تواجه الديمقراطية الليبرالية في نموذجها الأبرز (التمثيلي) ضغوطًا كثيفة لم تواجهها من قبل، وبالتحديد منذ صاغ معالمها الأساسية الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، منتصرًا لثورة البرلمان على العرش، مؤكدًا على حق التمثيل النيابي لجموع الشعب في البرلمان، وحق البرلمان في التشريع لجموع المواطنين. لقد مرت قرون ثلاثة وأربعة عشر عامًا على رحيل جون لوك (1632-1704)، تدفقت خلالها أربع موجات أساسية من الديمقراطية تجسد أولها في الثورتين الديمقراطيتين اللتين أسستا للنظام الجمهوري وهما: الأمريكية (1776) والفرنسية (1789)، وتمثلت الأخيرة في هجرة النظم السلطوية العالم ثالثية والأخرى الاشتراكية في شرق أوروبا إلى الديمقراطية الغربية أعقاب نهاية الحرب الباردة وانهيار حائط برلين (1989) ثم انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه (1991)، وهى أوسع موجات الديمقراطية انتشارًا وأكثرها عمقًا، لأن تدفقها صاحب بانهيار الإيديولوجية الأساسية المنافسة لها على حكم العالم طيلة قرن على الأقل، لعله الأهم في تاريخ العالم، ومن ثم ارتبطت بمقولات تبشيرية من قبيل الانتصار التاريخي أو التحول المفصلي، والتي بلغت ذروتها في مقولة نهاية التاريخ الأكثر غائية ودعائية.
في تلك الحقبة الانتشارية للديمقراطية نما بل ساد اعتقاد بأن كل تسامح سياسي أو تعايش سلمي محض قرين للديمقراطية الليبرالية، وهو فهم يتنافى مع الواقع التاريخي أو على الأقل يمثل اختزالاً قاتلاً له. ذلك أن التسامح كفضيلة إنسانية أو مبدأ سياسي ليس قرينًا للديمقراطية الليبرالية وحدها، ولا مرادفًا لها، إذ وجد في مراحل تاريخية أقدم بكثير من أواخر القرن الثامن عشر سواء في التاريخ المصري أو الإسلامي أو في تاريخ الصين المديد. وربما كان صحيحًا أن التسامح كمفهوم فلسفي اتسم بدرجة أعلى من العمق على مستوى الروح الفردية في ظل الديمقراطية الليبرالية استنادًا إلى مرجعية ثقافية تقدس الوجود الفردي، وتتأسس على قاعدة المجتمع التعاقدي، والمعيارية المطلقة للعقل البشري، وهي مرجعية لم تجد تجسدها الكامل حتى الآن سوى في الحداثة الغربية. غير أن هذا لا يجب أن يغطي على حقيقة أن الحداثة الغربية نفسها هي التي ارتكبت من الجرائم في حق الإنسانية ما لا يمكن حصره في هذا السياق، وإن كفانا هنا أن نتوقف عند الحربين العالميتين الأولى والثانية وضحاياهما من بني البشر ما يربو على 80 مليون إنسان، فضلاً عن وقائع التعذيب والاعتقال والنزوح التي لا تكاد تحصى.
مأزق الديمقراطية الليبرالية في قلاعها التاريخية
اليوم، بعد ربع قرن بالتمام من دعوى نهاية التاريخ عند نقطة وصول الديمقراطية الليبرالية وبنيتها التاريخية الرأسمالية، يبدو الأمر معكوسًا، حيث تواجه الديمقراطية أزمات في كل مكان تقريبًا، وتتعرض لموجات من الشعبوية والنزعات الفوضوية في قلب جغرافيتها التقليدية: أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. ففي أوروبا تقف الأحزاب التقليدية سواء كانت يمينية أو اشتراكية ديمقراطية والتي كانت تناوبت على الحكم طيلة العقود السبعة الماضية، عاجزة أمام خطر ذوبان وتبخر قواعدها الشعبية، وهي ظاهرة صاحبت التحول الفلسفي من فكر الحداثة إلى ما بعد الحداثة من ناحية، والتحول السسيولوجي من المجتمع الصناعي إلى ما بعد الصناعي من ناحية ثانية، حيث أفضت الثورة التكنولوجية منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي، والتي تسارع إيقاعها بمطالع القرن الحالي، خصوصًا مع بروز دور وسائط التواصل الاجتماعي، إلى تحولات في وسائل إنتاج المعلومات وتداولها على نحو يفضي إلى مزيد من ديمقراطية حركيتها ولكنه يقلل من مصداقيتها كونه يضعف آليات الرقابة عليها، فالكل صار منتجًا ومستهلكًا لها في الوقت نفسه.
وفضلاً عن عدم الدقة والرمادية تمكنت هذه الوسائط من خلق عالم افتراضي موازٍ، يتم فيه الصراع والجدل والحوار بعيدًا عن المنتديات الواقعية التي أخذت تضعف تدريجيًا حتى تكاد تموت، فلم يعد هناك اليوم من يذهب إلى ندوة ثقافية، أو يساهم في نشاط نقابي أو حزبي أو حتى اجتماع عام لتبادل الآراء، فطالما أن الشخص قادر على إبداء رأيه وليس فقط على سماع آراء الآخرين من شاشة تليفونه، فلماذا إذن يبذل جهده ووقته للذهاب إلى مكان اجتماع عام أو المشاركة في نشاط حزبي ؟. هذا التردد إزاء المشاركة في الاجتماعات العامة هو ما أشارت إليه نتائج دراسة أعدها معهد دراسات الديمقراطية في صوفيا، فحسب هذه الدراسة الحديثة تقلص حجم العضوية في الأحزاب خلال السنوات العشر الأخيرة في ألمانيا بنسبة 20%، وفي السويد 27% وفي النرويج 29%، وفي بريطانيا 36%. ويتضح من استطلاع أجراه المركز الفرنسي للأبحاث السياسية أن 12% ليس لديهم ثقة بالأحزاب السياسية القائمة، فيما رأى 67% أن الديمقراطية في فرنسا صارت شكلية، وذلك في وقت يترافق مع ظهور حزب “رابطة الشمال” في إيطاليا والذي يتبنى توجهًا عنصريًا معاديًا للمهاجرين والأجانب.
في هذا السياق يمكن فهم الموجة اليمينية والنزعات المحافظة، التي سادت القارة الأوروبية مؤخرًا انطلاقًا من بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي بقوة دفعها، إلى فرنسا التي تبدي ميلاً متزايدًا نحو اليمين السياسي سواء التقليدي، أو القومي العنصري إلى درجة الخوف من مجيء الأخير إلى الحكم، الأمر الذي أتى بالرئيس ماكرون إلى سدة الرئاسة بقوة الخوف من وقوعه أكثر منه بقوة الأيديولوجيا الراسخة أو الأحزاب التقليدية بل عبر التمرد عليهما، والتصرف خارج ما يعرف بـ “المؤسسة”. ثم إلى إيطاليا رفضًا لتعظيم دور الدولة الاقتصادي، ولسياسة الحكومة الاشتراكية هناك، فلم يفلت من تلك الموجة حتى الآن سوى النمسا، بينما تبقى ألمانيا معرضة لمخاطر، صحيح أنها لم تقتلع السيدة ميركل من موقعها ولكنها ضيقت الخناق عليها بما قد يفضي إلى تغييرات كبيرة في سياساتها الأكثر ديمقراطية وخصوصًا فيما يتعلق باستقبال اللاجئين والتسامح مع التنوع الثقافي، وبعض من دور الدولة في الاقتصاد، وقدر من العدالة الاجتماعية.
أما في الولايات المتحدة فقد بلغ اهتراء الديمقراطية حدًا بلغ انتخاب السيد ترامب رئيسًا، بكل ما يمثله من معاداة لمثل الحداثة السياسية كلها، ناهيك عن فقدانه لكل سمات الإنتلجنسيا من ثقافة سياسية معتبرة وسلوك شخصي رصين، إذ يبدو الرجل في خطابه السياسي حادًا وجذريًا، مثلما يبدو تصوره للعالم بسيطًا والحقيقة لديه جلية، يمكن بلوغها بيسر، فهو قريب الشبه بالتويتة التي يدونها مستخدمو تويتر، والتي يكثر هو من استخدامها، أو البوست الذي يكتبه رواد فيسبوك، بأكثر مما يشبه الفكرة لدى كاتب أو متفلسف أو حتى الخاطرة الأدبية في خيال القاص أو الروائي. قد يختلف المفكرون فيما بينهم على صعيد عمق التحليل، أو في درجة التمرد على المألوف، كما يختلف الأدباء في مساحات الخيال، أو في القدرة على السرد، ولكن يبقى لكليهما، المفكر والأديب، حق الادعاء بأنه مهموم بالإنسان، أو معني بالحقيقة، حسب أي تصور لها، ناهيك عما هو مؤكد من جد واجتهاد وعكوف يفرضه كتابة أي نص حتى لو كان سيئًا، فالسوء على هذا المستوى يعكس تراكمًا يحتاج إلى جهد ووقت.
وفي المقابل لا يملك مدون التويتة ولا كاتب البوست شيئًا من ذلك على الأرجح، فلا هو بحاجة إلى خيال إبداعي خصيب، ولا عقل تحليلي عميق، ولا اجتهاد إنساني دءوب. ربما كان هذا أو ذاك مهمومًا بقضية ما، ولكن اهتمامه بها يأتي على طريقته الخاصة جدًا، والانطباعية تمامًا، وعلى هذا فقد أعلن ترامب في أول قراراته عقب تسلم مقعده، ربما دون دراسة، في 20 يناير 2017 الانسحاب من اتفاقية التعاون الاقتصادي عبر الباسفيكي والتي تضم 12 بلدًا أغلبها آسيوي، محملاً هذه البلدان ما حاق بالولايات المتحدة من تراجع اقتصادي، وبالطبقة الوسطى البيضاء من إفقار متزايد. وقد يكون صحيحًا أن ما جرى في ربع القرن الماضي، من عولمة اقتصادية وخاصة حرية حركة البشر ورأس المال، قد أفضى إلى انتقال الكثير من الصناعات إلى البلدان الأسيوية في جنوب شرق القارة ثم في شرقها الأقصى، فلم يعد الأمر قصرًا على نهضة اليابان وتايوان وسنغافورة وهونج كونج وكوريا، بل أفسحت العولمة الطريق لدخول بلدان عديدة أخرى مثل الصين والهند وأندونيسيا وماليزيا وفيتنام؛ الأمر الذي أفضى إلى إعادة توزيع الثروة العالمية عبر المحيطات وبين القارات، وجعل من آسيا منطقة جذب اقتصادي هائلة، ورقمًا صعبًا في الاقتصاد العالمي، خصوصًا بعد القفزة الهائلة للكتلة الصينية الأكبر عالميًا ثم الكتلة الهندية. ولكن الصحيح أيضًا هو أن العولمة فكرة وصناعة أمريكية بالأساس، وأن هجرة صناعات الثورة الثانية، وبعض صناعات الثورة التكنولوجية خصوصًا الكمبيوتر والكومبيوتر المحمول، والموبايل، إلى بلدان آسيا، والتي أفضت إلى تبطل فئات من الطبقة العاملة أو الفئة الدنيا من الطبقة الوسطى، ذات المهارات العادية في دول الغرب، كانت بالأساس خيارًا للشركات الغربية متعددة الجنسية، بالذات الأمريكية منها أملاً في اكتناز المزيد من الثروة العالمية، وهو الفهم الذي سكتت عنه الدعاية الترامبية، ناهيك عن أن تأثر هاتين الطبقتين لم يكن ضرورة حتمية، بل كان ممكنًا لحكومات ديمقراطية رشيدة أن تستوعبها، وأن تقلل من الآثار الضارة للعولمة، لو أنها قامت بإعادة توزيع ولو جزئية للثروة بين الأغنياء والفقراء لديها، بما يسمح بردم الهوة المتزايدة بينهما، ولكنها لم تفعل ذلك بل تركت الاقتصاد للمضاربين الماليين، والمغامرين العقاريين، بما أدى لأزمات متلاحقة خصوصًا منذ العام 2008، دفعت المتضررين إلى الانتفاض ضد حركة العولمة كلها كتيار وبنية وحال كونية، أملاً في مزيد من الانكفاء على الذات، وإعادة احتباس الثروة والتقدم التكنولوجي في المجتمعات الغربية، وهو أمر لم يعد ممكنًا الآن.
وقد رافق هجاء العولمة وأعقبه، إعلان ترامب ازدراءه للسود الأفارقة، واللاتينيين وجل المهاجرين، وكذلك رغبته في بناء سور حاجز بين بلاده والمكسيك، وحظر سفر رعايا عشرات الدول إلى الولايات المتحدة، ناهيك بالطبع عن قراره الأحمق بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وصمته الإنساني عن اعتداءات إسرائيل على الفلسطينيين خصوصًا في غزة. كل ذلك وهو لا يزال يواجه إشكالات قانونية تخص عملية انتخابه وما رافق التحقيقات من ضغوط مارسها على المحققين للتستر على أخطائه، وهو ما أدى إلى إقالته محققين ومسئولين عدليين، ناهيك عن إقالة واستقالة عشرات المسئولين السياسيين في المخابرات والأمن القومي وفي وزارتي الخارجية والدفاع. وفي مقابل المبالغة في إبداء سطوته السياسية ضد مساعديه، يبدو السيد ترامب ضعيفًا جدًا ومترددًا أمام مافيا السلاح الشخصي، على سبيل المثال، رغم وقوع حادثتين كبيرتين بكل معيار: الأولى هي مذبحة لاس فيجاس التي ارتكبها “ستيفن بادوك”، وراح ضحيتها ستون شخصًا على الأقل، فضلاً عن خمسمائة جريح بإصابات متفاوتة، كان جميعهم ضحايا حق استخدام السلاح الشخصي (وهو حق يكفله التعديل الثاني للدستور الأمريكي منذ عام 1791). أما الثانية فهي حادثة القتل الجماعي التي جرت في مدرسة ثانوية بولاية فلوريدا والتي ارتكبها طالب سابق في المدرسة معروف بميوله العنيفة وتهديداته السابقة أودت بحياة سبعة عشر طالبًا بينهم طلاب ومدرسون وعابرو سبيل، كانوا ضحايا هذا الحق نفسه. وعلى المنوال نفسه لم يكن تدخل الرئيس حاسمًا، ولم يطالب الكونجرس بأي تشريعات ضد مالكي السلاح الشخصي، الذين يتساوى عددهم تقريبًا مع عدد سكان البلاد (270 مليون قطعة)، حيث يمثل لوبي صناع هذا السلاح أحد أقوى جماعات الضغط في الولايات المتحدة، الموالية للرئيس ترامب. بل إن أحد التحليلات قد ذهب إلى سعادته بالحادثة كونها هيمنت على وسائل الإعلام الأمريكية وحولتها بعيدًا من التركيز على الإخفاقات السياسية والمشكلات القانونية المحيطة بالرجل.
النموذج التمثيلي والديمقراطية العربية
بلغت الديمقراطية الليبرالية إذًا حدًا من الإنهاك صار مثيرًا للتفكير في مستقبلها، إذ لم تعد كما كانت قبل ربع القرن بمثابة أيقونة ينظر إليها باعتبارها نهاية التاريخ. في هذا السياق يظل اعتقادنا الشخصي هو سلامة الأسس القيم الجوهرية التي تنهض عليها الديمقراطية، فما تمثله من غايات تحررية، وما تصبو إليه من رشد القرار السياسي، أو تسعى إليه من ضمان إدارة التنوع الديني والقومي في الدولة الوطنية، إنما يبقى أهدافًا مشروعة: عقلانية وإنسانية. لكن وفي المقابل فإن جماع التحولات التاريخية المحيطة بها إنما تفضي إلى تغير في الطرائق التي تمارس من خلالها، وأعني بذلك الشكل “التمثيلي”، القائم على اختيار نواب عن الشعب، من خلال سباق حزبي، بما قد يفضي إلى أنواع جديدة من المشاركة المباشرة التي صارت التكنولوجيا تتيحها في هذا العصر على نحو لم يكن قائمًا في الماضي ولو القريب. نقول أنواعًا جديدة لأن القارئ العزيز يذكر قطعًا أن صورًا من تلك المشاركة المباشرة قد توفرت لدولة المدينة (اليونانية)، حينما كان يتم جمع الرجال الأحرار، دون العبيد والنساء ناهيك عن الأطفال، باعتبارهم المواطنين في ميدان عام للتشاور واتخاذ القرارات الكبرى. كما نذكر أن الشورى الإسلامية كانت تمثل شكلاً ديمقراطيًا في مجتمع المدينة (المنورة) حيث كان ممكنًا جمع المؤمنين في المسجد لاتخاذ القرارات المصيرية حول الجهاد مثلاً. وهو أمر لم يكن متصورًا في ظل الدولة الوطنية الحديثة، حيث التقدم الصناعي، والنمو السكاني، والاتساع الجغرافي ناهيك عن سيادة النزعة الإنسانية والأفكار المساواتية التي أنهت ظاهرة العبودية، ومنحت النساء حقوق المواطنة كاملة. ومن ثم فقد صارت الديمقراطية الأثينية، كالشورى الإسلامية، أمرًا مستحيلاً، وصار البديل الأكثر منطقية يتمثل في الديمقراطية التمثيلية، والتي يتم من خلالها اجتماع الشعب عبر نوابه تحت قبة برلمانية بديلة عن ميدان أثينا والمسجد النبوي، للتشاور واتخاذ القرارات الحاكمة.
اليوم، أصبح هذا النمط التمثيلي موضع تساؤل، والأغلب أن يشهد هو نفسه تحولات عديدة مستقبلاً، فطريقة التصويت أخذت في التغير الآن، وإن جزئيًا، بفعل التطورات التكنولوجية. وربما ساعدت هذه التطورات مستقبلاً، حال تسارعها وتراكمها، على إنتاج أشكال جديدة للحكم تتجاوز النظرية التمثيلية، ربما في اتجاه العودة إلى الديمقراطية المباشرة ولكن بصورة جديدة تتفق وبنية المجتمعات الكبيرة، من دون أن يعني ذلك تغييرًا في الغايات الأساسية والمثل العليا للحكم الرشيد، التي كانت قائمة في الماضي، ولا تزال صالحة للحاضر والمستقبل كالعدالة والحرية والمساواة. فبينما تمثل النظرية السياسية الديمقراطية، كآليات تنافس وإجراءات ممارسة، جزءًا من “المعرفة السياسية” المتغيرة بطبيعتها، تعكس هذه المثل والغايات جوهر الرؤية الأخلاقية للوجود الإنساني والتي لا سبيل إلى تغيرها بل يتوجب التأكيد دومًا عليها.
في هذا السياق التاريخي، نجد أن جل الفتوحات السياسية والإنجازات الحضارية للعرب المسلمين قد تحققت خلال عصور الاستبداد السلطاني، خصوصًا في العصر الأموي والعباسي الأول، وهو أمر لا يرجع إلى ميزة خاصة في الاستبداد نفسه بل إلى روح العصر الذي تحققت فيه، حيث كان الاستبداد يعم أرجاء المعمورة ولم تكن فكرة الحرية قد نضجت في التاريخ بعد، وبالتالي لم يكن المسلمون متخلفين عن مسارها قياسًا إلى غيرهم، بينما تميزوا عليهم بقوة دفع الدين الجديد الذي منح الجماعة المسلمة حيوية حضارية كبرى طيلة دورة تاريخية كاملة، حتى إذا ما استُنفدت تلك الاندفاعة الكبرى، وآلت حركتها إلى الركود شيئًا فشيئًا، كان ذلك بمثابة انقلاب جذري في دورة التاريخ العربي.
وهنا تكمن المفارقة التي تفسر كيف أمكن للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان أن ينجز مصلحة الأمة بالاستبداد في بداية تاريخها، وكيف أوقعها الرئيس العلوي بشار الأسد فريسة للأمم بفعل الاستبداد نفسه في حاضر زمانها.. إنها الأبنية التاريخية وقد تغير منطق عملها بفعل أثير الحرية، الذي كان غائبًا عن العصر التقليدي، ولكنه استمر غائبًا كذلك عن الزمن العربي الحديث. وبغيابه استمر الأسلوب القديم في صياغة الشرعية، أو بالأحرى في تجاوز مسألة الشرعية حتى وصلت الثقافة السياسية العربية إلى القرن العشرين مرهقة، قابلة لنموذج المستبد العادل الذي كان الإمام محمد عبده قد أومأ إليه، متنازلاً عن الحرية طلبًا للعدل. غير أن التاريخ كله، وهنا المشكلة الكبرى، لم يشهد ذلك التزاوج السلس بين الاستبداد والعدل. فقد يأتي مستبد عادل فعلاً، ويكون عهده زاخرًا بالرخاء حقًا، ولكنه يبقى صدفة رائعة لا تتكرر كثيرًا. أما الاستبداد نفسه فهو بنية معقدة، تقود إلى الفساد والترهل والركود. وهكذا يعجز الحاكم المستبد، ولو كان عادلاً، عن إقامة مجتمع العدل، بفعل قيدين أساسيين:
الأول: يتعلق بطبيعة المجتمع الحديث، الموسوم بالاتساع الكبير والقائم على التخصص وتقسيم العمل، بحيث يصعب على الحاكم الفرد ممارسة عدله على كامل نطاق دولته، فطاقته الإنسانية محدودة، وقدرته على المتابعة ضئيلة. كما يصعب عليه فهم كل الظواهر المحيطة به، لشدة تخصصها. ومن ثم فهو إما غير قادر على رؤية كل شيء بنفسه، وإما أنه غير قادر على فهم حقيقة كل ما يراه. وفي الحالين يكون مضطرًا للاستعانة بآخرين، إما لينقلوا إليه ما لم يره بنفسه وهم (رجال السياسة والإدارة) أو ليحللوا له ما استغلق عليه فهمه وهم (رجال العلم والمعرفة). وهكذا يتحول هؤلاء الرجال من الصنفين، إلى حكام حقيقيين سرعان ما يصطبغون بالبيئة السياسية التي يعملون في سياقها: فهي إما بيئة ديمقراطية، تجعل منهم نخبة حاكمة جيدة، خشية عقاب القانون ورقابة البرلمان، وسطوة الإعلام، وضغوط الصحافة. وإما بيئة تسلط وفساد، يتحولون فيها إلى بطانة سوء، وجماعة مصلحة، لا تتنافس مع آخرين للفوز بالسلطة، بل تجد السلطة في يدها، كثمرة يانعة تقبض على زمامها بسهولة لتدير بها منافعها.
أما الثاني فيتعلق بالطبيعة الإنسانية المحدودة بالزمن، فالحاكم مهما كان صحيح البدن له عمر لا يستطيع تجاوزه، وعندها يرثه آخرون غالبًا ما يكون استبدادهم أمرًا مؤكدًا، وعدلهم أمرًا استثنائيًا.. وهكذا يعطينا التاريخ أحد أهم دروسه، كاشفًا لنا عن حكمته وهي أن المستبد العادل محض صدفة سعيدة قد تواتي بعض المجتمعات، يستحيل انتظارها. أما العدل فقيمة كبرى يتعين على المجتمعات تأسيسها، كي تبقى سيدة لنفسها، مالكة لمصيرها، عصية على الغواية والخداع.
ولأن المجتمعات العربية المعاصرة تأخرت في استيعاب درس التاريخ، فقد أخفقت في مراكمة تراث ديمقراطي معتبر، حيث سعت النخب الوطنية التي حكمتها بعد الاستقلال عن الخلافة العثمانية، إلى وراثة النموذج الرعوي، والحلول بديلاً من النخب التركية، فأسست نظمها على قاعدة العسكرة المجتمعية والشمولية السياسية وتمدد الجيش في الحياة المدنية، وإجمالاً من خلال الدمج الشديد بين المجتمع القاعدي والوظيفة العسكرية، ولذا فقد أفلت العالم العربي من قبضة المد الديمقراطي الذي فاض على التاريخ الحديث في موجات عدة، خصوصًا الموجة الديمقراطية الثالثة التي أعادت صوغ العديد من نظم الحكم في العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ثم الموجة الرابعة التي هبت رياحها على عالم ما بعد الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن العشرين، لتقتلع معظم النظم الشمولية سواء الأيديولوجية ضمن الكتلة الشيوعية المتهرئة، أو التسلطية الفجة المهيمنة على بلدان العالم الثالث. وهنا أخذ الكثيرون داخل العالم العربي وخارجه يتحدثون عن الاستعصاء الديمقراطي العربي، أي البقاء خارج إطار التحول في التاريخ العالمي.
هذا الوضع التاريخي المأزوم هو الذي انطلقت منه ثورتا تونس ومصر، لتشعلا شرارة “الربيع العربي” الذي يكاد يمثل “مفارقة” إذ سلك طريقًا تاريخيًا يتوسل أدوات الثورة التكنولوجية الثالثة، ومفاهيم ما بعد الحداثة، ثم عاد لتضع مجتمعاتنا الثائرة في قبضة نزعات إسلاموية / تقليدية بتلاوينها المختلفة التي تراوح بين الاعتدال والتطرف. تفسير هذه المفارقة أن الربيع العربي افتقد لما يسمى في الأدب السياسي بـ “الإنتلجنسيا”، تلك الطبقة المثقفة المناضلة القادرة على نشر الوعي الثوري وقيادته. كما خلا من تنظيمات طليعية / حزبية / نقابية قادرة على استلام السلطة حال نجاح الثورة كما كان اليعاقبة إبان الثورة الفرنسية، أو البلاشفة إبان الثورة الشيوعية. ومن ثم تقدمت الجماهير على النحو الذي تشي به النظرية الثقافية لـ (ما بعد الحداثة)، خصوصًا لدى رولان بارت الذي أعلن عن “موت المؤلف” قاصدًا ذات “المبدع” الفكري ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي للمجتمع، لحساب أولوية (المتلقي) حيث يموت المؤلف أو يذبل ويعيش القارئ أو يزدهر، وتتاح له فرصة المشاركة في كتابة النص من خلال إعادة تأويله، ابتعادًا عن السرديات / الأبنية الفكرية والتاريخية الحاكمة لمناهج المعرفة ومعايير التذوق الجمالي والأخلاقي الحداثي.
الأمر نفسه جرى تعميمه على الطبقة الثورية التي تخلت عن دورها لصالح جماهير عريضة أصبحت في ظل الثورة المعلوماتية وأدوات التفاعل التواصلي، بمثابة إنتلجنسيا واسعة وحاضن اجتماعي للفعل الثوري. ففي عالم ما بعد حداثي يرفض مركزية القرار، ويعترف كثيرًا بحرية الجماهير في صناعة الحدث، لم يكن غياب القيادة المنظمة أو الأيديولوجية الحافزة عائقًا أمام اندلاع الثورة، بل وتمكنها من الإطاحة بالنظم الاستبدادية القائمة. ولكنها في المقابل عجزت عن بناء البديل، وهو أمر طبيعي نظنه مؤقتًا. فالأفكار، مهما كانت جاذبيتها، لا تستطيع سوى أن تلهم وتحفز، ولكنها لا تستطيع أن تحكم وتبني نظامًا يظل بحاجة إلى قيادة مباشرة في عالم واقعي لا افتراضي. وربما لهذا تمكن الإخوان المسلمون الأكثر تنظيمًا من السيطرة على مسار الربيع العربي، مع حلفائهم السلفيين والجهاديين الأكثر رجعية وتطرفًا على نحو أوصلنا إلى مرحلة انفجار الدولة الوطنية العربية من داخلها؛ الأمر الذي يكشف عن مأزق عميق يواجه الديمقراطية في المجال العربي يمكن وصفه بالانسداد وربما الاستحالة التاريخية.
لكن وعلى الرغم من ذلك، تبدو مجتمعاتنا أحوج ما تكون لإنجاز المهمة خلاصًا من أمراض السلطة الجامدة، وأسئلة الشرعية المجمدة ناهيك عن الواقع المهترئ. صحيح أن الأرض لا تزال محترقة والإسلام السياسي لا يزال حاضرًا، ولكن تبقى الفرصة متاحة لمثل هذا الهجوم مثلما أن الحاجة إليه ماسة، ذلك أن الفترات القلقة من عمر الزمن والتي تشهد تشككًا في اليقينيات السياسية والدينية، كالتي نعيشها اليوم، هي نفسها الفترات التي يُقبل فيها الناس على تمحيص مفاهيمهم المستقرة، مع إمكانية قبول أخرى جديدة، حيث الاختراق الديمقراطي يمثل فريضة الوقت، التي لا يجب تأجيلها إلى الغد.
غير أن نجاح مثل هذا الاختراق يتطلب التخلي، عن حال التصلب التي تورط فيها كثيرون من رواد الفكر العلماني العربي، وعن الطروحات الحدية للإشكالية التي انبروا للدفاع عنها، حيث الحاجة شديدة لأكثر الأطروحات نجاعة “نظريًا” في بناء الجسور وتحقيق التصالح بين الدين والعلمانية، على نحو يضمن أن لا يصبح الدين آلية جهنمية في الصراع على السلطة ومناكفة الشرعية، وأن لا تواصل العلمانية مطاردتها للدين في المجال الخاص فتتورط في السعي إلى علمنة الأخلاق، بما قد يثير حنق المؤمنين عليها ويزيد من رفضهم لها. وكذلك أكثر النماذج نجاحًا “تاريخيًا” في تجسيد هذا التصالح، أملاً في صوغ تيار رئيسي قادر على أن تجسيد دفق حركة مجتمعاتنا إلى المستقبل رغم ممانعات متصورة من تيارات مناوئة، ربما لا يمكن القضاء عليها نهائيًا، ولكن يمكن إزاحتها إلى الخلف أو إحالتها إلى هامش يعارض ولا يعطل.
كما يتوجب التعاطي بمرونة مع أشكال “مركبة” و “مرنة” من التطبيقات الديمقراطية، فليس محتمًا أن يجري الإصرار على تنفيذ الشكل “النموذجي” الغربي بتمامه بل يمكن التأكيد فقط أولاً على القيم الجوهرية له من قبيل الحكم الرشيد وسيادة القانون واحترام التعدد الديني في المجتمع والتعويل على مبدأ المواطنة باعتباره المفهوم الجامع واللحمة الأساسية للتعامل بين المواطنين من ناحية، وبينهم وبين الدولة من ناحية أخرى. وإذا كانت هناك دولاً مثل روسيا الاتحادية تمكنت في العقدين الماضيين من النهوض مجددًا من كبوتها التاريخية اللاحقة على السقوط السوفيتي، والعودة إلى المشاركة في النظام العالمي انطلاقًا من نظام ديمقراطي غير ليبرالي، ومجتمع مدني لا يزال هشًا تتحكم فيه الدولة، ولكن أيضًا من خلال تماسك وطني شديد وفعالية سياسية ملموسة في العلاقات الدولية، ناهيك بالطبع عن تجربة تنمية اقتصادية ناجحة حققت مستوى من الرفاه المادي يقترب ولو قليلاً من مستوياته الغربية، فمن الممكن مقاربة هذا النموذج عربيًا، ولعل هذا ما يجري الآن في مصر، باعتباره خطوة انتقالية على الطريق إلى الديمقراطية الليبرالية. وفي هذا السياق ربما يكون مفيدًا أن نستحضر ما ذهب المفكر الأمريكي الكبير الراحل جون رولز، صاحب نظرية العدالة، من نقد حالة التعصب لـ “الديمقراطية الليبرالية”، باعتبارها الطريق الوحيد إلى الرشد السياسي؛ لأن التعصب لليبرالية أو لأي فكرة أخرى دينية أو فلسفية، لا ينتج سوى أسوأ نزعات الشر لدى الإنسان. ومن ثم يرفض رولز اعتبار الديمقراطية الليبرالية غاية تُطلب لذاتها، فالغايات لابد أن تكون أسمى، ومحل اعتبار من كل الأمم، وذلك من قبيل التنمية الاقتصادية، العدالة الدولية، والسلام العالمي، ولتبقى الديمقراطية الليبرالية مجرد وسيلة، ضمن وسائل أخرى، لبلوغهما. ومن ثم يتصور رولز، كما يقبل، وجود دول / أمم منضبطة، تمارس سياسات عقلانية، وتندمج في الاقتصاد الدولي، والنظام العالمي، وتسهم أيضًا في حركة التاريخ ولكن من داخل خصوصياتها الثقافية التي تتجاوز الحدود الضيقة للديمقراطية الليبرالية، التي قد يؤدي إعمالها كمرجعية وحيدة للحضارة الإنسانية إلى تخريب السلم العالمي وإشعال حرائق غير محدودة.