمارهم 13 عامًا أو أكثر، وهي النسبة التي ترتفع إلى 99 في المئة في الإمارات العربية المتحدة. اختلاف النسب عربيًا مرجعه الأساسي اقتصادي، لكن حتى ال57 في المئة تظل نسبة مرتفعة وتعني الكثير.
الكثير مما يجري عربيًا على صعيد تداول الأخبار بأنواعها – الحقيقي والمفبرك ونصف الحقيقي- والإقبال منقطع النظير على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي على حساب التقليدي مهما عاني من نقص في المصداقية أو لهث وراء ال”ترافيك” وتحقيق نسب مشاهدة ومشاركة عالية على حساب قيمة الخبر المعلوماتية ونصيبه من الموضوعية والمصداقية.
هذه المصداقية لم تهزها عربيًا معلومات غربية مؤكدة من داخل شركة “فايسبوك” نفسها قبل سنوات تؤكد وجود 83،09 مليون حساب وهمي بين ال955 مليون مستخدم في عام 2012، أي أن 8،7 في المئة من صفحات “فايسبوك” كانت لمستخدمين وهميين. أولئك يتراوحون بين أسماء وهمية تكتب وتنشط لترويج توجهات ما، أو تستخدمها للنصب والاحتيال، أو تستمتع بالتحرك على “فايسبوك” تحت ستار وهمي.
“الوهم” الوارد طرحه عبر صفحات الإنترنت كبير. وبحسب دراسة أجرتها جامعة ستانفورد الأميركية قبل أشهر، فإن قدرة الطلاب على التحقق من مصداقية مصادر المعلومات “مفزعة”. وسبب الفزع هو أن الغالبية المطلقة من الطلاب الأميركيين الذين شملتهم الدراسة على مدار عام كامل تعاملت مع مصادر المعلومات باعتبارها حقيقة لا ريب فيها. ووصفت الدراسة المستقبل الذي سيعهد إلى الجيل الجديد بأنه “مستقبل ملم بمعلومات ناقصة كما وصفت هذه النتيجة ب”الكارثية” و”الصادمة” و”التهديد الحقيقي للديموقراطية”.
وإذا كانت الديموقراطية الأميركية في خطر بسبب عدم قدرة الأجيال الأميركية الشابة على التفرقة بين الأخبار الحقيقية والمغلوطة على مواقع التواصل الاجتماعي، فما بالك بمستقبل هذا الجزء من العالم في ظل هيمنة ضخمة وآخذة في الاتساع للاعتماد على الإعلام الرقمي، عبر مواقع خبرية ومنصات تواصل اجتماعي، باعتباره المصدر الوحيد للأخبار؟!
“الأخبار” المكتوبة والمتداولة والتي تجري مشاركتها عبر “فايسبوك” أدخلت دولة مثل مصر في حالة من الغليان السجالي والحراك العنكبوتي يصعب قياس مقدار الحق من الباطل، أو معرفة حجم الفبركة فيها. وما تشهده مصر ليس حالة استثنائية، لكن يمكن اعتباره حالة منتشرة عربيًا إلى حد كبير، حيث انكماش ثقافة عدم التيقن من الأخبار التي يجري تداولها وإعادة تدويرها من أثير العنكبوت إلى أرض الواقع.
الواقع عربيًا بات حافلاً بأخبار وردود فعل عنكبوتية ومواقف عنترية وآراء استراتيجية وخبرات إعلامية مصدرها خيوط العنبكوت. والظاهرة العجيبة والغريبة هي أن جانبًا غير قليل من محتوى الإعلام التقليدي والذي ما زال يوجه جانبًا من الرأي العام مصدره خيوط العنكبوت هذه.
أقسام مخصصة على المواقع الإخبارية وأخرى مطبوعة في الصحف الورقية، تُسخّر نفسها لمتابعة أحدث التغريدات وأجدد التدوينات، بعضها لمشاهير وبعضها لأشخاص معروفين وجانب منها لمواطنين مغمورين. فقرة ثابتة في عدد كبير من البرامج اليومية على الشاشات يسمونها تغطية لمحتوى أثير العنكبوت. في البداية كانت صرعة، حيث استعراض خفيف وتلخيص سريع لأبرز تدوينات “فايسبوك” وأهم تغريدات تويتر، : هذا دوّن كذا على «فايسبوك» وتلك غرّدت كذا على «تويتر» والمتابعون قالوا كذا والمعجبون أيدوا كذا والمعارضون ثاروا هكذا. لكن طين عرض محتوى وسائل التواصل الاجتماعي على أثير الإعلام التقليدي زاد بلة بصعود نجم المحتوى العنكبوتي واعتباره مادة موثوق فيها جديرة بالبحث على أثير الإعلام التقليدي.
وكانت النتيجة أن ما يثار على أثير مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار غير موثقة، ومعلومات غير مؤكدة، وآراء عن موضوعات وقضايا تتراوح بين حظك اليوم والقوى العسكرية والتحركات الاستراتيجية وأكلتك المفضلة صادرة عن أشخاص غير مؤهلين للإدلاء بدلوهم شعبيًا.
وشعبيًا وتقنيًا، جرت العادة أن يمضي الغرب قدمًا، ثم يتبعه العالم النامي وبينه الشرق الأوسط في الطريق ذاته. وجانب غير قليل من محتوى وسائل الإعلام التقليدي وغير التقليدي على الكوكب منبعه تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وعلى رغم أن سلفه باراك أوباما كان مغردًا هو الآخر، إلا أن تغريدات الرئيس الحالي تمد وسائل الإعلام، بما فيها الأكبر والأشهر والأقدم بالمادة الإعلامية التي نتفق أو نختلف معها، من حيث المهنية والمصداقية والموضوعية..
ما يدور في عقل وقلب رئيس أقوى دولة في العالم يمكن متابعته على حسابه على “تويتر”، ويمكن متابعة رد فعل معارضيه أيضًا على “تويتر”. كما يمكن تتبع آثاره وانعكاساته الدولية والإقليمية على “تويتر”. و”تويتر” شأنه شأن “فايسبوك” و”إنستاغرام” و”سناب تشات” وغيرها. إنها مواقع تواصل اجتماعي، تحولت إلى مصادر أخبار ومعلومات.
هناك من بين القنوات من استثمر أموالاً طائلة، وبذل جهودًا مضنية من أجل الخروج بفضائيات إخبارية تنقل الحدث فور وقوعه وربما بينما يقع. لكن في الوقت نفسه، ظهرت قنوات أخرى اعتمدت بقدر كبير ومبالغ فيه على الشبكة العنكبوتية في زمن ما قبل انتشارها شعبيًا.
المعلومات التي كان يقدح المعد زناد فكره، ويبذل الجهد والوقت وأحيانًا المال في سبيل الوصول إلى خيط بدايتها، والمسافات التي كان يقطعها في داخل المدينة أو خارجها أو عبر البحار في سبيل التأكد من صحتها، باتت لا تزيد على بضع سنتيمترات. فمعدو البرامج يعيشون أزهى عصور “تداول المعلومات”، وأغنى عقود توافر الخلفيات التاريخية، وأسهل طرق الخروج بأفكار تبدو نيرة، وأخبار تبدو طازجة، وطرق تناول تبدو متفردة.
فيكفي للمعد أن يستعين بأداة بحث عنكبوتية ويكتب كلمتين أو ثلاث، ليخرج بمئات إن لم يكن آلاف الأفكار والمحتوى. وإذا كانت الشبكة العنكبوتية أصبحت في مطلع الألفية جنة فريق الإعداد في البرامج الفضائية، لكنها في الوقت نفسه حولت الساحة الفضائية إلى لعبة المشي على الحبال في السيرك. وطالما اللاعب قادر على المشي جيئة وذهابًا على الحبل أمام الجمهور دون أن يقع، فهو يحصل على تصفيقهم وتهليلهم، حتى وإن أوشك على الاهتزاز أو السقوط أثناء لعبته الخطرة. أما إذا سقط بالفعل، فقد عرض نفسه وعمله لخطورة بالغة.
ولأن انتشار الإنترنت ونفاد الهواتف المحمولة المتصلة بالشبكة، وإقبال الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي قبل عقدين لم يكن بالقدر نفسه الموجود حاليًا، فقد ظلت الغالبية ملتصقة بالشاشات الفضائية على مدى سنوات معتبرة إياها المصدر الأغنى والمحتوى الأوفر للأخبار، ومن ثم تشكيل الرأي العام. لكن السنوات التالية شهدت توسعًا وتوغلاً وووصولاً لشبكة الإنترنت غير مسبوق. مدن كبرى، ونجوع صغرى، أثرياء وفقراء، كبار وصغار، نساء ورجال، باتت مليارات البشر مالكة لمصادر “الأخبار” الحقيقي منها والمفبرك.
من جهة أخرى، فإن غالبية المنصات الخبرية التقليدية الدولية المرئية والمسموعة والعنكبوتية والتي تقدم خدمات بث باللغة العربية تخصص مساحة يومية لتغطية أخبار الحراك العنكبوتي العربي. هذه الفقرة الثابتة تعرض التدوينات والهاشتاجات الأكثر تداولاً في دول عربية بعينها باعتبارها عاكسة للمواضيع والقضايا التي تشغل بال الشارع العربي. وأحيانًا يتم انتقاء «هاشتاجات» بعينها تتواءم وتوجهات الموقع أو القناة الأجنبية الموجهة بالعربية!
اليوم نمتلك المعلومات والأخبار (أو المعلومات المغلوطة والأخبار المفبركة) بكبسة تطبيق. كبسة صغيرة على تطبيق هنا أو هناك على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف تنقلك إلى عالم الأخبار والمعلومات. تشير مجلة “فوربس” إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أهم مصدر للأخبار الرقمية، حيث أكثر من 2،4 مليار مستخدم للإنترنت، نحو 65 في المئة منه” يستقبلون أخبارًا عاجلة عبر “فايسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” و”سناب تشات”، وليس عبر الإعلام التقليدي، بما فيه المواقع الخبرية الإلكترونية.
الأخبار ومصادرها سواء بالعربية أو أي من اللغات الأخرى في عالمنا العربي لم تعد كما كانت قبل عقدين. ضلوع القنوات الفضائية على الخط، وتصدرها المشهد كناقل فوري للحدث وقت وقوعه قبل عقدين، وأثر الصورة الآني على المشاهد، أهّل المتلقي لعصر التخمة الخبرية والإغراق التحليلي. وبعد ما كان المتلقي لا يملك سوى قناة تلفزيونية تمنحه صورة واحدة لا ثاني لها، وصحيفة أو اثنتين تطبعان الخبر نفسه بالزاوية ذاتها، تفجر عصر السموات المفتوحة بما هو أكثر من مجرد صور مختلفة. ولو كانت الصحافة الإخبارية التلفزيونية تجيب بحق على الأسئلة الخمسة الكلاسيكية: من؟ ماذا؟ من؟ أين؟ متى؟ لماذا؟ فقط لا غير دون إضافة أية توابل أو مكسبات طعم أو إضافات رائحة لخرجت “الجزيرة” و”العربية” وأخبار مصر” و”فرانس 24″ و”بي بي سي” و”روسيا اليوم” وغيرها نسخة واحدة بوجوه مختلفة.
الفضائيات الإخبارية أجابت على الأسئلة الخمسة بالفعل، لكن كلاً بطريقته وحسب أجندته. وجاء القدر الأكبر من الاختلاف في التغطيات، ومن ثم في الرسالة الإعلامية المقدمة في الإجابة عن السؤال الأخير “لماذا؟”. فلماذا يحتج مواطنون قد يكون بسبب انتمائهم إلى تنظيمات تدعو إلى الفوضى وإثارة البلبلة وإشاعة الفوضى في قناة ما، لكن الأسباب تتحول إلى رفض للظلم وكره للطغيان وغضب جراء الفساد في القناة المجاورة. وقد يظهر يتحول إلى مخطط استعماري ومؤامرة خارجية في قناة ثالثة وهكذا.
وحين كان يتعذر المشاهد في الغوص فيما وراء الإجابة على الأسئلة الخمسة في كل قناة يرسو عندها، كان يلجأ إلى فك اللوغاريتمات عبر البحث في أجندة هذه القناة أو علاقة تلك بالنظام السياسي في دولة ما. فالعناوين المختارة لتغطية الأحداث أو الأوصاف المستخدمة تقدم مفتاحًا للاتجاه العام للقناة. وفي بدايات هبوب الرياح “الربيعية” العاتية في 2011، ظهرت هذه التوجهات واضحة. فإذا كان عنوان تغطية مسيرة مليونية غاضبة “تظاهرة”، أو تحول قتل المدنيين على أيدي الأمن إلى “مصادمات”، فاعلم أن علاقات طيبة تربط القناة بالدولة. أما إذا تحولت حكومة دولة ما إلى “نظام قمعي” أو تحور رئيس الدولة إلى “رأس النظام”، فاعلم أن بين النظام الذي تتبعه القناة والدولة المعنية ضغائن ومخططات ما أنزل الله بها من سلطان.
ومع تكشير سلطان الأخبار في العقد الثاني من الألفية الثالثة عن أنيابه وكشفه أوجهًا أخرى لم تكن في الحسبان، صار الإعلام التقليدي بصحفه وقنواته ومواقعه الإلكترونية الخبرية في مواجهة صادمة بمواقع ومنصات التواصل الاجتماعي بصفتها صانعة، وناقلة، ومروجة ل”الأخبار” والتحليلات والرؤى وجميعها قادرة على تشكيل وصناعة وتوجيه الرأي العام، أو تفتيته وتشتيته.
حين يدهشك سائق الأجرة باطلاعه على خبايا النظام السياسي وتفاصيل المخطط الاقتصادي وأسرار الوزراء ومسؤولي الدولة، فاعلم أن مصادر الأخبار لم تعد تلك التي يدرسونها في الجامعات ويؤلفونها في الكتب. وحين تستيقظ من النوم لتجد “هاشتاج” “أوقفوا الإعدامات” هو رقم واحد على “تويتر” ردًا على تنفيذ حكم الإعدام في قتلة وإرهابيين، رغم أن الشارع راض على الأحكام والقضاء عادل في الإجراءات، فاعلم أن نبض الشارع الافتراضي كثيرًا ما يقف على طرف النقيض من نبض الشارع الحقيقي.
والحقيقة هي أن صراعًا محمومًا دائرة رحاه حاليًا يدور بين أقطاب الإعلام التقليدي الذين يحاولون بشتى الطرق الحفاظ على هيمنتهم الخبرية والذود عن مملكتهم الإعلامية من جهة، وبين طرف آخر غير محدد الهوية، ضبابي المعالم، مجهول المصدر، مشوش الملامح، متغير على مدار الثانية. وهذا الأخير فيه الصالح والطالح، والحقيقي والمفبرك ونصف المفبرك. وهو يحسب له أنه مكن ملايين البشر على الكوكب من مصادر المعرفة، لكنه مكنهم كذلك من صناعة المعرفة، ومنها الأخبار. وإذا كان هناك ملايين قادرة أو متمكنة أو ملمة بقواعد العمل الخبري والإعلامي، فهناك ملايين أخرى غير قادرة أو متمكنة أو ملمة بالقواعد، ناهيك عن فريق ثالث يفتك بالساحة الخبرية دون هوادة، ويعيث فسادًا على الشبكة العنكبوتية دون ضابط، وينثر ما يحب ويحجب ما لا يحب، والأهم من هذا وذاك أن الكوكب صار لديه صانع أخبار ومشكل رأي عام وموجه سياسات وناقد إجراءات ومشعلل للمشاعر ومهدئ للخواطر ومهيمن على سكان الكوكب بدقة زر، لكن هذا المهيمن هلامي التكوين مبهم التركيب غير قابل للمحاسبة أو المراجعة أو حتى المخاطبة. لماذا؟ لأن هذا الصانع الخبري المهيمن افتراضي في الأساس.
الأساس الذي يمكن لكل المهتمين بعوالم صناعة الأخبار والرأي العام أن ينطلقوا منه هو أن الطريق إلى تشكيل الرأي العام في الألفية الثالثة لا يمر إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي ذهابًا وإيابًا. وسواء كان هذا علامة طيبة أو نذير كوارث تظل حقيقة واقعة. وسواء استيقظت دول العالم المتقدم على مغبة الأخبار الوهمية والمعلومات المفبركة، أو نامت على إيقاع تغريدات لرؤساء وتدوينات لشعوب يظل أمرًا حادثًا. وسواء وجدت دول العالم النامي نفسها في غياهب أخبار مواقع التواصل الاجتماعي التي تهدد مصائرها وتهيمن على شعوبها، وما يمكن أن تفعله بسياسات أنظمتها ومصالح دولها، يظل الوضع الراهن قائمًا إلى أن يجري حسم المواجهة ويتفوق أحدهما على الآخر ويتمكن من كسر الحلقة وإعلان هيمنته.
فإما تهيمن الشبكة العنكبوتية على مصادر الأخبار التقليدية بسياسة البقاء للتطبيقات والدوام لصناعة الأخبار غير معلومة المصدر. وإما أن ينجح الإعلام التقليدي في إعلان استعادته لأراضيه مع تحجيم منافسيه عبر توعية المتلقي وتنشئة أجيال قادرة على التفرقة بين الحقيقة والفبركة. وإما أن يستمر الصراع أبديًا مفككا دولا ومشتتًا شعوبا ومتلاعبًا بأقدار لحين قدوم لاعب جديد إلى ساحة الأخبار والمعلومات لتتحول المواجهة إلى ثلاثية وتصبح المنافسة جماعية.