2019العدد 179ملف ثقافي

زكي نجيب محمود.. مسيرة حياة وقصة عقل

على منوال موسى بن ميمون في تاريخ الفكر اليهودي، وابن رشد في الفكر العربي الإسلامي، أولئك الذين صاغوا منطق العلاقة بين العقل والإيمان في مراحل تحول كبرى داخل ثقافاتهم، يقف د. زكي نجيب محمود شامخًا على قمة الموجة الثالثة “التوفيقية” في تيار النهضة العربية، والتي مثلت دعوة للنهوض كما أرادت الموجة الأولى الإصلاحية إبان القرن التاسع عشر. ودعوة للانفتاح على الآخر كما أرادت الموجة الثانية / العلموية مطلع القرن العشرين.

بل يمكن القول إنه قام بدور يقارب كانط في تاريخ الفكر الغربي، حيث تمكن الفيلسوف الألماني من إعادة صياغة الثنائية الديكارتية، المضمنة في الكوجيتو (الفكر ـ الامتداد) التي أسست للفلسفة الحديثة على قاعدة تصورين أساسيين: أولهما هو الألوهية المفارقة للوجود، حيث الإله ذات مطلقة، تسمو على العالم وليست محايثة له، أي قائمة فيه ومباطنة لموجوداته، باعتبارها أصل تلك الموجودات وروحها الداخلي. وثانيهما هو الإنسان المتسامي على الطبيعة، والمحكوم بقانون الإرادة الذي يتيح له فرصة الاختيار تعبيرا عن ملكة الحرية، فيما الطبيعة محكومة بقانون العلية الذي يعكس حتمية آلية، تقوم على الجبر والانتظام تحت طائفة قوانين كونية متسقة وشاملة تتحكم بها. هذه الثنائية تعرضت لتحديات وضغوط كبيرة أفرزتها الثورة العلمية انطلاقا من فيزياء نيوتن، كادت تُشطرها بين تيارين متناقضين يتجذر كلاهما في ديكارت، ولكن أحدهما مادي يركز على الامتداد إلى درجة إنكار الفكر، وهو التيار الذي انعكس في فلسفة اسبينوزا  التي أكدت على الواحدية المادية، التي سعى الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم إلى تهذيبها في ثنائية شبه مادية، تمايز بين الطبيعة والإنسان ولكنها تعطي للطبيعة الأولوية في عملية المعرفة على حساب العقل الإنساني. أما التيار الآخر فروحي يركز على الفكر إلى درجة تهميش الواقع أو نفيه، وهو الطريق الذي شقه ليبنتز مؤكدا على واحدية روحية، تتصور الوجود كله، وفي قلبه الطبيعة، باعتباره مجموعة من الجواهر الروحية (المونادات) التي تشكل حركتها الأبدية طبيعة الوجود الكوني وهو الفهم الذي حاول الفيلسوف الإنجليزي جورج باركلي تخفيفه، بإعادة التأكيد على ثنائية ديكارت ولكن مع إعطاء أولوية للمكون الروحي، إذ اعترف بواقعية الطبيعة نعم ولكنه منح العقل الإنساني قدرة مطلقة على معرفتها حتى لم يعد لها وجود إلا بإدراك العقل لها.

ومن ثم بدا الإيمان الروحي وكأنه نقيض للعقلانية العلمية، حتى جاء إيمانويل كانط في ذروة عصر التنوير ليعيد بناء الثنائية الديكارتية على قاعدة أكثر صلابة، مميزا بين طرائق معرفة الطبيعة وما بعد الطبيعة، ومؤكدا على أهمية الذات / العقل من جانب والواقع / المادة من جانب آخر، مؤسسا للنزعة النقدية التي مثلت على صعيد الفلسفة ما يوازي الانقلاب الكوبرنيقى على صعيد الفلك، حيث الواقع المادي قائم ومعترف به اعترافا كاملا، لكنه لا يعطينا سوى انطباعات أو مدركات حسية لا يمكن فهمها أو تحويلها إلى أفكار إلا من خلال العقل البشري ومبادئه الكلية، التي تحتوي على مقولات (وسائط للفهم والتأمل والتحليل) من قبيل الزمان والمكان والعلية، تنظم الواقع وتجعله قابلا للفهم العقلي، حيث صار العالم الطبيعي يدور في فلك العقل الإنساني، الذي احتل موقع المركز في عملية الفهم، مثلما تدور الأرض حول الشمس التي احتلت موقع المركز في النظام الفلكي.

شيء مشابه قام به زكي نجيب محمود في الثقافة العربية الحديثة، التي احتل فيها محمد عبده موقع ديكارت، منذ قدم صياغته الرائقة للعلاقة بين العقل والنص، معطيا الأولوية للعقل، مؤكدا على أن النص لا يمكنه أن يتناقض مع العقل، فإذا ما تبدى تناقض كان بالضرورة (ظاهريا)، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ في النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية. وهكذا لا تبدو مركزية العقل استعلاء على النص أو رفضا له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه. غير أن هذا الفهم الثوري توارثه تياران طالما تصارعا على الثقافة العربية طوال القرن تقريبا بين التاسع عشر والعشرين: أولهما العلموي الذي تجسد في شبلي شميل  وفرح أنطون كمدافعين عن النزعة التطورية الداروينية والفلسفة الرشدية، كما في سلامة موسى الذي دافع بشراسة عن مجمل الفكر الغربي المادي. وثانيهما السلفي الذي تجسد في رشيد رضا ثم حسن البنا، مدافعا عن يوتوبيا الخلافة الدينية، على نحو أفضى إلى الإسلام السياسي ثم الجهادي. في هذا السياق كان زكي نجيب محمود، هو الرجل الذي أعاد بناء ثنائية محمد عبده (العقل والنص) مستندا إلى إسهامات الفكر العقلاني التالية على المصلح الكبير، ولكن متمما لها وواضعا إياها في قالب توفيقي هو (الأصالة والمعاصرة).

النشأة والتكوين

عندما ولد الطفل زكي نجيب محمود عام 1905م بقرية ميت الخولي عبدالله، من أعمال مدينة المنصورة محافظة الدقهلية آنذاك ودمياط الآن، كانت الثقافة العربية لا تزال تعيش حال صدمة حضارية منذ وعى أهلوها بحقيقة تخلفهم، وضرورة تجددهم، وأدرك مبدعوها الحقيقة الملتبسة للغرب الذي طرق أبوابهم قبل القرن ونيف بمطبعته ومدفعه على السواء فتبدى لهم نورا ونارا، ولكنهم دوما، فشلوا في تعيين الطريقة التي بها يتم دفع النار قبل أن تصبح حريقا، من دون أن يحرموا أنفسهم من نور يبصرون به حقيقة عالمهم.

لقد حدث الكشف الثقافي ووقعت الصدمة الحضارية، وبعدها بدأ طوفان أسئلة لم يتوقف. ذهب مفكرون عرب إلى البر الغربي وعادوا. درس بعضهم بتمعن، وألقى بعضهم الآخر نظرات عابرة. بقي البعض ثابت العقل، وتهاوى جنان البعض الآخر. في البداية دارت كل خطابات النهضة العربية حول إصلاح الإسلام، حيث حاول رفاعة الطهطاوي تحقيق النهضة من خلال نقل الأعمال الكبرى في الثقافة الغربية إلى العربية، ودعا خير الدين التونسي إلى منهجية عقلية تنزرع جذورها في التربة الإسلامية لاستنبات رجال دين يعرفون الدنيا كما يعرفون الشريعة. كما دعا الألوسي إلى إصلاح شامل تتكامل فيه مناهج إصلاح العقيدة، والشريعة، والفكر، والأدب، واللغة. ثم كانت دعوة الثائر جمال الدين الأفغاني إلى التحرر من التخلف والتقليد باستعادة العقلانية الإسلامية في مواجهة اتهامات مفكري الغرب الدهريين للإسلام وعلى رأسهم الفرنسي “أرنست رينان” الذي جادله كثيرا في مناظرات معروفة. وصولا إلى الإمام محمد عبده، الذي صاغ تلك المحاولات منهجيا بدعوته إلى “عقلانية إسلامية” يمكن اكتسابها من خلال التربية. وفي إلماحه تشي بتدين صوفي لدى زكي نجيب محمود في صباه المبكر، الذي رافق هذه الموجة النهضوية، ربما بتأثير قضائه بعض أيامه في كتاب “الشيخ ربيع” وحفظه لبعض سور القرآن الكريم، يقول في سيرته العقلية متذكرا: “قدمت الذاكرة إلى غلاما في الخامسة عشر تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل”.

وعندما أخذ زكي نجيب محمود  يمارس دوره الفكري في ثلاثينيات القرن العشرين كان خطاب النهضة الإصلاحي قد تبلور في تيارين نقيضين: أولهما سلفي انحاز إلى الأصالة الإسلامية، باعتبارها المكون الأكثر تقليدية في الفكر النهضوي، بعد أن أعاد فهمه وتأويله حسب أكثر التصورات محافظة. وفي هذا السياق تندرج أعمال وأدوار رجال من قبيل محمد رشيد رضا الذي اعتبر استعادة الخلافة الإسلامية هدفا وغاية. ومحمد فريد وجدي الذي رأى الإسلام أصلا جوهريا للمدنية الحديثة، ومن ثم فالرجوع إلى جذوره هو الطريق الحقيقي لاستعادة المدنية العربية. وشكيب أرسلان الذي ربط التخلف العربي بالضعف الأخلاقي، وفقدان الهمة ومن ثم دعا إلى استعادة كليهما من قلب النص القرآني، المنبع الذي نهل منه أسلافنا الأوائل. وثانيهما هو التيار التغريبى (العلموي) الذي ارتاد أفقه فرح أنطون وشبلي شميل، وعلى نحو ما منصور فهمي ومحمد حسين هيكل في مرحلة شبابهما واندفاعهما الفكري، فيما صاغ منطقه وأشاعه في الفضاء الثقافي العام المفكر سلامة موسى. تبنى هذا التيار المرجعية الثقافية الغربية كاملة، تحت تأثير السطوة التاريخية لتجربة الحداثة. فسياسيا كان المركز الغربي هو المتحكم في شئون العالم وتنظيمه المركزي آنذاك (عصبة الأمم)، واقتصاديا كانت أوروبا هي التي أنجزت لقرنين مضيا الثورة الصناعية الأولى، وكانت الولايات المتحدة تعمل على إنجاز الثورة الصناعية الثانية التي مكنتها من تغيير وجه العالم بالصناعات الكيماوية والهندسية وصولا إلى التكنولوجيا النووية بعد الحرب الثانية مباشرة. وعسكريا كان الغرب بجناحيه الرأسمالي والشيوعي يسيطر على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ولم تكن هناك أي قوة فكرية أو سياسية تستطيع التصدي له. وقد بلغت هذه الموجة ذروتها بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب الثانية تقريبا، في فترة يمكن أن نسميها “عصر التنوير المصري”.

وعلى هذا وقع زكي نجيب محمود الشاب، في مرحلة تكوينه، بين تيارات فكرية متعددة تركت أثرها عليه، فهو تارة، حسب وصفه لنفسه: “الطالب المتدين الذي امتدت به الدراسة بمدرسة المعلمين العليا حتى عام 1930، وهو تارة أخرى المثقف الناشئ، والأديب الواعد الذي لا يزال يبحث عن نفسه بين رفوف الكتب، وأشتات الأفكار، وفي ثنايا المذاهب”. وهو أيضا المتفلسف الناشئ، المنفتح على مجلة “المجلة” وصاحبها هو سلامة موسى، الداعي إلى “قتل” التراث من ناحية، وعلى مجلة الرسالة وناشرها هو أحمد حسن الزيات الأقرب إلى “إحياء” التراث من ناحية أخرى. وهو في الوقت ذاته عضو نشيط في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومشارك للأستاذ أحمد أمين في تصنيف وترجمة أعمال أدبية وفلسفية غربية، شكلت نافذة على الفكر الغربي مثل: “قصة الأدب في العالم”، و”قصة الفلسفة اليونانية” و”الفلسفة الحديثة”. وربما منحه هذا التعدد ثراء معرفيا كبيرا، ولكنه في المقابل أعاقه عن بلورة موقف فكري واضح، على نحو جعله يجمع بين صوفية ترى في الوجود كله وحدة لا تعدد فيها ولا تمايز بين أجزائها اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع ما دفعه إلى تفسير عينية ابن سينا. وبين نظرة علمية دفعته ليكتب منتصرا للقوانين الطبيعية ضد فكرة المعجزة متأثرا بـ “اسبينوزا” قائلا: “إن قدرة الخالق إنما تتمثل في أن تطرد قوانين الكون اطرادا لا يقف في سبيله شيء، وليست قدرته في أن يوقف الشمس كما يقول رواة المعجزات أنها وقفت ليوشع، أو أن يشق البحر كما يقولون أنه انشق لموسى، ولا أن يبرئ الأكمه والأبرص بلمسة كما يقولون عن عيسى..”. وقد استمر هذا الموقف الفكري حتى السفر إلى لندن لنيل رسالة الدكتوراه في موضوع (الجبر الذاتي) عام 1944م، مراوحا بين تدين لدرجة التصوف، وبين عقلانية ترفض المعجزات المعطلة للقوانين الطبيعية، وهو ما نراه من جانبنا موقفا رواقيا، يعول على الحكمة والتأمل، ويستوعب الرؤية الروحية للوجود، ما يعني أنه موقف فلسفي أكثر منه تدينا تقليديا، وهو ما بات واضحا مع عودته من لندن عام 1947 داعيا للوضعية المنطقية.

الوضعية المنطقية والغربة الثقافية        

أصابته السنوات الثلاث التي قضاها في جامعة لندن بصدمتين ثقافيتين كشف عنهما زكي نجيب محمود في كتابه الأدبي الباكر “جنة العبيط”: الأولى صدمة الحرية. والثانية صدمة العلم. ومن ثم  راح يمعن النظر في الاتجاهات الفلسفية الغربية، القادرة على عقلنة وتحرير الشخصية العربية، ليجدها أربعة أساسية جذرها المشترك هو اتخاذ “الإنسان” في حياته الدنيوية محورا للاهتمام: أولها يتمثل في فلسفة التحليل اللغوي (الوضعية المنطقية)، السائدة في بريطانيا، فما دامت تصب اهتمامها على التفكير العلمي فهي بالتالي تقصر هذا الاهتمام على ما هو ذو صلة بحياة الإنسان على هذه الأرض. وثانيها هو الفلسفة البرجماتية السائدة في أمريكا وأساسها هو أن الفكرة تعد صحيحة إذا كانت نتائجها نافعة للإنسان، فليس المهم هو “أصل الفكرة” من أين جاءت وكيف جاءت؟ بل المهم هو ما تثمره للإنسان من نتائج تنفعه في حياته. وثالثها هو الفلسفة الوجودية في غرب أوروبا، ومدارها حرية الإنسان فيما يتخذه لنفسه من قرارات ليكون مسئولا عنها أخلاقيا. ورابعها هو الفلسفة المادية الجدلية السائدة في شرق أوروبا ومحورها هو أن الحياة الثقافية، بما فيها القيم الأخلاقية والجمالية إنما تولدت عن الحياة الاقتصادية، فإذا تغيرت أسس الحياة الاقتصادية المادية، تغيرت بالتالي دنيا الثقافة، وإذن ففي مقدورنا أن نشكل الحياة العلاقات الاقتصادية تشكيلا ينتهي بنا إلى إقامة حياة إنسانية تصون للإنسان حقوقه”.

وقد اختار الرجل من بينها جميعا “الوضعية المنطقية”، وهي فلسفة تسعى إلى إقامة مطابقة بين بنية اللغة والعالم،  باعتبار أن اللغة هي نفسها الفكر وليست مجرد وعاء له، وأن العقلانية تفترض الاستخدام الجيد للغة بحيث يكون  لكل ما تنطوي عليه مفردات اللغة من جمل وعبارات شواهد وأعيان في الواقع الخارجي، فإذا لم توجد تلك الشواهد والأعيان كانت المفردات هذه محض لغو لا معنى له، ومن ثم يصبح استخدامها غير صحيح أو مشروع. تلك الصيغة، الأكثر راديكالية للعقلانية، كانت قد تبلورت في سياق حلقة فيينا خلال الربع الأول من القرن العشرين، على يدي رواد من أمثال كارناب وشليك، وفتجنشتين، أولئك الذين حاولوا أن يضعوا الكون في إطار لغوي، تتضافر في صنعه الرياضيات والمنطق، إذ يستجيب للنزعة الحتمية الموروثة عن فيزياء نيوتن، ويؤكد على الثقة المفرطة في العلم الطبيعي / التجريبي، وفي قدرته على تفسير شتى جوانب الظاهرة الإنسانية.

ومنذ عودته 1947 وحتى مطلع الستينيات عاش زكي نجيب محمود كداعية للوضعية، التي رآها طريقا وحيدا لتخليص الثقافة العربية من هيمنة الميتافيزيقيا. ففي كتاب “شروق من الغرب” الصادر عام1951م بدأ تلك الدعوة. وفي كتاب “المنطق الوضعي” بجزئيه: “المنطق الصوري”، و”فلسفة العلم” 1952م، صاغ مانيفستو دعوته المنطقية على هذا النحو: “أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية، يكثر أو يقل، بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه”. ثم توالت أعماله طيلة الخمسينيات معبرة عن هذا الاتجاه نفسه مثل “خرافة الميتافيزيقيا عام 1953م، و”نحو فلسفة علمية” عام 1960م، فضلا عن كتابين صدرا له عامي 1956م، 1958م الأول عن فلسفة “برتراند رسل” الذي كان قد أمد الوضعية المنطقية بكثير من أدواتها التحليلية وإن لم يعلن انتماءه إليها رسميا. والثاني عن “ديفيد هيوم” الأب الأول للتيار الوضعي العام منذ القرن الثامن عشر. وقريبا منها يأتي كتاب “حياة الفكر في العالم الجديد” مؤرخا للفلسفة الأمريكية في تيارها الأساسي “البراجماتي” والذي يبدو فرعا للأصل الوضعي، وخاصة لدى تشارلز بيرس، ووليم جيمس، وجون ديوي. وقد  أفضت حماسته الوضعية إلى الهجوم عليه تحت وطأة هاجسين:

أولهما: هو الإلحاد ظنا من مهاجميه بأنه مادام ينفي المعرفة الميتافيزيقية، ووجود الله من القضايا الميتافيزيقية، فهو إذن ينفي وجود الله. ولم يكن ذلك صحيحا، فهو لم يتصور الوضعية المنطقية “مذهبا فلسفيا “موجبا يطرح تصورات “كلية” عن القضايا الفلسفية الكبرى من قبيل: الله، والحرية والخلود مثلا، بل تصورها “منهجا” للتفكير العلمي يتوقف عند حدود العالم الطبيعي والواقع الاجتماعي، حيث يستحيل إقامة البرهان التجريبي على ما  فوق أو بعد الطبيعة، خصوصا وجود الله. ورغم أنه نفسه يؤمن بوجوده، فإن هذا الإيمان لا يأتيه من خلال التجربة بل عبر الوجدان، أي الحدس المباشر كطريق للمعرفة أوسع وأشمل من طريق العقل الخالص، وإن لم يكن بالضرورة مناقضا له. وبمعنى أبسط أراد القول: مات أرسطو.. عاش بيكون. غير أن هذا القول قد أفضى إلى منع كتابه “خرافة الميتافيزيقيا”، والذي عاد ليصدره هو نفسه، بعد أكثر من العقد، ولكن بمقدمة شارحة، وعنوان أكثر مهادنة “موقف من الميتافيزيقيا”. ولذا فقد اعتز  الرجل كثيرًا بوصف العقاد له (أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء)، إذ اعتبره شهادة تمكين له في الحقل الثقافي.

أما الثاني: فهو “التغريب الثقافي”، وهنا تبدو دعاوى مهاجميه أكثر جدية؛ ذلك أن قصر دور الفلسفة على التحليل اللغوي لقضايا العلم التجريبي، استخلاصا لمبادئه وقوانينه العامة، ومن ثم نفي فاعلية الفكر الفلسفي في بلورة المبادئ التأسيسية والمفاهيم الكبرى، إنما تعني الخضوع لتصور أحادي عن “العقلانية” ينهض على الحتمية العلمية، ويستعيد مقولات التنوير المادي، وهو الفهم  الذي كان قد أخذ يتراجع في الغرب نفسه آنذاك (ستينيات القرن العشرين) بفعل نجاح فلاسفة علم من أمثال كارل بوبر، وتوماس كون، في الكشف عن منطق للكشف والتطور العلمي يكرس لمفهوم الاحتمال على حساب الحتمية، وصعود تيارات فلسفية تؤسس لنفسها على نسبية فيزياء أينشتين بدلا من استاتيكية فيزياء نيوتن، على نحو ينفي عن الوضعية المتطرفة حق الحديث وحدها باسم العلم التجريبي، وعن العلم  التجريبي حق الحديث وحده باسم الفكر الإنساني، وعن الغرب المتمركز حول ذاته حق الحديث باسم الإنسانية، وعن الإنسان نفسه إمكانية اختزاله في بعد واحد مادي، كما كان يؤكد هربرت ماركوزا باسم مدرسة فرانكفورت التي كانت تستعيد حضورها النقدي،  ما سوف يدفع زكي نجيب محمود إلى تجاوز الموقف الوضعي.

الأصالة والمعاصرة   

نعترف أن كثرا سبقوا الراحل الكبير زكي نجيب محمود على طريق النزعة التوفيقية، غير أن دعوتهم إليها بقيت متناثرة، رهينة تعبير أدبي ما في رواية كما كان الأمر لدى نجيب محفوظ، أو خبيئة نزعة فنية رومانسية أقرب إلى الحدس الصوفي منها إلى التحليل العقلي كما كان الأمر في دعوى “التعادلية” لدى الحكيم في كتابه الموجز تحت العنوان نفسه، أو قرينة معالجة جزئية كما كان الأمر لدى علي عبد الرازق في كتابه الأثير “الإسلام وأصول الحكم”، أو حتى في كتاب إشكالي صادم كما كان الأمر لدى طه حسين “في الشعر الجاهلي”.. إلخ. وعلى الأكثر في محاولات أولية لاستيعاب التراث وتجاوز بنائه السلفي على صعيد المضمون والقضايا وطريقة العرض من ناحية، وإلى تقديم الفكر الغربي المعاصر من ناحية أخرى، جسدها الأستاذ أحمد أمين ومن حوله المدرسة الفلسفية النشطة في الترجمة والتصنيف ثم التأليف والتي ضمت توفيق الطويل، ويحيى هويدي، وعثمان أمين، وزكريا إبراهيم وغيرهم، إذ لم تتجاوز النزعة التوفيقية حد الدعوى العامة لتستقر في مشروع كبير يمتد بعمر صاحبه كما استقرت لدى زكي نجيب محمود الذي تمكن من صوغ منطقها بدأب وحذق كبيرين.

يبدأ المشروع بكتاب “تجديد الفكر العربي” الذي صدر في عام 1970م، وينتهي تماما بسيرته الذاتية “حصاد السنين” 1993م، وإن كان قد اكتمل موضوعيا بكتاب “عربي بين ثقافتين” 1992م الذي رسم فيه الملامح النهائية لإنسان عربي يجمع بين ثقافة العصر العلمية، والوجدان القومي الخالص، أي بين “الأصالة والمعاصرة”. ورغم أن البعض يتصور أن مانيفستو هذه المرحلة يتمثل في كتاب “الشرق الفنان 1960″، فإننا لا نوافق على ذلك فيما سنبين أسبابه في حديث قادم. لكن المهم الآن هو كيف يتم استيعاب التراث في العصر؟ لا شك في ضرورة الفرز والانتقاء، ثم إعادة البناء والتركيب، وهي ملامح الإستراتيجية التوفيقية التي تنهض لدى الرجل على محورين:

الأول: أفقي حيث يتجول في مكونات الثقافة الإنسانية ليميز داخلها بين أربعة أنساق أساسية: الديني / الاعتقادي، ثم الأدبي / الفني ثم الفكري / القيمي، وأخيرا العلمي / التجريبي، تختلف نسب الأصالة والمعاصرة فيما بينها بحسب درجة التباين في معايير صدق كل منها على مؤشر نفترض أنه يتحرك من صفر إلى واحد صحيح. فعلى سبيل المثال يمثل الدين، كمكون اعتقادي، وسيلة إدراكه هي الكتاب المقدس و”الوجدان” الحد الأقصى للأصالة والذاتية والهوية، ومن ثم يحق للعقل العربي أن يتمسك إزاءه بخصوصيته الكاملة إذ لا سبيل هنا إلى معاصرة اللهم سوى في كيفية قراءة النصوص، وفي القدرة على تأويلها حيث يمكن الاستفادة بالمعارف اللغوية واللسانية والبلاغية الحديثة في الكشف عن باطن النص ومغزاه. أما العلم الطبيعي، فعلى العكس من الدين، يمثل الحد الأقصى من المعاصرة والحد الأدنى من الأصالة، فوسيلة إدراكه هي “العقل” ومن ثم يجسد النسق الأكثر كونية، ومن ثم يتعين ممارسته بموضوعية وحياد من قبل العقل العربي دونما اكتراث بنزعات من قبيل أسلمة العلوم. وفيما بين الحد الأقصى للأصالة (الدين) والحد الأقصى للمعاصرة (العلم) ثمة نسقان وسيطان. الأول وهو الفكر الإنساني باعتباره ذلك الفضاء الذي تمدد واتسع عبر محاولة العقل البشري التصدي للإجابة على أسئلة الواقع الذي يعيشه، حيث انضوت تلك الإجابات إما على مفاهيم وقيم “كونية” من قبيل الحرية أو العقلانية أو العدالة مثلا، يمكن الادعاء بأن التاريخ البشري قد تحرك صوبها وسعى إلى ضبط وتنظيم طرق الوصول إليها عبر جهود اندرجت فيها كل المجتمعات المتمدينة. وإما على مبادئ أخلاقية صاغتها أعراف المجتمعات المتمدينة هذه واستقتها على نحو خاص بها سواء من هدي تجربتها التاريخية أو من نصوصها الدينية، ومن ثم ففيها قدر من الذاتية، يجعلها تحتل موقعا تاليا للعلم الطبيعي في سلم المعاصرة. وأخيرا يأتي مركب الأدب والفن تاليا للدين على مؤشر الأصالة والهوية، كونهما مركبا ينبعث من ذائقة (ثقافية) تنغرس في التجربة الحضارية لجماعة قومية ما وإن تشاركت، في الخبرة الجمالية مع غيرها بقدر ما تنتمي للمشترك الإنساني، فالعربي قد يفضل الغناء على إيقاع الموسيقى أكثر من الموسيقى المجردة “الكلاسيكية”، بينما يميل الغربي إلى الأخيرة أكثر، ولكن ذلك لا يصلح مؤشرا لاتهام هذا الطرف أو ذاك بتدني الذائقة الفنية، فلا معايير دقيقة هنا يمكن القياس عليها، والأحكام هنا ذوقية. وعلى هذا تصبح الهوية العربية هي حصيلة اجتهادنا الذاتي في فهم الدين، ومستوى إبداعنا الجمالي في الفن والأدب، ومدى إسهامنا الفكري في التطور الإنساني، ومحض مشاركاتنا في النشاط العلمي الكوكبي. كما تصبح أصالة العربي ومعاصرته نتاجا تلقائيا لنشاطه سواء حينما يخضع لواقع العالم كما يثبته العلم، أو حينما يتجاوب مع ذاته الداخلية كما تصوغها ذائقته الثقافية.

أما الثاني: فرأسي، حيث تجول الرجل في طبقات تراثنا الذي هو “عالم أوسع من المحيط, يشتمل على جميع ما أبقت عليه الأيام بعد أن فعلت عوامل الفناء فعلها”، مثبتا الوقفات العقلانية فيه؛ لأنها تجسد منهجا للنظر يبقى صالحا للعصر، ونافيا الوقفات اللاعقلانية التي تجافي روح العصر. فعلى صعيد النفي يرفض أولا “أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسي، صاحب “الرأي” لا أن يكون مجرد صاحب “رأي”، لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم، حيث طال هذا القيد كثيرين، منهم بشار بن برد لشعر أنشده لم يعجب الخليفة المهدي فقتله، والحلاج في مأساته الشهيرة حين أمر الوزير العباسي على بن عيسى بضربه ألف سوط، ثم بقطع يديه، قبل أن يحرقه في النار لقوله بمذهب الحلول. وكذلك الإمام أحمد بن حنبل وما لاقاه من تعذيب فيما عرف بـ  “محنة القرآن” لقوله بأن القرآن “أزليا” مع أزلية الله عز وجل، ضد ما كان المعتزلة يعتقدون في كونه “حادثا” أو “مخلوقا” من الله. وهو يرفض ثانيا انسداد باب الاجتهاد، وانغلاق أفق الإبداع عندما “يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا فنميل إلى الدوران فيما قالوه وما أعادوه ألف ألف مرة”. ويرفض ثالثا خضوع المنهج العلمي للخرافة حيث “الإيمان بقدرة الإنسان / الولي / صاحب المقام على تعطيل قوانين الطبيعة، فليست الأحداث لدينا مرهونة بأسبابها الطبيعية إلا ونحن في قاعات الدرس بالمدارس والجامعات، حتى إذا ما انصرف كل منا إلى حياته الخاصة في داره أو في المجتمع، أفسح صدره لكل خرافة على وجه الأرض، يقبله راضيا مغتبطا”.

وعلى صعيد الإثبات يؤكد على الكثير من الرؤى النقدية المؤسسة لنزعات عقلانية وتحررية ابتداء من المعتزلة في القرن الثاني الهجري، وبالذات فيما يتعلق بمسألة “الفعل الإنساني”. وعند رسائل “إخوان الصفا وخلان الوفا” يؤكد على موقفهم النقدي من الشريعة التي “دنستها الجهالات, واختلطت بالضلالات, ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة..”. ولدى أبي حيان التوحيدي تفريقه بين العقل والحس, حيث الأول ثابت والثاني متغير “أن العقل يوصف بشهادة الحس, وكذلك الحس يوصف بشهادة العقل، إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى, وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد”، قبل أن يختتم وقفته  بابن رشد أحد أبرز رواد العقلانية العربية في نهاية القرن السادس الهجري، والذي أثبت مبدأ السببية الطبيعية، ضد إنكار الغزالي لها، ورده على كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” بكتابه “تهافت التهافت”، فيما جسد إحدى أبرز المعارك الفكرية بين العقل والنقل في التاريخ العربي، فليرحمك الله أيها المفكر الكبير الذي تمر علينا ذكرى رحيلك هذا الشهر، فلا نملك إلا نتذكرك بكل الحب والامتنان.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى