منذ انطلاقتها الأولى في 1930، قبل تسعين عامًا تقريبًا، بإلهام المحامي الفرنسي الشهير “جول ريميه”، لا تزال بطولة كأس العالم لكرة القدم “المونديال” تزداد بريقًا وجاذبية لدى جماهير كرة القدم، ولدى لاعبيها، وكذلك المنتخبات الوطنية التي تتنافس عليها. بالنسبة للاعبين تبقى المشاركة في المونديال حلمًا يعني تحقيقه ولو مرة واحدة قيمة كبيرة يشرُف بها اللاعب، ووسام امتياز يوضع على صدره، وتجربة مثيرة يفاخر بها أقرانه ويحكي عنها لأحفاده. وبالنسبة للجماهير، يبقى الحدث متعة لا تتكرر إلا كل أربع سنوات، تنتظره بشغف شديد وتعيشه بتوثب ملحوظ، حتى أن انتصارات الكرة غالبًا ما تجدد لديهم مشاعر الانتماء، وتقلل من حدة التوترات السياسية وربما العنف الأهلي، خصوصًا لدى البلدان المنقسمة طائفيًا أو عرقيًا. أما بالنسبة للدول فيمثل المونديال وجهًا بارزًا للتنافس الحضاري، حيث لا تتسابق بأقدام لاعبيها فقط بل بتقدمها الاقتصادي والعلمي والثقافي، بداية من الأطقم الطبية التي ترعى اللاعبين وتسهر على صحتهم ولياقتهم البدنية. وصولاً إلى العقول الفنية من مديرين فنيين ومساعدين لهم، تخرجوا في أكاديمياتها، وتدربوا في ملاعبها.. إلخ. وهكذا تمارس الدول على المستطيل الأخضر صراعات تمثيلية تكاد تحاكي الحروب، ولكن على نحو سلمي منظم ناهيك عن كونه مُبهجًا، تشعر معه شعوب الفريق المنتصر بالزهو الوطني.
أما هيكل التنافس المونديالي فيعكس بشدة حال النظام العالمي. فعلى صعيد التنظيم حازت القارتان الأكثر تقدمًا على الصعيد الكروي على نصيب الأسد: القارة الأولى هي أوروبا، مركز اللعبة، ونقطة انطلاق المونديال. وليس هذا بغريب على أوروبا التي لعبت لزمن طويل دور المركز الحضاري، ففيها نمت أكثر الثقافات حداثة، وتصارعت جل التيارات الفلسفية، وتبلورت جل التوجهات الفكرية التي لا تزال تحكم عالمنا المعاصر. كما لعبت القارة العجوز مع الولايات المتحدة، القارة الأكثر شبابًا في العالم، دور المركز الإستراتيجي الذي تحكم في مسيرة النظام العالمي، وقاد مسيرة العولمة. وفي موازاة ذلك كان طبيعيًا أن تلعب أوروبا دور المركز الرياضي، خصوصًا في كرة القدم، فعلى ملاعبها يتنافس أفضل لاعبي العالم ونجومه البارزين، ويتصارع أفضل المدربين والمخططين الموصوفين بالعبقرية أو حتى بالجنون، وترتطم عقول المحللين الفنيين ومدربي اللياقة المساعدين. ومن عواصمها الكبيرة تنقل لنا الشاشات الفضية أبرز الأحداث الكروية، خصوصًا دوري الأبطال الأوروبي، وكأس الأمم الأوروبية، والدوريات الأربع الكبرى التي تتابعها جماهير العالم بشغف يفوق بطولاتها المحلية. والثانية هي أمريكا الجنوبية، القطب الذي يتقاسم المركزية الكروية مع أوروبا بديلاً عن أمريكا الشمالية في عالم القطبية الإستراتيجية، كونها تمتلك قسطًا وافرًا من اللاعبين والمدربين الموصوفين بالعالمية، والقادرين على ممارسة الإبداع الكروي خصوصًا في دول كروية كالبرازيل والأرجنتين وأوروجواي، التي فازت بتسع بطولات كأس عالم من مجموع 20 بطولة، في مقابل إحدى عشرة بطولة فازت بها أوروبا موزعة على دول خمس هي: ألمانيا وإيطاليا وانجلترا وفرنسا وإسبانيا. كما قامت معظم دولها بتنظيم المونديال، خصوصًا أوروجواي التي استضافت أول بطولة عالم عام 1930 وفازت بها، ثم البرازيل، وشيلي والأرجنتين، أما المكسيك فنالت حظ تنظيم البطولة مرتين عامي 1970، 1986.
ومن حول المركز الأورو ـ أمريكي يمتد محور محيط تلعب أطرافه أدوارًا مكملة، تكاد لا تنافس على البطولة اللهم سوى من بعيد وبخجل شديد، تتوزع دوله على القارتين الكبيرتين مساحة وعددًا في أسيا وإفريقيا. فأسيا، رغم أنها تحتوي تقريبًا على نصف سكان المعمورة بفضل الكتلتين الصينية والهندية، ورغم أنها تضم دولاً كاليابان وكوريا الجنوبية والصين تجسد الصعود الاقتصادي والسياسي لهذا الجانب من العالم، فإنها لم تفز بالبطولة قط، وإن كانت قد فازت بحق تنظيمها أكثر من مرة. أما أفريقيا السمراء، فقد أُسند إليها تنظيم البطولة مرة وحيدة في تاريخ اللعبة (2010)، احتضنتها دولة جنوب إفريقيا الأكثر غنى بمواردها الطبيعية وتجربتها الإنسانية، ورغم ذلك فإن محاولات التشكيك في قدرة هذا البلد على تنظيم الحدث الكبير لم تتوقف قط، حتى بدأت البطولة بالفعل، وانتهت على خير حال.
ولا يبدو الفوز بالبطولة فقط هو الأمر الصعب على دول هذا المحيط بل أيضًا مجرد المشاركة فيها، فالفرق المسموح لها بالمشاركة قليلة العدد قياسًا إلى عدد الدول المنضمة للاتحاد الدولي (فيفا) والذي يزيد عن المائتين، ومن ثم يخضع الجميع إلى تصفيات شاقة وصارمة، يتم من خلالها تدوير نحو ثلث عدد المقاعد فقط (11 مقعدًا تقريبًا) من 32 مقعدًا على دول العالم خارج المركز الأورو ـ أمريكي، خصوصًا وأن عدد الدول المشارك في المونديال في بدايته كان قليلاً ثم تطور من 16 إلى 24 إلى 32 فريقًا. ومن ثم فالقارة الأفريقية، على سبيل المثال، التي صار لها الآن خمسة ممثلين في العرس العالمي كان لها ممثل واحد فقط حتى مونديال عام 1978 في الأرجنتين، ثم ممثلين في البطولات الثلاث التالية (1982، 1986، 1990) وثلاثة ممثلين في البطولات الثلاث التالية أعوام (1994، 1998، 2002) ثم خمسة ممثلين في البطولات الأربع الأخيرة. وهو الأمر نفسه الذي حدث للقارة الأسيوية، التي لم يكن لها سوى نصف مقعد في البداية، قبل أن يتطور الأمر ويصبح لها أربعة مقاعد ونصف المقعد في البطولات الأربع الأخيرة.
وهكذا يعكس مدى انتشار شعبية المونديال بين جماهير العالم كله، مع عجز معظم الدول عن التنافس فيه ناهيك عن الفوز به خارج الدول الأساسية في محور أوروبا ـ أمريكا الجنوبية، حال العولمة الرأسمالية التي أمسكت بخناق الكوكب كله، وفرضت نفسها على البشر أجمعين رغم أن الفاعلين فيها نخبة، والمتحكمين بها قلة، والحاصدين لثمرتها قليلة أهمها يقع في محور أوروبا ـ أمريكا الشمالية. وكما تحتكر ثمان دول فقط عدد مرات الفوز بالمونديال الكروي، فثمة دول خمس دائمة العضوية بمجلس الأمن هي التي تحتكر القرار السياسي الدولي، فضلاً عن مجموعة الثمانية التي تحتكر القرار الاقتصادي. وحتى من الزاوية الجماهيرية فإن المونديال هو الأكثر تعبيرًا عن قسوة العولمة الرأسمالية وأنانيتها. فقبل نحو العقدين فقط كان العالم كله يتمكن من متابعة المونديال مقابل مبالغ زهيدة تدفعها التليفزيونات الرسمية، تعبيرًا عن ديمقراطية اللعبة وإنسانيتها. أما الآن، مع تمدد العولمة، فقد توسع الفضاء الإعلامي كثيرًا. ومع تطور التكنولوجيا الرقمية صار أكثر سيطرة وتوحشًا، بالتوازي مع تزايد هيمنة منظمة التجارة العالمية على الاقتصاد الرأسمالي. ففي حال العولمة تنسكب العوائد الضخمة في جيوب أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات على حساب الشعوب الفقيرة، من دون قدرة حكوماتها أحيانًا على الاعتراض. ومن دون رغبتها أحيانًا أخرى، عندما يتغلب لديها دافع الكسب الذاتي الذي تجنيه من لعب دور “الوسيط التجاري” التابع للدول والشركات الكبرى، على دوافع مثل تنمية بلادها ورعاية مواطنيها. أما في حال المونديال، فتلعب القنوات التليفزيونية الكبرى دور تلك الشركات، باحتكارها حق نقل البطولة، وقيامها بالبيع لقنوات إقليمية أصغر تتولى توزيع مشاهدتها في محيطها الإقليمي عبر التشفير الذي يعلي مبدأ “ادفع لتشاهد”، الأمر الذي حرم الغالبية من مشاهدة الحدث الكبير، ومن ثم فإن القليلين فقط ظلوا يشاهدون، بينما الكثيرون صاروا محرومين، وهو حال عالمنا اليوم مع العولمة، حيث يثري القليلون ويحتكرون، ويجوع الكثيرون أو يمرضون.
الإخفاقات العربية بين الثقافة والكرة
تنتمي جل الفرق العربية إلى فئة المحيط الهامشي في كرة القدم، والأمر هنا ليس غريبًا أو مناقضًا لحالتنا الحضارية أو الإستراتيجية، فنحن على الصعيدين لسنا أكثر من هامش. قطعًا لم يفز فريق عربي بالمونديال، أو لديه الحلم المشروع بذلك في المستقبل المنظور، بل يجري التنافس فقط على المشاركة والتمثيل المشرف، وقد شاركت بعض الفرق العربية كالسعودية والمغرب خمس مرات تقريبًا، وبعضها الآخر كتونس والجزائر نحو أربع مرات، ومصر ثلاث مرات، أما العراق والكويت والإمارات فمرة واحدة، بينما عجزت الدول العربية الأخرى عن المشاركة، فيما كانت سوريا قريبة جدًا من المشاركة في البطولة الأخيرة، ولكن حالت أستراليا دون مشاركتها بعد أن لعبا معًا مباراة فاصلة كسبتها الأخيرة. أما مسألة تنظيم المونديال فقط تحقق فقط لمرة واحدة، نظريًا حتى الآن، إذ يفترض أن تنهض قطر بمسئولية البطولة القادمة 2022، رغم ما يثور من جدل حول إسناد شرعية تنظيم البطولة إليها، فالمهم أن بلدًا عربيًا قد حصل على حق التنظيم بعد أن كانت مصر قد فشلت في ذلك أمام جنوب أفريقيا 2010 في الواقعة الشهيرة (صفر المونديال)، وعلى منوالها خسرت المغرب الشقيقة المعركة نفسها وإن بشكل أقل كارثية عندما حصلت على أربعة أصوات. والسؤال هنا لماذا لم تنسق الدولتان العربيتان مواقفهما آنذاك فيتقدمان بملف مشترك مثلما أقدم بلدان أسيويان هما كوريا واليابان على التنظيم المشترك لبطولة عالم 2002. أو تنسحب إحداهما لصالح الأخرى، وهو ما يثير إشكالية كبرى تتمثل في العجز عن التصرف بمنطق الجغرافيا الثقافية، كأمة واحدة، طول الوقت على نحو يفقدنا احترام العالم كأمة قوامها 22 بلدًا لها حق التمثيل العادل على أصعدة كبيرة سياسية أو رياضية أو ثقافية، ما يثير لدينا واقعة التنافس العربي على مقعد رئاسة اليونسكو في العام الماضي، تلك المؤسسة المهمة جدًا لصون التراث الإنساني، والمحورية جدًا في رعاية التنوع الثقافي العالمي، والأساسية إلى أبعد مدى في قضية الصراع على القدس ونسبة التراث المادي هناك إلى أصوله العربية.
بالقطع لا تملك الثقافة مستوى الشعبية التي للكرة، ولا تملك اليونسكو الشهرة نفسها التي للفيفا، لكن الأمر الوحيد المشترك بين المجالين، الثقافي والكروي، تمثل في عجز العرب عن تقديم أنفسهم كراعين للحدث الأكبر هنا أو هناك. ففي المونديال الكروي ذهب حق التنظيم إلى دولة جنوب إفريقيا، الدولة التي كانت تمتلك جاذبية كبيرة آنذاك كتكوين سياسي خرج لتوه من رحم العنصرية، يريد العالم أن يكافئه وزعيمه الأثير مانديلا، أيقونة للنضال السياسي والحكمة التاريخية في أربعة أنحاء العالم، بينما ضاعت علينا فرصة كبيرة حيث كان التنافس آنذاك محصورًا في إفريقيا فقط آنذاك، انطلاقًا من فكرة تكريس عالمية البطولة، والتي تم التخلي عنها الآن، عبر تداول تنظيمها بين القارات الأربع الكبرى. وفي المونديال الثقافي عجزت مصر عن قيادة مؤسسة اليونسكو لمرات متوالية، أخرها في عام (2017) حيث تقدمت للقيادة سيدة مصرية فاضلة (مشيرة خطاب) وهي دبلوماسية ذات كفاءة لا تنكر، فشلت في حيازة المنصب المرموق لصالح نظيرتها الفرنسية بعد جولات عدة من التصويت، لأن مصر قد عجزت عن الأخذ بأسباب الفوز، حيث اعتمدت على واقع أن المجموعة العربية (كثقافة) لم تنل حظ قيادة هذه المؤسسة، ولذا فمن الواجب أن يمنحها العالم هذه الفرصة. ومادام الأمر كذلك فليس هناك من هو أكثر تعبيرًا عن الثقافة العربية الإسلامية منها، وهو أمر ظن أولو الأمر أن العرب سوف يحترمونه، وأن أعضاء المجلس التنفيذي لليونسكو سوف يقدرونه، ولكن المفاجأة التي صدمت مصر أن عربًا آخرين تقدموا للترشيح، وأن أعضاء المجلس التنفيذي انقسموا بين هؤلاء المرشحين، ففازت المرشحة الفرنسية بالمنصب، بعد تنافس مرير مع مرشح قطر (حمد الكواري).
لقد ذهب البعض إلى أن سبب الخسارة لم يكن سوى مؤامرة على مصر أو التحيز ضد العرب. والحقيقة أنه لم يكن هناك أي تحيز أو تآمر، بل مجرد فجوة بين رؤية مصر لنفسها كبلد عريق، أسهم في صياغة فجر الضمير الإنساني، لا يزال يحتوي على ربع آثار العالم، وبين رؤية العالم لها (الآن) كبلد يصير باستمرار أكثر تخلفًا سواء على مستوى التعليم إذ لم تعد جامعاتها مصنفة على جل مؤشرات الجودة، فيما تتذيل بعضها الآخر. أو على مستوى الثقافة التي تزداد تدهورًا بفعل غياب التعددية والتنوع، ناهيك عن تراجع تقدير الآخر بعد أن كانت بلدًا كوزموبوليتانيا تتعايش داخله الأعراق والملل قبل ثلاثة أرباع القرن.
الإخفاق الرياضي في روسيا
بدا الإخفاق العربي في المونديال الروسي أكثر مما هو معتاد، حيث خرجت كل منتخباتنا من الدور الأول، ولم يصعد أحدها إلى الدور الثاني كما حدث في بطولات سابقة من قبل الجزائر والمغرب والسعودية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل بدا التمثيل غير مشرف اللهم عدا فريق المغرب الذي لعب مباراتين جيدتين رغم أنه فاز بنقطة واحدة من تعادل مع منتخب إسبانيا، بينما فاز الفريق التونسي بثلاث نقاط ولكن من فوز على أضعف فرق البطولة وهو المنتخب البنمي، فيما كان عاجزًا في المباراتين الأخريين. أما المنتخب السعودي ففاز بثلاث نقاط ولكن على حساب شقيقه المصري بينما خسر المباراتين الأخيرتين، بفارق كبير من الأهداف وأداء كارثي خصوصًا في المباراة الأولى. وأخيرًا كانت أسوأ النتائج على الإطلاق هي ما حققها المنتخب المصري، الذي خسر مبارياته الثلاث، وكان ترتيبه قبل الأخير في البطولة لا يليه سوى المنتخب البنمي.
سوف يكتب كثيرون، ويُسال حبر غزير في محاولة الإجابة على سؤال: ماذا حدث في المونديال؟، لماذا أخفقنا؟. لماذا لعبنا مثل فئران يحفزها الخوف وحده من المحيطين بها، لا يملكون الثقة بأنفسهم، ولا يستطيعون الوقوف على أقدامهم، رغم ما لدى بعضهم على الأقل من مهارات حقيقية، يبدونها أثناء اللعب مع فرقهم في الدوريات الأوروبية أو حتى المحلية؟. في هذا السياق تحدث كثيرون من نقادنا الرياضيين عن حتمية احتراف لاعبينا في الخارج، كسبيل وحيد لبناء منتخبات قوية، ومن ثم دعوة الأندية العربية إلى عدم التمسك بلاعبيها وتركهم للاحتراف عند أول فرصة تأتي إليهم، وربما إدانة تلك الأندية واتهام إدارتها المضمر أحيانًا بضعف الوطنية لتمسكهم بلاعبيهم طالما كان ذلك ضد مصلحة المنتخب. غير أننا نراها رؤية متعسفة، تنهض على عدة مبالغات وعقد نفسية:
أولها أنها تبدو مغالية كثيرًا في تصوير دور الاحتراف الأوروبي في صناعة منتخبات وطنية قوية، والسبب في ذلك أن أصحابها يقيسون الحالة المصرية على نظيرتها في دول إفريقيا جنوب الصحراء. والقياس خاطئ هنا نتيجة لاختلاف الظروف، ففي تلك الدول ثمة خامات طبيعية جيدة من اللاعبين، لا تتوافر لهم أية بنية حضارية (من ملاعب، ونظم إدارية، ورعاية طبية، ونقل تليفزيوني، وعوائد مالية). ومن ثم فإن انتقالهم إلى بنية حضارية متقدمة يحدث لديهم الفارق الكبير، لأنه بمثابة عملية إعادة اكتشاف كاملة لقدراتهم. وذلك على العكس مما هو قائم في البلدان العربية خصوصًا في الخليج أو شمال أفريقيا، خصوصًا قبل الاضطرابات السياسية المصاحبة للربيع العربي، حيث كانت البنية الحضارية معقولة، ومستوى المسابقات المحلية جيد، حتى أن بعضها كان مصنفًا في ترتيب متقدم كالدوري المصري ونظيره السعودي ثم التونسي. ولعلنا جميعًا نذكر ما بلغه الدوري المصري من درجة تنافسية متميزة قياسًا إلى تلك الدوريات في السنوات الخمس السابقة على الثورة، وهو أمر انعكس بشدة في مستوى تنظيم مصر لأمم إفريقيا 2006، وفوزها بالبطولات الثلاث المتوالية، على رغم تشبع المنتخبات الإفريقية المنافسة بالمحترفين في أربعة أنحاء القارة الأوروبية. بل إن مشاركة منتخب تونس بطولة كأس عالم 1978 في الأرجنتين تظل هي الأفضل في تاريخه رغم أنه لم يكن به محترف واحد آنذاك. وعلى المنوال نفسه كانت مشاركة المغرب في بطولة 1986 هي الأفضل له رغم أن عدد محترفيه كانت أقل مما هي اليوم، الأمر نفسه للمنتخب السعودي حيث كانت أفضل مشاركاته عام 1994، من دون وجود أي محترف في الخارج. وهو ما يكاد ينطبق على المنتخب المصري عام 1990، حيث تعادل مع هولندا وأيرلندا وحصل على نقطتين، ولم يكن فيه سوى محترف واحد تقريبًا، وخرج من المونديال الأخير دون أي نقطة رغم وجود عشرة محترفين بعضهم في أهم الدوريات العالمية كالدوري الانجليزي، الأمر الذي يبطل أسطورة الاحتراف الأوروبي أو يقلل من سطوتها.
وثانيًا: لأن النظر إلى البلدان العربية كبلدان متخلفة، وظيفتها الأساسية تفريخ اللاعبين للأندية الأوروبية الكبيرة، هي نظرة دونية، تستعيد ما كان في زمن الاستعمار الغربي، عندما كان النظر إلى مصر مثلاً باعتبارها بلد القطن الأولى، إنتاجًا وتصديرًا لأفضل أنواعه إلى المركز الأوروبي المتقدم القادر على تصنيعه بتكنولوجيا حديثة، ليحصد منه أضعاف ما نكسبه من تصدير المادة الخام. إنها نظرة قديمة ربما تليق بدول جنوب الصحراء، الأكثر فقرًا منا، ولكنها لا تليق بالعالم العربي المفترض أن ترنو دوله إلى موقع أكثر تقدمًا وتحررًا، وهو ما لا يتفق مع كونها مجرد مصدر لمواد خام رياضية من اللاعبين، بل يفرض عليها الدخول في عملية تصنيع كبيرة، ترسخ الاحتراف الداخلي وتجعل مستوى لاعبي أنديتنا مقاربًا للمحترفين في أوروبا، ومشابهًا لنظرائهم في أمريكا اللاتينية، وذلك من خلال زيادة عوائد الأندية من البث، وترقية بنية اللعبة من خلال توفير رعاية طبية فائقة، ورفع مستوى المدربين العرب بدورات منتظمة، وتوسيع قاعدة مدربي اللياقة البدنية وخبراء التغذية الرياضية، ورفع مستوى التحكيم برعاية الحكام فنيًا وماليًا، مع زيادة عدد الملاعب المتميزة، وغير ذلك من مفردات البنية الأساسية لصناعة الكرة.
والبادي لدينا أن الإخفاقات العربية إنما ترجع إلى سيادة حالة من عدم الثقة بالنفس، والشعور بالعجز عن مجاراة الآخرين، ناجمة عن حالة الارتباك المجتمعي العام والاضطراب السياسي الذي ترتب على عاصفة الربيع العربي، وما أفرزته من موجات عنف وإرهاب اقتحمت بعض دولنا وأخذت في تفكيك بعضها الآخر، على نحو جعل باقي أوطاننا تحلم بالبقاء وتكف عن الحلم بالتقدم والتحرر، الأمر الذي نقلها من حالة الهجوم الحضاري والسياسي لحظة اندلاع تلك العاصفة، إلى موقع الدفاع عن الذات، درءًا لعوامل التفكك دفاعًا عن الوطن حسبما يقضي علم السياسة، أو عن المرمى كما تقول أدبيات كرة القدم، ولكل من الحالتين: الدفاع والهجوم متطلباتها وسياقاتها.
السمة الأساسية لحالة الدفاع كونها سلبية، ترتبط بالعقم، لا تأتي بجديد في أحسن الأحوال، بينما تأتي بالسيئ في أغلب الأوقات، لأن المدافع عن نفسه لا يطمح سوى للبقاء في مكانه، لا يبارحه. فإذا ما نجح في تحقيق مراده، لم يكسب شيئًا لأن هدفه لم يكن سوى صفر كبير وقد حصل عليه. أما فشله في تحقيق المراد فيعني تراجعه إلى الخلف، أي إلى ما دون الصفر. ولكن جاذبيتها تكمن في سهولتها، إذ لا تحتاج إلى تخطيط مبدع، ولا إلى اتخاذ مبادرات جسورة، ولا إلى شجاعة نفسية، بل فقط إلى تحوصل على النفس. انكفاء على الذات. احتماء بالكهف المحيط والآمن من مخاطر الفضاء الرحيب والواسع خارج ذلك الكهف. لقد نظر الجميع إلى المدير الفني لمنتخب مصر هيكتور كوبر باعتباره صاحب إنجاز الصعود لكأس الأمم، ثم المنافسة عليها، لأن الرجل أتى إلى مصر في لحظة صعبة بعد إخفاق غير مسبوق في الصعود إلى نهائيات كأس الأمم ثلاث مرات متتالية، ولم ينتبه أولئك إلى أن الأسباب لم تكن رياضية بل سياسية وأمنية، في ظل حالة عدم الاستقرار، التي اقتضت غياب البطولات المحلية لفترة، وإقامتها بدون جمهور لفترات ممتدة حتى الآن. ولولا هذا السياق لما نظر أحد إلى كوبر باعتباره صاحب إنجاز قبل تصفيات كأس العالم، التي يمثل تجاوزها إنجازًا حقيقيًا، لكن العقلية الدفاعية المحضة التي أوصلت مصر إلى النهائيات هي نفسها التي أخرجتها منها سريعًا، لأنها لعبت مع فرق تجيد التنظيم والانتشار، ولديها ثقة وجرأة على عكس الفرق الأفريقية التي كانت تخشى اسم الفريق المصري.
أما السمة الأساسية لحالة الهجوم فتتمثل في طموحها الإيجابي لتحقيق الأهداف الكبيرة، فالهجوم الذكي المخطط، وإن لم تتحقق أهدافه كلها، فإن إنجاز بعضها قد يمنح الكيان قوة الصمود وإرادة التقدم، والأمل في إنجاز ما تبقى. ولكن عيبها الأساسي يتمثل في صعوبتها البالغة ومخاطرها الجمة. تتمثل صعوبتها في الحاجة إلى ذهنية خلاقة ومبدعة، تفكر وتدبر. وإلى عزم شديد يبادر ويتحمل. وإلى شجاعة فائقة، تتجاسر وتتقبل النتائج، وتلك جميعها صفات مثالية قد تتوافر للكيان في حالة تيقظه، كما قد تغيب عنه في حالة التيه أو الاضطراب. كما تكمن مخاطرها في ردود الفعل السلبية الناجمة عن الاندفاعات الهجومية، والتي تسمى في دنيا الكرة بالهجمات المرتدة، وفي عالم السياسة بالمخاطر الإقليمية والدولية، فالقرار الجسور للدولة قد يأتي بنتائج عظيمة، مثلما قد يأتي نتائج وخيمة أو حتى ببعض الأعراض الجانبية غير الهينة. وهنا تأتي أهمية الحنكة والدراية وذكاء الملعب لدى لاعب الكرة ومدربه. كما تأتي أهمية الدراسة والتخطيط لدى مسئولي الدولة وقادتها، فجميعها مهارات تقلل من الخسائر وتوقعاتها، وتزيد من المكاسب واحتمالاتها، حيث يأتي الهدف الصريح لفريق الكرة بإصابة شباك الخصوم، من دون خطر على شباكه هو، مثلما يتحقق الهدف المجازي لصالح الدولة من قبيل التحرر السياسي دون خطر وقوع الفوضى، أو من قبيل التحرر الاقتصادي دون وقوع في خطر التبعية للسوق العالمية، وهكذا من أهداف يمكن تحقيقها، مع تجنب الأعراض الجانبية لها، قدر الممكن.
في سياق مثل الانتقال من حال الهجوم إلى وضعية الدفاع، انتقلت جل آفات الثقافة والسياسة العربيين إلى حقل التنافس الكروي. فثمة أصداء لظاهرة حكم الفرد في جل أنحاء العالم العربي، أخذت تتردد في ملاعب الكرة ممثلة في التعويل المفرط على (اللاعب الفرد) أو النجم الأكبر باعتباره مخلصًا كرويًا يناظر المخلص السياسي الذي طالما تجسد في حاكم أوحد. فإذا ما تعثر أو أصيب فغاب عن مباراة، انتكس الفريق كله، ومن ثم صارت تسمية منتخب مصر بـ “منتخب صلاح” متداولة ورائجة وغير مستغربة لأن بعض الزعماء العرب كانوا يتحدثون عن بلادهم وجيشهم قائلاً: جيشي، وشعبي. آفة أخرى تبدت في ملاعب الكرة مثلما هي في ساحات السياسة العربية، تتمثل في التعويل على نظرية المؤامرة التي أدمنها الساسة العرب وبرروا بها إخفاقاتهم المتعددة، التي طالما نسبوها إلى طرف خارجي معادٍ طالما كان إسرائيل الصهيونية أو الغرب الإمبريالي، حتى لو كانت تلك الإخفاقات داخلية. النظرية نفسها استعذبتها جل الفرق العربية التي اعتبرت الحكام متآمرين عليها لأنهم لم يحتسبوا هدفًا (حالة المغرب) أو ضربة جزاء (حالة مصر)، رغم أن ضربة الجزاء الأخيرة كانت لمنتخب عربي شقيق وليس أوروبيًا ولا لاتينيًا يمثل قوى عظمى كروية. وبينما استهلكت نظرية المؤامرة الطاقة النفسية للحكام والشعوب فلم يلتفتوا إلى الأسباب الحقيقية للإخفاق السياسي، حتى تنامت، فقد استهلكت النظرية نفسها طاقة الأجهزة الفنية والإدارية في تبرير الهزائم، فلم ينصرفوا إلى تعديل أو تحسين الخطط الكروية. وبالقطع لن يفسر لنا أحد منهم كيف حصلت مصر، مثلاً، على بطولة الأمم الأفريقية ثلاث مرات قبل الربيع العربي، ولماذا أخفقت لثلاث دورات تالية في مجرد الوصول إلى نهائيات البطولة، في مفارقة تاريخية لم تحدث من قبل. وهل كان فوزها بفعل تحيز لصالحها كما كانت إخفاقاتها بفعل مؤامرة عليها، أم أن الأمر كل محض جاهزية واستعداد، سياقات سياسية وإدارية إيجابية، تتوافر هنا فيكون الإنجاز وتختفي هناك فيكون الإخفاق.. إنه درس السياسة والحضارة الذي لا يغيب أيضًا عن عالم الكرة، كونه يجسد منطق التاريخ وجدل الحياة.