مقدمة:
يمكن القول بأن الولايات المتحدة وحلفاءها فوجئت- وبارتياحٍ واضح- بمسار الحرب في أوكرانيا، التي اعتقد الكثيرون أن روسيا ستفوز بها بسهولة وسرعة، غير أنه سرعان ما تبين أن هذا الشعور بالتفاؤل هو شعور عابر، واليوم وبعد دخول الحرب شهرها السادس، وبالرغم من حديث الغرب عن تجاوز روسيا الخطوط الحمراء- من منظوره- والعكس من منظور موسكو ارتباطًا بتدفق المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، إلا أنه لا يبدو أن أي من الجانبين مستعد للمبادرة بوقف الحرب وبدء عملية تفاوضية جدية. ومن الواضح أنه منذ بداية الحرب، تفاهم الجانبين على مجموعة من القواعد، وطالما أن الصراع لم يصل بعد إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، فما تزال هذه القواعد معمولًا بها، وبالتالي لا يرغب الجانبان في حرب أوسع، رغم عدم استبعاد ذلك، في ظل عدم وجود آلية دولية تتحكم في إدارة الصراع، حيث تبدو جميع المؤسسات المتعددة الأطراف مهمشة تمامًا.
من ناحية أخرى، من المحتمل ألا يحقق أيٌّ من البلدين ما يرغب في تحقيقه، فقد لا تتمكن أوكرانيا من طرد القوات الروسية بالكامل من الأراضي التي استولت عليها منذ إطلاق عمليتها العسكرية في فبراير الماضي. ومن جانبها، ومع تواصل ضغط العقوبات وتدفق الأسلحة الغربية الحديثة على أوكرانيا، قد يصعب على روسيا تحقيق هدفها السياسي الرئيس، والمتمثل في السيطرة على أوكرانيا. وهكذا قد تؤشر الحرب لعصر جديد من الصراع يتسم بحروب كرٍّ وفرٍّ بين الطرفين يطول أمدها، خاصة وأن أيًّا منهما ليس في وضع يمكنه فيه إنهاء الحرب بشروطه، كما لا توجد عملية سياسية جادة لفض الاشتباك أو وضع نهاية للعمليات العسكرية، وهو ما يعني استنزاف قدرات هذا الطرف أو ذاك، الأمر الذي يثير التساؤلات حول مدى قدرة أيٍّ من الجانبين على إطالة أمد الحرب؛ لإنهاك الخصم وتغيير سلوكه، وما هي أدواته في هذا الشأن؟ وما هي معايير النصر والهزيمة لكل من أطراف الصراع؟
ويتناول هذا المقال موقف كل طرف والاعتبارات التي يعوِّل عليها في إستراتيجيته لمواجهة الطرف الأخر، ومعايير ما يَعتقد أنه انتصار له في الحرب:
أولًا: الموقف الروسي:
تشير تقديرات – غربية وروسية – إلى أنه من غير المرجح أن يوقف الرئيس بوتين الحرب؛ لأنها –ومنذ البداية- “وجودية” بالنسبة له، ومن ثم فهو ماضٍ فيها حتى النصر. والملاحظ أن هذا التوجه تدعمه بشدة النخبة الروسية، بما فيها تلك المعروفة بدعمها التقارب مع الغرب، والتي ترى أنه يتعين على البلاد اتخاذ تدابير جادة “لضمان بقائها على قيد الحياة”، حيث كشفت الحرب نفسها للقيادة الروسية، مدى عمق انخراط أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتعاون الأخير معها- منذ بدايات الأزمة عام 2013 / 2014- بالأسلحة والتدريب، “بحيث أصبحت بمثابة رأس حربة تستهدف قلب موسكو”. وهناك شعور قوي متزايد داخل روسيا بأن الولايات المتحدة تحاول استخدام الحرب في أوكرانيا لشلِّ أو حتى تدمير الدولة الروسية، وأنه من واجب كل مواطن روسي وطني الآن دعم الحكومة الروسية. وفي هذا السياق، يرى “ديمتري ترينين” مدير مركز كارنيجي موسكو أن الولايات المتحدة وحلفاءها وضعت أهدافًا أكثر راديكالية بكثير من إستراتيجيات الاحتواء والردع، المحافظة نسبيًّا، التي كانت تُستخدم ضد الاتحاد السوفيتي، حيث يقول: “إنهم في الواقع يسعُون جاهدين لاستبعاد روسيا من السياسة العالمية كلاعب مستقل، وتدمير الاقتصاد الروسي بالكامل. إن نجاح هذه الإستراتيجية من شأنه أن يسمح للغرب بقيادة الولايات المتحدة بحل المسألة الروسية، وفي النهاية خلق آفاق مواتية للنصر في المواجهة مع الصين”.
ويخلص ترينين إلى القول بأن: “مثل هذا الموقف من جانب الخصم لا يعني وجود مجال لأي حوار جاد، حيث لا يوجد عمليًّا، أي احتمال للتوصل إلى حل وسط، بين الولايات المتحدة وروسيا في المقام الأول، على أساس توازن المصالح”. إن الديناميكية الجديدة للعلاقات الروسية الغربية تنطوي على قطع دراماتيكي لجميع العلاقات، وزيادة الضغط الغربي على روسيا على جميع الجبهات (الدولة، المجتمع، الاقتصاد، العلوم، والتكنولوجيا والثقافة، … إلخ).
وعلى صعيد أهداف روسيا من عمليتها العسكرية، ووفقًا لتصريحات لوزير الخارجية “لافروف” – في لقاء تليفزيوني مع وكالة “ريا نوفوستي” ومجموعة “RT” الروسيتين في 21 يوليو 2022 – “لم تعد أهداف روسيا العسكرية تشمل فقط جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك الشعبيتين، بل أيضًا منطقتي خيرسون وزابوريجيا (في الجنوب) وسلسلة من الأراضي الأخرى”. وأضاف الوزير أن “العملية متواصلة بثبات”، محذرًا من أنه “إذا استمر الغرب في إمداد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، مثل قاذفات الصواريخ الأمريكية “هيمارس”، فإن الأهداف الجغرافية لروسيا ستتطور أكثر؛ لأنه لا يمكننا السماح – في الجزء الذي يسيطر عليه زيلينسكي أو خليفته- بأن تكون هناك أسلحة يمكن أن تهدد بشكلٍ مباشر أراضينا أو أراضي الجمهوريتين اللتين أعلنتا استقلالهما أو تريدان اختيار مستقبلهما”.
والحال على ما تقدم، يثور التساؤل حول ما إذا كانت روسيا تمتلك الأدوات الكافية لتحقيق أهدافها من الحرب، ومدى قدرتها على الصمود أمام الطرف الآخر، عسكريًّا واقتصاديًّا، لمزيد من الوقت. من الناحية العسكرية، تشير تقديرات غربية إلى أنه من المرجح أن تعاني روسيا- على المدى المتوسط- من العقوبات المفروضة على التسلح وواردات التكنولوجيا ذات الصلة، ويفسر ذلك حديث القيادة الروسية عن الحاجة إلى إيجاد بدائل عبر تصنيع محلي للرقائق الإلكترونية، والمكونات التي تستوردها روسيا بصفةٍ عامة لأغراض التصنيع العسكري. هذا بجانب إقرار بعض القوانين الرامية إلى المزيد من سيطرة الدولة على الصناعات العسكرية وتطويعها لخدمة الحرب في أوكرانيا، خاصة مع تراجع القدرات التمويلية في ظل العقوبات المفروضة على مبيعات السلاح الروسي.
وعلى حينٍ يعتقد بعض الخبراء الغربيين أن معادلة التصنيع والتسليح ما بين روسيا والغرب تشهد اختلالًا لصالح الأخير، وأنه من غير المرجح أن تكون الأولى قادرة على تقليص الفجوة للوصول إلى نقطة التعادل مع الغرب في هذا الشأن، يؤكد البعض الآخر أن روسيا لم تستخدم بعد مخزوناتها العسكرية التي تتميز بالتكنولوجيا الدقيقة، اكتفاءً باستخدام السلاح المصنع في زمن الاتحاد السوفيتي، والقليل من الصواريخ الموجهة بدقة أو الفرط صوتية مثل “كينجال” و “سارمات”.
من ناحية أخرى، ودون الدخول في تفاصيل تداعيات الحرب الاقتصادية الغربية غير المسبوقة على روسيا، على اقتصاد هذه الأخيرة، وتباين التقييم الغربي والروسي في هذا الشأن، تشير تقديرات غربية، إلى أن العقوبات لا تقترب من نقطة التهديد بإسقاط بوتين. وقد ساعد ارتفاع أسعار النفط والغاز والمزيد من عمليات الشراء من الصين والهند في تعويض انخفاض مبيعات روسيا إلى الغرب، بل أن العديد من المحللين الغربيين يعتقد أن الحرب الاقتصادية الغربية أثرت سلبًا على الاقتصاد الأوروبي أكبر بكثير من روسيا، مستشهدين في ذلك بقوة العملة المحلية الروسية والمخارج التي توفرها تعاملات دول مثل: (الصين، والهند مع روسيا)؛ لتفادي آثار العقوبات.
كذلك تشير تقارير عديدة إلى أن القيادة الروسية ماضية قدمًا في اتخاذ التدابير الضرورية للإبقاء على مقاومة اقتصادها للعقوبات، والبناء على ما حققته في هذا الشأن من نتائج إيجابية مثل تعزيز عملتها المحلية. وفي هذا السياق، أشارت صحيفة “فاينانشيال تايمز” – في تقرير على موقعها الإلكتروني في 7 يوليو – أن روسيا تعتزم تعبئة الاقتصاد استعدادًا لإطالة أمد عملياتها في أوكرانيا، مشيرة في ذلك إلى أن الحكومة الروسية قدمت حزمة من القوانين للبرلمان مؤخرًا تستهدف قدرًا أكبر من السيطرة على الشركات الخاصة والعاملين من أجل جعل الاقتصاد قاعدة أكثر قوة لحربها في أوكرانيا، الأمر الذي اعتبرته الصحيفة بمثابة إشارة إلى أن البلاد تستعد لقطع مسافة طويلة في معركتها التي تستهدف السيطرة على أوكرانيا.
في المقابل، من المؤكد أن القيادة الروسية تراقب بارتياح الانقسام الحاصل بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول مسألتي فرض عقوبات على النفط والغاز الروسي من ناحية، وكيفية التعامل مع روسيا ارتباطًا بالأزمة من ناحية أخري. والواضح في هذا السياق أن هناك تكلفة سياسية داخلية ستدفعها النظم الحاكمة في أوروبا مع طول أمد الحرب بتداعياتها الكارثية على الأوضاع الاقتصادية في أوروبا والعالم، وعلى سبيل المثال: لم تفلح الجهود اليائسة في إيطاليا في منع سقوط “ماريودراجي” رئيس الوزراء في 20 يونيو 2022. وفي فرنسا، فقد إيمانويل ماكرون أغلبيته البرلمانية لصالح أحزاب أكثر تعاطفًا مع الموقف الروسي. أما في أسبانيا، فقد خسر الاشتراكيون قاعدة قوتهم في الأندلس مؤخرًا، حيث حقق حزب الشعب رقمًا قياسيًّا جديدًا بلغ 36.3% في أحداث استطلاع للرأي. وفي إستونيا، نجت رئيس الوزراء المناهضة بشدة لبوتين “كاجا كالاس”، في يوليو 2022، بعد سقوط حكومتها الائتلافية السابقة في صراع مرتبط بمعدل التضخم في البلاد البالغ 19%، وهو الأعلى في منطقة اليورو.
ووفقًا لتقديرات كثيرة، يكمن التحدي الرئيس في إمكانية تغير مواقف الرأي العام في أوروبا من الحرب في أوكرانيا، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والعاطفة التي تحركها الصورة. وفي هذا السياق، كشفت دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) في 15 يونيو الماضي، أنه على حين يشعر الأوربيون بتضامن كبير مع أوكرانيا ويدعمون العقوبات المفروضة على روسيا، إلا أنهم منقسمون حول الأهداف الطويلة الأجل، ما بين معسكر “السلام” (35%) الذي يريد إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، ومعسكر العدالة (22%) الذي يعتقد أن الهدف الأكثر إلحاحًا هو معاقبة روسيا.
وتظهر الدراسة أن العامل الأكثر إثارة للقلق هو أن أغلب الأوروبيين ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره الخاسر الرئيس في الحرب، وأن الإجماع الأوروبي بشأن روسيا لا يترجم تلقائيًا إلى موقف مشترك بشأن الأدوار التي ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يلعبها في الحرب. وفي العديد من البلدان الأوروبية، يمكن أن تتغير قضية أوكرانيا من كونها مسعى وطنيًا أوروبيًّا موحدًا إلى قضية سياسية مثيرة للانقسام.
والخلاصة هنا هي أن الوقت قد يكون في صالح روسيا- في المدى القصير على الأقل–، وأن استمرار الحرب يحمل معه مخاطر تآكل الدعم لكييف في المجتمعات الغربية، التي ليست في وضع جيد يمكِّنها من تحمل الصراعات العسكرية الممتدة، حتى تلك التي تحدث في أماكن أخرى. ووفقًا للعديد من الخبراء الغربيين، فإن مجتمعات ما بعد الحداثة ذات التوجه الاستهلاكي التي اعتادت على وسائل الراحة في عالم زمن السلم المعولم، يمكن أن تفقد اهتمامها بالحرب، على عكس سكان روسيا، الذين- فضلًا عن قدرتهم على التحمل- حرضتهم آلة الدعاية وحشدتهم في مجتمع زمن الحرب. وفي هذا السياق يقدر خبراء غربيون أنه يتعين على صانعي السياسة الغربيين أن يعدوا أنفسهم لحرب ممتدة، رغم أن أدوات السياسة المتاحة لهم – مثل المساعدات العسكرية والعقوبات – لن تتغير مقارنة بمدة الحرب. وهنا يؤكد هؤلاء أن الحد الأقصى من الدعم العسكري لأوكرانيا أمرٌ ضروري بغض النظر عن مسار الحرب، كما أنه من شأن العقوبات التي تستهدف روسيا- وبصفةٍ خاصة قطاع الطاقة- أن تؤدي إلى تغييرات في الحسابات الروسية بمرور الوقت، وهي مناسبة تمامًا لهندسة التراجع طويل الأجل لآلة الحرب الروسية.
ثانيًا: موقف الغرب وأوكرانيا:
ما تزال الولايات المتحدة تحشد الحلفاء من أجل دعم أوكرانيا في حربها، سواء بالأسلحة أو بالدعم الاقتصادي والمالي. ويقدر بعض المراقبين الغربيين أن إدارة بايدن تستخدم الحرب أيضًا لتعزيز هدف أوسع، وهو تقليص قدرات الخصم وإضعافه، ووفقًا لتصريحات “لويد أوستن” وزير الدفاع الأمريكي – والذي خدم في مجلس إدارة شركة “رايثيون” لصناعة الأسلحة – فإن أحد أهداف أمريكا في أوكرانيا هو “رؤية روسيا تضعف”. وقد وضع وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” معيارًا عاليًا للغاية لرفع العقوبات المفروضة على روسيا بالقول بأنه: “يجب أن يكون انسحاب موسكو من الأراضي الأوكرانية لا رجعة فيه”، وبالتالي جعل من المرجح أن تستمر الحرب الباردة مع روسيا، حتى بعد انتهاء الحرب الجارية.
ومع ذلك يقدر بعض الكتاب الأمريكيين، مثل “ريتشارد هاس” رئيس مجلس العلاقات الخارجية، أنه مع غياب النصر والتسوية على الطاولة في المستقبل المنظور، تحتاج الولايات المتحدة وأوروبا إلى إستراتيجية “لإدارة” صراع مفتوح، وليس “حلَّه”، مشيرًا إلى أنه قصد “إدارة” الصراع وليس “حلَّه”؛ لأن الحل يتطلب بالتأكيد تغييرًا جوهريًّا في سلوك موسكو، إما بسبب احتجاج شعبي واسع النطاق في روسيا ينجم عن انهيار اقتصادي أو خسائر فادحة. ومن غير المرجح أن يحدث أي “حل”، وفقًا لهاس، مع وجود بوتين في الكرملين، الذي لن يقبل أوكرانيا دولة ذات سيادة حقيقية، وأن هذا للأسف يتجاوز قدرة الغرب على تحقيقه. بيد أن ما يستطيع الغرب أن يفعله هو الحفاظ على دعمه لأوكرانيا وزيادته بشكلٍ انتقائي، والالتزام بالقيود المفروضة على تدخله العسكري المباشر، وزيادة الضغط الاقتصادي على روسيا، وهذا من شأنه أن يرقى إلى سياسة مصممة للتعامل مع الحرب بدلًا من إنهائها”.
أما بالنسبة لحسابات كييف، التي يصعب تناولها بمعزل عن الموقف الغربي لأسباب عملية، وبالرغم من تغيير الرئيس زيلينسكي لموقفه أكثر من مرة، حيث اقترح في البداية أنه لن يقبل بأقل من الوضع الذي ساد بعد عام 1991 قبل أن يعود لاحقًا للإعلان عن قبوله للوضع الذي ساد ما بعد 2014_ توضح تقديرات غربية عديدة أن هناك عدد من العوامل الأكثر إلحاحًا، التي يتعين على القيادة الأوكرانية أخذها في الاعتبار إذا ما فكرت في صفقة سلام، وهي:
- التكلفة المباشرة للحرب، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن كييف تفقد ما يصل إلى 100 جندي يوميًّا، كما أنه يتوقع انكماش الاقتصاد الأوكراني بنسبة 45% هذا العام. ووفقًا للرئيس الأوكراني، فإن تكلفة الحرب بالنسبة لبلاده تصل إلى نحو 7 مليار دولار شهريًّا.
- هناك احتمال أن يشهد الموقف العسكري تحولًا؛ ذلك أنه رغم الأداء الجيد للقوات الأوكرانية، بل والأفضل بكثير مما كان متوقعًا، إلا أنها لا يجب أن تفترض أنها ستواصل القيام بذلك، خاصة مع تركيز روسيا لقواتها وقوتها النارية في جزء أصغر من البلاد.
- ارتباطًا بما تقدم، تشير التقديرات الغربية إلى أنه يجب على صانع القرار في أوكرانيا أن يأخذ في حسبانه عدم وجود ضمانات باستمرار الدعم العسكري القوي من الغرب، وعلى سبيل المثال: هناك بعض التآكل في دعم الحزبين (الديمقراطي، والجمهوري) لهذا الدعم، خاصة من قبل الحزب الجمهوري الذي صوَّت 11 عضوًا منه في مجلس الشيوخ، و57 عضوًا في مجلس النواب ضد حزمة المساعدات البالغة 40 مليار دولار، التي تم تمريرها في مايو 2022. وجادل جمهوريون بارزون آخرون، بمن فيهم الرئيس السابق “دونالد ترامب” و”جي دي فانس” J.D. Vance، المرشح الجمهوري لمجلس الشيوخ في أوهايو، بأن الاحتياجات المحلية يجب أن تكون لها الأولوية على مساعدة أوكرانيا. وعلى الجانب الديمقراطي، بات ارتفاع أسعار الغاز جزئيًّا نتيجة للحرب، مشكلة سياسية خطيرة لإدارة بايدن، هذا بجانب معاناة الداخل الأمريكي من قضايا ومشكلات تغطي على الحرب في أوكرانيا وتجذب انتباه الأمريكيين، مثل: الإجهاض والرقابة على الأسلحة والتضخم، وأمن الحدود، وتصاعد معدلات الجريمة.
ومع ذلك، وبالرغم من الاعتبارات المشار إليها عاليهُ، ما يزال الغرب يراهن على صمود أوكرانيا وقوة جيشها ومعنوياته العالية، وبالتالي عدم قبول أي تنازلات إقليمية لصالح روسيا. وفضلًا عن ذلك يعتقد بعض المحللين أن زيلينسكي واثق من قدرته على الحفاظ على الدعم الأمريكي والأوروبي، وبالتالي سيرفض قبول السلام بأي ثمن. وفي هذا السياق، يرى بعض الكتاب الأمريكيين أنه يكاد يكون مستحيلًا تخيل موافقة أوكرانيا -ولو مؤقتًا- على التخلي على أراضي لروسيا أكثر بكثير مما كانت تحتله قبل فبراير الماضي.
ومن جانبها، تردد الولايات المتحدة أن الأمر متروك لأوكرانيا لتقرر ما تريده من تسوية، ويشكك بعض الكتاب الأمريكيين – مثل “ريتشارد هاس” – في ذلك بالنظر إلى أن واشنطن لديها مصالح أوسع بكثير على المحك من كييف؛ فقد اقترحت إدارة بايدن مجموعة من الأهداف المختلفة، منها العمل على إضعاف روسيا وتغيير النظام فيها. وفي نهاية مايو 2022، سعى بايدن إلى توضيح نواياه في مقال رأي نشرته صحيفة نيويورك تايمز، قائلًا: “نريد أن نرى أوكرانيا ديمقراطية ومستقلة وذات سيادة ومزدهرة، ولديها الوسائل اللازمة للردع والدفاع عن نفسها ضد المزيد من العدوان”.
ويعتقد “هاس” أن ما أشار إليه بايدن لا ينهي الارتباك في الموقف الأمريكي؛ ذلك أن إدارة بايدن مترددة في الاعتراف بالحقيقة غير المريحة المتمثلة في وجود مقايضة في أوكرانيا، فما تزال الولايات المتحدة متمسكة بأن لديها مصلحة في المبدأ القانوني القائل بعدم جواز تغيير حدود الدول بالقوة، غير أن هذه المصلحة تصطدم مع مصلحة أخرى تتمثل في الرغبة في تجنب قتال مباشر مع قوة عظمى مسلحة نووية؛ ولهذا السبب رفضت الولايات المتحدة نشر قوات على الأرض، واستبعدت فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، ورفضت كسر الحصار الروسي المفروض على الموانئ الأوكرانية. ويضيف “هاس” أن ضبط النفس الأمريكي هذا قد يكون حكيمًا، إلا أن ذلك لن يغيّر من حقيقة أن أوكرانيا سوف تضطر إلى الاستمرار في قتال معركتها، وأنه حتى بمساعدة الغرب، ربما لن تتمكن أوكرانيا من استعادة الوضع الذي كان سائدًا قبل فبراير 2022، ناهيك عن الوضع الذي كان قائمًا قبل 2014.
وهكذا تصل التحليلات الغربية – في مجملها – إلى ذات النتيجة فيما يتعلق بالجانب الروسي، وهي أن الغرب يحتاج إلى إستراتيجية طويلة الأمد، تقوم على تجنب التدخل العسكري المباشر مع الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاجها، بجانب المعلومات الاستخباراتية والتدريب وغير ذلك من أشكال المساعدة، وذلك بما يمكّن كييف من إحباط الأعمال العسكرية الروسية واستعادة السيطرة على المزيد من أراضيها واستعادة سلامتها الإقليمية الكاملة من خلال سياسة مفتوحة من العقوبات والضغط الدبلوماسي، مع التمسك برفض الاعتراف بأي إقليم يحاول بوتين أن يجعله جزءًا من روسيا؛ ولكي ينجح الغرب في ذلك، تؤكد التحليلات على ضرورة الإبقاء على العقوبات المفروضة على روسيا بشكلٍ حاسم، لا سيما قطع إمداد الغاز الروسي لأوروبا في أسرع وقت ممكن، وتطوير إمدادات بديلة للطاقة.
والخلاصة: هي أن العديد من الكتاب الغربيين يؤكدون أنه يتعين على صناع القرار السياسي في الغرب أن يتقبلوا حقيقة قاسية في أوكرانيا، وهي أرجحية استمرار الحرب لبعض الوقت. وفي هذه المرحلة من الصراع، ينبغي على الغرب التركيز على كل ما من شأنه وضع أوكرانيا في أفضل وضع ممكن، بدلًا من التفكير في ما ينبغي عليها أن تقدمه من تنازلات إقليمية لروسيا والحديث عن تجنب إذلال بوتين. وبالتالي، يمكن القول أن من يراهن على إطالة الأزمة، وبالتالي استنزاف قوة روسيا فيها، هي الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك السعي للإبقاء على الأسباب الداعية لعزلة روسيا ومقاطعتها، وبغض النظر عن فشلها في ذلك، قد تكون إدارة بايدن قد استفادت – وما تزال – من تداعيات الأزمة، سواء من ناحية استعادة وحدة حلف الناتو وإعادة الاعتبار له، بل وتوسيع دوره ليشمل العالم كله بما فيه الصين، التي أرادت واشنطن توجيه رسائل إليها، ارتباطًا بالمسألة التايوانية، من خلال ما يجري في أوكرانيا.
وقد أيقن العديد من دول التحالف بأن السيناريو القائل بإمكانية هزيمة روسيا في الحرب، هو سيناريو غير واقعي، بالرغم من مواصلة دعم أوكرانيا بأحدث الأسلحة، التي لا يكفُّ الرئيس زيلينسكي، ومؤخرًا زوجته، عن المطالبة بالمزيد منها مطالبًا زعماء العالم بإنهاء الغزو الروسي لبلاده بحلول نهاية 2022.
من ناحية أخرى، يعتقد بعض الكتاب أن انتخابات التجديد النصفي لمجلسي الكونجرس الأمريكي في نوفمبر القادم، قد تشكل نقطة تحول مهمة في مسار الحرب، خاصة إذا فاز الجمهوريون بالأغلبية، ومع ذلك ما تزال العواقب الاقتصادية الخطيرة للحرب بمثابة العامل الحاسم لاختبار صمود أطراف الصراع، حيث يجري دفع أثمان باهظة لاستمرار الحرب. وفي هذا السياق، سيكون فصل الشتاء – ونقص إمدادات الغاز الروسي بسبب العقوبات – بمثابة اختبار صعب آخر لمدى تماسك الموقف الأوروبي، وما إذا كان قادرًا على تحمل التداعيات الخطيرة لإطالة أمد الحرب على أمن واقتصاد أوروبا، أم التعبير عن عدم الرغبة في المزيد من التصعيد وتغليب الروابط الجغرافية والمصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة مع روسيا، وبالتالي التخلي عن الحرب لصالح الدبلوماسية.