لم تكن عملية اجتياح القوات الإسرائيلية لمخيم جنين على امتداد يومين كاملين (3- 4/7/2023) بهذه الطريقة المتوحشة- حدثًا استثنائيًّا، بل إنها جزء من سياسة تنتهجها إسرائيل بغض النظر عن حكوماتها المختلفة؛ لإخضاع الشعب الفلسطيني، وتكريس هيمنتها عليه، وإجباره على التسليم باستمرار واقع الاحتلال والاستيطان لأراضيه.
ما يُفترض الانتباه إليه أن إسرائيل لم تعد تكتفي بالتملص من عملية التسوية مع الفلسطينيين، حتى وفقًا لاتفاق أوسلو المجحف 1993، فقط، بل إنها ظلت تؤكد صراحة رفضها إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة عام 1967، مع سعيها المستمر لتعزيز الاستيطان وزيادة المستوطنين في كل أراضي الضفة الغربية- ولاسيما في القدس الشرقية- كما أنها ظلت تتعمد إضعاف السلطة الفلسطينية، والحطَّ من مكانتها أو قيمتها أو شرعيتها أمام شعبها، وتأكيد أنها مجرد حكم ذاتي محدود على السكان فقط، وَفقًا للإرادة الإسرائيلية، من دون سيادة على الأرض والموارد والمعابر والعمليات الاقتصادية.
الجديد في سياسة إسرائيل القديمة:
أما الجديد في عهد حكومة بنيامين نتنياهو، التي باتت تُعرّف إسرائيليًّا وأمريكيًّا بأنها أكثر الحكومات تطرُّفًا في تاريخ إسرائيل، وفقًا لتشكيلها من ائتلاف أحزاب اليمين القومي والديني المتطرف، ووجود وزراء مثل “بتسيئيل سيمتريتش” زعيم حزب الصهيونية الدينية في منصبي وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع، و”ايتمار بن غفير” زعيم حزب قوة اليهودية في منصب وزير الأمن القومي، إضافة إلى بنيامين نتنياهو ذاته، وهو زعيم حزب “ليكود”، ورئيس الحكومة، فهو يتمثل في الجوانب المهمة الآتية:
أولًا: سعي إسرائيل المعلن للإطاحة بمراهنات القيادة الفلسطينية، أو آمالها بشأن إقامة دولة مستقلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967، بل واشتغالها على الحدِ من صلاحيات السلطة الفلسطينية، واعتبارها مجرد “وكيلًا أمنيًّا” لها، حتى أن الأمر وصل إلى انتهاج إسرائيل سياسات تنافس القيادة الفلسطينية على شعبها، بتعاملها مع الفلسطينيين بشكلٍ مباشر عبر”الإدارة المدنية” الإسرائيلية للمناطق المحتلة، أي أن الأمر لم يعُد يقتصر على سلب الأرض الفلسطينية، أو تقويض سيادة السلطة في أراضيها فقط، بل بات يشمل- أيضًا- تقويض سيادتها على شعبها، وفقًا لمعادلة العصا والجزرة، أو الترهيب والترغيب، أو المنافع والمخاسر، وتبعًا لمفهوم إسرائيل بخصوص ما تسميه فرض “السلام الاقتصادي” والتنسيق الأمني أو “أمن إسرائيل” أولًا.
وبحسب مقال مشترك للمحللين الإسرائيليين في معهد بحوث “الأمن القومي الإسرائيلي” (كوبي ميخائيل، وتمير هايمن، وأوري فيرتمان) تم فيه تلخيص وجهة النظر الإسرائيلية في الكيان الفلسطيني الناشئ نتيجة لاتفاقات أوسلو للأهداف الآتية: “تأمين الفصل السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين في المناطق؛ من أجل وقف تهديد الدولة ثنائية القومية، وتحسين الواقع الأمني والتخلص من عبء إدارة الحياة اليومية للسكان (الفلسطينيين)، وتحسين المكانة الإقليمية لإسرائيل كمنصة لاتفاقات سلام وتطبيع أخرى (مع دول عربية)، في الوقت نفسه رأى فيها التيار الرئيس للمجتمع الإسرائيلي وعلى طول السنين كيانًا للحكم الذاتي والذي هو أقل من دولة. في المقابل، شكَّلت السلطة الفلسطينية للفلسطينيين مرحلة في الطريق لدولة مستقلة.”(3/6/2023)
ثانيًّا: بات الفلسطينيون إزاء تحوّل كبير وخطير في دلالاته وآثاره وتداعياته، إذ في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية لم يعد الصراع في الضفة الغربية مع الجيش أو مع السياسات الاحتلالية الإسرائيلية فقط، إذ بات مع المستوطنين اليهود أيضًا، الذين يحظون بدعم الجيش، مع إصرار تلك الحكومة على حق المستوطنين اليهود فيها الاستيطان في ما تعتبره “أرض إسرائيل الكاملة” من النهر إلى البحر، واستخدام القوة لتأكيد ذلك، كما حصل في القدس الشرقية وفي حواره قرب نابلس وترمسعيا قرب رام الله، والذي تضمن اعتداء على الفلسطينيين في ممتلكاتهم وأماكن سكنهم وعلى الطرقات. ومع أن ذلك ليس جديدًا تمامًا، إذ حكم ذلك كل الحكومات الإسرائيلية (العمل، وليكود، وكاديما، وبينيت- لابيد)، منذ ثلاثة عقود، أي منذ توقيع اتفاق أوسلو (1993)، لكنه الآن يجري في إطار رسمي تتبناه حكومة نتنياهو علنًا، وأيضًا، فإن هذه الحكومة لا تعترف بأية أراضٍ تخضع للسيادة الفلسطينية كما هو مفترض.
وعلى أية حال فإن بنيامين نتنياهو أفصح عن ذلك النهج بإعلانه إصرار إسرائيل على “كبح تطلعات الفلسطينيين لدولة مستقلة”، وفي قوله بأن إسرائيل “بحاجة إلى السلطة الفلسطينية…نحن لا نريدها أن تنهار. نحن على استعداد لمساعدتها من الناحية الاقتصادية. لدينا مصلحة بأن تواصل السلطة عملها…إنها تقوم بالعمل نيابة عنَّا.” (“هآرتس”، 26/6/2023).
الإدارة المدنية محل السلطة الفلسطينية:
ثالثًا: على ذلك فإن مشكلة السلطة الفلسطينية اليوم أيضًا لا تكمن في سعي إسرائيل لإضعافها، وتوسيع الفجوة بينها وبين شعبها، ونزع شرعيتها فقط، إذ باتت تكمن أيضًا في محاولة إسرائيل لإزاحتها من المشهد، أو استبدالها بالإدارة المدنية الإسرائيلية للمناطق المحتلة (يفترض أنها حلت بعد إقامة السلطة)، التي باتت تسير أمور الفلسطينيين بشكل مباشر من دون وساطة السلطة.
يمكن ملاحظة ذلك، مثلًا، في تسهيلات العمل في إسرائيل، وفي عقود العمل التي باتت تتم من دون وكالة هيئات السلطة المعنية، علمًا بأن عدد العمال الفلسطينيين النظاميين في إسرائيل بلغ نحو 200 ألف، ضمنهم 20 ألفًا من قطاع غزة، وثمة جهود لمضاعفة هذا العدد، كما لإنشاء مناطق صناعية محاذية لقطاع غزة، مع ملاحظة أن العامل الفلسطيني في إسرائيل يتقاضى ستة أضعاف أجره في الضفة والقطاع، أي يبدو العمل في إسرائيل كامتياز، وكل ذلك في إطار ما تعتبره إسرائيل “السلام الاقتصادي”، ووعود تحسين عيش الفلسطينيين والتسهيل عليهم في ظل الاحتلال. وقد شهدنا، في العام الماضي، رفض العمال الفلسطينيين في إسرائيل استلام مستحقاتهم عبر البنوك الفلسطينية، وإصرارهم على استلامها مباشرة من إسرائيل، أو المؤسسات الإسرائيلية التي يعملون فيها؛ لتجنب الاقتطاعات الضريبية التي تجبيها السلطة.
يشمل ذلك توسّع إسرائيل في منح بطاقات العبور من فئة الـ VIP للتجار، ورجال الأعمال، والشخصيات المهمة من الفلسطينيين لتوسيع القاعدة الاجتماعية للمستفيدين من وجود الاحتلال، في حين لا تستطيع السلطة شيئًا، سيما إنها كانت- منذ نشوئها- سباقة بقبول مثل هذا التمييز، بمنح الاحتلال كبار الموظفين فيها مثل تلك البطاقات، في حين يعاني الفلسطينيون على المعابر بكل أنواعها.
وفي هذا الإطار، أيضًا، يأتي سعي إسرائيل لإتاحة السفر للفلسطينيين عبر مطار رامون في النقب؛ لأنه يقلّل الأكلاف والصعوبات والوقت، التي يتكبدها فلسطينيو الأراضي المحتلة (من الضفة وغزة والقدس) لسفرهم عبر مطارات الدول المجاورة.
وقد يجدر، في سياق الحديث عن تعقيدات ومشكلات أوضاع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، التذكير بأن اتفاقات أوسلو قسّمت أراضي الضفة الغربية إلى ثلاث فئات: المنطقة “أ” وتشكل 18 بالمئة منها، وهي تحت سيطرة مدنية وأمنية للسلطة الفلسطينية، والمنطقة “ب” وتشكل 22 بالمئة منها، وهي تحت سيطرة مشتركة، مدنية للسلطة الفلسطينية وأمنية لإسرائيل، والمنطقة “ج”، وهي الأكبر؛ إذ تشكل 60 بالمئة من مساحة الضفة، وهي تحت سيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية، وهي التي تضم المستوطنات اليهودية في المنطقة، كما إن إسرائيل تتحكم بالبناء في المنطقة ب، وفي القدس الشرقية، ما يفسر حالات هدم البيوت “غير المرخصة” فيهما.
يوصّف تامير هايمن وعيدن كدوري (معهد “بحوث الأمن القومي” الإسرائيلي) هذا الوضع في إن “إدارة المنطقة الوسطى…هي صاحب السيادة في “يهودا” و”السامرة” (الضفة)؛ حيث توجد لها القدرة على استخدام القوة، وتشكيل السياسات، إلى جانب السلطة الفلسطينية المسيطرة على الفلسطينيين في مناطق “أ” و”ب”. توجد لقيادة المنطقة الوسطى صلاحيات تشريع، وقضاء، وذراع تنفيذية، تشكل نوعًا من العالم المصغر لسلطات الدولة الثلاثة، خلال هذه السنوات تطورت نظرية الأرجل الأربعة، وتجمعت عوامل دفاعية: جدار الفصل الذي أُقيم على طول الخط الأخضر بهدف منع اختراق “مخربين” فلسطينيين إلى أراضي إسرائيل، وعوامل مدنية: تطوير الاقتصاد الفلسطيني، وكذلك عوامل تنسيق أمني: إعادة الشرطة الفلسطينية للعمل واستئناف التنسيق الأمني.” (عن الأيام الفلسطينية، 13/6/2023)
حقبة جديدة من الصراع:
من كل ما تقدم يتّضح أن الفلسطينيين اليوم إزاء حقبة جديدة ومختلفة، في صراعهم من أجل حقوقهم ووجودهم، تتحكّم إسرائيل برسم ملامحها، فبعد أن أنجزت الاعتراف بوجودها (في أراضي الـ 48) باتت تصارع على الضفة الغربية، وبعد أن كانت تصارع على الأرض أضحت تنازع السلطة الفلسطينية على نفوذها على الفلسطينيين أيضًا. ومن الواضح أن كل ذلك حصل بعد أن انزاحت قيادتهم (وهي قيادة المنظمة، والسلطة، و”فتح”) من الصراع مع إسرائيل على فلسطين التاريخية (وفقًا لحدث النكبة 1948)، إلى الصراع معها لإنهاء احتلالها الضفة وغزة 1967، والسيادة في دولة مستقلة، وبعد تحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال.
وفي محصلة هذا الوضع فإن فلسطينيي الأراضي المحتلة 1967، باتوا في مواجهة ثلاث سلطات، أو نُظم قانونية: الأولى، سلطة إسرائيل وهي السلطة العليا بين النهر والبحر، من كل النواحي. والثانية، هي سلطة المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، والتي تزايدت وباتت تأخذ أشكالًا نظامية وقانونية مؤخَّرًا، سيما في إطار تعزز مكانة اليمين القومي والديني في التحكم بسياسات إسرائيل وسياساتها الاستيطانية. والثالثة، وهي السلطة الفلسطينية، التي باتت مجرد سلطة على شعبها فقط، وليس لها سيادة على الأرض ولا على المعابر، ولا تستطيع فعل شيء، لا برغبتها ولا بإمكاناتها؛ لحماية شعبها من اعتداءات الجيش الإسرائيلي وقطعان المستوطنين، كما حصل مرارًا في (القدس، ونابلس، وجنين، ورام الله، وحوارة، وترمسعيا)، الأمر الذي كشف عجز السلطة، ووسع من الفجوة بينها وبين شعبها.
وما يُفترض لفت الانتباه إليه أن السياسات التي تنتهجها حكومة نتنياهو سيمتريتش بن غفير تم تبنيها كسياسة رسمية للدولة في الاتفاق الائتلافي بين “الليكود” وتيار “الصهيونية الدينية”، والذي نص بأن “الحكومة ستعمل على فرض السيادة في “يهودا” و”السامرة”، وتفصل طرقًا مختلفة لترسيخ مشروع الاستيطان وتوسيعه وتقويته”. كما نَصَّ صراحةً على ” تسوية البؤر الاستيطانية غير القانونية المقامة على أراض فلسطينية”، وهو أمر يتناقض حتى مع ما قررته بعض الحكومات السابقة من إلغاء لبعض النقاط الاستيطانية، نتيجة لمطالب أمريكية مثلًا.
وعن ذلك رأى (كوبي ميخائيل، تامير هايمن، وأوري فيرتمان): “إن جوهر المعضلة يكمن في إسرائيل في رؤيتين: الأول، يرى أن “لإسرائيل مصلحة واضحة في وجود سلطة فلسطينية قوية وتقوم بدورها، بحيث تستطيع أن تحكم بفعالية وتوفر حاجات السكان المحليين، وتعمل لاجتثاث الإرهاب، وتعمق التعاون الأمني وتتمسك بالحوار وبالسعي لاتفاق سياسي”. أما الثاني، “يعمل بهدف متعمد وبضغوط سياسية إلى جانب تشجيع مبادرات على المستوى الميداني؛ لتعميق السيطرة الإسرائيلية على مناطق “ج” وتغيير الوضع الراهن في القدس، إلى جانب المطالبة بنشاطات حثيثة وأكثر عنفًا ضد الإرهاب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية، التي ينظر لها بنظرهم كجسم مؤيد للإرهاب. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، فإن التصعيد وتجديد التوتر سيقود إلى تعميق الفوضى في مناطق السلطة الفلسطينية وإلى إضعافها بصورة سترسخ تبرير توسيع المستوطنات الإسرائيلية، والذي سيقتضي سيطرة إسرائيلية جديدة على مناطق الضفة الغربية”. (معهد بحوث الأمن القومي، 3/6/2023)
بيد أن ما يجدر التذكير به هنا أن إسرائيل ما كان لها أن تنجح في سياساتها تلك، إزاء السلطة الفلسطينية، إلا بالاستناد إلى عوامل مساعدة: أولها، تبعية السلطة الفلسطينية لها في الاقتصاد والبُنى التحتية والمعابر، وبحكم سيطرة إسرائيل الأمنية والإدارية أيضًا على الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية. وثانيها، ضعف بنى السلطة، وانقسام كياناتها وترهل أجهزتها، وغياب علاقات المساءلة والمحاسبة فيها. وثالثها، غياب أي أفق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، في ظل الضعف العربي واللامبالاة الدولية. ورابعها، حالة الضعف التي تنتاب المجتمع المدني الفلسطيني بنتيجة قيودات السلطة، طوال العقود الثلاث الماضية، فهي لا تستطيع- بأجهزتها الأمنية- حماية شعبها في مدن (القدس، ونابلس، ورام الله، وجنين)، مثلًا: من توغلات الجيش الإسرائيلي، واعتداءات المستوطنين اليهود، لكنها لا تتهيب من استخدام تلك الأجهزة في إجهاض أية تحركات مدنية للفلسطينيين للتعبير عن ذاتهم، وعن همومهم، وقضاياهم.
دلالات معركة جنين:
في هذا الإطار يمكن البحث في دلالات اقتحام الجيش الإسرائيلي مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين (6 كيلو متر مربع، وعدد سكانه 15 ألفًا)، ويقع شمال الضفة الغربية، واجتياحه بدباباته ومدرعاته وجرافاته، وجنوده المدججين بالسلاح، واستباحته طوال يومين كاملين (4 – 5/6)، الذي بدا بمثابة استعادة، أو محاكاة حية لمشهد النكبة الفلسطينية 1948، التي نجم عنها إقامة إسرائيل، وتشريد الشعب الفلسطيني من وطنه، سيما مع تعمد تدمير مئات البيوت في هذا المخيم، وتجريف أحياء كاملة فيه، وتدمير بناه التحتية، وتخريب ممتلكات سكانه، مع تشريد ألوف منهم، بطريقة مروعة وسط أصوات القصف ودخان القذائف والحرائق، وقتل وجرح واعتقال العشرات.
ولعل أهم الدلالات التي يمكن استنتاجها من هذا الحدث تكمن في الآتي:
أولًا: الواقع أن سكان هذا المخيم من اللاجئين الفلسطينيين، هم الذين اقتلعوا من بيوتهم في (حيفا، ويافا، وعكا، والجليل، واللد، والرملة)، منذ حدث النكبة قبل 75 عامًا، بمعنى إنهم يمثلون الحكاية الفلسطينية كلها من أساسها، ما يفيد بأن الهدف المضمر من هذه الحملة هو وأد الحكاية الأصلية الفلسطينية، التي تستعصي على النسيان، سيما بوجود مخيمات للاجئين في هذا المكان أو ذاك، بدليل إن هذا المخيم ظل يتعرض لاقتحامات متكررة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية.
ثانيًا: إثبات مخيم جنين تميّزه كبؤرة كفاحية للفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، منذ احتلالها باقي الأراضي الفلسطينية (الضفة، وغزة) في حرب حزيران (يونيو 1967). وفي ذلك، فإن إسرائيل تحاول من خلال البطش بالمخيم قتل فكرة المقاومة ورفع ثمنها، بانتهاجها سياسة العقاب الجماعي إزاء سكانه، باستهداف البشر والشجر والحجر فيه بطريقة متوحشة في رسالة مضمرة لكل الفلسطينيين. وفي الحقيقة، فإن المكانة الرمزية لمخيم جنين تحققت إبان الانتفاضة الثانية (2000 – 2004)؛ إذ رغم حصار القوات الإسرائيلية له في نيسان (أبريل 2002)، واقتحامه بالدبابات والجرافات وبالوحدات الخاصة_ استطاع المقاتلون الفلسطينيون فيه تكبيد تلك القوات خسائر فادحة، تمثلت بقتل 23 جنديًّا وضابطًا، في حين لقي 56 منهم مصرعهم في مواجهة بطولية وصعبة استمرت لعشرة أيام إلى درجة أن الرئيس الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات” أطلق على المخيم بعد تلك المعركة اسم “جنين غراد”.
ثالثًا: توخّت إسرائيل في تلك العملية بعث رسالة إلى الفلسطينيين وإلى قيادتهم تحديدًا، مفادها أن لا وجود لكيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية، خارج السيطرة الإسرائيلية، وأن كل ما تتيحه لهم هو مجرد كيان حكم ذاتي إداري محدود. ولعل هذا ما صرح به بنيامين نتنياهو بذاته، مع تأكيده أن مصلحة إسرائيل تكمن فقط في وجود سلطة تقوم بالنيابة عنها بالسيطرة على الفلسطينيين وإدارة أوضاعهم، لا أكثر من ذلك، كما قدمنا.
رابعًا: أيضًا حاولت إسرائيل في استباحتها المخيم ببشره وسكانه، تأكيد إصرارها على استمرار الاحتلال، واعتبارها أن فلسطين التاريخية (من النهر إلى البحر) هي منطقة تحت السيادة الإسرائيلية، يحق للمستوطنين إقامة مستوطناتهم فيها، في أي مكان، مع إطلاق أيديهم في البطش بالفلسطينيين والاعتداء على ممتلكاتهم، كما حدث في الشيخ جراح في القدس، وفي حوارة قرب نابلس، وفي ترمسعيا قرب رام الله؛ لدفعهم للرحيل، أو الإبقاء عليهم في مجمعات محدودة ومعزولة.
ويصف جدعون ليفي وضع الفلسطينيين المأساوي والمعقد والصعب، في ظل حكومة نتنياهو والوزيرين (سميريتش، وبن غفير)، قائلًا: “حاول أن تتخيل! مئات البلطجية الحُقراء عند باب منزلك، يحرقون ويدمرون كل شيء، وكل ما عليك فعله هو انتظار مغادرتهم بالفعل. لا يوجد أحد للاتصال به، ولا شرطة ولا سلطة ولا مساعدة، أي خطوة للدفاع عن النفس تعتبر إرهابًا، تخيلوا أنفسكم مكانهم! عندما يحاول المقاتلون الشجعان في مخيم جنين الأكثر جرأة من “جنود الجيش الإسرائيلي” المحميين، وأيضًا أكثر صلاحًا منهم_ إيقاف توغلات الجيش في المخيم بأسلحتهم البسيطة، فإنهم يُعتبرون بالطبع إرهابيين لهم الحكم نفسه! الغازي شرعي ومن يحاول الدفاع عن نفسه وممتلكاته هو الإرهابي!! أخلاق وقواعد قانون لا تصدق!!”. (“هآرتس”، 25/6/2023).
وفي ذات الإطار كتب المحلل الإسرائيلي “روغل الفر”: “المستوطنون الذين يحرقون البيوت ويخربون السيارات والمحلات التجارية والبيوت والحقول في القرى الفلسطينية، وصمة عار على جبين المجتمع الإسرائيلي…الإرهاب اليهودي موجه فقط للفلسطينيين…إسرائيل تدهورت إلى حالة فوضى لا حدود معروفة لها…وقد تفككت إلى قبائل…لا يوجد في إسرائيل قانون واحد أو أخلاق واحدة، وفي ظل غيابها، سيتم حسم الصراعات الداخلية الوطنية على الأغلب بحرب أهلية.” (“هآرتس”، 26/6/2023)