2023العدد 195ملف إقليمي

ما وراء التسويات الإقليمية والتوترات العربية

باستقراء دلالات التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط حاليًّا، يمكن رصد مسارين متوازيين: أولهما مسار التصالح وتهدئة التوترات بين دول عربية، وأخرى إقليمية (إيران، وتركيا، وإسرائيل).

والثاني: هو استمرار بؤر التوتر والاضطراب في النطاق العربي، خصوصًا تلك المرتبطة بأزمات داخلية كما في (ليبيا، والسودان، ولبنان، والعراق)، فضلًا عن الحرب الدائرة في كل من (سوريا، واليمن).

وتسعى هذه الورقة التحليلية إلى تفكيك ما يبدو في ظاهره تقابلًا أو تناقضًا بين المسارين، من خلال النظر بإمعان في حقيقة المد التصالحي الإقليمي، استنادًا إلى دوافعه وقياسًا على التجارب السابقة المشابهة، وكذلك البحث في استمرار التوتر عربيًّا، وما إذا كانت أسبابه مرتبطة بالسياق العربي فقط، أم لأنها محكومة بعوامل هيكلية تؤتي مفاعيلها أينما وجدت.

أولًا: مستجدات عالمية ضاغطة:

مع نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة، ضربت العالم جائحتان متتاليتان: أولاهما، جائحة كوفيد-19 (كورونا) وهي ذات طبيعة صحية لكن تداعياتها طالت مختلف مناحي الحياة، وتسببت في حالة إغلاق عالمي وشلل شامل. أما الجائحة الثانية، فهي الأزمة الأوكرانية، التي بدأت سياسية وتحولت سريعًا إلى حرب بين معسكرين متنافسين، يجسدهما في ميدان القتال رأسا حربة هما: أوكرانيا كواجهة للغرب، وروسيا التي تقود مع الصين معسكر رفض الهيمنة الغربية وتسعى إلى تخليص النظام العالمي منها.

لكن التأثيرات التي أحدثتهما كلٌ من الجائحتين، وقعت في بيئة إقليمية وعالمية لها خصائصها ومعطياتها التي تراكمت على مدار عقد أو أكثر؛ فقد تسببت انتفاضات “الربيع العربي” في تغيير التحالفات الإقليمية وإعادة الاصطفاف الإقليمي حسب الموقف السياسي منها، فتوترت علاقات بعض الدول الإقليمية (تحديدًا تركيا) مع دول عربية- وبصفة خاصة بعض دول الخليج- وأسهمت بعض المستجدات في تأجيج ذلك التوتر، ومنها موقف أنقرة المساند لقطر في أثناء الأزمة الخليجية التي وصلت ذروتها عام 2017، ثم اختفاء الإعلامي السعودي “جمال خاشقجي” بعد زيارته لقنصلية بلاده بإسطنبول في 17 أكتوبر 2018.

على التوازي، لم تكن العلاقات التركية الأمريكية في أحسن حالاتها، سواء خلال تولي دونالد ترامب (2016 – 2020) أو بعدها مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض؛ حيث واجهت العلاقات مآزق وأزمات متتالية، سواء في النطاق الثنائي المباشر أو بخصوص قضايا إقليمية وعالمية، ومنها: قضية الطائرات الأمريكية (F-16 ، مقابل الصواريخ (S-400) الروسية([1]).

ولأن تركيا عضو بارز في حلف الأطلسي، فإن موقفها من الأزمة ثم الحرب الروسية الأوكرانية منعطف مهم في العلاقات التركية الغربية؛ إذ كان أمرًا لافتًا أن تكون تركيا الدولة الوحيدة في الحلف التي لا تصطف إلى جانب أوكرانيا، بل وتباشر أدوارًا توفيقية وتحركات وساطة بين الجانبين منها: (اتفاقية توريد الحبوب بمشاركة الأمم المتحدة). ولم تشفع هذه المرونة لأنقرة في تجنب التبعات الاقتصادية الثقيلة ([2])، التي خيمت على معظم اقتصادات العالم بفعل الأزمة ثم الحرب.

لم يكن الوضع مع إيران أفضل حالًا من تركيا، بل على العكس؛ إذ تعاني العلاقات الإيرانية العربية بشكلٍ عام، ومع دول الخليج على نحو خاص، من توتر شبه دائم وفي الحد الأدنى فتور. وكان سلوك طهران وتحركاتها الإقليمية التي اخترقت الحدود الوطنية لعدد من الدول العربية، سببًا مباشرًا في تعميق الفجوة وتعزيز المخاوف العربية من نفوذها التدخلي عبر وكلاء وحلفاء.

لم يخفف من تلك المخاوف إبرام “مذكرة التفاهم الشاملة”، التي عُرفت إعلاميًّا باسم “الاتفاق النووي” عام 2015، بل صارت تحركات إيران الإقليمية أكثر تدخلية، وورد أكثر من مرة على لسان مسؤولين إيرانيين كبار تأكيدات صريحة لنفوذها داخل دول عربية([3]). وبعد فترة انضغاط إيراني على أيدي إدارة دونالد ترامب (2016-2020)، لم تكد إيران تستفيق من ذلك “الكابوس”، إلا وواجهت تحديات متنوعة (داخلية، وخارجية)، بدأت بجائحة كورونا التي أسهمت في تجدد الاحتجاجات الشعبية، مع اتساع نطاقها على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية وسوء “إدارة الأزمة” من جانب نظام طهران.

بينما خارجيًّا، كانت الأزمة الأوكرانية اختبارًا مُهمًا للتحالف الروسي الإيراني، وكان الدعم الإيراني القوي لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا عاملًا مؤثرًا في مسارها العملياتي؛ لتكون النتيجة المباشرة لذلك الدعم عودة أجواء التوتر مع الغرب، وتعثر المفاوضات النووية بعد أن كانت عشية الأزمة الأوكرانية قد قطعت أشواطًا نحو التفاهم وبلورة اتفاق جديد.

ربما لم تمر إسرائيل بأزمات مشابهة لكل من (إيران، وتركيا)، لكنها لم تكن محصَّنة ضد التحديات والأزمات؛ حيث توالت عليها أزمات داخلية (سياسية، واقتصادية)، إلى حد نشوب تظاهرات شعبية نادرة الحدوث في الدولة العبرية. وكان لدخول جو بايدن إلى البيت الأبيض وقع سلبي على العلاقات الثنائية؛ نظرًا لوجود تنافر شخصي وخبرة سيئة له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، منذ كان بايدن نائبًا للرئيس الأسبق “باراك أوباما”.

وعلى خلاف إيران التي دعمت روسيا بقوة في الحرب ضد أوكرانيا، وتركيا الأقرب إلى الحياد، مالت مواقف إسرائيل إلى جانب أوكرانيا، الأمر الذي ارتد سلبًا على علاقاتها مع موسكو؛ لتصير الصورة العامة أن علاقات تل أبيب مع كلٍ من (واشنطن، وموسكو) تمر بمرحلة صعبة، وليست في أفضل حالاتها على الإطلاق معهما في وقت واحد.

إجمالًا، كان للشرق الأوسط بما فيه الدول العربية بالطبع نصيب وافر من المخاطر التي صاحبت جائحتي (كورونا، ثم أوكرانيا)، والتداعيات التي ترتبت عليهما، ومثَّل الاقتصاد مدخلًا رحبًا لاختراق تلك المخاطر والتداعيات الأوضاع الداخلية في معظم دول الشرق الأوسط، وهي حرجة أساسًا.

فما من دولة إلا وتأثرت اقتصاديًّا ولو بدرجات متفاوتة، إن لم يكن بضغوط تضخمية خاصة بسلاسل التوريد الغذائي خصوصًا، فبتعثر حركة الملاحة والشحن الدولية. وبعد ذلك، ارتباك مصادر الدخل القومي نتيجة تذبذب أسعار النفط وتعثر حركة التجارة العالمية- خصوصًا المتعلقة بالسلع المنتجة في روسيا وأوكرانيا مثل: الحبوب، والألمونيوم، والحديد… وغيرها.

على التوازي، كان الشرق الأوسط جزءًا من التحولات السياسية على مستوى العالم، وباتت دول المنطقة هدفًا وطرفًا في محاولات إعادة تشكيل النظام العالمي، ففقدت دول بعض قوتها وأوراقها واستحدثت أخرى؛ نتيجة تفكيك تحالفاتها مع قوى عظمى وتطوير علاقات مع قوى عظمى أخرى.

ثانيًا: سياقات التهدئة والتأزم:

1- هدنات إقليمية:

كان أثر التغيرات العالمية واضحًا ومرئيًّا في أوضاع وسياسات الدول الإقليمية (تركيا، وإيران، وإسرائيل)، ومن ذلك الأزمة التي لا يزال الاقتصاد التركي يعاني منها حتى الآن، وتكرار واتساع نطاق الاحتجاجات الداخلية في إيران في ظل استمرار وتفاقم أسبابها الاقتصادية والاجتماعية، وموجة الاحتجاجات الداخلية غير المسبوقة في إسرائيل.

لذا، لم يكن مستغرَبًا أن تنتهج تلك الدول سياسات مختلفة تجاه جوارها العربي، بحثًا في المقام الأول عن تخفيف الضغوطات الداخلية، وتحويل البيئة الإقليمية المحيطة من معادية أو مضادة إلى محايدة أو مواتية إن لم تكن داعمة، في ظل الغموض والسيولة اللذين يخيمان على مواقع وأدوار القوى العالمية الكبرى في الشرق الأوسط.

أما في حالتي (إيران، وتركيا)، كان التطور بارزًا ومفصليًّا، إذ يعد التفاهم السعودي الإيراني الذي أُبرم في مارس 2023 برعاية صينية، محطةً مهمة ومنعطفًا ليس فقط على المستوى الثنائي بينهما، لكن أيضًا بما قد يفضي إليه من تفاهمات مشابهة على المستوى الإقليمي، فقبل أن تظهر نتائج ذلك الاتفاق وتتبلور خطوات عملية له، تواترت إشارات حول قرب تطبيع العلاقات بين (مصر، وإيران)، وتكشف أن مباحثات بين الجانبين تجري في العراق([4]). ورغم غياب دلائل ارتباط بين التطورين، إلا أنهما في النهاية متزامنان.

وينطبق التسلسل ذاته على التقارب التركي العربي، لكن بوتيرة زمنية أسرع، رغم أن التوتر بين أنقرة وبعض الدول العربية كان قد قطع أشواطًا بعيدة. ومن ثم، فتحسين العلاقات وإيجاد مساحات للتفاهم لم يكن سوى استجابة مشتركة براجماتية للتحديات والضغوطات التي واجهها الجميع- تركيا وبعض الدول العربية- بشكل فرض التصالح العاجل([5]) والتقارب كخيار أفضل للجميع، ولو مرحليًّا.

بالنسبة لإسرائيل، لا يوجد ارتباط واضح بين الضغوطات التي تعرضت لها حكومة بنيامين نتنياهو والإنجاز الذي حققته تل أبيب في البيئة الإقليمية المحيطة_ بتطوير أو استحداث علاقات رسمية وغير رسمية مع دول عربية، شملت (الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسودان)؛ فالتطبيع العربي الإسرائيلي هدف إستراتيجي لإسرائيل منذ اختلاق وجودها رسميًّا عام 1948، لكن التطبيع أو إيجاد علاقات إسرائيلية عربية جديدة، وإن لم يكن استجابة لضغوط وأزمات، إلا أنه أداة جوهرية للتعاطي مع تلك الضغوط، خصوصًا الاحتجاجات الشعبية على تعديلات تشريعية مُقترحة ستفضي إلى تحصينه قضائيًّا، بعد سلسلة الملاحقات القانونية التي يتعرض لها نتنياهو بشكل متواتر، ولذا يعمل نتنياهو على الترويج لمسارات التقارب العربية الجديدة، ويسعى بجد إلى تعزيزها بإضافة دول عربية أخرى، على رأسها المملكة العربية السعودية([6]).

2- ثبات عربي:

بمسح سريع لخارطة النزاعات العربية، في (اليمن، وسوريا، وليبيا، والسودان، ولبنان، والعراق)، يمكن بسهولة ملاحظة أنها جميعًا على حالها، فقط تتراوح حدتها بين الاشتعال والاحتقان، وفيها جميعًا الحلول السياسية مستبعدة في المدى المنظور؛ إذ كلما لاحت في الأفق بوادر حل أو حتى تسوية مرحلية، نسفها طرف أو آخر، إما برفضها صراحة في موقف سياسي معلن، أو بتحرك ميداني يعيد الأزمة إلى مربع الصدام مجددًا.

وقد اقتصرت مظاهر التهدئة عربيًّا على انتهاء ما عرفت بالأزمة الخليجية، وهو وإن كان تطورًا مهمًّا وعميق الدلالة بالنسبة للمشهد العربي واحتمالات تمديد أجل بقاء وصمود النظام الإقليمي العربي، إلا أن توجيه النظر إلى النطاق الإقليمي الأوسع، يكشف أن انتهاء الأزمة على نحو مفاجئ وبدون مبررات موضوعية، ربما كان ضرورة لتهيئة الأجواء العربية لموجة التصالحات الإقليمية التي جرت بالفعل بعد نهاية الأزمة؛ إذ لم يكن منطقيًّا ولا مستساغًا أن تنحِّي بعضُ الدول العربية خلافاتها الثنائية والإقليمية مع إيران وتركيا جانبًا أو تتجه إلى تسويتها بحوار هادئ وروح تعاونية، بينما تظل الفجوة قائمة مع قطر، وقد كانت علاقاتها وتعاونها مع إيران وتركيا، ضمن الدوافع الأساسية للخلاف والقطيعة. من ثم يمكن اعتبار تلك المصالحة “الاستثناء الضروري” من دوام التوترات والأزمات العربية.

ومن مقومات الاستثنائية هنا أيضًا، أنها الحالة الأبرز بين الخلافات البينية العربية، بينما بؤر التوتر الأخرى كلها داخلية بامتياز، حتى وإن كان للأطراف الخارجية فيها (عربية، أو إقليمية، أو عالمية) دور مهم. وثمة ملاحظة أخرى في هذا الصدد، تلك أن الأزمات وبؤر التوتر العربية التي لا تزال مستمرة، لم تنشب نتيجة ضغوطات مستجدة ولا لأزمات عالمية جديدة؛ فالأزمات والنزاعات العربية قائمة ومشتعلة من قبل هجوم جائحتي كورونا وأوكرانيا على العالم، والاستثناء الوحيد هو انفجار الوضع في السودان بتمرد ميليشيا قوات الدعم السريع على مجلس السيادة الحاكم، وخوضها مواجهة عسكرية مفتوحة ضد القوات المسلحة السودانية، وهي في الواقع مواجهة ليست مفاجئة وإنما فقط كانت مؤجلة.

اللافت في ذلك، هو ارتباط الخلاف والشقاق بعوامل هيكلية، حتى وإن اتخذت أشكالًا متغيرة. فالتوترات القائمة وبعض الأزمات المشتعلة في الدول العربية، ترتبط بقناعات راسخة وبمواقف مبدئية ومنظومة ثقافية، روافدها طائفية (كما في العراق، ولبنان، واليمن) أو قبلية ومجتمعية (كما في ليبيا) أو مطامع سياسية وسلطوية (السودان، وسوريا).

ثالثًا: تقاطعات الثبات والتغير:

1- الأصل والاستثناء إقليميًّا:

تشي ظواهر الأحداث في الشرق الأوسط، بأن التصالحات الإقليمية الجارية في المنطقة تعد منطقية وتسلسلًا طبيعيًّا في ضوء تقديرات دول المنطقة لمصالحها وتهديداتها، لكنها مُلغزة، فربما تُعزى إلى أسباب مؤقتة ودوافع متغيرة، بينما مسببات الخلاف ومصادر الصراع قائمة ومستمرة، لكنها كامنة أو مُنَحَّاة جانبًا لاعتبارات براجماتية آنية.

فبشيء من التدقيق في المنحنى التاريخي للعلاقات العربية الإقليمية، وبربط خصائصها وتطوراتها بعوامل حاكمة، يمكن إيجاد ما يمكن اعتباره محددات هيكلية توجه بوصلة العلاقات وتحدث مفاعيلها بشكل شبه ثابت، وما يتعارض مع تلك المفاعيل من تفاعلات ومجريات في العلاقات، يكون على سبيل الاستثناء وبدوافع استثنائية أيضًا، سواء مؤقتة أو جزئية أو من باب المناورة والتكتيك.

فالتفاهم السعودي الإيراني الذي تم برعاية صينية، وهو الحدث الأبرز في سياق الهدنات والتهدئات الإقليمية المستجدة، يبدو في ظاهره نقلةً نوعية ستغير مسار وربما مصير الشرق الأوسط، بينما هو ليس الأول من نوعه كمظهر للتقارب، فقد سبقته محطات عدة من التفاهم والتوافق على تصفية الأجواء وتجاوز الخلافات، بل وصل الأمر في بعض المرات إلى إبرام اتفاقات مكتوبة توثق التوجه الإيجابي المتبادل وتؤطر خطوات التقارب والتصالح، بل والتعاون والتنسيق بين الجارتين اللدودتين. وسبق للدولتين قبل ربع قرن الاتفاق على تحسين العلاقات، وأُبرمتا بالفعل عدد من الاتفاقيات في مجالات متعددة شملت (الاقتصاد، والتجارة، والاستثمار، والتقنية، والعلوم، والثقافة، والرياضة، والشباب)، وذلك في 27 مايو 1998، ولم تُترجَم أي من هذه الاتفاقيات على أرض الواقع حتى الآن. أما المحطة الأبرز فكانت في 17 أبريل 2001، حين تم توقيع اتفاقية تعاون ثنائي في المجال الأمني، بما يعنيه ذلك من تنسيق وتبادل معلومات حساسة والتشاور في قضايا مهمة أمنيًّا للطرفين. وكسابقتها، لم تنتقل الاتفاقية إلى حيز التطبيق الفعلي.

وإذ لم يكتمل مسار هاتين المحطتين المُهمتين ولا غيرهما، ففي ذلك ما يبرر التريث قبل الاندفاع إلى التفاؤل بالتفاهم المستجد قبل شهور، وتصويره كما لو كان انقلابًا في تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية؛ فالتاريخ الفعلي السابق يؤكد أن تلك المحطات الإيجابية هي الاستثناء وليست الأصل، بل إن وصفها بالمحطات هو تعبير مجازي لا يعني أن أيًّا منها نقطة تحول فعلية؛ إذ لا تعدو كونها “محاولة” أو “إعلان نوايا” سواء اقتصرت على تصريحات أو زيارات ولقاءات ومباحثات، أو حتى امتدت إلى تدوينها في اتفاقات مكتوبة.

والمرجع في فهم غلبة النمط الصراعي على العلاقات الثنائية وكذلك على التحركات الإقليمية المتبادلة، هو تلك العوامل الهيكلية والمحددات الموجهة لبوصلة العلاقات وأهمها على الإطلاق إدراك كل من الدولتين للأخرى، من منظور التهديد والمصلحة، ليس بالمعنى البراجماتي للمصلحة أو بالتحديد المرحلي للتهديد، وإنما بالمعنى الشامل والتعريف المطلق.

فالاختلاف المذهبي (العقائدي)، هو المفتاح الأساس لتفسير الإدراك والسلوك الإيراني والسعودي المتبادل، وهو بطبيعته عامل ثابت غير قابل للتغيير ولا للتجاوز. ورغم أنه اختلاف فرعي داخل منظومة دينية واحدة، يظل مصدرًا لاستشعار مخاطر وتهديدات قد تعتبر “وجودية” في لحظة ما لدى أحد الجانبين أو كليهما. ولا حاجة إلى التذكير بأن مساحات النفوذ وبؤر التركيز في تحركات إيران الإقليمية، تكاد تنحصر في الدول التي يغلب عليها التنوع الإثني أو الطائفي، وخصوصًا تلك التي تضم تركيبتها السكانية مكونًا مذهبيًّا (شيعيًّا على وجه التحديد)، كما هو الحال في (العراق، ولبنان، واليمن، والبحرين، وسوريا).

ورغم خصوصية وضعية إسرائيل في المنطقة، إلا أنها تتشابه مع إيران في مصادر الصراع ومنطلقات الخلاف مع غالبية مكونات محيطها الإقليمي، والتي تشتمل على الشعوب والحكومات. وبغض النظر عن الفوارق بين مواقف الحكومات وتغيرها بفعل الحسابات والتقديرات المصلحية، لا تزال مواقف الشعوب ثابتة على رفض احتلال إسرائيل لفلسطين واغتصاب حقوق شعبها، ولأن استيلاء إسرائيل على الأرض والحق الفلسطيني، ليس إلا بدوافع دينية فقط، فإن البعد الديني/ الحضاري هو المصدر الأساس للصراع ذو الجوهر اليهودي الإسلامي، والعامل الحفاز في ديمومته حتى وإن تطور ظاهره إلى “عربي إسرائيلي” ثم صار “فلسطيني إسرائيلي” قبل أن يختزل في كلمة “قضية فلسطينية”، كما لو كان مجرد خلاف جزئي عابر لا يرقي حتى إلى مستوى مشكلة بين دولتين.

ويتأكد هذا التوصيف باستذكار النهاية المفتوحة التي تؤول إليها أي محاولة لحل هذا الصراع بشكل نهائي، من مؤتمر مدريد إلى اتفاقات أوسلو وصولًا إلى المبادرة العربية، فنهايتها جميعًا هي الاصطدام بحائط تنهار أمامه أي محاولة للاقتراب من الحل عمليًّا، وهو حائط صلد بُنيانه النسق الثقافي المتشابه لكل من الجانبين (العربي، والإسرائيلي)، والذي راكم إدراكًا راسخًا لدى كل منهما باستحالة حل دائم شامل عادل لهذا الصراع؛ لأنه ببساطة صراع وجود لا حدود. فضلًا عن ذلك، فإن محاولات الحل أو التسوية أو حتى تسكين الصراع ولو مؤقتًا، تنبع جميعها من الحكومات وليست الشعوب، وذلك في الجانبين، بينما الموقف الشعبي جامد لم يتغير عبر التاريخ؛ لارتباطه عضويًّا بالمدركات الدينية المتأصلة التي تشكل قوامًا جوهريًّا للمنظومة الثقافية هنا وهناك.

ولا شك في الدور المؤثر الذي تلعبه تطورات الأحداث على مر التاريخ؛ إذ تزيد المعضلة تعقيدًا وتوسع الفجوة، بما جعل بعض الأطراف تقتنع بأن الخيار الوحيد العملي والقابل للتطبيق هو “إدارة” وليس “حل” الصراع.

لكن في المرحلة الراهنة، ظهر جديد في مواقف بعض الدول العربية، بتطوير فكرة “الإدارة” والانتقال منها إلى “التجميد” أو بالأدق “تنحية” الصراع جانبًا وتفعيل العلاقات مع تل أبيب. أي أن الجديد هو التعاطي مع إسرائيل ليس فقط كأمر واقع، وإنما كأنها دولة طبيعية لا مشكلة معها.

وبعيدًا عن تقييم هذا التحول سواء من منظور قيمي أو مصلحي، تؤكد الأحداث على الأرض أنه قائم على افتراضات لا شواهد عليها ولا أساس لها، ويناقضها الواقع، فلا الصراع انتهى ولا هو أصلًا مقصور على الفلسطينيين وحدهم. كل ما في الأمر أن الوجه الفلسطيني منه هو الشق الصلب فيه، أو بالأصح الوجه العنيف منه، حيث الاجتياحات والاستيطان والاستيلاء على أراضٍ وأملاك. أما الوجوه الأخرى فمخفية جزئيًّا ومؤجلة إلى حين، وهي المتعلقة بـ: الهيكل المزعوم، وأرض الميعاد، والدولة النقية يهوديًّا التي لا حدود لها رسميًّا. هذا كله فضلًا عن المنظومة الثقافية السائدة التي شكلتها قناعات مجتمعية عدائية تجاه العرب والمسلمين([7])، ترسخت بفضل تعاليم دينية متطرفة ومناهج تعليم مدرسية تزخر بالعنصرية([8])، والنتيجة النهائية مجتمع يميني شديد النرجسية والاغترار بأنه “شعب الله المختار”، ولا يفرق في عنصريته بين الفلسطينيين وبقية العرب والمسلمين، بل إن العنصرية قائمة وتمارس بفجاجة ضد مواطنين إسرائيليين، وهم ذوو الأصول العربية من الجيلين الثاني والثالث لـ “عرب 48”.

إن هذه النظرة التحليلية لخارطة الملفات الخلافية الإقليمية، تنبه إلى ضرورة مراجعة الصفحات الكاملة لتلك الملفات وقراءة تاريخها ومقوماتها، وعدم الاكتفاء بالظاهر منها، والتسليم بالمعلن أو الاضطراري من خطوات ومواقف؛ فالتقييم النهائي لها ينبغي أن يستند إلى تدقيق في مدى صدقية مستجداتها وحدود قابليتها للاستمرار والصمود أمام جذورها المغذية للخلاف والمثيرة للشقاق.

2- القابلية والاستعصاء عربيًّا:

المفتاح الأول لفهم وتفسير استعصاء معظم النزاعات والتوترات العربية (البينية، والداخلية) على الحل أو حتى التسوية المؤقتة، هو التعرف على طبيعة وجوهر الخلاف أو المشكلة، فحيثما ترتبط طبيعة الخلاف أو الصراع بما يمكن اعتباره “ثوابت” أو عوامل هيكلية يصعب تغييرها أو تجاوزها، كان الاستعصاء على الحل هو السمة المميزة له.

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: العلاقة المشدودة دائمًا بين (الجزائر، والمغرب)، وكذلك الأمر وإن بدرجات أقل في مدى التوتر وعمق الفجوة، في حالة العراق مع كل من (سوريا، والكويت)، وأيضًا حالة (السعودية، واليمن). ففي كل تلك الحالات الأصل في العلاقات هو التوتر أو على الأقل الفتور، والاستثناء هو التعاون والتفاهم.

والمعيار ذاته ينطبق على الأزمات والمشكلات التي يغلب عليها الطابع الداخلي أو ترتبط مصادرها بجذور داخلية بالأساس، كما في (سوريا، وليبيا، واليمن، ولبنان، والسودان، وأيضًا العراق). ورغم أن بكل منها أدوارًا وتدخلات خارجية عربية أو إقليمية تؤجج الصراع أو تزيد الأزمة تعقيدًا واستعصاء، إلا أن تفكيك المشكلات وتشريحها من أصولها يؤكد أنها تبدأ وتنتهي داخلية.

ووجه الصعوبة في ذلك أن تلك المشكلات مرتبطة عضويًّا بمنظومة القيم والمبادئ ومتجذرة في المرجعيات، التي تشكل فكرَ وتوجهات وسلوكَ الأفراد وبالتالي الجماعات المجتمعية، التي قد تتعارض فيما بينها بشكل يضعها في تناقض وتنازع عقائدي أو عرقي أو غير ذلك من مسببات التوتر والانقسام المجتمعي، ما يجعل تجاوز تلك التناقضات شبه مستحيل، إلا في حالات استثنائية استنادًا إلى النضج الثقافي وتبلور وعي جمعي متحضر وانتماء جوهر المواطنة كمحدد أول ورئيس للهوية الفردية والجماعية.

في المقابل، ثمة خلافات أخرى سواء بينية أو داخلية، لم تكن عصية على الحل؛ لأنها تعود بالأساس إلى أسباب مؤقتة ودوافع مرحلية أو جزئية، ومن أمثلة ذلك: الفجوة في علاقات سوريا مع بعض الدول الخليجية والعربية؛ بسبب الخلاف حول تصدي الدولة السورية للتظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي اندلعت هناك عام 2011، وكذلك بالنسبة لبعض المواقف العابرة بين الدول أعضاء التحالف العربي/الإسلامي المنخرطة في العمليات العسكرية لاستعادة الشرعية باليمن.

إن الخط الفاصل هو عمق وجذرية مسببات الخلاف وموجباته وليست مظاهره أو تداعياته، فقد وصل الخلاف بين سوريا وبعض الدول إلى الحرب بالوكالة وتقديم أشكال متنوعة من الدعم بما فيها التسليح والتدريب والتمويل لقوى المعارضة السورية، كما تعرضت العلاقات لقطيعة دبلوماسية وسياسية كاملة ثنائية، وأيضًا جماعية بتعليق عضوية سوريا بجامعة الدول العربية، ورغم المسافة الكبيرة التي أُبعدت بها سوريا عن محيطها العربي، إلا أن كل هذه الإجراءات كانت قابلة للتراجع والتجاوز والتعديل.

وهو ما ينطبق أيضًا على ما جرى خلال الأزمة الخليجية؛ حيث تم قطع العلاقات وفُرض حصار اقتصادي على قطر، قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها بمجرد توافر الإرادة لذلك. فالمسألة إذن لا تتعلق بالمدى الذي وصلت إليه الأطراف في الخطوات التنفيذية أو الإجراءات العقابية المترتبة على الخلاف، حتى وإن وصلت أو أوشكت على استخدام القوة أيًّا كانت طبيعتها، وإنما تتعلق بالقابلية للحل أو التسوية بجوهر الخلاف ومدى تعقد الجذور الأصلية للتوتر أو النزاع.

الشاهد في الحالتين، أن تلك المشكلات أو النزاعات المستعصية على الحل وغير القابلة للتغاضي عنها، تتعلق دائمًا بقضايا تدخل ضمن نطاق الثوابت لدى أي من الطرفين أو كليهما، وهي القضايا ذات البعد الديني/ المذهبي، أو التي لها جذور مجتمعية سواء (عرقية، أو طائفية، أو قبلية). والحاصل أن التراكمات الناجمة عن المواقف الصراعية التي تشكل تاريخًا سلبيًّا يصعب محوه أو تجاهله، هي التي تزيد تلك المسببات تعقيدًا وتخلق منها جدران عازلة عصية على محاولات التفكيك أو الحلحلة-خصوصًا إذا كانت تلك المحاولات ذاتها تستند إلى دوافع براجماتية مؤقتة، وليست انعكاسًا لتوجهات ممتدة أو إرادة فعلية.

وأخيرًا، فإن غياب الإجماع الوطني عن هذه التحركات يُفقدها أحد أهم عوامل النجاح، وهو الظهير الشعبي والمجتمعي؛ حيث تكون حينئذ مرهونة بتوجه ورؤية نظام حاكم أو مقتضيات مرحلية لتحقيق مصالح آنية أو درء تهديدات عابرة.


([1]) http://cuts2.com/XkYKR

([2]) لماذا يتواصل تفاقم أزمات الاقتصاد التركي؟، موقع “العربية نت”، 6 فبراير 2022. http://cuts2.com/aLNGR

([3]) قال مستشار الرئيس الإيراني الأسبق لشؤون الأقليات: “إن العراق عاصمة لإمبراطورية إيران الجديدة”. وجاء على لسان وزير الاستخبارات الأسبق: “أن طهران تسيطر على أربع عواصم عربية”. للاطلاع على هذه التصريحات وغيرها، انظر:  http://cuts2.com/FudnF

([4]) Hamza Hendawi& Sinan Mahmoud, Egypt and Iran pursue normalisation in Baghdad talks, The National, 8 May 2023.

https://www.thenationalnews.com/mena/egypt/2023/05/08/egypt-and-iran-pursue-normalisation-in-baghdad-talks/

([5]) https://sa.investing.com/news/forex-news/article-2451775

([6]) قال بنيامين نتنياهو في 7 أغسطس 2023 إنه “متفائل بشأن تعميق العلاقات بين إسرائيل والسعودية”. انظر التفاصيل في: http://cuts2.com/dclTi

([7]) http://cuts2.com/vtDtz

([8]) التنشئة المدرسية الإسرائيلية…الكراهية والتمييز، “العربي الجديد”، 26 يوليو 2023.       http://cuts2.com/FOZbj

اظهر المزيد

سامح راشد

باحث بمؤسسة الأهــرام - مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى