يعد الإتحاد الأوروبي ثالث القوى الدولية الفاعلة في قضايا منطقة الشرق الأوسط بعد روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. حيث إنه يضطلع بدور مؤثر في دعم القضية الفلسطينية وفق أسس المرجعية الدولية لإنشاء دولتين علي أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، كما تساهم دوله في تمويل منظمة دعم وغوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بعد وقف التمويل الأمريكي لها. وتقدم أكثر من 45% من حجم المساعدات الدولية للفلسطينيين. وكذلك يدعم الإتحاد الجهود الأممية لوقف العنف وتسوية النزاعات في اليمن وليبيا وسوريا بعد ثورات الربيع العربي، ويعد أكثر الجهات الدولية تقديما للمساعدات الإنسانية للاجئين السوريين حيث بلغت 4 مليار دولار منذ عام 2011، كما استضافت الدول الأوروبية أكثر من مليون لاجىء سوري. كما تدعم الدول الأوروبية إرساء الإستقرار وجهود التنمية الإقتصادية والمستدامة ومحاربة الإرهاب بالمنطقة.
بيد أن فعالية هذا الدور واستمراريته تواجه العديد من التحديات الداخلية والخارجية لعل أبرزها علي الصعيد الداخلي الإنقسام الأوروبي والأزمات البنيوية التي يواجهها الإتحاد، فخلال العامين الماضيين تضاعفت حدة الإنقسامات الداخلية بين الدول الأوروبية وربما كان الإستفتاء بخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي في 2016 الأزمة الكاشفة عن ذلك، وما نتج عنها من خلافات بين بروكسل ولندن حول آليات هذا الخروج وتداعياته السياسية والإقتصادية على المملكة المتحدة وكافة دول الاتحاد المرتبطة معها بإتفاقيات عدة كحرية التنقل والإقامة، كما سيسفر الخروج البريطاني من الاتحاد عن فراغ أمني حيث سيفقد الأخير القوة النووية الثانية في أوروبا بعد فرنسا. وحتى الربع الأخير من عام 2018 فشلت الحكومة البريطانية ومفوضية الإتحاد في التوصل لإتفاق نهائي حول آليات خروج بريطانيا مما يثير المخاوف من حدوث الخروج دون إتفاق مسبق وينذر بتفاقم الأزمة عام 2019.
وقد شهدت دول الأتحاد (28 دولة) تحولا جديدًا خلال عامي (2017-2018) تمثل في صعود التيار اليميني الشعبوي بعد فوزه في عدة دول حيث نافست زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية “ماري لوبان” في الإنتخابات الرئاسية للمرة الأولي في 2017 وفازت في الإنتخابات المحلية بفرنسا. ووصل حزب “البديل” اليميني المتطرف للبوندستاج الألماني وأصبح لديه 91 نائب لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وعين اليميني الألماني المحافظ “هورست سيهوفر” وزيرا الداخلية، كما فاز زعماء أحزاب شعبوية يمينية في الانتخابات البرلمانية بعدة دول وشاركوا في تشكيل الحكومة الجديدة ومنهم رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربن” ونائب رئيس الوزراء الإيطالي وزير الداخلية “ماتيو سالفيني” والمستشار النمساوي “سيباستيان كورتز”. وهذا التيار اليميني الشعبوي يتبني نزعة قومية متطرفة وتتخذ مواقف متشددة ضد ملف الهجرة والمهاجرين كما أنه يناهض منح إستقلالية للمؤسسات الأوروبية لأن ذلك يؤثر علي سيادة الدول الأعضاء، ويرفض كذلك الإندماج التام في منطقة اليورو للحفاظ على الطابع القومي لكل دولة. وهذا التيار يجد مناصرًا دوليًا قويًا له ممثلا في الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الذي ينتمي لذات التيار ويعلن معاداة المهاجرين وإنحيازه للمبادىء القومية الشعبوية.
وهذا الأمر أدى لإنقسام وإستقطاب حاد بين جبهتين داخل الإتحاد الأولي يمثلها التيار اليميني الشعبوي والثانية يمثلها الثنائي الفرنسي – الألماني الذي يعد ركيزة البناء الأوروبي ويتبني القيم الليبرالية ويؤمن بمبادىء الأتحاد ومؤسساته ويعمل علي تأسيس جديد لأوروبا ذات سيادة وموحدة وديمقراطية، وتأسيس جيش مشترك وإتباع سياسة مالية مشتركة وتعيين وزير مالية مشترك لمنطقة اليورو. بيد أن هذا التيار الأوروبي قد تعرض لأزمة مؤخرًا تمثلت في إعلان المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” نهاية أكتوبر 2018 التخلي عن رئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي وربما لا تستكمل مدتها الرابعة كمستشارة وتجري إنتخابات مبكرة قبل 2021 وذلك بعد قضائها 13 عاماً علي رأس السلطة التنفيذية ببرلين وكانت خير داعم للمؤسسات الأوروبية وبنية الإتحاد. ولذا فإن إنسحابها يعد تراجع في القوى السياسية المؤيدة للإتحاد وستؤثر علي فاعلية دوره في الداخل والخارج وذلك بعد خسارة حزبها في الإنتخابات المحلية لصالح أحزاب اليمين الشعبوي الصاعد بقوة في وسط وشرق أوروبا. مما دفع الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للتحذير في مطلع نوفمبر 2018 من خطورة الأجواء العامة التي تمر بها الدول الأوروبية حاليا لأنها مشابهه لحقبة الثلاثينيات التي سبقت إندلاع الحرب العالمية الثانية حيث تمر القارة العجوز بأكثر الفترات إنقساما منذ نصف قرن بفعل المخاوف والإنغلاق القومي وتبعات الأزمة الإقتصادية، وأبدى مخاوفه من تفكك الدول الأوروبية بفعل تصاعد التيار القومي الشعبوي.
ولعل الملف الذي برز فيه جليًا تأثير هذا التحول نحو اليمين الشعبوي هو التعامل مع لاجئي الشرق الأوسط حيث تفجر خلافا بين فرنسا وإيطاليا بعد رفض روما في 7 يونيو 2018 إستقبال سفينة المهاجرين “أكواريوس” (علي متنها 628 مهاجر) ما انتقده “ماكرون” بينما دعا رئيس الوزراء الإيطالي الجديد “كونتي” إلى “تغيير جذري” للقواعد المعمول بها في سياسة الهجرات الأوروبية وتغيير “اتفاقية دبلن” وإلغاء مبدأ “بلد الوصول الأول” الذي يرتب على إيطاليا المسؤولية الكبرى بإعتبارها أول دولة يصلها اللاجئين القادمين من موانئ ليبيا وشمال أفريقيا، بل وطالب نائبه وزير الداخلية الإيطالي “ماتيو سالفيني” (يميني شعبوي) في 8 يونيو 2018 من حلف شمال الأطلسي “الناتو” مساعدة بلاده في الدفاع عن سواحلها الجنوبية في مواجهة تدفق المهاجرين لاسيما في ظل المخاوف من تسلل إرهابيين بينهم. وتعد إيطاليا من أكثر الدول الأوروبية التي إستقبلت مهاجرين بلغ عددهم640 ألف مهاجر معظمهم أفارقة منذ 2014 مما مثل عبء إقتصادي وإجتماعي علي الحكومات الإيطالية المتعاقبة. كما دعا المستشار النمساوي اليميني الجديد “سيباستيان كورتز” لتشكيل “محور راغبين لشنّ حرب على الهجرة غير الشرعية” بالإتحاد الأوروبي. وهناك عدد من الدول التي ستنضم لهذا المحور ومنها (إيطاليا، النمسا، المجر، بولندا، بلغاريا، اليونان، مالطا).
والخلاف الفرنسي الإيطالي حول ملف الهجرة واللاجئين ينسحب علي عدد من الملفات الأخرى بالمنطقة ذات أهمية للدولتين ومنها الملف الليبي حيث دعت روما لعقد مؤتمر دولي حول تسوية الأزمة بليبيا في نوفمبر 2018 وذلك بعدما أنتقدت مرارًا الدور الفرنسي المتصاعد في ليبيا منذ تولى “ماكرون” منصبه في مايو 2017 حيث تنظر إيطاليا دوما لليبيا بإعتبارها أحدى مستعمراتها السابقة ولها فيها النفوذ الأكبر وهي الشريك التجاري الأول لليبيا وتعتمد إيطاليا على نحو 35 % من إمدادات النفط ونحو 20 % من الغاز من ليبيا، وقد قاطعت روما مؤتمر باريس الذي عقد في مايو 2018 برعاية “ماكرون”. هذا فضلا عن التنافس الفرنسي الإيطالي علي التواجد العسكري بسوريا ففي نهاية أبريل 2018 تمركزت وحدات خاصة من القوات الفرنسية بقاعدة أمريكية في منطقة رميلان بمحافظة الحسكة شمالي البلاد، وفي منتصف يونيو 2018 توجه عشرات الجنود الإيطاليين إلى محافظة الحسكة ودير الزور أيضا ليرتفع بذلك عدد العسكريين الإيطاليين بسوريا إلى 70 جندي، ورغم أن القوات الفرنسية والإيطالية تعمل بالتنسيق مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، إلا أن التحرك الإيطالي الأخير يكشف عن رغبة روما في منافسة التواجد العسكري الفرنسي بسوريا خاصة والشرق الأوسط عامة. كما طرح “ماكرون” عدد من المبادرات لإصلاح البنية الهيكلية للإتحاد، ولإنشاء موازنة موحدة لمنطقة اليورو وهو ما تعترض عليه روما. لاسيما بعد نشوب خلافات بين المفوضية الاوروبية والحكومة الإيطالية حول أوجه القصور والعجز في الموازنة العامة الإيطالية للعام المالي الجديد لأنها لا تتناسب مع معايير الاتحاد. كما تعترض روما علي إقتراح “ماكرون” بإنشاء قوة أوروبية موحدة تكون بمثابة جيش أوروبي مصغر مستقل عن “الناتو”، وأتهمت “ماكرون” بالسعي للسيطرة على الأتحاد الأوروبي وتجاهل دول أوروبية هامة وتهميش دور إيطاليا. مما ينذر بحقبة ستشهد تنافسًا علي دوائر النفوذ بين فرنسا وإيطاليا داخل الإتحاد وفي الدائرتين المتوسطية والشرق أوسطية.
كما يمثل تصاعد النزعات الإنفصالية داخل دول الإتحاد عبر مطالبة أقاليم صغيرة بالإنفصال وتكوين دول جديدة مثل (اسكتلندا ببريطانيا، كاتالونيا والباسك بإسبانيا، كاليدونيا الجديدة بفرنسا، بافاريا بألمانيا) لمخاطر تفكيك دول أوروبية كبيرة وإنشاء عشر دويلات صغيرة بجوارها مما دفع بعض المحللين إلي توقع تفكك الإتحاد الأوروبي بحلول عام 2040.
كما تواجه دول الإتحاد الأوروبي نوعا من الإستقطاب الروسي الأمريكي حيث تسعى الدولتين لجذب أكبر عدد من الدول الأوروبية لمحورها مما يؤدي لإضعاف بنية الإتحاد وهناك العديد من الشواهد على ذلك، فقد أعرب “ماكرون” عن أسفه لقرار الحكومة البلجيكية شراء مقاتلات أمريكية من طراز “أف-35″، رغم توفر البدائل الأوروبية مثل (رافال الفرنسية- يوروفايتر الأوروبية)، وعد قرار بروكسل مخالفة استراتيجية للمصالح الأوروبية. وفي المقابل أعرب رئيس الوزراء المجري “أوربان” عن رغبته في تعزيز التعاون مع موسكو لمرتبة التحالف الاستراتيجي وهي رغبة تشاركه فيها عدد من دول شرق أوروبا، وليس خافيا التغلغل الروسي بشرق أوروبا ودعم موسكو لكل الحركات اليمينية واليسارية المتطرفة في أوروبا التي تنحاز للأفكار القومية الشعبوية، فضلا عن دعم موسكو للحركات الإنفصالية الأوروبية.
وعلي الصعيد الخارجي، فقد شهدت العلاقات بين ضفتي الأطلسي توترًا خلال العام الماضي بفعل فرض الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الإجراءات الحمائية على الواردات الأوروبية من الحديد والصلب، ومن المنتظر تصاعد حدة الحرب التجارية بين ضفتي الأطلسي بعد إعلان ترامب عزمه فرض المزيد من الإجراءات لحماية الصناعة الأمريكية تطبيقًا لمبدأه “أمريكا أولا” الذي كان شعارا لحملته الانتخابية. ولعل “ترامب” هو أول رئيس أمريكي يصف حلفائه الأوروبيين بأنهم “عدو” إقتصادي مما دفع “ماكرون” ووزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” بالدعوة لـوجود “أوروبا قوية وذات سيادة” رداً على عداء “ترامب” لها.
وتتضمن الخلافات الأمريكية الأوروبية آليات التعاطي مع عدد من القضايا الدولية الآنية، ومنها الملف النووي الإيراني فقد رفضت دول الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) الضامنة للإتفاق النووي مع طهران إنسحاب واشنطن منه الذي أعلن عنه “ترامب” في 4 مايو 2018 وأعلنت استمرار تنفيذ الإتفاق وأكدت أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أقرت في 12 تقرير دولي بأن إيران تمتثل لإلتزاماتها بموجب الإتفاق بوقف أى تخصيب لليورانيوم.
والخلاف الأمريكي الأوروبي يتمحور حول آليات التنفيذ فكلا الطرفين يقران بمنع طهران من إمتلاك السلاح النووي بيد أن الدول الأوروبية ترى الإتفاق السياسي هو السبيل لذلك بينما ترى واشنطن في فرض المزيد من العقوبات الدولية علي طهران هو السبيل لتغير السلوك الإيراني الخارجي ويطالب “ترامب” بتقليص الدور الإيراني الإقليمي في الشرق الأوسط الذي شهد تصاعدًا خلال السنوات السبع الماضية. وقد بدأت بالفعل تطبيق الحزمة الجديدة من العقوبات الأمريكية علي طهران في 4 نوفمبر 2018. ومع ذلك، فقد لوحظ أن واشنطن قد ضمّت دولتين أوروبيتين (اليونان-إيطاليا) فى قائمة الدول المعفاة من العقوبات الأمريكية، والمسموح لها بمواصلة إستيراد النفط الإيراني لمدة ستة أشهر، تقديراً لظروفها الإقتصادية. وحتي تسطيع توفيق أوضاعها في هذه الفترة.
وثالث القضايا الخلافية والتي أدت لتوتر العلاقات بين الحلفاء التقليديين هو الخلاف حول المساهمة بموازنة حلف “الناتو” التي دأب “ترامب” على إنتقاد ضعف المساهمة الأوروبية فيها، حيث تمثل دول الإتحاد الأوروبي مجتمعة 22٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي وكانت تساهم بنسبة 1.5 % من موازنة الحلف وتتحمل واشنطن أغلب النفقات الدفاعية الأوروبية وكانت إنتقادات “ترامب” ينصب علي ألمانيا تحديدًا والتي إستجابت لمطالبه وأقرت رفع نسبة مساهمتها بموازنة الحلف إلي 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي لها وهو ما أقرته القمة الأخيرة للحلف.
وترجع أهمية “الناتو” إلى أنه يمثل الآلية الدفاعية الأوروبية الأمريكية المشتركة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بيد أن واشنطن كانت دوما تعمل على إبقاء المظلة الأمنية الأمريكية فاعلة ونشطة على حلفائها الأوروبيين وهذا أصبح محل شك الآن، لاسيما بعد إعلان “ترامب” في أكتوبر 2018 عزمه الإنسحاب من معاهدة الحد من إنتشار الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وهي المعاهدة التي وقعت بين الإتحاد السوفيتي السابق والرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” في ديسمبر 1987 للحد من إنتشار الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى. بينما عبرت موسكو عن أسفها للقرار الأمريكي ودعت أوروبا للحفاظ على المعاهدة. وهو ما أقترحه وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” حيث دعا لإعادة النظر في نظام المراقبة على الأسلحة، وعملية نزع السلاح للحفاظ على السلام في أوروبا. حيث إنه من المقرر أن تصبح الدول الأوروبية ساحة لإعادة نشر هذه الصواريخ وحال وجود أى مواجهة عسكرية أمريكية روسية ستكون على أرض أوروبية مما سيؤثر سلبًا علي البيئة الإجتماعية والإقتصادية الأوروبية.
وقد بدأت الدول الأوروبية بالفعل في إتخاذ خطوات تنفيذية نحو صوغ سياسة دفاعية وأمنية مشتركة ومستقلة بعيدا عن “الناتو” وواشنطن، مما يؤكد فقدان الثقة في الشريك الأمريكي ورغبة الدول الأوروبية في الإعتماد على أنفسهم لتشكيل سياسة دفاعية مستقلة عن واشنطن لأن تهديدات الأمن الأوروبي ليست متسقة مع مثيلاتها الأمريكية. وتمثلت تلك الخطوة في إقرار إتفاقية “بيسكو” بنوفمبر 2017 حيث وقعت 23 دولة في الإتحاد الأوروبي علي مذكرة التعاون “الهيكلي الدائم في الأمن والدفاع” (بيسكو- PESCO)، التي تعني بإلتزامها بتعاون أمنى ودفاعي استراتيجي طويل المدى ودائم، مما يتيح للدول الأوروبية الموقعة التعاون بشكل أوثق لبناء القدرات الأمنية والعسكرية. مما سيتيح لها تنفيذ عمليات عسكرية ومهمات تدريب في مناطق الجوار الأوروبي. ووفق المذكرة سيتم إنشاء صندوق أوروبي برأسمال 5.5 مليار يورو لتمويل برامج البحوث والتطوير العسكريَين، ومشاريع الصناعات العسكرية المتقدمة. و90 مليون يورو لتمويل برامج البحوث والتطوير حتى عام 2020، ما يمثل 2% من ميزانيات الدفاع للدول الأعضاء بها، وبهذا فإن الاتفاقية ستمثل نقلة نوعية للوصول الى تكامل دفاعي أوروبي بعد إنسحاب بريطانيا التي اعترضت دوما على صوغ سياسة دفاعية أوروبية موحدة، كما أعلنت البرتغال والدنمرك ومالطا اعتراضهم على المذكرة ولم يوقعوا عليها بيد أن المذكرة تتيح انضمام أى دولة جديدة لها. ورغم ترحيب واشنطن والأمين العام لحلف “الناتو” “ينس ستولتنبرغ” بالآلية الأوروبية الجديدة بإعتبار أنها ستتيح زيادة الإنفاق العسكري ورفع مستوى القدرات وتحمّل الإتحاد مزيداً من المسؤوليات في الدفاع عن أوروبا، إلا أن المسؤولين الأمريكيين أبدوا قلقهم من إحتمال إنتهاج القارة الأوروبية سياسات حمائية في القطاع الدفاعي. وأعلنت “كايتي ويلباجر” أبرز مساعدي وزير الدفاع الأمريكي “جايمس ماتيس” أن بلادها تسعى إلى تناغم اتفاقية “بيسكو” مع “الناتو”، وإحداث تكامل بينهما، وأشار المحلل السياسي الروسي “أندريه كوشكين” إلي أن واشنطن لن تسمح للإتحاد الأوروبي بإنشاء الجيش الخاص به لكي تظل تسيطر على أوروبا التي تعتبرها “المجال الحيوي” لها. وحال تم ذلك سيؤدي لتقليص الدور الأمريكي في الناتو وعلى الصعيدين الأوروبي والدولي، مما سيؤدي للمزيد من التوتر بين ضفتي الأطلسي.
ولعل تفاقم الخلافات الأوروبية الأمريكية لهذا الحد منذ وصول “ترامب” للسلطة في يناير 2017، يرجع إلى إختلاف الرؤى بين الأخير والقيم الأمريكية والأوروبية المتوارثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، “فترامب” يرفض التعامل مع المنظمات الإقليمية الدولية كالإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ويرفض مبدأ الأحلاف ويسعي دوما لتعزيز العلاقات الثنائية التي تكون فيها واشنطن الطرف المسيطر والأقوى ولذا طرح على بريطانيا إبرام اتفاقية تجارة حرة وتعاون إستراتيجي فور خروجها من الاتحاد. وهذه المبادىء التي يدعمها “ترامب” تتنافي مع التحالف الأمريكي الأوروبي القائم على الإنتماء المشترك إلى الديمقراطية الليبرالية والسوق الحر.
ومما سبق، نجد أن فعالية الدور الأوروبي في المنطقة ستكون رهينة لآليات معالجة الدول الأوربية للإنقسامات الداخلية بينها، التي في حال استمرارها ستؤثر سلبًا علي فعالية الدور الأوروبي في المنطقة العربية وربما تهدد بتفكك الأتحاد الأوروبي كمنظمة إقليمية. وهنا تبرز الأهمية البالغة لإنتخابات البرلمان الأوروبي المقرر إجرائها في مارس 2019 لأنها ستجرى في ظل أجواء سياسية شديدة الانقسام والاستقطاب بين تيارين اليميني الشعبوي والأوروبي الليبرالي، وفي حال فاز التيار الأول فإن ذلك سيؤدي لتقارب بين السياسات الأوروبية في مجملها ونظيرتها الأمريكية في ظل رئاسة “ترامب” وربما يؤدي لإنهاء الكثير من التوتر في العلاقات بين ضفتي الأطلسي. وهذا الأحتمال الغالب في ظل تصاعد الأحزاب اليمينية وفوزها بالانتخابات التشريعية بدول شرق ووسط أوروبا، وفي حال فوز الأحزاب الليبرالية المؤيدة للإتحاد بغالبية البرلمان الأوروبي فإن الإنقسامات الداخلية ستستمر مما ينذر بضعف فاعلية الدور الأوروبي بالمنطقة وربما تؤدي لتفكك الإتحاد كمنظمة إقليمية رائدة. وهو الأمر الذي يثر التسأول عن تداعيات هذه التطورات على أزمات منطقتنا في الحالتين.