أحدثت أزمة انتشار فيروس كورونا المتحول (كوفيد-19) عن هزة عميقة في الأوضاع الوطنية والعالمية. وصار شبه مؤكد أن تلك الأزمة ستتسبب في تحولات عميقة على المستويات الداخلية والخارجية، وإن لم تظهر آثارها سريعاً. ومن أهم التأثيرات المرتبطة بهذه الأزمة الشاملة، انعكاسها المباشر على “العولمة” بما يعنيه ذلك من تغيرات متوقعة في آلياتها وأولوياتها. وقبل ذلك في أطرافها وفاعليها الرئيسيين. وبعد أن كانت “الدول” بمعنى السلطة المركزية والحكومات، بعيدة أو مستبعدة من المد الجامح للعولمة خلال العقدين الماضيين. بات جليّا أن “كورونا” أعاد للدولة اعتبارها. وأن وطأة الأزمة وأعباءها ومفاجآتها، قد منحت الحكومات فرصة ذهبية للعودة إلى مواقعها والاضطلاع بمهام أساسية كانت تخلت عنها بسبب العولمة، لصالح العولمة.
أولاً: تأكيد المؤكد:
هناك حقائق ربما توارت في الأعوام الماضية، أو لم تكن واضحة بما يكفي، قبل أن تعيد أزمة وباء كورونا اكتشافها وإبرازها أمام العالم مجدداً.
من أهم تلك الحقائق، أن العولمة ليست ظاهرة جديدة على العالم. فهي ملازمة للوجود البشري. وكانت حاضرة دائماً بدرجات وأشكال متفاوتة. بدأت في العالم القديم بانتقال البشر سعياً وراء الرزق أو امتلاك أراضٍ أو نشر الأديان. وترافق ذلك مع تنامي حركة التجارة ورحلات المستكشفين، وبعد ذلك تجارة الرقيق والموجات الاستعمارية للاستيلاء على المواد الخام والموارد الطبيعية والبشرية.
وتطورت العولمة واتسع نطاقها جغرافياً وموضوعياً، مع اتساع نطاق المعلوم والمكتشف من الكرة الأرضية، وصولاً إلى العولمة المعاصرة. التي تجمع مكوناتها بين المصادر الأولية والأيدي العاملة وتقنيات التصنيع والأسواق المستهلكة، عبر ممرات التجارة ونقاط العبور وشبكات الإمداد وسلاسل التوريد. وتعتمد في كل ذلك على معارف متقدمة في الاتصالات وأدوات نقدية ومصرفية تتيح تنقل الاستثمارات وتسهل الاستحواذ والتشبيك. وفي كل المراحل، كان المحتوى الاقتصادي هو الغالب على مفردات ومسارات العولمة.
لكن العولمة لم تكن تسير دائماً في اتجاه واحد إيجابي. فقد شهدت انتكاسات ومحطات أعادت العالم ولو جزئياً إلى أوضاعه السابقة، وكان أحياناً ينكفئ مرتداً إلى نطاقات وهويات ضيقة. ثم سرعان ما تستأنف الطبيعة البشرية مسيرة العولمة بحكم النزوع الإنساني الفطري إلى التواصل والتفاعل([1]).
ومن حقائق العالم المعاصر أيضاً، أن “الدولة” هي الوحدة السياسية الرئيسية في النظام العالمي والصيغة الأكثر رسوخاً وتطوراً لتنظيم وإدارة حياة الشعوب. لم يغير من هذه الحقيقة أو ينتقص منها، ظهور فاعلين آخرين مؤثرين في حركة التفاعلات العالمية، ولا ما تعرضت له الدولة من محاولات تهميش وإضعاف وتجاوز. فحتى وإن كانت الدولة ضعيفة أو محدودة القوة والقدرات، تظل “دولة” ما دامت تمتلك مقوماتها الأساسية المتعارف عليها (أرض فوقها شعب يملك الحكم والسيادة عليها).
ثانياً: فيروس يشلّ العولمة:
تسبب ظهور وانتشار وباء كورونا في تأثيرات آنية مباشرة، فضلاً عما سيترتب عليه من تداعيات لاحقة. ومن بين سياقات متعددة لتلك التأثيرات والتداعيات، ما يتعلق بانعكاس الأزمة على العولمة، من زاوية محددة هي موقع ووزن الدول فيها. وتحديداً وضعية وصلاحيات وأدوار “الحكومة” أو “السلطة المركزية” مقارنة بما كانت عليه العولمة قبل الأزمة.
تجلّت أولى البصمات المباشرة لكورونا، في الركود الذي أصاب اقتصادات معظم دول العالم، سواء المتقدمة أو النامية. بفعل الانخفاض الحاد في الإيرادات العامة، سواء بالنسبة للاقتصادات الصناعية نتيجة إجراءات التباعد وقيود الإغلاق وانحسار الصادرات، أو في الاقتصادات الخدمية بسبب تراجع الطلب على الخدمات بمختلف قطاعاتها. وتأثرت كل الدول بهبوط وتيرة التفاعلات الخارجية من تبادلات تجارية وسياحة وطيران وملاحة وتدفقات نقدية ومصرفية.
فرض هذا الركود العام أعباء عاجلة على الحكومات في مختلف الدول؛ لمواجهة نقص الاحتياطي النقدي وتغطية العجز المفاجئ في حصيلة الإيرادات الحكومية العامة وبالتالي اختلال ميزان المدفوعات، فضلاً عن زيادة النفقات على نحو غير متوقع؛ لتدبير التمويل اللازم للتعامل مع أزمة كورونا بجوانبها المتعددة. وفضلاً عن المسؤولية المباشرة التي تحمّلتها الحكومات والمؤسسات التنفيذية في كل الدول لمواجهة هذا المأزق المفاجئ. وجدت الحكومات أيضاً نفسها مطالبة بالمساهمة في تحمل جزء من الخسائر والأعباء التي فرضتها الأزمة على القطاع الخاص، وأصحاب الأعمال والأنشطة الاقتصادية بمختلف أنواعها. وفي كثير من الدول، كان للأنشطة الاقتصادية غير النظامية أو ما يعرف بالاقتصاد “غير الرسمي” نصيب كبير من تلك الخسائر والأعباء. الأمر الذي فاقم مسؤوليات وأعباء حكومات الدول، فهي في النهاية التي تضطلع بإدارة الدولة وتأمين حياة الشعب.
الأثر الثاني المباشر الذي فرضته أزمة كورونا على الحكومات والمؤسسات الرسمية، هو الاستنزاف واسع النطاق لقدرات وإمكانات الدولة في الخدمات الأساسية، خصوصاً المنظومة الصحية. نتيجة الضغط الاستثنائي كماً ونوعاً على كل عناصر ومكونات تلك المنظومة، سواء المادية كالمنشآت العلاجية والمستلزمات الطبية والأدوية، أو البشرية كالأطباء والتمريض والعاملين في القطاع الصحي بشكل عام.
ونتيجة الأثرين السابقين؛ برزت بشدة أدوار وتحركات الدول ومؤسساتها الوطنية، واضطلعت الحكومات بالنصيب الأكبر من تلك الأدوار، ليس فقط على مستوى التخطيط وإدارة الأزمة والتنسيق بين مختلف المؤسسات والكيانات الوطنية الرسمية، لكن أيضاً بالمشاركة في التنفيذ الفعلي للخطط والقرارات التي يتم اتخاذها وفقاً لتطورات الأزمة. فكان تصدي الحكومات للأزمة، وإن كان إجبارياً، بمثابة إحياء جديد للدولة كفاعل عالمي، وتذكير عملي بمحورية الحكومة أو السلطة المركزية كفاعل محلي رئيس.
في الوقت ذاته، يصعب إصدار حكم قاطع أحادي بشأن تقييم سلبية أو إيجابية انعكاسات الأزمة على وضعية أو وزن الكيان السياسي المسمى “الدولة” في المنظومة الكونية. فمقابل استعادة السلطة والسيطرة وإدارة السياسات الداخلية والخارجية، تحملت الدول ممثلة في حكوماتها، الأعباء والتحديات المصاحبة للأزمة، وستتحمل فيما بعد النتائج والتداعيات اللاحقة. وسيعتمد تقييم استفادة أو تضرر الدول وسلطاتها بفعل الأزمة، على مدى النجاح في إدارة الأزمة والخروج منها بأقل الخسائر.
ثانياً: خلل هيكلي في العولمة:
العولمة آلية وروابط، تجسدها هياكل وكيانات تتولى ترجمتها إلى تدفقات وتفاعلات متبادلة، تفضي إلى مصالح ومكاسب أو خسائر وتحديات.
تتنوع تلك الهياكل بين ثلاث مستويات أو أنماط من الكيانات أو الأطراف الفاعلة والمحركة للعولمة، وهي المنظمات الدولية، والدول سواء القوية الكبرى التي يمكن اعتبارها (المرسلة/ المصدرة) في مسار تدفقات العولمة أو الأقل تأثيراً (المتلقية) للعولمة، والشركات العابرة للحدود (متعددة الجنسيات).
المنظمات الدولية ليست فاعلا مستقلا بذاتها، وإنما هي تابعة ومرتبطة في نشاطاتها وتوجهاتها بالدول الأعضاء فيها، وحسب ميزان القوى القائم داخل كل منها. لذلك، لم يكن للمنظمات الدولية دور مستقل في إيجاد وتشكيل الصيغة المعاصرة للعولمة، وإنما فقط في إدارتها وضبط تفاعلاتها تحت ستار تنظيمي. بينما كانت الدول هي المحرك الفعلي وصاحب المصلحة. وكان للدول الكبرى المهيمنة _ولو نسبياً_ على النظام العالمي، التأثير الأكبر في توجيه بوصلة العولمة ووضع قواعد وآليات عملها، من خلال النفوذ داخل المنظمات الدولية. وغنيٌّ عن البيان أن تلك الدول هي المعنية بحركة التجارة والتدفقات الاقتصادية وحركة انتقال العمالة والاستثمارات وغيرها، أي المستفيدة من مكونات ومسارات العولمة.
إذاً يمكن اعتبار المنظمات الدولية مجرد صيغة تنظيمية تؤمن آلية تمرير جماعية لتوجهات حزمة الدول الأقوى وبالتالي الأكثر نفوذاً على مستوى العالم ونفاذية إلى سياسات وأوضاع الدول الأضعف.
ومع ظهور وباء كورونا وانتشاره، انكشف ضعف المنظمات الدولية وحقيقة افتقادها مقومات “الفاعل” المستقل في النظام العالمي، وذلك ببساطة، لأن انشغال الدول سواء الكبرى أو غيرها بمواجهة الأزمة بشكل فردي، فضح عدم فعالية المنظمات والتكتلات الدولية (والإقليمية أيضاً). بما في ذلك المنظمات المتخصصة التي يفترض أنها تلعب دوراً وظيفياً في المجتمع العالمي. وتجسد “منظمة الصحة العالمية” مثالاً صارخاً على ذلك، ففي أزمة يفترض أن تكون الكلمة العليا فيها لتلك المنظمة، تحركت دول العالم كل على حدة ووفق تقديراتها وقدراتها. دون التفات لتقديرات أو بيانات أو تحركات المنظمة، التي لم تثبت بالفعل أي جدارة للاضطلاع بمهمة إدارة الأزمة على المستوى العالمي.
فقد كان المتصور أن تكون منظمة الصحة العالمية الطرف العالمي المسؤول مباشرة وبصورة شبه حصرية عن إدارة أزمة كورونا. بأن تتولى تنظيم وتوجيه عملية مواجهة الوباء على المستويين الوطني والعالمي. بالتنسيق مع الدول المعنية، وبالاستعانة بالدول الأكثر قدرة وموارد، وبوضع أولويات واستراتيجية عامة شاملة موزعة إلى خطط فرعية ومرحلية زمنياً وجغرافياً تعمل بديناميكية للتعامل مع الوباء.
غير أن أداء المنظمة في التصدي للوباء جاء ضعيفاً إلى حد بعيد. خاصة أنها تعتمد في جانب كبير من تقديراتها، على البيانات الرسمية. ويتأثر عملها بمدى التعاون والتسهيلات التي تقدمها لها حكومات الدول.
وضع الشركات العابرة للحدود والمتعددة الجنسيات، في ظل أزمة كورونا، ليس أفضل كثيراً من حال المنظمات الدولية. فقد تكبدت خسائر مباشرة ضخمة من تراجع تدفقات العولمة خصوصاً في حركة التجارة الدولية. وحاولت بعض تلك الشركات المساعدة في إدارة الأزمة بتقديم مساعدات مباشرة، أو توظيف أنشطتها للمساهمة في مواجهة الوباء بالتخلي عن حقوق الملكية (كما فعلت كبرى شركات تصنيع أجهزة التنفس الصناعي) أو بالتحول إلى تصنيع أو توريد مستلزمات طبية ووقائية.
لكن ظلت هذه التحركات محصورة بنسبة كبيرة في الدول التي تأسست فيها هذه الشركات، أو التي تقع بها المصانع والمنشآت الرئيسة التابعة لها. وفي كل الأحوال كانت أدوار وإسهامات تلك الشركات تخضع للقواعد والإجراءات والخطط التي وضعتها حكومات الدول والسلطات المركزية لإدارة الأزمة على المستوى الوطني. وينطبق الأمر ذاته (أي التحرك من خلال الحكومات) على كل الكيانات الاقتصادية والاستثمارية بل وأيضاً المنظمات غير الحكومية وتنظيمات المجتمع المدني ورجال الأعمال.
المعنى، أنه مع أول اختبار حقيقي واجه فيه العالم أزمة شاملة “معولمة” بحق لم تنجح هياكل وكيانات وروابط العولمة في التصدي لها بشكل مستقل أو حتى بمحاولة “عولمة” مواجهتها. وإنما ارتدت جميعها لتعمل من خلال الوحدة الأساسية في النظام العالمي (الدولة) وتنضوي تحت لوائها حتى اجتياز الأزمة.
وبات واضحاً أن العولمة، قائمة وفعالة، ما لم يتعرض العالم لأزمات أو مشكلات كبيرة “معولمة”. وهو ما يعني أن العولمة غير صالحة للعمل، إلا في بيئة مثالية أو على الأقل مواتية([2]).
بمد الخط على استقامته، من شأن هذا التحليل أن ينتهي بنسف فكرة “الاعتماد المتبادل المرن”([3]) التي تفترض قدرة العالم بوحداته وفواعله و”عولمته”، على التكيف ومعالجة المشكلات والأزمات والتهديدات التي تجابهه. وهو الافتراض الذي انكشف وثبت فشله التام أمام أول تهديد حقيقي واسع النطاق. وهو إن كان تهديداً تقليدياً بل بدائي في ذاته (فيروس/مرض/ وباء) إلا أنه تحول إلى تهديد غير تقليدي بسب اتساع نطاق انتشاره الجغرافي وامتداد تداعياته إلى مختلف المجالات.
ثالثاً: السلطات المركزية في المقدمة:
لم يعد محل جدل أن الحكومات والسلطات المركزية في الدول هي التي تصدت لأزمة كورونا، بعد أن انكشاف العولمة واتضاح أنها فاقدة من الأساس لمقومات خوض تلك المعركة التي ساعدت العولمة بتشابكاتها الهشة مثل خيوط العنكبوت على وقوعها.
وبينما قامت كل الدول بفرض إجراءات عزل وتباعد وخطوات وقائية، إلا أن بعضها فقط نجح في ذلك من البداية، ولحقها البعض الآخر. بينما لا تزال دول كثيرة تعاني بشدة من وطأة الوباء وانتشاره. واشتركت في تلك الحالات الثلاث، دول متباينة في نظمها السياسية والاقتصادية، ودول فقيرة وأخرى غنية.
بالتالي من الصعوبة بمكان ربط نجاح أو تعثر أو إخفاق دولة أو حكومة أمام كورونا إلى عامل واحد. فالصين لم تنجح في مواجهة الوباء بسبب سيطرة الدولة أو القيود والإجراءات المشددة وصرامة تطبيقها، وإنما أيضاً لتوافر الإمكانات الضخمة اللازمة لتخطيط وتنفيذ خطة شاملة للخروج من الأزمة. بما في ذلك القدرات البشرية العالية كماً ونوعاً، وبنية تحتية كفء في مختلف المجالات والخدمات، خصوصاً في قطاع الصحة والقطاعات المكملة له بما فيها الطب والتمريض وبحث العلمي. إضافة إلى توافر عاملين شديدي الأهمية، الأول هو توافر الاحتياطي النقدي والموارد المالية اللازمة لتمويل وتغطية إجراءات مواجهة الأزمة وتغطية الخسائر المرتبطة بها على المستويين القومي والفردي. وفي المقابل، وهكذا كان الحال في كل الدول التي نجحت أو لا تزال قادرة على مواجهة وإدارة أزمة انتشار الوباء. فأياً كانت الطبيعة السياسية لتلك الدول أو تركيبة وخصائص نظم الحكم فيها، الثابت أنها اشتركت جميعها في توافر الإمكانات اللازمة والقدرات الضرورية للعامل مع هكذا أزمات. سواء كانت الدولة ديمقراطية سياسياً ورأسمالية اقتصادياً (بالمعنى الليبرالي الغربي)، أو تتبنى أي نظام سياسي مغاير أو توجه اقتصادي مختلف. ولعل هذا ما يفسر فشل إيطالياً في مواجهة الأزمة وانهيار المنظومة الصحية هناك. بسبب ضعف وهشاشة الوضع الاقتصادي والمرور بعدة أزمات واختناقات منذ الأزمة المالية عام 2008. وكذلك الأمر بالنسبة لدولة مثل إيران، تشبه الصين في قوة وقبضة نظامها السياسي، لكنها افتقدت الإمكانات اللازمة، إضافة إلى عنصر آخر شديد الأهمية، وهو كفاءة إدارة الأزمة.
فلكفاءة أو ضعف “إدارة الأزمة” دور جوهري في إبراز أو تشويه دور “الدولة” في مواجهة كورونا، وهذا أيضاً غير مرتبط بطبيعة الدولة ونظاميها السياسي والاقتصادي أو نمط السياسات العامة التي تتبناها، وإلا لكانت الولايات المتحدة وفرنسا الأسرع في تجاوز مرحلة الذروة والأسبق في الخروج من الأزمة. بينما نجحت في ذلك كل من اليابان وكوريا الجنوبية. في حين أن دولاً مثل السودان وكوريا الشمالية ولبنان، لم تشهد من البداية سوى وجود ضئيل نسبياً للوباء، وليس تفشياً واسع النطاق.
المعنى أن جوهرية دور الدولة التي تأكدت وصارت بارزة للعيان، لا تعني أن الدول تنجح تلقائياً في مواجهة هكذا أزمات لمجرد اتخاذ خطوات قاسية ومشددة وتطبيقها بصرامة وتفعيل مركزية السلطة في السيطرة والإجراءات، لكن أيضاً بكفاءة وواقعية التعامل معها. وأيضاً بالاستناد إلى نجاحات سابقة للسياسات وإدارة الدولة في الأحوال العادية، وقوة وتماسك الأوضاع الداخلية من قبل الأزمة. واختلال أو غياب أي من تلك العوامل، يكفي لتدهور الموقف وانكشاف “الدولة” أمام كورونا. ويتجلى هذا العامل الأخير بوضوح، في مدى جودة وكفاءة الخدمات الصحية والعلاجية التي تملكها الدولة من قبل الأزمة. وكذلك في توافر أو غياب مؤسسات تنفيذية قوية وتملك الإمكانات والكفاءات البشرية والمادية اللازمة في تلك الأحوال الطارئة. والمقصود هنا تحديداً المؤسسات العسكرية، فهي التي اعتمدت عليها معظم إن لم يكن كل الدول في مواجهة الأزمة، إن لم يكن في نطاق المنشآت والخدمات، ففي مجال الموارد البشرية وخطط الطوارئ واستراتيجيات إدارة الأزمات. وبدا واضحاً الارتباط والتلازم بين جهوزية وكفاءة تلك المؤسسة على مستويي التخطيط والتنفيذ، ونجاح الدولة في تطويق الآثار السلبية لانتشار الوباء.
ثالثاً: أي عولمة بعد كورونا؟:
- الدولة شريك أصيل:
لم يعد هناك شك في أن العالم مقبل في القريب العاجل على مزيد من المركزية وتوسيع دور الدولة. بما يدعو إلى إحياء المراجعات النقدية لمقولات الليبرالية الجديدة، خصوصاً فكرة “الحد الأدنى من الدولة”([4])
وسيمتد أثر هذا التوجه، إلى الحد من ظاهرة الاعتماد المتبادل وإعادة النظر في قواعد تقسيم مراحل التصنيع ومعايير الميزة النسبية. بأن تتجه الدول إلى امتلاك بعض مراحل التصنيع أو التوطين الكامل لإنتاج بعض السلع. بما يكفل قدراً من الاستقلالية والاكتفاء، سواء بشكل كامل في بعض السلع، أو بصورة جزئية في أخرى.
والدلالة المهمة هنا، أن العولمة المستقبلية ستعتمد أكثر مما سبق على “الدولة”، التي سترتفع أسهمها في وتستحوذ على حصة أكبر في منظومة أو “شركة” العولمة. وهو ما يعمق بدوره التغير الذي ستشهده العولمة([5]) في المستقبل القريب والمتوسط، ليس فقط في قائمة أولوياتها وإنما أيضاً في مكوناتها والأطراف الفاعلة/ الشريكة فيها.
- رد الاعتبار للمجتمع:
في المقابل، فإن الدولة، ستعود –طوعاً أو كرهاً- إلى بعض أدوار كانت تخلت عنها بفعل المد النيوليبرالي، مثل التعليم والصحة والخدمات العامة. وهو ما يعد تصحيحاً لأوضاع خاطئة جعلت صحة الناس وتعليمهم ومعاشهم تحت رحمة معادلات الربح والخسارة وآلية السوق([6]). كما يتوقع أن تشهد الساحة الفكرية والسياسية في أعتى الدول الرأسمالية، عودة وإحياء لأفكار وطروحات العدالة الاجتماعية والإنصاف في توزيع الثروة والحقوق المتساوية في المعرفة والصحة والتعليم. فيما يمكن تسميته العودة إلى “الأنسنة” في العالم.
- عولمات متعددة:
ستنقسم العولمة إلى عدة عولمات جزئية، بعضها يعتمد التكتلات الإقليمية قوامها ونطاقها الأساسي. وبعضها نوعي يرتبط بالمجالات الأكثر احتياجاً للاعتماد المتبادل فيما بين الدول. أي سيشهد العالم عولمات جغرافية وأخرى وظيفية.
4_ فراغ قوة:
يشهد العالم من قبل كورونا، فراغاً في القوة. ضمن حزمة تحولات في النظام العالمي تتبلور ببطء. وسيسمح هذا الفراغ بظهور فاعلين جدد في العلاقات الدولية. ربما دول وربما تكتلات إقليمية أو تحت إقليمية. لكنها لن تكون تكتلات فوق إقليمية، بسبب تعدد وتعمق الخلافات بين الدول الكبرى والذي انعكس بوضوح في ضعف وشلل المنظمات الدولية أمام المشكلات والصراعات التي تهدد أمن واستقرار العالم منذ عقود. ثم جاءت وباء كورونا ليعري تماماً هذا الضعف ويثبت بشكل قاطع فشل تلك المنظمات الدولية.
ولأن أزمة وباء كورونا ليست أزمة صحية فقط وإنما كارثة متكاملة متنوعة الجوانب وشاملة التداعيات، فإن دلالاتها وتجلياتها لا تقتصر على كشف ضعف وقصور منظمة الصحة العالمية وحدها. وإنما أسقطت ورقة التوت وكشفت عورات كل المنظمات والهياكل الدولية، سواء الأممية العامة مثل الأمم المتحدة أو المتخصصة مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين. لذا، ثمة فرصة كبيرة ومتسع لظهور فاعلين دوليين جدد، أو اكتساب فاعلين قدامى زخماً وقوة دفع جديدة. ويشمل ذلك دولاً وتنظيمات أو تكتلات إقليمية سواء بالمعنى الجغرافي أو الوظيفي.
وسيكون حصاد أزمة كورونا وطبيعة وشكل الخروج منها، هو المحدد العام لهوية أولئك الفاعلين الجدد. ليس بالضرورة بمعيار كفاءة الإدارة الأزمة نفسها والنهوض بعدها في المدى القصير. لكن أيضاً وفقاً لمعدل المبادأة والتقدم سريعاً إلى الاستفادة من الفراغ الكبير واحتلال مساحة منه. ويتعلق هذا تحديداً وبشكل أساسي بالتكتلات والتحالفات القائمة أو أخرى يمكن تشكيلها في ضوء التقييم الشامل للأزمة بأسبابها وأبعادها وتداعياتها. مثلاً، رغم أن تكتل مثل “BRICS” لم يحقق حتى الآن طموحات دوله في التحول إلى قوة عالمية كبرى وتكتل قادر على مواجهة الدول الصناعية الغربية، إلا أن مرحلة ما بعد كورونا تعد فرصة سانحة أمامه لتحقيق هذا الهدف، وربما التقدم إلى أكثر من ذلك كتكتل وتحالف وظيفي متنوع المجالات.
([1]) لمراجعة محطات انحسار وازدهار العولمة تاريخياً، وتخيل عالم بدون عولمة، انظر:
جمال رشدي أبو الحسن، عالم بلا عولمة، ملحق “تحولات استراتيجية”، فصلية “السياسة الدولية”، مؤسسة الأهرام، العدد 221، يوليو 2020، ص ص 9-12.
([2]) حول التناقض الداخلي بين جوهر فكرة “العولمة” والتفاوت الاقتصادي الذي يحرم بعض الدول من إمكانية تجاوز الأزمة، انظر:د. أحمد طاهر، كشف حساب العولمة، ملحق “تحولات استراتيجية”، فصلية “السياسة الدولية”، مؤسسة الأهرام، العدد 221، يوليو 2020، ص 6.
([3]) إيمان زهران، هل ستسهم أمننة “ارتدادات العولمة” في إعادة هندسة “النظام الدولي”؟، تقديرات موقف، المركز العربي للبحوث والدراسات، 7 أبريل 2020. http://www.acrseg.org/41565
([4]) https://bit.ly/3dyKmGi
([6]) https://bit.ly/2Aze0wO