مقدمة:
في مشهد يمثل الفصل الأحدث في مسلسل التراجع الأمريكي على الصعيد العالمي، أنهت الولايات المتحدة أطول الحروب في تاريخها مع إتمام انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول منتصف ليل 31 أغسطس 2021، وجاء قرار الانسحاب الأمريكي قبل عشرة أيام فقط من الذكرى السنوية العشرين لهجمات 11 سبتمبر الإرهابية، والتي دفعت الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” الابن إلى إصدار أوامره إلى الجيش الأمريكي بتوجيه ضربة عسكرية لإسقاط “طالبان” في أفغانستا،. وبالفعل بدأ الهجوم الأمريكي يوم 7 أكتوبر 2001، وتمت هزيمة “طالبان” وفرار قيادتها خارج العاصمة الأفغانية “كابل”، إلا أن قوات “طالبان” نجحت في العودة إلى السلطة في كابل مرة أخرى في 15 أغسطس 2021، بعد أن سقطت الولايات الأفغانية في يدها واحدة تلو الأخرى، وتحقق لها ذلك بقتال محدود مع القوات الحكومية، التي فضلت في كثير من الأحيان إما الفرار أو الانسحاب من المواجهات مع “طالبان”.
وقد أثارت هذه التطورات المتسارعة أسئلة عميقة حول ما حدث في أفغانستان على مدى عشرين سنة من الوجود العسكري الأمريكي فيها، ومنها على سبيل المثال: كيف تخرج الولايات المتحدة من أفغانستان بهذا الشكل المهين لأقوى قوة في العالم عسكريًّا
واقتصاديًّا؟ ولماذا قررت واشنطن الانسحاب في هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا لم تستطع الإدارات الأمريكية المتعاقبة طيلة فترة عشرين عامًا من وجودها في أفغانستان أن تؤسس لدولة مدنية حضارية تحترم حقوق الإنسان، والمساواة بين الرجل والمرأة؟ وما هي التداعيات الدولية والإقليمية المحتملة جرَّاء هذا الانسحاب السريع والمنفرد؟([1]).
في الواقع، عندما أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” -بعد لقائه الرئيس الأفغاني “أشرف غني” في بداية شهر أغسطس 2021- إصراره على سحب قواته من أفغانستان، كان واضحًا وبشكلٍ لا لبسَ ولا تأويل فيه أن واشنطن لم تستشِرْ أو تستأذن حلفاءها في الدولة الأفغانية، وإنما تركتهم يحددون تقدير موقفهم وشكل خطواتهم التالية، بعد أن ارتفعت عنهم المظلة العسكرية الأمريكية. كذلك، كان من اللافت أيضًا عدم وجود ارتياح عالمي وإقليمي تجاه القرار الأمريكي المنفرد بالانسحاب من أفغانستان؛ حيث انقسم العالم تجاه هذا القرار إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ضم دول حلف الأطلنطي التي كان لها وجود في أفغانستان، فبعد الذهول من القرار، راحت هذه الدول تجلي رعاياها في لحظات حزينة مختلطة بقدر غير قليل من الهواجس تجاه مستقبل الدور الأمني والاستراتيجي الأمريكي في العالم، بعدما خرجت واشنطن بهذه الطريقة دون إعداد أو ترتيب مسبق معها. كما ثارت في هذه الدول أيضًا تساؤلات عديدة حول إمكانية أن يتسبب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان إلى عودة “طالبان” كما كانت قبل ربع قرن، خاصةً مع عدم وجود مؤشرات واضحة حول بروز “طالبان أخرى جديدة”، وبالتالي إمكانية عودة أفغانستان مرة أخرى؛ لكي تكون حاضنة للإرهاب.
أما القسم الثاني: فقد ضم دول الجوار القريب من الدولة الأفغانية، والتي تحفظت على الرحيل الأمريكي، وبينما وعدت الصين بالتعاون مع “طالبان”، اكتفت روسيا بالإبقاء على سفارتها، وفضلت دول الجوار الأخرى الانتظار.
أما القسم الثالث: فكان فيه معظم دول العالم، والتي اتسمت مواقفها بالقلق والانتظار لما يمكن أن تسفر عنه الأحداث، وبالتأكيد كان هناك تخوف في هذه الدول من أن يُمثَّل ما ظهر على أنه انتصار لـ “طالبان” على القوة العظمى الوحيدة في العالم، زخمًا كبيرًا لقوى إرهابية تظن أن دفعًا كبيرًا قد أتى، وربما يكون بشارة لوعود بفوز وانتصارات أخرى.
دلالات مهمة:
سوف يظل الانسحاب الأمريكي المنفرد من أفغانستان، وما أعقبه من سقوط مروع لنظام الحكم والانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام “طالبان” محلًا للبحث والدراسة لفترة طويلة. ومع ذلك، يوجد عدد من الدلالات المهمة لهذا الانسحاب، ربما يكون من أبرزها ما يلي:
أولًا: نهاية حقبة 11 سبتمبر في السياسة الخارجية الأمريكية، والتي تميزت بإعطاء أولوية متقدمة لمواجهة التهديدات الإرهابية في العالم باعتبارها مصدر التهديد الرئيس للأمن القومي الأمريكي. أما اليوم، فالولايات المتحدة أصبحت تتحدث عن أولويات أخرى، غير مكافحة الإرهاب في العالم، يأتي على رأسها تحديات الداخل المرتبطة بمواجهة التداعيات السلبية لتفشي وباء كوفيد 19، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، والتخفيف من حدة الاستقطاب السياسي، وفي الخارج توجد تحديات متعددة أخرى أكثر أولوية- غير مكافحة الإرهاب- مثل منع انتشار الأسلحة النووية، ومواجهة (روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية)، الذين يزدادون عدوانية في مواجهة واشنطن. وفي هذا السياق، يشير عدد من المراقبين إلى أن هذه التحديات الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى انهيار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كلها جعلت الإرهاب يبدو وكأنه تهديد أقل إلحاحًا، عكس ما كان عليه الوضع في حقبة 11 سبتمبر، وبالتالي يمثل قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان نهاية “حقبة 11 سبتمبر” وما ارتبط بها من أولويات([2]). وفي هذا السياق، يمكن تفهم رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في إنهاء “الحروب الأبدية” في (أفغانستان والعراق)([3]).فمن الصعب للغاية تصور أن المخابرات الأمريكية وأجهزة التقدير الاستراتيجي فيها لم تتوقع عودة المكانة السياسية والعسكرية لـ”طالبان” بعد الانسحاب الأمريكي، ولكنها ربما لم تتصور أن يحدث ذلك بهذه السرعة وقبل إتمام الانسحاب، وربما أيضًا توقعت ما حدث ولكن لم يكن في وسعها منعُه أو عرقلته. واتصالًا بذلك، قال الرئيس بايدن : إنه غير نادم على قراره، وإن الولايات المتحدة حققت أهدافها في أفغانستان، وهي القضاء على الملاذ الآمن الذي وفرته “طالبان” لتنظيم “القاعدة” قبل سنوات، وتم قتل أسامة بن لادن (زعيم تنظيم القاعدة)، وإنه من غير الممكن أن تظل القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى، وعلى الأفغان أنفسهم حل مشاكلهم والتوافق فيما بينهم حول مستقبل بلادهم.
ثانيًا: لم تعد الولايات المتحدة نفس القوة الكبرى، التي عهدها العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وربما يعود ذلك إلى ضعف كامن داخل بناء القوة الأمريكية، التي باتت تعاني الانقسام الشديد بين اليمين واليسار، والجمهوريين والديمقراطيين، والتقدميين والمحافظين، ولا يقل عن ذلك أهمية الانقسام بين الولايات نفسها، التي لم تستطع التوافق على سياسة موحدة للتعامل مع جائحة كورونا([4]). وبالتزامن مع ذلك، توجد قناعة متزايدة بوجود حدود على القوة العسكرية الأمريكية، وعدم فاعليتها في محاربة المتمردين، أو في التورط في حروب برية طويلة الأمد، أو في بناء الأمم وتغيير الثقافات للدول الأخرى. وفي هذا السياق، أشار الرئيس بايدن إلى أن الجيش الأمريكي قد كُلِّف بمهام تتجاوز اختصاصه في أفغانستان، بما في ذلك تحقيق أهداف اجتماعية مثل (حماية حقوق المرأة)، مشيرًا إلى أنه لن يشعر بأي مسؤولية إذا عانت المرأة الأفغانية أو إذا انتُهِكت حقوق الإنسان الأخرى نتيجة الانسحاب الأمريكي، وأكد على أن مصير أفغانستان يحدده شعبُها([5])؛ ولذلك وصف عدد من المراقبين الخروج الأمريكي من أفغانستان باعتباره “يمثل خروجًا للولايات المتحدة من العالم”([6]).
ثالثًا: عدم إمكانية فرض النموذج (الأمريكي أو الغربي) بالقوة على دول العالم المختلفة ثقافيًّا وحضاريًّا([7]). فكل دولة لها خصوصيتها النابعة من تاريخها وظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية… إلخ، ففي تقرير صدر عن مكتب المفتش العام الأمريكي لإعادة الإعمار في أفغانستان حول الدروس المستفادة بعد 20 عامًا من تواجد الولايات المتحدة هناك، ووضعته مجموعة من الخبراء والفنيين- جاء شرح وافٍ عن أسباب فشل المشروع الأمريكي في أفغانستان رغم استثمار مليارات الدولارات فيه([8]). حيث أكد هذا التقرير على أن من أهم أسباب هذا الإخفاق هو تجاهل الولايات المتحدة لـ “خصوصية أفغانستان”، أو ما يسميه التقرير في عنوان فصله السابع: “السياق”، ويبدأ هذا الفصل بعبارة “أن الجهل بالسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة في أفغانستان عاملٌ مهم أسهم في الإخفاقات على المستويين (الاستراتيجي والتشغيلي)، والمستويات التكتيكية مما ترك الممارسين لتنفيذ خطط كانت في الواقع مُصمَّمة لسياق بلد مختلف”([9]). وفي نفس الوقت، ومن ناحية أخرى، نجحت “طالبان” في تصوير الوجود الأمريكي في البلاد على أنه “احتلال”، وأن الحكومة القائمة “ليست وطنية” وأنها “خاضعة للنفوذ الأمريكي”، وقد استغلت “طالبان” في ذلك أن بعض كبار المسؤولين الأفغان عاشوا في الولايات المتحدة لسنوات طويلة وأن بعضهم حمل الجنسية الأمريكية إلى جانب الأفغانية. أضف إلى ذلك أنه على مدى العشرين سنة الماضية ظلت “طالبان” تسيطر على أغلب القرى الصغيرة، خصوصًا في المناطق النائية؛ ما سمح باستمرار تغلغلها في المجتمع وتوسيع قاعدة نفوذها فيه، كذلك افتقدت القوات الحكومية الروح المعنوية والرغبة في القتال- خاصةً في ضوء الصراعات والخلافات السياسية داخل النخبة الحاكمة، واستشراء الفساد في دوائر الحُكم([10]).
رابعًا: يبرهِن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وردود الفعل الغربية عليه- بما لا يقبل الشك- أن الغرب لا مشكلة لديه في الإرهاب طالما أن هذا الإرهاب يقع على أرض أخرى ويلقي بآثامه على شعب آخر بنسائه ورجاله وأطفاله وتعليمه وصحته، ومن ناحية أخرى، يمثل اعتراف واشنطن بـ “طالبان”- من الناحية الواقعية بالجلوس على مائدة التفاوض معها- أول اعتراف دولي بسيطرة منظمة متشددة دينيًّا على الحكم في دولة معترف دوليًّا بشرعيتها، وقد يؤدي ذلك في المستقبل إلى تدشين اتجاه عميق مستجد في النظام الدولي يعزز أدوار الجماعات المسلحة بديلًا عن السلطات القائمة. صحيح أنه ليست المرة الأولى التي تؤسس فيها ميليشيا دولة، فقد سبق لتنظيم “داعش” أن دشن هذه السابقة، وصحيح أيضًا أنها ليست المرة الأولى التي تنتصر جماعات ثورية وتشكل دولة بقوة سلاحها، إلا أن الجديد الخطير هو أن عناصر “طالبان” ليسوا جميعًا من أبناء البلاد، بل هم جهاديون استُقطِبوا من جميع أنحاء العالم([11]).
التداعيات الدولية والإقليمية المحتملة
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يعد بمثابة “زلزال” شديد ضرب العالم، وسوف يؤدي -على الأرجح- إلى “ارتدادات” متعددة في العالم، وفي منطقة الجوار الأفغاني، وخاصةً في منطقة آسيا الوسطى في الأشهر المقبلة؛ فمن ناحية، لا يستبعد الكثير من الخبراء أن يكون هذا الانسحاب في إطار تحرك استراتيجي يشمل صراع القوى الكبرى، بخاصة في ظل التركيز الأمريكي المتزايد على مواجهة الصين الصاعدة بسرعة وروسيا العائدة بقوة.
ومن هنا، من المتوقع أن يتزايد التوتر بين الدولتين من جهة وبين واشنطن من جهة أخرى؛ حيث تنظر بكين إلى انسحاب واشنطن من أفغانستان باعتباره مخطط لزعزعة استقرار الوضع في إقليم “شينجيانغ الصيني” ذي الغالبية المسلمة، بينما تشتبه موسكو في أن الولايات المتحدة ستواصل زرع الفوضى حول حدود روسيا، كذلك يرى عدد من المراقبين: أنه لن يمر وقت طويل حتى تدخل إيران في مواجهة مع “طالبان”، وستقوم بزج ودفع كل الفصائل الشيعية الموالية لها في أفغانستان- خاصةً لواء “فاطميون”، وهو من المقاتلين الشيعة الذين دربتهم لمحاربة “طالبان”، فتشتعل حرب تعرف إيران بدايتها ولكن بالتأكيد لن تعرف نهايتها.
ومن ناحية ثانية، يؤكد عدد من المراقبين على: أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سوف يفتح الطريق أمام تعزيز التواجد الروسي القوي أصلًا في دول آسيا الوسطى؛ حيث من المتوقع أن تقوم روسيا بتوفير الدعم الأمني لحكومات آسيا الوسطى للمساعدة في مواجهة تهديدات الجماعات المتشددة، وخاصةً تنظيم “داعش” الإرهابي، والجماعات المتطرفة الأخرى الناشئة في شمال أفغانستان، كما ستظل موسكو-على الأرجح- المزود الرئيس للأسلحة لكل دول آسيا الوسطى، كما أنها ستقوم أيضًا -في كثير من الأحيان- بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع دول المنطقة.
ومن ناحية ثالثة، من المتوقع أن تعمل واشنطن بنشاط خلال الفترة المقبلة من أجل تعزيز تواجدها العسكري والسياسي في دول منطقة آسيا الوسطى في إطار جهودها لمكافحة الإرهاب بعد الانسحاب من أفغانستان، ويشير عدد من المراقبين إلى: أن القيادة المركزية الأمريكية قد أبلغت الكونجرس -في بداية عام 2021- عن عزمها تعزيز تواجدها العسكري في المنطقة المحيطة بأفغانستان بعد الانسحاب، وهو ما سوف يجعل دول آسيا الوسطى أفضل المناطق على الإطلاق مقارنة بدول الشرق الأوسط البعيدة نسبيًّا من الناحية الجغرافية.
وفي هذا السياق، يرى بعض الخبراء أن: الولايات المتحدة ستكون لديها فرصًا كبيرة، لتعزيز تعاونها العسكري والاستراتيجي مع (طاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان)، بينما لن تمتلك- على الأرجح- مثل هذه الفرص مع تركمانستان؛ لتوجهها الانعزالي المعروف، وكازاخستان؛ بسبب علاقاتها الوثيقة مع روسيا ([12]).
ومن ناحية رابعة، لن تكون الصين بعيدة عن الارتدادات الدولية والإقليمية المتوقعة بعد قرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، خاصةً بعدما استثمرت الصين مليارات الدولارات في منطقة آسيا الوسطى لتغذية الاقتصاد الصيني من خلال إقامة الطرق والسكك الحديدية وخطوط أنابيب الطاقة، التي تجلب النفط والغاز الطبيعي والموارد المعدنية الهائلة، كما عملت بكين أيضًا على تسهيل العبور البري للصادرات الصينية إلى المنطقة وخارجها إلى أوروبا عبر روابط الاتصال التي تم تقديمها في المرحلة الأولية من مبادرة الحزام والطريق(BRI).
وفي هذا السياق، يشير الخبراء إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سوف يدفع بكين إلى زيادة تواجدها العسكري والأمني في منطقة آسيا الوسطى، وهو ما برز مؤخرًا في عدد من المؤشرات المهمة، لعل من أهمها: زيادة مبيعات الأسلحة (خاصة تكنولوجيا التعرف على الوجه)، وبناء نقاط حدودية ومنشآت أمنية على الحدود مع طاجيكستان، وزيادة التدريبات العسكرية المشتركة سواء مع القوات الطاجيكية أو في إطار منظمة شنغهاي للتعاون(SCO)، التي تضم أيضًا (كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان).
على أية حال، يمكن القول إن الانسحاب الأمريكي المنفرد من أفغانستان سيكون له تداعيات استراتيجية متعددة ومهمة خاصةً وأنه يشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة ليست في أزهى عصورها. صحيح أن واشنطن ستظل في المدى المنظور هي القوة العظمى الوحيدة القادرة على توظيف عناصر القوة الصلبة والناعمة ونشر القوات الحربية على مستويات كونية واسعة، إلا أنه من الصحيح أيضًا أن قرار واشنطن الانسحاب من أفغانستان يؤكد على أن القوة والثروة وقوة التحمل لها حدود.
وبالتالي، من الدروس المستفادة والمهمة التي يجب أن يخرج بها المجتمع الدولي من هذا الانسحاب هو أنه مع أهمية الولايات المتحدة -باعتباره القوة الوحيدة المهيمنة عالميًّا- فإنه من الخطأ الاعتماد عليها أكثر من اللازم؛ لأن واشنطن في ظل إدارة الرئيس بايدن، لن تتردد في اتخاذ قرارات على حساب مصالح غيرها، بمن فيهم الأصدقاء والحلفاء إذا لزم الأمر.
بعبارة أخرى، يجب إدارة التعاون مع واشنطن في الفترة المقبلة بذكاء يتناسب مع موقعها المهيمن على الساحة العالمية، ولكن في نفس الوقت من الضروري أيضًا عدم المبالغة في الاعتماد على الولايات المتحدة في حل التحديات والتهديدات المختلفة في المنطقة العربية، فالتفاعل الوطني والإقليمي مع هذه التحديات والتهديدات أفضل سبيل على المدى المتوسط والطويل؛ لأنه يستجيب ويتفاعل مع الواقع المباشر على الأرض، ومما يؤكد هذه الفكرة ميل كثير من دول العالم إلى إعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها في الآونة الأخيرة، فالمملكة المتحدة مثلًا أعلنت على لسان وزير دفاعها: أنها لن تعتمد في أمنها مستقبلًا على الولايات المتحدة، كما يبدو أيضًا أن فرنسا وعدد آخر من دول الاتحاد الأوروبي عاقدون العزم على إنشاء قوة دفاع أوروبية مستقلة عن حلف الناتو، وكذلك يتوقع كثير من المراقبين بألا تضع دول في منظمة الآسيان وفى شرق أوروبا وآسيا الوسطى كل أوراقها في السلة الأمريكية.