2023العدد 195ملف عربي

بعد استرداد سورية لمقعدها: ماذا يأمُل العرب منها وما تأمله منهم؟

بتاريخ 12/11/2011، أصدرت جامعة الدول العربية قرارًا بتجميد عضوية سورية في الجامعة، وفي 19/5/2023، أصدرت الجامعة قرارًا باستئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتبارًا من 7 مايو 2023. والشاهد أن سورية قد واجهت -خلال هذه المرحلة- أخطر مؤامرة ممنهجة في تاريخها الحديث استهدفت كيان البلاد ومصير شعبها، وشاركت فيها جيوش دول عظمى وإقليمية ومنظمات إرهابية.

أ. معارضة سورية للاحتلال الأمريكي للعراق:

بطبيعة الحال، لم تكن لسورية مصلحة في نجاح الاحتلال الأمريكي السريع في العراق؛ لكونه يغري المحافظين الجدد الذين كانوا يسيطرون على توجهات السياسة الأمريكية وقتئذٍ بتكرار التجارب في دول عربية أخرى ضمن مشروعهم لإقامة “الشرق الأوسط الجديد” المعلن من دون مواربة.

وفي الواقع ظلت سورية تمثل – لبعض الوقت – قاعدةَ إسناد معنوي معلنة – ولو متواضعة– لعمليات المقاومة العراقية الوطنية، في حين خشيت معظم الدول العربية عواقبَ إبداء تعاطفها مع المقاومة العراقية)[1](

وفي لقاء 16/3/2003 بين الرئيس بشار وبعض القادة الإيرانيين في طهران نُسب إلى الرئيس السوري اقتناعه بأن المقاومة العراقية ستنطلق ضد الاحتلال الأمريكي، ويجب العمل على دعمها والمساهمة في إبقاء الوضع متفجرًا والقيام بعمليات استشهادية، فأكثر شيء يرعب الأمريكيين هو أن تقول لهم “إن أبناءكم سيُقتلون في العراق”)[2](

وسعى الرئيس بشار الأسد – في حدود إمكاناته- إلى إحداث بعض الإزعاج للوجود العسكري الأمريكي المحتمل للعراق، وتباطأ في تلبية مطالب واشنطن التي نقلها “كولن باول” وزير الخارجية الأسبق. ومع ذلك، اضطرت الإدارة الأمريكية في عهد “جورج بوش” الابن إلى الاستمرار في الاتصالات الأمنية مع نظامين صُنِّفا طويلًا في خانة أعداء الولايات في المنطقة (إيران، وسورية)، ولكن لم يحدث الاختراق المتوقع أمريكيًّا، وظل هذان النظامان مستهدفَين.)[3](

الولايات المتحدة التي أدماها “نصرُها” في العراق وجرحَها في الصميم، ظلت تُشير بإصبع الاتهام إلى الشاهد السوري الفضولي والشامت. وكلما ازداد الوجع الأمريكي في العراق ازداد الضغط على سورية، وقامت واشنطن بتسريب معلومات “ضاغطة” على أعصاب النظام السوري ورئيسه تدور حول احتمال القيام بـ”عمليات قذرة” داخل سورية، وحول تداول أفكار في البيت الأبيض عن تغيير في سورية يزيح بشار الأسد.

لذلك، وُضعت سورية في دائرة الاستهداف الأمريكية – الإسرائيلية، واتجهت إدارة “جورج بوش” الابن للعمل على تغيير “النظام” في سورية، وكان كُثُرٌ في هذه الإدارة يؤيدون هذا الاتجاه. اعتمدت هذه الإدارة رأيًا في تحليل السياسة السورية مفاده أن إكراه سورية على سحب قواتها العسكرية من لبنان سيجعل النظام عاجزًا عن تحمل هذه الصدمة، وسيؤدي ذلك إلى زعزعته وربما سقوطه. وتمكنت (فرنسا، والولايات المتحدة) بالفعل من استصدار قرار من مجلس الأمن يحمل الرقم 1559 يطالب سورية بالانسحاب من لبنان، على إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني “رفيق الحريري” (شباط/فبراير2005)، وانسحبت سورية من لبنان في العام نفسه.

      يبدو أن الجانبين (الأمريكي، والإسرائيلي) راهنًا على أن الرئيس بشار الأسد سيكون أكثر مرونةً وتساهلًا من والده في التعامل مع ملف التسوية مع إسرائيل، غير أن القادة الإسرائيليين اكتشفوا أنه ينتهج سياسة أكثر تشددًا وتمسكًا بالمبادئ التي تبناها، وهي ضرورة استعادة التراب الوطني كاملًا من دون أي تنازلات.

وقد فهم الأمريكيون والإسرائيليون من ذلك أن الرئيس بشار الأسد يجاهر بخيارات أخرى لمعالجة الصراع في المنطقة، وأدركوا أنه لم يكن يمارس تمرينًا أيديولوجيًّا لفظيًا تجاه إسرائيل والسياسة الأمريكية، بل كان يُقرن مواقفه الجديدة بسياسات وإجراءات عملية لتحصين الموقف السوري، واستيلاد شروط دعمه من جانب محيطه الإقليمي، واستمر في تطوير علاقاته بإيران إلى أبعد حدود التفاهم والتنسيق والتعاون.([4])

اتجهت واشنطن وتل أبيب إلى ممارسة مختلف أنواع الضغوط على سورية؛ فبعد إسقاط ما كان يُعرف بـ”الجبهة الشرقية” مع سقوط نظام صدام حسين، وحلَّ الجيش العراقي، كان الهدف التالي تحييد عنصر القوة النسبي لدى سورية، عبر التركيز على الجيش السوري، فهو جيش عقائدي يمتلك خبرة ميدانية، وبخاصة خبرة حرب (تشرين الأول/أكتوبر1973). وكان للدورين (الأمريكي، والإسرائيلي)، على تأثيره في إطالة الأزمة السورية الراهنة لاستنزاف قدرات سورية العسكرية والمدنية، فضلًا عن السعي إلى عرقلة الدور السوري الداعم لحزب الله (في لبنان)، الذي شنت إسرائيل ضده عدة حروب، لعل أشدها حرب تموز/يوليو عام 2006، لكنها لم تحقق أهدافها بل أحدثت شرخًا في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، ولاتزال القيادة العسكرية الإسرائيلية تسعى إلى استئصال أسلوب حرب المقاومة الشعبية وثقافتها من المنطقة العربية؛ كبديل عن الحرب النظامية التي توقفت لاعتبارات متعددة.

وفي الواقع كانت وراء استمرار الضغط الأمريكي على سورية ضغوطُ إسرائيل على المؤسسات الأمريكية، إذ كانت تشعر بعد تدمير القوة العراقية عام 2003 بأن تدمير سورية هو الحلقة الحاسمة في إضعاف المقاومة العربية لإسرائيل لعدة عقود، وضمان أمن إسرائيل لمدة غير محدودة.

ركزت الإدارات الأمريكية جهودها، منذ فترة طويلة، في محاولة تغيير الحكومة السورية المصنفة “بالمتطرفة”، وبدأت أجهزة إعلامها ومخابراتها في شن حملات إعلامية لشيطنة النظام السوري، بترويج أن الحكومة السورية منحازة “للاتحاد السوفيتي”، والزعم بأن القوة العربية موالية للشيوعية.

وباختصار، فإن الولايات المتحدة تريد من سورية أن تكون دولة عربية عادية تنشر جيشها داخل حدودها لا في لبنان، وألا تكون صاحبة موقف سلبي مؤثر في طريقة إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن تتوقف عن ترديد شعارات الدعوة القومية([5]).

وبالمقابل، فإن بشار الأسد أعلن عن وفائه لقناعاته الذاتية بأن سورية تمثل السور المنيع للعروبة، من ذلك توضيحه في لقاءه مع صحيفة “تشرين” السورية في 16/2/2002 قوله “لقد حاول الكثيرون تحطيم فكرة القومية العربية، وذلك عن طريق مواجهتها بمشاعر محلية تصل إلى حد الانعزالية”. ومن هنا جاء استهداف سورية للقضاء على ما تبقى من فكر قومي، حتى ولو ظل مجرد حلم([6])

تمكنت عناصر التنظيمات التكفيرية بعد بضعة شهور من قيام الحركة الاحتجاجية الموجهة، وبصفة خاصة تلك التي تسللت عبر الحدود مع تركيا من السيطرة على أكثر من موقع ومدينة، واستطاعت بقوة السلاح والإرهاب إزاحة جانب مهم من قادة المعارضة السورية، وتمكنت بذلك من اختطاف الثورة السورية وتحويلها نحو أفق إسلاموي متطرف، على الرغم مما عُرف عن أغلبية الشعب السوري من وسطية وتسامح.

وشهدت سورية تدفق ألوف من التنظيمات الجهادية التكفيرية التي مارست ما كانت “القاعدة” تمارسه تحت مسميات شتى، فاختطفت بهذه الأساليب الحركة الاحتجاجية السورية.

ظهرت بداية التسلح المحدود لدى بعض عناصر الحركة الاحتجاجية خلال الأشهر الثلاثة الأولى على اندلاع الانتفاضة، وأخذ هذا الوضع يتصاعد ليتخذ شكلًا جديدًا، فقد تدفق في الشهور التالية عشرات ألوف المرتزقة، والجماعات الإرهابية والتكفيرية إلى الداخل السوري. وفي المقابل، تراجعت الحركة الاحتجاجية الوطنية بعد نجاح المرتزقة في إزاحتها تدريجيًّا، إلى أن سيطرت عليها بداية النصف الثاني من عام 2012، وتدفقت إمدادات  السلاح كمًّا ونوعًا من عدة مصادر خارجية، وازداد تدفق المجموعات المرتزقة ولبس لبوس الثورة وتسلل إلى عمق الداخل، في حين برز تيار داخل الحركة الاحتجاجية لا يحبذ هذا التطور؛ لكونه يعطي النظام مبررًا باللجوء أكثر إلى السلاح وإلى  قصف المدن وتدميرها.

في المرحلة الأولى لبدايات الحركة الاحتجاجية السورية ظهرت بوادر التسلح خلال الأشهر الثلاث على انطلاقها، لم يكن ذلك يعني عسكرة الحركة الاحتجاجية، فطابع التسلح كان في هذه المرحلة محدودًا وبدائيًّا ومستَمدًا من الواقع العشائري والاجتماعي القائم، وكان حمل السلاح المحدود دفاعًا عن النفس في مواجهة رجال الأمن([7]).

وشكلت حوادث الاشتباك بين الجيش السوري وبعض فصائل المرتزقة بداية ظاهرة تسلح الحركة الاحتجاجية، مثل: حادثة الهجوم المبكر على المراكز الأمنية في مدينة جسر الشغور في حزيران/يونيو2011، التي برزت معها الظاهرة المسلحة في الأزمة السورية كظاهرة هجومية، فكان رد الفعل المسلح من جانب النظام بعد هذه الحادثة فعلًا انتقاميًّا لا دفاعيًّا هذه المرة، وساهم في زيادة الاحتقان وتصعيد النهج الأمني السوري خلال التصدي للاحتجاجات التي كانت تقودها عناصر مرتزقة أجنبية.

و”تسليح الثورة” أو “تسليح الانتفاضة”…إلخ، ينطوي على خبث كبير؛ لأن مبناه على القول إن هذا الفعل المسلح ينتمي إلى عملية التغيير، التي أطلقتها تلك الحركات الاحتجاجية- الإصلاحية في منطلقاتها – وأنه أي (التسليح) إنما أتى يزود الحركة بمورد للقوة من شأنه تعزيز قدرتها على التأثير، وعلى تحصيل أهدافها، وتسريع وتيرة بلوغ تحقيق تلك الأهداف.

بذلك تحولت أطراف الصراع الذي كان دائرًا أساسًا بين النظام السوري وقوى المعارضة لسورية الوطنية، إلى صراع بين النظام السوري وجبهة هجينة من القوى المعادية له تضم في ما تضم: قوى المرتزقة، والتنظيمات المتطرفة المدعومة من قوى خارجية وأدت إلى النكبة.

مع تزايد ضربات التنظيمات التكفيرية على القوات السورية اضطر النظام السوري إلى طلب العون من إيران، فاستجابت لطلبها بإرسال المزيد من قوات الحرس الثوري والمستشارين العسكريين؛ لأنها كانت تعتبر سورية خط الدفاع المتقدم جغرافيًّا عن إيران.

ورغم هذا استمرت الضغوط المضادة على سورية من عدة جبهات فاضطرتها للاستغاثة بروسيا، التي استجابت لدعوتها وكان وراء تدخلها عدة أسباب: في مقدمتها أنها رأت في محاربتها للإرهاب في سورية أمرًا دفاعيًّا استباقيًّا للأمن القومي الروسي قبل أن يصل هذا الإرهاب إلى الأراضي الروسية، كما كان هذا التدخل جزءًا من مشروع بوتين للإحياء الإمبراطوري وخروج روسيا لساحة المسرح الدولي كقطب دولي وتحقيق حلمه القديم لوصول قواته الى البحر المتوسط.

لو تحدثنا بلغة الأرقام، نجد أن الحرب الطويلة التي عاشتها سورية وشعبها تسببت في جعل نصف هذا الشعب بين (لاجئ، ونازح). فوفقًا لتقديرات كمال خلف الطويل: “لم يسبق منذ انفصال بنغلاديش عن باكستان أن واجهت البشرية كارثة رحيل عارم” كالكارثة السورية. فـ”التغريبة السورية”([8])، التي عصفت بهذا البلد بدءًا من خريف عام 2011، وأخذت بتلابيب مجتمع من 24 مليونًا في عنف ضار، “أوصله إلى قنوط لم يعد يعرف معه للأمل سبيلًا”، ويقينه أن الأمر قد خرج من يده بالكامل “ولم تعد أرضه وسماؤه إلا مسرحَ صراع صفري مميت ليس له فيه إلا نصيب القتل والفناء”([9])، وقد ظهرت آثار تلك النكبة المدمرة ليس فقط في الخسائر البشرية أو الأضرار الاجتماعية والنفسية، أو الخسائر العمرانية والأثرية، وإنما أيضًا فيما طال البلاد من عمليات التغيير الديمغرافي القسري ومن تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة.

في الواقع أننا نتحدث عن سورية الافتراضية: رقعة جغرافية تفتتت، وشعب تمزقت روابطه، وأحدثت الحروب الهجينة دمارًا شاملًا ومآسيًا إنسانية، وجيشًا منتهَكَ الأوصال؛ لبقائه في الميدان عدة سنوات ويواجه حرب عصابات تكبَّد خلالها خسائر جسيمة لا تمكنه من فرض سيطرته على بعض المناطق، وتمت استعادة بعضها بدعم من حليفيه (إيران، وروسيا)، وأصبحنا أمام معارك متحركة وجبهات متغيرة في ظل اقتصاد منهك؛ حيث تراجع الإنتاج الصناعي 70%، والزراعي 60%، والنفطي 95%.

وأصبحت الأرض السورية ساحة مفتوحة للأطراف الإقليمية والدولية، التي ترغب في لعب أدوار لتحقيق أهداف ومكاسب، إضافةً لأدوار الجماعات والتنظيمات المتطرفة، مما جعل هذه الساحة تشهد صراع أدوار إقليمية ودولية، وتعقِّد من جهود حل الأزمة السورية؛ لأنها تتم وفق أجندات وترتيبات مختلفة على حساب الشعب السوري وخصمًا من رصيد الأراضي السورية. ولقد كان الدور التركي من أخطر الأدوار في إحداث النكبة السورية، لاسيما احتلال تركيا لما يقرب من ربع مساحة سورية.

أولًا :ما تأمله سورية من العرب:

فعلى سبيل المثال، طالبت سورية تركيا بسحب قواتها من سورية، ولكنها رفضت تطبيع العلاقات معها قبل انسحاب القوات التركية، وهو ما أفصح عنه وزير الخارجية في 27/4/2012، في البرلمان التركي عندما قال :”تريد تركيا شرق أوسط جديد ترسم معالمه وهي التي تقوده”، والفراغ العربي وتباين المواقف العربية من المسألة السورية جعل الدور التركي أكبر من حجمه الطبيعي.

واستثمرت أنقرة بدايات الحركة الاحتجاجية السورية؛ لتدفع علنًا عبر الحدود المشتركة مع سورية بالعشرات من عناصر الجماعات التكفيرية مزودين بالسلاح والمال واستضافت بعض قيادات التنظيم الدولي لـ”الإخوان”، وكان التوافق واضحًا مع إدارة أوباما، التي كانت تبحث عن نظام إسلامي معتدل.

ولقد قامت تركيا باحتلال ما يقرب من ربع مساحة سورية واستمرت بعمليات التتريك في بعضها، وفي الوقت الذي تتمسك فيه سورية بضرورة انسحاب القوات التركية من شمال سورية، بينما ترى تركيا ضرورة تأمين حدودها وشعبها والقضاء على التهديدات الإرهابية، واعتبرت أن الجيش السوري لا يملك القدرة حاليًّا على فرض سيطرته على الحدود المشتركة- وذلك قبل أن يتبلور نهج للتنسيق والتعاون بين (أنقرة، ودمشق)؛ لمحاربة التنظيمات الإرهابية مثل “حزب العمال الكردستاني”، و”وحدات حماية الشعب الكردية”، أكبر مكونات “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، التي تعدها تركيا ذراعًا لـ “حزب العمال” في سورية.

وقد جاء مضمون قرارات قمة جدة؛ لتشمل كافة الأوضاع والجوانب التي تشكو منها سورية حاليًّا تقريبًا، وتم صياغتها بشكل متعاطف معها لأنها تعرضت لمؤامرة ممنهجة، وكانت ضحية، ولكن المشكلة من وجهة النظر السورية أن سورية منفردة لا تستطيع تنفيذ مضمونها؛ لأنها في حالة ضعف شديدة. وتنص الفقرة الخامسة من قرارات قمة جدة على “رفض كافة التدخلات الأجنبية في سورية، وأي تواجد عسكري غير مشروع على الأراضي السورية، باعتباره يشكل تهديدًا لوحدة الأراضي السورية، وانتهاكًا لسيادة سورية على كامل أراضيها، وتهديدًا للأمن والاستقرار في المنطقة وهو ما ينطبق على الحالة التركية، وتحتاج بالضرورة لمساندة عربية قوية كي تتمكن من زحزحة الموقف التركي الرافض للانسحاب”.

2- عودة اللاجئين الطوعية:

تنص الفقرة رقم (3) من قرارات القمة على “التأكيد علي ضرورة اتخاذ خطوات عملية وفاعلة للتدرج نحو حل الأزمة بما يحفظ وحدة سورية، وتماسكها، وسيادتها، ويلبي طموحات شعبها، ويخلصها من الإرهاب، ويسهم في تعزيز الظروف المناسبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين، ويفضي إلى خروج جميع القوات الأجنبية غير الشرعية منها وبما يحقق المصالحة الوطنية ويعيد لسورية أمنها واستقرارها ودورها، ومواصلة الخطوات التي تتيح إيصال المساعدات الإنسانية لكل محتاجيها في سورية، وبما في ذلك وفق الآليات المعتمدة في قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وآخرها قرار مجلس الأمن 2672 (2023) بتاريخ 19/1/2023”.

ويلاحظ النص على العودة الطوعية للشخص اللاجئ وليس الإعادة القسرية (Principe du non refoulement)، ويؤكد على مبدأ العودة الآمنة والكريمة والتدريجية للنازح (التوصيف المستعمل رسميًّا للشخص اللاجئ).

ولكن تطبيق الفقرة تحتاج أن يسبق ذلك إعادة الإعمار لتهيئة مكان إيواء اللاجئين؛ لأنه دون ذلك يصبح عودتهم بمثابة حصان طروادة، وهو ما انتهت إليه الفقرة الخامسة من قرارات القمة فهي تطالب الدول المانحة “سرعة الوفاء بتعهداتها التي أعلنت عنها في مؤتمرات المانحين لدعم الوضع الإنساني في سورية، والتي عقدت في الكويت (2013 – 2014 – 2015)، ولندن (2016)، وبروكسل (2017 – 2018 – 2019 – 2020 – 2021 – 2022)، والتأكيد علي أهمية دعم الدول العربية المجاورة لسورية وغيرها من الدول العربية المضيفة للاجئين والنازحين السوريين، وتوفير المجتمع الدولي الدعم لخطط الاستجابة الوطنية والأممية للتعامل مع أزمة اللاجئين السوريين، تمهيدًا لعودتهم الكريمة والآمنة إلى سورية”.

بعض ما يتمناه العرب من سورية:

1- الاعتدال في المواقف والآراء داخل أروقة الجامعة:

وقد عبر عن ذلك الأمين العام لجامعة الدول العربية بتمنيه : “أن يكون أداء سورية داخل الجامعة هادئًا ومتزنًا ويسعى لتحقيق مواقف إيجابية، ألا تكون هناك مرارة لدى الوفد السوري تجاه الجامعة، وإجمالًا التمني أن تكون العودة السورية إيجابية في إطار المصالحة والبناء، فسورية لديها وضع صعب ولم تشفَ منه بعد منذ 2011، فلديها 7 ملايين سوري لاجئ خارج البلاد، وهناك من (3 إلي 4) ملايين سوري نازح داخل سورية، وما تم تدميره من مدن بأكملها جراء الحرب الأهلية هناك، ومطلوب أن ينتهي هذا ومطلوب إنهاء التدخلات الأجنبية هناك”.([10])

خلاصة القول، إن الأزمة السورية الناجمة عن الحرب الظالمة علي سورية وشعبها تمثل تحديًا (سياسيًّا، وإنسانيًّا، وإنمائيًّا) خطيرًا، فقد حصدت ألوف الأرواح، ما خلا الجرحى، وتسببت في دمار واسع وشامل، وأجبرت نحو نصف المجتمع السوري على النزوح إلى الداخل أو على الهجرة إلى الخارج، وأعادت عجلة التنمية إلى الوراء، وهددت مستقبل أجيال في سورية؛ لذا فإن إصلاح ما حدث من دمار شمال سورية قد يستغرق في تقدير البعض جيلًا أو ربما جيلين. من هنا فإن عملية إعادة الإعمار لن تكون عملية سهلة؛ فالتدمير شمل كل ما يصنع الحياة في سورية، وكان ثمة تعُّمد لإلحاق الدمار بشعب بأكمله وتدمير حضارته، ومقومات دولته. والقطيعة العربية لسورية وقت أزمتها أشعرتها بالعزلة المريرة.

خلاصة القول، يبدو أن سورية (الدولة، والشعب) ستظل لمرحلة قادمة، غير قصيرة، رهينة بين إرث الماضي السياسي، ومخاض الحاضر وتداعياته، ورهانات المستقبل، وهذا قدر سورية وشعبها، وسيزداد هذا الشعور إذا حدث عجز عن الإسهام العربي في جهود إعادة إعمار سورية،

والأمل في إطلاق دور عربي قيادي في جهود حل الأزمة السورية، يعالج جميع تبعات الأزمة (الإنسانية، والأمنية، والسياسية) على سورية وشعبها، وتعزيز التعاون العربي المشترك؛ لمعالجة الآثار والتداعيات المرتبطة بـ(اللجوء، والإرهاب، وتهريب المخدرات) بين الدول تماشيًا مع ما تم الاتفاق عليه في بيان عمّان (فقرة رقم 2 من الفقرات الخاصة بسورية).

2- مكافحة المخدرات وتهريب الأسلحة:

أ- أول ما يطالب به العرب بذلُ جهود كبيرة في مكافحة المخدرات وتهريب السلاح، فقد ناقشت لجنة رفيعة المستوى (أردنية- سورية) محادثات حول “التهديد الذي تشكله المخدرات على استقرار المنطقة، والتعاون في مواجهة خطر المخدرات ومصادر إنتاجها وتهريبها، والجهات التي تنظم وتدير وتنفذ عمليات تهريبها عبر الحدود إلى الأردن، كما بحث الإجراءات اللازمة لمكافحة عمليات التهريب ومواجهة هذا الخطر المتصاعد على المنطقة برمتها”.

وفي المقابل، تنفي الحكومة السورية ضلوعها في صنع وتهريب المخدرات أو التواطؤ مع ميليشيات تدعمها إيران لها صلات بالجيش وقوات الأمن.

وتقول إيران: “إن هذه المزاعم تأتي في إطار مخططات الغرب ضدها”. وقالت مصادر مخابرات محلية وغربية: “إن الأردن، الذي نفد صبره على ما يقول إنها وعود لم يتم الوفاء بها للحد من حرب المخدرات، توَّلي زمام الأمور، ونفذ في مايو الماضي غارة أردنية داخل الأراضي السورية، حيث تم هدم مصنع مخدرات مرتبط بإيران”.

وقال وزير الخارجية الأردني “أيمن الصفدي”: “أن بلاده لن تتردد في اتخاذ إجراءات ضد أي تهديد لأمنها القومي، وحث دمشق على التصرف بقوة أكبر”.

لا تخفي عمان انزعاجها من استمرار عمليات تهريب السلاح والمخدرات، التي أخذت منحنىً جديدًا ومتطورًا بعد دخول الطائرات المسيرة على خط عصابات التهريب ومليشيات الحرب الناشطة في الجنوب السوري. ولا تنكر مصادر دبلوماسية أردنية تحدثت إلى “الشرق الأوسط”، بأن الأردن الرسمي “اختبر فعلًا” دمشق وجديتها في مكافحة عصابات التهريب، مقدمة معلومات أمنية عن طبيعة نشاط (مهربين، وتجار سلاح، ومخدرات).

3- تحقيق المصالحة السياسية:

تضمنت الفقرة السابعة من مؤتمر القمة في جدة نص بقوله :

“دعم الجهود المبذولة لاستئناف أعمال اللجنة الدستورية في أقرب وقت ممكن، وفي سياق الخطوات السياسية الهادفة إلى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة”. أن هذا المطلب وثيق الصلة بضرورات الإصلاح السياسي بمعناها الواسع، وتظهر التجربة التاريخية أن النهوض بالشعوب سيستدعي أول ما يستدعي المراهنة على مشاركة الشعوب في المسؤولية، وفي صياغة مستقبلها في الديموقراطية التي لا تفرض من الخارج، وبطبيعة الحال أن سورية وشعب سورية يحتاج لفترة انتقالية لالتقاط الأنفاس.

خلاصة القول، إن سورية واجهت مؤامرة ممنهجة وحروب هجينة أثرت في قواها ومازالت تدور حتى الآن في أجزاء مختلفة من سورية، ومازال الاحتلال التركي جاثمًا على مساحة كبيرة من سورية ووجود التنظيمات الإرهابية، لاسيما في إدلب منتشرة في عدة مناطق سورية، أي أن سورية حاليًّا في ظل الأوضاع الراهنة، لا تستطيع القيام بمهام الدولة العادية، لذا ينبغي أن تكون نظرة بقية الدول العربية مدركة لحالة سورية ومتفهمة لذلك، أن سورية بحاجة لاحتضانها عربيًّا وبحاجة لمن ينصفها.


([1])في هذا الشأن، انظر: غازي دحمان، “كيف يؤثر الصراع الدولي والإقليمي على مستقبل سورية والمنطقة” شؤون عربية، العدد 153 (ربيع2013)، ص56، وغسان شربل”واشنطن ودمشق والعقوبات”، الحياة،13/5/2004.

([2]) من محضر الجلسة في هذا اللقاء. ورد في: كليب، المصدر نفسه، ص 119.

([3]) انظر في هذا الشأن: المصدر نفسه.

([4])عبدالإله بلقزيز، “في أسباب الانزعاج الأمريكي من الأسد” الخليج  (الشارقة)، 20/4/2006.

([5]) للمزيد من المعلومات عن هذه الفترة انظر كتاب الأستاذة الجامعية – بوني ف. ساوندرز، الولايات المتحدة والقومية العربية- الحالة السورية،  (1953-1960) ترجمة سامر خليل كلاس (دمشق: دار نينوي للدراسات والنشر والتوزيع،2002)

([6]) كانت واشنطن وتل أبيب تريا أن إخراج سورية السياسية من إطار الشام التاريخي سيغير معظم المعادلات السياسية في المنطقة، محمد حسنين هيكل في كتابه “أقلام في السياسة”  المصرية للنشر العربي- القاهرة ب.د.ت .ص 419  

([7]) محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2012)،ص191.

([8]) يقصد الكاتب بمفهوم التغريبة:المزج بين حالات النزوح والهجرة والتهجير كحالة واحدة، وقد اقتبس هذا التعبير من المسلسل الفلسطيني”التغريبة”، كون النازحين والمهاجرين السوريين اليوم لاتقل حالتهم سوءًا عن حالة الفلسطينيين، وفق ماقدمها هذا المسلسل.

([9]) كمال خلف الطويل، ” في الأحوال السورية..التغريبة والتصعيد،” ورقة قدمت في الحلقة النقاشية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان “الصراع في سورية..وعليها”، المستقبل العربي، السنة 38، العدد 442 (كانون الأول/ديسمبر2015)،ص99 ومابعدها.

([10]) من لقاء الأمين العام أحمد أبو الغيط مع الكاتب الصحفي أحمد الطاموي – روز **** 3-6-2023

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى