2018العدد 175ملف دولى

توظيف السياسة الخارجية الأمريكية في خدمة أهداف سياسة ترامب الداخلية

مقدمة

لا يتوانى الرئيس الأمريكي في الادعاء بصلف فيما يتخذه من قرارات في سياساته الخارجية بأنه يستجيب لمطالب قاعدته الشعبية ويعمل على إنفاذها، علمًا بأن هذه القاعدة نفسها غير مُلمة بأبعاد وتداعيات السياسة الخارجية الأمريكية الأكثر تطورًا وتعقيدًا. فليس خفيًا على أحد أن القاعدة الانتخابية للرئيس الأمريكي، التي كثيرًا ما يتفاخر ويتباهى بها، هي في غالبيتها من البيض الذين لا يحملون شهادات جامعية ويمكن وصفهم بالكاد بالمتعلمين، وهم العمالة ذات الياقة الزرقاء. وإن سلمنا بالفعل أن الرئيس يعمل لصالح قاعدته الانتخابية، ويقوم بتنفيذ ما وعد به خلال حملته الانتخابية، فإن النتيجة المنطقية والمفترضة هي زيادة شعبيته. فقد أوفى بما وعد. بيْد أن العكس هو الصحيح، فإن فترة ولايته تميزت بانخفاض واضح في شعبيته ووصول عدم الرضا عن سياساته إلى مستويات دنيا قياسية، حتى داخل دائرة مؤيديه. ومن هنا يثور التساؤل عن مغزى سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وما إذا كانت بالفعل تمثل امتدادًا لمعتقدات وتوجهات قاعدته الانتخابية، بصفة خاصة، وتضع أمريكا في المرتبة الأولى وتستهدف جعل أمريكا عظيمة من جديد، أم أنها سياسة ترمي إلى خدمة مصالح شخص الرئيس الأمريكي ترامب أولاً وتعظيمه؟.

وتسعى هذه الورقة إلى الرد على هذا التساؤل من خلال التركيز على السياسة التجارية للإدارة الأمريكية الحالية في ظل الرئيس ترامب، التي حظيت بنصيبها من الانتقادات على أساس أنها تسيء للاقتصاد الأمريكي أكثر مما تفيده، فهي على عكس ما يدعي تسيء للعمالة الأمريكية والصناعة المحلية، كما أنه من المشكوك فيه نجاحها في تضييق الفجوة المتفاقمة في ميزان المدفوعات الأمريكي. وعليه، تتناول الورقة في خطوطها العريضة نبذة مقتضبة عن إرساء الولايات المتحدة قواعد النظام الدولي فيما بعد الحرب العالمية الثانية ومؤسساته، التي مازالت تسيطر عليها بشكل كبير. ننتقل منها إلى سياسة الرئيس الأمريكي ترامب، التي ضربت عرض الحائط بالسياسات الأمريكية السابقة بل وقيمها ومبادئها، بما أوقع الولايات المتحدة في حرب تجارية غير واضحة الأبعاد والمدى والتي من المتوقع أن تعود بالضرر على هؤلاء الذين يسعى ترامب إلى حمايتهم وتحقيق مصالحهم والذين يشكلون قاعدته الانتخابية. ثم تتساءل الورقة عن مصير النظام متعدد الأطراف واحتمالات إنقاذه في ظل تصعيد النزاعات التجارية وميل الدول إلى التكتل ضد السياسة الترامبية المتذبذبة لصالح الحفاظ على النظام القائم، الذي خدم العالم طوال هذه السنوات، وألا تقلل من قوة الولايات المتحدة على إحداث شروخ عميقة في النظام.

وتواصل الورقة تحليلها بأن سياسة ترامب التأديبية تجاه الصين لا تختلف كثيرًا عن تجارب الولايات المتحدة السابقة في رغبتها في عزل كل من اليابان وألمانيا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي لغزوهما السوق الأمريكي. وإن أوضحت الورقة أن المشكلة الرئيسية ليست الصين كما أنها لم تكن اليابان أو ألمانيا، إنما هي تكمن في عيش الولايات المتحدة كدولة وشعب خارج حدود إمكانياتهما، وهو ما سبق أن قاله الرئيس كارتر وأحد الأسباب التي كلفته الرئاسة لفترة ثانية. وتختتم الورقة أن الرئيس الأمريكي ترامب كرجل أعمال، لا يهمه سوى تحقيق المكاسب السريعة لشخصه ومن بعده الطوفان. 

أولا: بناء الولايات المتحدة للنظام متعدد الأطراف فيما بعد الحرب العالمية الثانية

وضعت الولايات المتحدة لبنة النظام متعدد الأطراف فيما بعد الحرب العالمية الثانية، ودخلت كعضو في الأمم المتحدة بعد أن آثرت البقاء على هامش عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، وتحميل التاريخ لها مسئولية خوض العالم حربًا عالمية ثانية أكثر شراسة ودمارًا لتقاعسها وتفضيلها العودة مرة أخرى إلى سياستها الانعزالية التي أرساها لها الرئيس جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة. وكان الرئيس روزفلت بعد الحرب العالمية الثانية أكثر حنكة من الرئيس وودرو ويلسون فيما بعد الحرب العالمية الأولى، ونجح فيما فشل فيه سلفه في إقناع الكونجرس الأمريكي بأن تصبح الولايات المتحدة عضوًا في الأمم المتحدة وأكبر مساهمٍ فيها، حيث كانت تساهم بما يقرب بربع ميزانية المنظمة. وأصبحت قيادة الولايات المتحدة في مختلف المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية بمثابة حق لها لا يتجزأ. وجاء الرئيس ترومان بخطة مارشال وأنفقت أمريكا ببذخ على إعادة هيكلة وبناء الدول الأوروبية واليابان لتصبح سوقًا للمنتجات الأمريكية ومنطقة عازلة لأمنها ودعمًا لتوجهاتها وسندًا للقيم والمبادئ الأمريكية.

ولم تفكر بل ولم تجرؤ أي من الإدارات الأمريكية المتلاحقة على المساس بقواعد النظام الدولي متعدد الأطراف، الذي تربعت الولايات المتحدة على عرشه، ولم ترق أي منها إلى مستوى تهديد قواعد النظام الدولي في حد ذاته أو إضعاف كيان النظام ككل على نحو ما تقوم به الإدارة الحالية. ويبدو أن الرئيس ترامب يتأهب لإعادة الولايات المتحدة مرة أخرى إلى عزلتها متخليًا عن حلفائها، بل إن دونالد ترامب لا يتردد في إساءة معاملة رؤساء الدول الحليفة. والأمثلة على ذلك كثيرة، بدءًا من الرئيس الكندي ترودو إلى المستشارة الألمانية ميركل مرورًا برئيسة وزراء حليفته الكبرى بريطانيا. وتظهر هذه الخلافات بوضوح في النزاعات التجارية التي ابتدعتها الإدارة الأمريكية مع مختلف شركائها التجاريين والذهاب إلى حد وصف الاتحاد الأوروبي بالعداء في سياسته التجارية ضد الولايات المتحدة. فلم تعد الصين، على عكس ما جرى عليه  العُرف، وحدها في معسكر الأعداء التجاريين للولايات المتحدة، بل تقف داخل المعسكر التجاري الأكبر، الذي بدأ يتكتل ضد الولايات المتحدة فيما شنته من حرب ضد شركائها دون استثناء. وربما يكون ذلك منعطفًا جديدًا لحركة التجارة الدولية تستفيد منه أطراف أخرى على حساب الولايات المتحدة وتبحث معًا عن أسواق بديلة تغنيها عن السوق الأمريكي.

ثانياً: سياسة الرئيس الأمريكي المغايرة

ولا شك أن السياسة التي ابتدعها الرئيس ترامب منذ توليه الحكم تعمل على قلب النظام التجاري الدولي رأسًا على عقب، وهو النظام الذي أنشأته الولايات المتحدة وأرست قواعده. فقد أرادت الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية تفادي حربًا تجارية مثل تلك التي عانت منها الدول في الحقبة ما بين الحربين العالميتين، والتي كانت نتيجتها تفاقم وإطالة فترة الكساد الكبير. وأيقنت الولايات المتحدة أن ما أدى إلى انهيار العلاقات التجارية الدولية هو غياب القواعد الدولية التي تحكم هذه العلاقات وغياب الدولة التي توافق على تحمل عبء مسئولية تسيير النظام. فكانت الدول تتنافس دون ضابط أو رابط على خفض قيمة عملتها لتصريف منتجاتها ورفع التعريفة الجمركية لحماية سوقها، وهو ما عُرف “بسياسات إفقار الجار” في ظل اللانظام السائد. وبعد الحرب العالمية الثانية رفضت الولايات المتحدة العودة إلى عزلتها وارتضت عن طيب خاطر تحمل مسئوليتها وأقنعت من حولها أنه من قبيل حقها – كأقوى دولة في العالم – قيادة النظام الدولي الجديد والتحكم في مؤسساته وجعلت من عملتها عملة الاحتياطي الدولي. وامتثلت دول العالم الغربي طواعية هذه القواعد، تجنبًا لنشوب حربٍ تجارية أخرى وضمانًا لسير العمل بالنظام بسلاسة، بل إن هذا هو ذات النظام، الذي سارعت دول شرق أوروبا وروسيا في الانضمام إلى مؤسساته والعمل بقواعده دون تغيير بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991.

تختلف رؤية الرئيس ترامب للسياسة الخارجية لبلاده عن سابقيه. فهو ينأى بنفسه عن القيم والمبادئ الخاصة بالحريات والديمقراطية وسيادة القانون، التي طالما تمسك بها سابقوه والتي تفخر الولايات المتحدة بكونها الدولة الأولى التي نصت عليها في العصر الحديث في وثيقة الحقوق المقرونة بدستورها. وفي الترويج لنفسه كصانع الصفقات الناجحة، بل واعتبار أنه الأفضل على مستوى العالم، فإن الرئيس ترامب يقوم بترجيح رجل الأعمال على رجل السياسة، مؤكدًا على حنكة وبُعد نظر رجل الأعمال لإيقانه بأن كل شيء قابل للمساومة، الأمر الذي جعل حلفاء أمريكا قبل أعدائها يضربون أخماسًا في أسداس حول المسار الحالي الذي تسلكه السياسة الأمريكية. وعلى هؤلاء أن يعيشوا في عالم لم يعد يحترم التحالفات والمصالح المشتركة، وإنما عالم يسعى فيه رئيس الدولة، التي آلت على نفسها حفظ النظام وإنفاذ قواعده، رئيس يتفاخر بسرعة انتزاع مصالح قصيرة الأجل هنا وهناك، تقوم على دوافع متقلبة ونوايا بالكاد تستمر على حالها، مع عدم المبالاة لاحترام التعهدات السابقة وما قد يستتبعه ذلك من عدم استقرار سياسي واقتصادي على الصعيد العالمي.

ويسعى الرئيس الأمريكي ترامب تارة إلى توجيه العتاب واللوم إلى النظام الدولي القائم بحجة أنه لم يخدم قط مصالح الشعب الأمريكي، بل إنه قام بتحميله أعباء لا ناقة له فيها ولا جمل. وتارة أخرى، يتبع سياسات لي الذراع، لاسيما لحلفائه على أساس أنها تنصلت من مسئوليتها في مقاسمة الولايات المتحدة تكاليف الحفاظ على أمن واستقرار العالم. وفي هذا لا يتراجع الرئيس الأمريكي عن التقليل من شأن مؤسسات مثل حلف شمال الأطلنطي ويطالب الدول الأعضاء بمضاعفة مساهماتها المالية. كما يتنصل الرئيس الأمريكي من دور وأداء منظمة التجارة العالمية، التي هي بحق صناعة أمريكية بحتة أنشأتها لخدمة تجارتها. فإن تضمين النظام التجاري الدولي تحرير التجارة في الخدمات وأوجه حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة لا يعدو أن يكون قرارًا أمريكيًا خالصًا لخدمة مصالح قطاعها الخدمي والمصرفي وشركات الدواء بها. واليوم يضرب الرئيس ترامب عرض الحائط بالمبادئ والقواعد التي أرستها بلاده ودافعت عنها، بل وفرضتها على سائر دول العالم. فما بالك أن يقوم الرئيس ترامب بتوقيع أمر تنفيذي بزيادة التعريفة الجمركية، في تحدٍ ساخر لمبدأ احترام الولايات المتحدة لالتزاماتها وتعهداتها لدول العالم أجمع وفي إطار منظمة التجارة العالمية.

وعلى الرغم من أن هناك بعض المقاومة داخل الكونجرس، على اعتبار أن مهمة زيادة التعريفة الجمركية تقع في نطاق اختصاص الكونجرس وليس السلطة التنفيذية، وعلى الرغم من اعتراض عدد يفوق المائة عضو داخل حزب ترامب الجمهوري ضد فرض تعريفة جمركية، فإن ترامب مضى قدمًا دون مبالاة باستصدار الأمر التنفيذي يدعو فيه ممثل التجارة الأمريكي روبرت لايتهايزر بفرض تعريفة بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على الألومنيوم في مارس 2018، بحجة دواعي الأمن القومي، وهو ما يشكك فيه حلفاء الولايات المتحدة والصين. بل كان هناك من يعارض مثل هذا الإجراء داخل إدارة ترامب نفسها، على أساس أنها قد تأتي بآثار عكسية من شأنها رفع سعر مدخلات الصناعة وزيادة معدلات البطالة. فعلى الرغم من أن سياسات الحماية يمكن لها تحقيق منافع قصيرة الأجل لقطاعات معينة، فإنه على المدى الأبعد لها تأثيرها السلبي على اقتصاد الدول. هذا، علمًا بأن الولايات المتحدة لا تستخدم سوى حوالي 3% من إنتاجها المحلي من الصلب لأغراض الدفاع، ومعظم ما تستورده لهذه الصناعة من الحلفاء، مما يجعل تبرير الأمن القومي للتعريفات غير صحيح في نظر معظم خبراء التجارة.

ثالثاً: رد الصين على السياسة الترامبية

وجاء رد الرئيس الصيني بيجنج في مواجهة سياسات ترامب التعريفية بفرض رسوم جمركية مماثلة على الواردات الأمريكية، ومعظمها من السلع الزراعية الأمريكية التي تضرب في العمق الأمريكي وتهدد قاعدة ترامب الانتخابية في ولايات الوسط. كما لجأت الصين إلى جهاز فض المنازعات بالمنظمة في 9 أبريل 2018 لمقاضاة الولايات المتحدة على قرارها المخالف لتعهداتها وإلزامها بالتعويض، لما قد ينجم عنه من خسائر قد تتكبدها الصين. وتقدم الاتحاد الأوروبي بشكوى مماثلة لمنظمة التجارة العالمية ضد تعريفات الصلب والألومنيوم الأمريكية في 1 يونيو 2018، وعلى جهاز فض المنازعات بالمنظمة النظر في هاتين الدعوتين وإصدار حكم فيهما.

ومع ذلك، تمتد مخاوف الصين إلى أكثر من مجرد زيادة التعريفة الجمركية، حيث تشعر أنها المستهدف الأول من سياسات الإدارة الأمريكية وتعلم جيدًا أنها في موقف لا تحسد عليه. فإن السوق الأمريكي هو السوق الرئيسي للصادرات الصينية، وأن إغضاب الإدارة الأمريكية ليس في مصلحة الصين في النهاية. وتعلم الصين جيدًا أنها لا تخلو من خطأ، ويلقى كل من الرئيس ترامب والإدارة الأمريكية اللوم على سياسات الحكومة الصينية التي تقوم بدعم صناعاتها، وهو إجراء تحظره منظمة التجارة العالمية، لما تعتبره منافسة غير شريفة وإغراق الأسواق الدولية بمنتجات مدعمة منخفضة السعر.

وجاء قرار الرئيس الأمريكي بزيادة التعريفة الجمركية على كل من الصين والاتحاد الأوربي بمثابة إعلان الحرب، وإن كان هناك بعض التراجع بالنسبة للأخيرة إثر زيارة رئيس المفوضية الأوربية يونكر في يوليو 2018 لواشنطن والاتفاق مع الرئيس الأمريكي على بدء مفاوضات ثنائية لإقامة اتفاقية تجارة حرة فيما بينهما، قد تستغرق بضعة سنوات لإنهائها. غير أن النية مبيتة لدى ترامب لفرض مزيد من الحماية على الواردات الصينية وفرض رسوم إضافية بنسبة 25% على سلع صينية الصنع تصل قيمتها إلى 200 مليار دولار لدفع الصين إلى إنهاء ممارساتها التقييدية واختلاسها التكنولوجيا الأمريكية على حد قول الرئيس الأمريكي. وإن يبدو أن السبب الرئيسي لمعاقبة الصين هو عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة مع الصين، الذي بلغ حجمه 375 مليار دولار في عام 2017، وهو يعتبر مبلغًا ضئيلاً إذا ما قورن بحجم الاقتصاد الأمريكي الإجمالي، والذي يبلغ ما يقرب من 20 تريليون دولار.

ويبدو واضحًا أن الولايات المتحدة قامت بتوريط نفسها في حرب تجارية غير معروف أبعادها ومداها، وذهب المسئولون الصينيون إلى التصريح بأن الرئيس الأمريكي “أطلق أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي حتى الآن”. ويقارن الكثيرون ما يقوم به الرئيس الأمريكي الآن بما سبق أن قام به الرئيس الأمريكي هوفر في الثلاثينيات من القرن الماضي بإشعال حربٍ تجارية شعواء من خلال زيادة التعريفة الجمركية على 20,000 سلعة، بموجب قانون التعريفة الجمركية المعروف باسم سموت – هاولي لعام 1930، عضوي مجلس الشيوخ الأمريكي آنذاك. وحاول هنري فورد رئيس مصنع السيارات الأمريكية فورد إثناء الرئيس الأمريكي عن التوقيع على القانون، الذي وصفه بأنه أكثر القوانين الاقتصادية غباءً. وبالفعل كان ذلك بداية لحرب تجارية دامت أكثر من عشر سنوات وتفاقم الكساد العالمي وأدت إلى خسارة هوفر في الانتخابات الرئاسية للفترة الثانية وإحلال الرئيس روزفلت محله.                  

ولا ينكر أحدًا أن الجمهوريين حاولوا مرارًا وتكرارًا إقناع الرئيس ترامب بأن فرض تعريفة جمركية على واردات الصلب والألمنيوم لن تعود بالنفع على الولايات المتحدة والعمالة الأمريكية التي يرغب الرئيس في استرضائها، كما يخشون التدابير الانتقامية من الشركاء التجاريين، التي قد تكلف الكثير من الأمريكيين وظائفهم وترفع أسعار الشركات الأمريكية التي تشتري الصلب والألمنيوم كمدخلات لمنتجاتها. ولم يأبه الرئيس كثيرًا معترفًا أن السياسة التجارية تعتبر أحد الخلافات السياسية الرئيسية بينه وبين العديد من أعضاء حزبه، غير أن ذلك لن يغير من قناعته بتوقيع العقاب على كبريات الدول التي تتاجر مع الولايات المتحدة وتستغل سوقها المفتوح لصالحها وتغلق سوقها أمام المنتجات الأمريكية.  

وينجح الرئيس الأمريكي مرة أخرى في تمرير سياسة لا تتسق وسياسة حزبه متعللاً بأنها تخدم قاعدته الانتخابية. ويصعب تصور قيام الكونجرس وأعضاء الحزب الجمهوري مواجهة الرئيس في هذا التوقيت لقرب فترة انتخابات نصف المدة في نوفمبر 2018. وعليه، فإن إضعاف الرئيس سياسيًا سيكون له عواقب سلبية بعيدة المدى على الانتخابات والمرشحين من الحزب الجمهوري.

ويبدو أن ترامب مقتنع تمامًا أنه من السهل أن تفوز الولايات المتحدة في حربها التجارية، بيْد أن هذا ليس بالضرورة صحيحًا. فلم تنجح محاولات الولايات المتحدة في حماية سوقها من قبل من خلال فرض سياسة حمائية، وفشلت محاولة الرئيس نيكسون لفرض تعريفة جمركية منفردة تبلغ 10% على الواردات الأمريكية من كل من أوروبا واليابان في أوائل السبعينيات واضطراره إلى التراجع تحت ضغوط أوروبية ويابانية. كما حاول الرئيس جورج بوش الابن في عام 2002 عندما فرض تعريفة جمركية على واردات الصلب واضطر إلى سحبها في غضون سنة واحدة، لما قامت به من رفع أسعار الصلب داخل الولايات المتحدة بنسبة 3%، بما أضر بالصناعة الأمريكية وأفقدها في النهاية نحو 200 ألف وظيفة.

رابعاً: ما الذي قد يحل بالنظام متعدد الأطراف إثر سياسات الرئيس ترامب ؟

بدأت وسائل الإعلام تتساءل – وبحق – عمّا إذا كان عصر التجارة متعددة الأطراف قد اندثر؟ هل تعني رئاسة ترامب نهاية الصفقات التجارية الكبرى؟ فمعارضة ترامب لاتفاقيات التجارة الحرة متعددة الأطراف بات يشكل عنصرًا رئيسيًا في سياسته الخارجية، حيث انسحب فور توليه الحكم من اتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادي، التي كان الرئيس السابق باراك أوباما يعتبرها من أكبر نجاحاته لما تقوم به من تحجيم الصين في منطقتها، أي جنوب شرق آسيا. كما انسحب من اتفاقية المشاركة والاستثمار عبر المحيط الأطلنطي، وهي التي كانت أساسًا اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، علمًا بأنه عاد وطالب باتفاقية تجارة حرة ثنائية مع الاتحاد الأوروبي من جديد أثناء زيارة جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية في يوليو 2018. كما غامر الرئيس الأمريكي بإعادة فتح التفاوض حول اتفاقية حرية التجارة لشمال أمريكا والمعروفة باسم النافتا، الأمر الذي من شأنه تهديد الاتفاق برمته بحجة أنه قادر على التوصل إلى اتفاق أفضل لصالح الولايات المتحدة.

ويرفض ترامب من حيث المبدأ الصفقات التجارية متعددة الأطراف على اعتبار أنها تضر بالمصالح الأمريكية. وتفضل الإدارة بموجب توجيهات ترامبية التفاوض على أسس ثنائية، لما يعنيه ذلك من نفوذ أكبر وقدرة أفضل للمفاوض الأمريكي على المناورة من موقع قوة والحصول على صفقات أفضل للعمالة وحماية المصالح الأمريكية. فالولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم، ويمكن لها بسهولة التغلب على العديد من الدول الأخرى في المفاوضات الثنائية. غير أنه ليس هناك ما يدل على أن الدول سوف تتسابق لعقد صفقات ثنائية مع الولايات المتحدة، لعلمها المسبق بأن مثل هذه الاتفاقيات غير متكافئة ولن تكون في مصلحتها في ظل الضغوط الأمريكية وسياسات لي الذراع. وحتى لو افترضنا جدلاً انصياع الدول لرغبات الولايات المتحدة في إطار الاتفاقيات الثنائية، فماذا يكون مصير النظام التجاري متعدد الأطراف، التي تعمل الدول كبيرها وصغيرها من خلاله منذ الحرب العالمية الثانية وتهتدي بقواعده وتلتزم بتعهداتها؟ ومع ذلك، فيمكننا القول إنه  لا يوجد حاليًا شواهد تدل على أن بقية العالم سيغير من سياسته هاتفًا ومؤيدًا لسياسات ترامب، مما يجعل الولايات المتحدة على خلاف صريح مع دول العالم أجمع بشأن مستقبل التجارة الحرة الدولية.

وترفض الدول توجه الإدارة الأمريكية وتسعى للتكتل ضدها حفاظًا على النظام القائم وحمايته من حرب تجارية وإبقاء أسواقها مفتوحة، حيث تذهب أستراليا إلى بذل جهود مضنية لاستمرار المشاركة عبر المحيط الهادي بدون الولايات المتحدة، بل ولا يمانع البعض من إقناع الصين بالانضمام تعويضًا عن الولايات المتحدة. وتدفع الصين باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية والتي تتكون من 16 دولة في آسيا والمحيط الهادي.

وجاء توقيع الاتحاد الأوروبي واليابان على اتفاق مشاركة اقتصادية في 17 يوليو الجاري في طوكيو ردًا صريحًا على سياسة الإدارة الأمريكية. ومن المتوقع أن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ أوائل عام 2019. ويأمل هذان العملاقان في التجارة أن يسفر اتفاقهما عن قيادة عالمية جديدة في مجال التجارة من شأنها دعم استمرار التحرير والتصدي لسياسات الحماية على الصعيد العالمي، وهما لا شك يتفقان في ذلك مع سياسات الصين التي أكدت مؤخرًا في مؤتمر قمة دول الـBRICS، المنعقد بين قادة كل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في الفترة ما بين 25 و27 يوليو 2018 في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، حيث أشار رئيس الصين Xi Jinping أن السنوات القادمة سوف تشهد إعادة تشكيل جذرية للنظام التجاري الدولي ودعا قادة المجموعة للترويج لاقتصاديات مفتوحة ترفض سياسات الحماية الجديدة. وطالب المجموعة بأن تكون حازمة في رفض الأحادية والحمائية. وأضاف في كلمته أن المجتمع الدولي وصل إلى مفترق طرق جديد، يواجه الاختيار ما بين التعاون والمواجهة، بين الانفتاح والانغلاق، بين المنفعة المتبادلة وسياسات إفقار الجار، بما سيعود بالنظام التجاري الدولي إلى فترة الكساد العالمي في الثلاثينيات من القرن الماضي وتحريض الدول على حرب تجارية يخرج منها الجميع خاسرين.

وعلى الرغم من قلق دول العالم إزاء التعريفات الأحادية من جانب الولايات المتحدة وشروع البعض في المعاملة بالمثل، فإن الأغلب ظنًا أن كبريات الدول التجارية سوف تسعى جاهدة إلى تحجيم تأثير هذه الزوبعة – التي هي في قناعة الكثيرين مؤقتة قياسًا بتجارب سابقة (الرئيسان نيكسون وبوش الابن على نحو ما أشرنا عاليه). ويبدو أن الصين هي اليوم خط الدفاع الأول للتعددية وحرية التجارة، وتراجع الولايات المتحدة إلى الانعزالية، بما يهدد تصدع نظام التجارة الدولية وشل الاقتصاد العالمي. يتعين على العالم أن يتبع ما هو في صالح شعوبه، فإننا لسنا بحاجة إلى العودة إلى الثلاثينيات والكساد العالمي من خلال الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأمريكي.

الخاتمة

ولا ينكر أحد أن لدى الولايات المتحدة مشكلة، ولكن هذه المشكلة ليست مع الصين، كما أنها لم تكن منذ عقود مع اليابان أو ما قبلها مع ألمانيا، في أعقاب ازدهار اقتصاديات تلك الدول وغزوها للسوق الأمريكي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. إن المشكلة تكمن داخل الولايات المتحدة نفسها، فإنها دولة مستهلكة وتنفق ببذخ. فإن عملتها هي الاحتياطي الدولي ولا تحتاج إلى رصيد من الاحتياطي العالمي لحماية ودعم اقتصادها. فطالما عاشت الولايات المتحدة فوق قدراتها الاقتصادية، سواء فيما تنفقه على حروبها وسيطرتها على العالم أو فيما تنفقه على دولة الرفاهية، مما حدا بالرئيس نيكسون عام 1971 إلى وقف تحويل الدولار إلى الذهب، وما أداه ذلك إلى انهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة. غير أن الإدارة الأمريكية نجحت في الحفاظ على الدولار في القمة لاستمرار حاجة العالم إلى الدولار ولم ينهار بوقف تحويله إلى ذهب وأصبح مجرد عملة ورقية، مثله مثل سائر العملات. كما أن الشعب الأمريكي هو الآخر شعب استهلاكي ولا يعرف معنى الادخار. فهو أيضًا يعيش فوق طاقته من خلال بطاقات الائتمان، يقتني المنازل والسيارات الفارهة ولا يعرف كيفية سداد أقساطها، وهو الذي أوقع العالم في الأزمة المالية في عام 2008 إثر أزمة العقارات الأمريكية أو ما عُرف بفقاعة العقارات. فإن مشكلة الولايات المتحدة تكمن في طريقة عيشها وفي إلزامها العالم على دفع قروضها وأقساطها.

والرئيس ترامب كرجل أعمال، مثله مثل الكثيرين، ليس لديه رؤية طويلة الأجل، ولا يسعى إلى الإصلاح طويل المدى، فهو كرجل أعمال يسعى إلى تحقيق عائد سريع وصفقات مربحة عاجلة. ولا يعرف كيف يدخر أو ما بوسعه أن يفعله لتشجيع شعبه لزيادة المدخرات الوطنية وإقناع إدارته بخفض النفقات. فإن ذلك وحده هو الكفيل بخفض عجز ميزان المدفوعات الأمريكي والتراجع عن إلزام العالم بدفع القروض الأمريكية وعيشها خارج حدود إمكانياتها. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو لماذا؟ ومن الذي يلزم شعب الولايات المتحدة إلى تغيير نظام عيشه؟ طالما استمر الدولار في قمة عملات الاحتياطي الدولي، وطالما استمرت الحاجة إليه، لن تغامر أي دولة بإسقاط الدولار من على عرشه، وأولى هذه الدول هي الصين، التي تمتلك أكثر من 3,5 تريليون دولار كاحتياطي عملة صعبة في خزائنها.

ولا يعرف الرئيس ترامب كيف يتعامل مع نظام متعدد الأطراف، فإنه كرجل أعمال طالما كان سيد قراره، وهو يريد الانفراد بالسلطة. وفي تصوره أنه قادر على تغيير العالم وقادر على الفوز بالحرب التجارية وقادر على ترويض أعداء الولايات المتحدة وقادر على مناورة حلفائها. فهل سيقود ذلك كله العالم إلى الأسوأ أو إلى الأفضل؟ فالتاريخ سوف يحكم. غير أنه يبدو من خلال السياسات التي يتبعها الرئيس ترامب، أن الرابح الوحيد الآن هو الرئيس ترامب وما يرضي غروره.

اظهر المزيد

د. ماجدة شاهين

مدير مركز الأمير الوليد بن طلال للدراسات والأبحاث ...

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى