اعتاد الفلسطينيون على إحياء “يوم الأرض”، في الثلاثين من آذار/مارس من كل عام، بعد أن تكرّس هذا اليوم في الهبّة الشعبية، التي قام بها فلسطينيو 48، كردة فعل على محاولات إسرائيل الاستيلاء على أراضيهم في الجليل (1976)، والتي تعمدت بدماء الشهداء. وعلى أية حال فقد أضحى يومًا وطنيًا فلسطينيًا، يعبر فيه الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم، في 48 والضفة والقطاع وبلدان اللجوء والشتات، عن تشبّثهم بحقوقهم المشروعة وبهويتهم الوطنية، ويؤكدون من خلاله وحدتهم كشعب، ووحدة قضيتهم، وإصرارهم على التمسك بأرضهم وعلى استمرار كفاحهم لاستعادة حقوقهم التاريخية والمشروعة.
بيد أن يوم الأرض لهذا العام أتى وشعب فلسطين وقضيته وحركته الوطنية تمر في ظروف صعبة ومعقدة، لاسيما بسبب العوامل الآتية:
أولاً، اعتراف إدارة ترامب بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، واعتزام الولايات المتحدة نقل سفارتها إليها (وقد تم وضع حجر الأساس يوم 14/5) لهذا الغرض، علمًا أن هذا الموقف يطيح بعملية السلام جملة وتفصيلاً، كما يعني ذلك أن الولايات المتحدة تخلت عن مكانتها المفترضة كراع نزيه لهذه العملية، وكضامن موثوق لها، وكوسيط محايد فيها بين الطرفين المعنيين.
ثانياً، لا يتوقف الأمر عند القدس إذ أن الإدارة الأمريكية تعتزم التحلّل من كل حقوق الفلسطينيين، بالتوجه نحو استغلال الظروف الراهنة في العالم العربي، لجهة الاضطرابات الحاصلة في أكثر من بلد، ولجهة صعود نفوذ إيران في المشرق العربي واليمن، لفرض ما يسمى “صفقة القرن”، بحيث يتم تحييد القضية الفلسطينية من مسألة التسوية بين إسرائيل والعالم العربي، وبحيث لا تبقى الورقة الفلسطينية حجر عثرة في هذا الاتجاه، بما يفقد الفلسطينيين مفتاح الحرب والسلام مع إسرائيل، الذي اعتقدوا لفترة طويلة من الزمن بأنهم يمتلكونه.
ثالثًا، فشل مسارات المصالحة الفلسطينية، التي كان يفترض بها توحيد الكيان الفلسطيني، ووضع حد للخلاف بين الحركتين الرئيستين “فتح” و”حماس”، الأمر الذي يبقي مليوني فلسطيني تحت الحصار في قطاع غزة، علما أنهم يعانون ذلك منذ عشرة أعوام.
رابعًا، جاء هذا اليوم بعد عديد من الهبات الشعبية التي قام بها الفلسطينيون ولاسيما في مدينة القدس ردًا على خطوة ترامب، وأيضًا كرد على الإجراءات التقييدية، التي حاولت إسرائيل فرضها مؤخرًا، على حركة الفلسطينيين في القدس الشرقية، ولاسيما في المسجد الأقصى، بمعنى أن الوضع الفلسطيني بات جاهزًا، ومشحونًا، لإطلاق موجة جديدة من الحراكات الشعبية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال.
وفقًا لكل ما تقدم فقد كان ليوم الأرض، هذا العام، وقعًا خاصًا ومتميزًا ـ في قطاع غزة تحديدًا، إذ أن جملة العوامل الموضوعية السابقة، تضافرت مع العوامل الذاتية، المتمثلة بتفاقم مشاعر الإحباط والقهر والغضب، ناهيك عن الإفقار، وانسداد فرص العمل، عند مليوني فلسطيني، معظمهم من الشباب، يعيشون في بقعة صغيرة، في حصار مطبق، كأنهم في سجن كبير، منذ العام 2007، بدون أي أمل، ومع ضغط ثلاثة حروب إسرائيلية سابقة (2008، 2012، 2014).
هكذا فإن تضافر كل هذه الأوضاع أدى إلى خلق الأرضية الخصبة للتمرد على هذا الواقع، سيما بين الشباب، لتحويل “يوم الأرض”، هذا العام، إلى يوم للعودة إلى الأرض، أي إلى فلسطين، خصوصًا أن ثمة تجربة سابقة جرت في يوم النكبة (15 أيار/مايو 2011)، إذ استطاع شباب من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا من اجتياز الحدود عند جبهة الجولان، ودخول مجدل شمس، وحتى أن بعضهم وصل إلى حيفا ويافا.
في المحصلة، وضمن هذه الإطارات الموضوعية والذاتية، تولدت لدى مجموعة من النشطاء الشباب، تلك الفكرة، أي فكرة العودة إلى الأرض، متوسلين في ذلك شكل المقاومة السلمية، باعثين عبر ذلك برسالتين، أولاهما، إلى العالم بأن الفلسطينيين لا ينسون قضيتهم وحقوقهم. وثانيتهما، إلى الفصائل الفلسطينية المهيمنة، والتي باتت بمثابة سلطة تحت الاحتلال، ومفادها أن الجيل الجديد من الشباب بإمكانه أن يشق طريقه بنفسه، بعد أن ثبت انسداد الخيارات القديمة، سواء المتمثلة بالمفاوضة، أو بالعمل المسلح، وفي كل ذلك فقد تمكن هؤلاء الشباب من تحريك الشارع الفلسطيني في غزة في مظاهرات شعبية على الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل، في برنامج طموح، لا يقتصر على التحرك في يوم الأرض، وإنما بات مفتوحًا إلى يوم النكبة (15 أيار/مايو)، في محاولة لتصعيد التحرك.
وكما شهدنا فإن إسرائيل تعاملت بقسوة، وبوحشية، وبعنف كبير مع مسيرات العودة، إذ واجهتها بالرصاص الحي ما أودى بحياة المئات، وجرح الألوف، وضمن ذلك مصرع 65 فلسطينيا وجرح 2500 منهم، يوم 14/5/2018، وهو اليوم الذي شهد وضع ابنة الرئيس الأمريكي (إيفانكا) حجر الأساس للسفارة الأمريكية في القدس الشرقية، وسط حفاوة إسرائيلية بالغة بهذا الحدث.
الكفاح السلمي
من الواضح هنا أن المبادرين الشباب للحراك الشعبي، المتمثل بمسيرات العودة، انحازوا، كما تظهر مداخلاتهم وتعليقاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أشكال الكفاح الشعبية، كما مثلتها الانتفاضة الأولى (1987-1993)، باعتبارها الشكل الأكثر تناسبًا مع إمكانيات الشعب الفلسطيني، وقدرته على التحمل، والأكثر تحريكًا للرأي العام الدولي والعربي وحتى الإسرائيلي، وكونها الشكل الذي يحيّد إلى حد كبير القوة العاتية للجيش الإسرائيلي، ويجنّب الفلسطينيين أثمانًا باهظة، ليس لديهم القدرة على استثمارها سياسيًا، سيما في المعطيات الدولية والعربية الراهنة.
طبعًا لا حاجة هنا لتأكيد أن الكفاح السلمي، أو الشعبي، لوحده لا يحرر فلسطين، على ما يدعي مريدو الفصائل، في ردهم على نشطاء الحراك الشعبي في غزة، لكن هذا يطرح على الفصائل ذاتها السؤال عن الأراضي التي حررها الكفاح المسلح، في واقع بات له سبعة عقود، ظلت فيه إسرائيل مطلقة القوة في مواجهة ضعف الفلسطينيين، وفي وضع لا دولي وعربي لا يسمح بتمكينهم حتى من استثمار تضحياتهم، ولا على أي صعيد؛ هذا أولاً. ثانيًا، لعل أهم ما ينبغي أن تدركه الفصائل أن الكفاح ضد إسرائيل في الظروف الفلسطينية الخاصة لا يقتصر على مصارعتها فقط، إذ هو يشمل، أيضًا، بناء المجتمع الممزّق والمشتت، وتعبئة طاقاته وتطوير كياناته السياسية والمجتمعية وتنمية موارده البشرية واستثمارها بأفضل ما يمكن، وهذا بدوره أمر لم تفلح فيه القيادات التي تصدرت للعمل الوطني منذ أكثر من نصف قرن. وعلى الأقل فإن الكفاح الشعبي السلمي يضمن ذلك، ويكفل عدم هدر أرواح الشباب، وتحييد الآلة العسكرية للعدو ما أمكن، كما يضمن تقوية مجتمع الفلسطينيين، الذي هو الأساس لأي عملية وطنية ونضالية في المستقبل.
مقاربة تاريخية
طوال تاريخهم لم يترك الفلسطينيون طريقة نضالية، سلمية أو عنفية، شعبية أو مسلحة، إلا وانتهجوها في صراعهم المضني والمعقّد والمديد ضد المشروع الصهيوني، وكيانه إسرائيل. لذا ففي مناقشة الحراك الشعبي، هذا العام، والذي تمثل بخروج عشرات ألوف الفلسطينيين إلى الحدود بين غزة وإسرائيل في محاولة لممارسة حق العودة إلى ديارهم، يجدر إجراء مقاربة تاريخية ومعاصرة مع هذا الحدث، الذي قد يؤسس لمسار جديد في الصراع الفلسطيني، بأشكال مختلفة غير تلك التي اعتدنا عليها، والتي ترتكز على العمل المسلح.
فمن الناحية التاريخية، فقد سجّل الفلسطينيون في كفاحهم أطول إضراب في التاريخ (1936)، والذي استمر لستة أشهر، ثم تبعته ثورة أو انتفاضة مسلحة امتدت على ثلاثة أعوام (1936-1939). بيد أن هذه الثورة أُجهضت كما أُجهضت الانتفاضات أو التمردات التي سبقتها، بحكم ضعف إمكانيات الفلسطينيين، في مواجهة دولة الانتداب (بريطانيا العظمى)، وأيضًا بحكم تخلف إدارة هذه الثورة، والفوضى أو العفوية التي طبعتها بطابعها، ناهيك عن طابعها المحلي، إذ لم يستطع الفلسطينيون تشكيل كيان سياسي جامع وموحد يمثلهم ويعبر عن تطلعاتهم الوطنية.
أيضًا، فقد عرف الفلسطينيون في الأراضي المحتلة (1967)، ولاسيما في الضفة، أشكال النضال الشعبية والسلمية، في الصراع ضد إدارة الاحتلال، وضد روابط القرى، وخاضوا معركة الانتخابات البلدية (أواخر السبعينيات)، بقيادة الجبهة الوطنية الفلسطينية، كذراع لمنظمة التحرير، التي أتت بشخصيات وطنية مثل بسام الشكعة (نابلس) وكريم خلف (رام الله) وإبراهيم الطويل (البيرة)، ومحمد ملحم وفهد القواسمي وعبد الجواد صالح، وهي تجربة أجهضتها سلطات الاحتلال الإسرائيلية بمحاولتها اغتيال عدد من تلك الشخصيات وإبعاد آخرين منهم إلى الخارج.
بيد أن النضال الشعبي الفلسطيني بلغ أعلى وأنسب أشكاله في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، فهذه الانتفاضة كانت، محل إجماع الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وجاءت وفقًا لإمكانياتهم الخاصة، وبحسب قدرتهم على التحمل، وتبعًا لإرادتهم وإدارتهم الذاتية، بحيث باتت تعتبر الشكل النضالي الأنسب لكفاح الفلسطينيين، واتباع إستراتيجية الضعيف ضد القوي، التي تقوم على عدم الانجرار إلى المربع الذي تستقوي فيه إسرائيل، وهو الصراع المسلح، وتحييد الجيش ما أمكن، بحيث باتت هذه الانتفاضة أهم معالم الكفاح الفلسطيني المعاصر، وهي التي أعادت منظمة التحرير إلى الخريطة السياسية، بعد غزو لبنان (1982)، وهي التي وضعت قضية فلسطين على رأس الأجندة الدولية والإقليمية مجددًا، وذلك بغض النظر عن ضعف استثمار الانتفاضة، كما تمثل بذهاب منظمة التحرير نحو عقد اتفاق أوسلو (1993) المجحف والجزئي والناقص، والذي يعاني الفلسطينيون المخاطر الناجمة عنه حتى اليوم.
ويستنتج من هذه الأمثلة التاريخية، أن ثمة مشكلة كبيرة في عدم إدراك القيادات الفلسطينية للخلل في موازين القوى، وضعف بنية كياناتهم السياسية، وتخلف إدارتهم، أو قدرتهم على استثمار كفاح شعبهم.
أما في المقاربة المباشرة المعاصرة فقد عرف الفلسطينيون في 48، والذين باتوا بمثابة مواطنين في إسرائيل (ولو من درجة ثانية) أشكالاً من الكفاح من أجل أرضهم، ومن أجل عودة اللاجئين الداخليين، ويقارب عددهم أكثر من مئة ألف، لا تعترف إسرائيل بمكانتهم القانونية وفقًا لقانون “الغائب الحاضر” العنصري، إذ بين فترة وأخرى تنظم مسيرات واعتصامات لعودة هؤلاء إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها، لإعادة إعمارها، إذ ثمة 400 قرية تم تدميرها.
لكن المقاربة الأكثر تماثلاً كانت جرت يوم النكبة (15/5/2011)، وكان ثمة إجماع وطني فلسطيني عليها، في حينه، وقد استطاع وقتها عدة شبان العبور إلى مجدل شمس وحتى حيفا، الأمر الذي جعل إسرائيل تتحوط للمسيرة الثانية، (6/6/2011) التي تمخضت عن مجزرة.
الفكرة أن الفلسطينيين في كل أشكال كفاحهم بحاجة إلى إدراكات أفضل لإمكانياتهم، ولواقع إسرائيل، والسياسات التي يمكن أن تنتهجها ضدهم، كما هم بحاجة إلى إدراكات أفضل للمعطيات الدولية والعربية، ومدى مواتاتها لهذا الشكل الكفاحي أو ذاك، لأن المسألة لا تقتصر على التضحيات، وعلى امتلاك الحق، والسعي للعدالة، وهي أمور مهمة، وإنما هي تتعلق أكثر بموازين القوى والمعطيات المحيطة.
سلبيات وملاحظات
على أية حال، وكما جرت العادة، فإن القوى الفصائلية المهيمنة لم تترك الحراك الشبابي ـ الشعبي يتحرك وفقًا لمداركه ومفاهيمه، تمامًا كما حصل في الانتفاضة الأولى، حيث عملت القيادة الفلسطينية في الخارج بمداخلاتها على فرض رأيها، آنذاك، والحؤول دون بروز قيادة في الداخل، وهو ما توّج، بعد الانتفاضة، بإزاحة الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات المنبثقة عن مؤتمر مدريد للسلام (1991)، برئاسة حيدر عبد الشافي، والذهاب إلى مفاوضات أوسلو (1993)، بقيادة وفد من منظمة التحرير، ما نجم عنها قيام السلطة، بثمن تأجيل البت بمصير المستوطنات والقدس واللاجئين والحدود ودون معرفة ماهية الحل الانتقالي، وهو ما يدفع ثمنه غاليًا الفلسطينيون حتى الآن.
وكانت تكررت هذه المسألة في الانتفاضة الثانية، التي انطلقت كانتفاضة شعبية، على نمط الانتفاضة الأولى، وإذا بمداخلات الفصائل، ولاسيما “فتح” و”حماس”، تحولها إلى انتفاضة، أو إلى مواجهات، مسلحة، لاسيما بانتهاجهما نمط العمليات التفجيرية، التي سهلت على إسرائيل إعادة احتلال مدن الضفة، وزعزعة كيان السلطة، وفرض الحصار على غزة، وإقامة السور الفاصل، وتقطيع أوصال الضفة، وتعزيز عزل القدس عن محيطها.
الجدير ذكره أن مسيرة العودة في غزة أعادت التذكير بتجربة أخرى مريرة تتمثل بمسيرة العودة في الجولان (حزيران/يونيو 2001)، التي أهدرت فيها حياة 26 شابًا فلسطينيًا، وجرح المئات، من دون تحقيق أي انجاز. ففي ذلك الوقت، أي في ذكرى هزيمة الخامس من حزيران (2011) سهل وشجّع النظام السوري، والفصائل التي تدور في فلكه، على تكرار مسيرة العودة السابقة (15 أيار 2011)، واستدرج لذلك بعض الشباب الوطنيين المتحمسين، لأغراض استغلال قضية فلسطين، وصرف الأنظار عما يجري في الداخل السوري، وقد تمخض ذلك، في حينه عن مذبحة، لأن إسرائيل كانت احتاطت لإجهاض هذه الحركة، وفق تجربة المسيرة السابقة). والمشكلة أن ذلك حصل في غزة أيضًا، إذ قضى ضحية المسيرة 18 شابًا، وجرح المئات، بسبب توحّش إسرائيل، ولأن العقليات الفصائلية، وعقليات الاستثمار السياسي الضيق ذاتها اشتغلت للتأثير في هذا الحراك.
هكذا، ومع التقدير لروح المبادرة والتحدي عند منظمي الحراك في غزة، فقد كان يجدر بهم ملاحظة، أن هذا الحراك سيبقى مقيدًا، ومحدودًا، ومثلاً، فإن هذا الحراك اقتصر على غزة؛ وهذا أولاً. ثانيًا، أنه جرى في ظل وضع فلسطيني رث، يتمثل بالانقسام، وبشعور فلسطيني عام بالإحباط، وثمة توظيفات سلطة حماس في غزة، إذ كان الأفضل لو ظل هذا الحراك شعبيًا، وتركه كي يتطور بفضل دينامياته الذاتية. ثالثًا، جرى هذا الحراك في ظل انهيار المشرق العربي، من العراق إلى سوريا، بمعنى أنه جرى في ظل وضع تعتبر إسرائيل نفسها فيه الدولة الأقوى والأكثر استقرارًا في المشرق العربي، ناهيك عن الدعم المطلق لها من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، الأمر الذي ينبغي إدراكه والتحوط له، لاسيما بعد الدخول في مغامرات غير محسوبة أو مدروسة أو لا يوجد قدرة على تحملها أو استثمارها. رابعًا، كان الأجدى للناشطين الفاعلين في هذا الحراك مراقبة ردة الفعل الإسرائيلية لحظة بلحظة، والتأكد من قدرتهم على السيطرة، وضمن ذلك تجنيب الشباب المتحمس المغامرة، غير المحسوبة، لأن إسرائيل سترد بكل الوسائل وهذا ما ينبغي الانتباه إليه.
أخيرًا، يظل ثمة مشكلة للفلسطينيين مفادها أنهم في غمرة تقديسهم العمل المسلح، بعفويته وتجريبيته، وافتقادهم لإمكانياته، أهملوا أشكال النضال الأخرى، الشعبية والسلمية، حتى أنهم نسوا الانتفاضة الأولى التي شكلت معلمًا مهمًا في كفاح الفلسطينيين المعاصر، ولعل الحراك الشعبي في غزة محاولة في تدارك هذا الأمر باستعادة روح الانتفاضة الأولى.
ولعل نقطة ضعف هذه الحراكات تنبع، أولاً، من الانقسام الفلسطيني، بين سلطتي الضفة وغزة، وبين حركتي فتح وحماس، ما يتطلب تحييدها عن هذا الواقع المؤسف، والتعامل معها بمسؤولية وطنية لجهة التأكيد على الحقوق الوطنية الفلسطينية وضمنها الحق في دولة وعاصمتها القدس وحق العودة للاجئين، ورفع الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة. وثانيًا، من حال الاضطراب والانهيار الذي تشهده بلدان المشرق العربي، التي تعتبر العمق الحيوي للشعب الفلسطيني، لأن هذا الوضع يفيد إسرائيل بإطلاق يدها في مواجهة الفلسطينيين، ويسهل لها البطش بهم، وهو مسار ينبغي تداركه أو الحذر من الوصول إليه.
تداعيات فلسطينية وإسرائيلية
عمومًا فقد استطاعت مسيرات العودة، أو الهبة الشعبية في قطاع غزة، على محدوديتها، تحريك الشارع الفلسطيني، في الضفة وفي مناطق 48، الأمر الذي تجلى واضحًا في مظاهرات مدينة حيفا (15-22/5)، التي قمعتها قوات الاحتلال بقسوة. وحتى على الصعيد الإسرائيلي فقد كان لهذه الحراكات دورها في إثارة الجدل بين الإسرائيليين، خصوصًا أن إسرائيل استخدمت الرصاص في مواجهة متظاهرين سلميين.
فهذا جدعون ليفي، المحلل الإسرائيلي المعروف، وصف الجيش الإسرائيلي بأنه جيش الذبح الإسرائيلي، في مقال جاء فيه: “عدّاد الموت ضرب بعنف. قتيل كل نصف ساعة وقتيل آخر وقتيل آخر.. حتى المساء كان هناك 15 جثة و758 مصابًا، جميعهم بالنار الحية. دبابات وقناصة ضد مدنيين غير مسلحين. هذه مذبحة، لا توجد كلمة أخرى … ماذا كان سيحدث لو أن متظاهرين يهود – إسرائيليين، مستوطنين، حريديين أو غيرهم، كانوا يهددون بالصعود على مبنى الكنيست. هل النار الحية المجنونة كهذه من الدبابات والقناصة كان سيتم تفهمها؟ هل قتل 15 متظاهرًا يهوديًا كان سيمر مرور الكرام هنا؟ … لا يوجد في إسرائيل شيء أرخص من دم الفلسطينيين. حتى لو قتل مئة أو ألف متظاهر..” (هآرتس 1/4/2018).
ورأت عميرة هس بأن إسرائيل، عبر عمليات القتل في غزة، كشفت وجهها الشرير وتجاوزت شرها المعياري (هآرتس 4/4). في حين اعتبر حامي شاليف أنه “للمرة الأولى منذ فترة طويلة، عاد النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني … إلى احتلال مكان مركزي في تقارير وسائل الإعلام الدولية … احتجاجات فلسطينية حاشدة وغير عنيفة، ظاهرًا، تجبر الجيش الإسرائيلي على قتل وجرح المدنيين العزل. التشبيه بالمهاتما غاندي، وجنوب أفريقيا، وحتى نضال السود من أجل المساواة في الولايات المتحدة، مهما كانت غير صحيحة وسطحية، ستؤطر في نهاية المطاف مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني.” (هآرتس، 2/4).
وبدوره، فقد انتقد أوري أفنيري بشده دولته، بقوله: “أنا أخجل من الجيش الذي أقسمت له بالولاء يوم تأسيسه. فهذا ليس الجيش الذي خدمت فيه. وأنا أخجل من الإعلام … وأنا أخجل من دولتي … تحولت إلى دولة قبيحة. أنا خائف … لا يوجد لدى حكومة إسرائيل أي رد آخر على مقاومة غير عنيفة … الجيش الذي يطلق النار على جمهور غير مسلح ليس جيشًا؛ هو بصعوبة مليشيا … من الذي انتصر حتى الآن؟ لا يوجد أدنى شك أن الفلسطينيين هم الذين انتصروا. لم يكن بالإمكان في ذلك اليوم أن تشاهد قناة تلفزة أجنبية دون رؤية الأعلام الفلسطينية وهي ترفرف أمام ناظرينا. بعد سنوات اختفت فيها تقريبًا القضية الفلسطينية من وسائل الإعلام الدولية، عادت وبقوة.” (“هآرتس”، 4/4).