أعاد فيروس “كورونا” المستجد (كوفيد- 19) الاعتبار لوسائل الإعلام التقليديّ، بعدما باتت منابرها المتمايزة مصدراً معتبراً للمعلومة ومرفداً مهماً للتغطية الأشمل منسوباً وتنوعاً للأزمة، غداة “هجرة” الجمهور “الجزئية” منها إلى منصّات الشبكة العنكبوتيّة، ولكنه شكّل، أيضاً، موضع تحدٍ وازن بالنسبة لها، مما انعكس في خطاب التعاطي الإعلامي مع الجائحة، التي لا يزال العالم يُقارِع تبعات تفشيها المتسارعة حتى الآن.
وبالرغم من خبرة الإعلام في إدارة الأزمات؛ بوصفه مكوناً رئيساً لاستراتيجية المواجهة وجسّراً حيوياً بين الحكومة والمواطنين ووسيلة مؤثرة في تشكيل معارف واتجاهات الرأي العام، إلا أن مقاربة المشهد الإعلامي في زمن “كورونا”، منذ تحديده بمدينة “ووهان الصينية” في ديسمبر 2019، تختلف عن مرحلة “ما قبل” انتشاره ضمن الفضاءات العابرة للحدود، لاسيما وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بعدما شلّ الفيروس قدرة الصحف الورقيّة على الصدور فانكفأت إلى متراكمة أزماتها الثقيلة السابقة، ولكنها استلت مجتمعة وسائط الإعلام الجديد، “وسائل التواصل الاجتماعي”، وتقنيات الاتصال الحديثة، لتدخل بقوة في ميدان المعركة المضادّة “لكورونا”.
ولم يمضِ التعاطي الإعلامي مع الأزمة على وتيرة واحدة، لاسيّما حيال الإجراءات الوقائية الحكومية ونظم الرعاية الصحية واتجاهات تعزيز مكانة الدولة القومية لصالح منحى الانكفاء نحو الداخل القُطريّ، وسط نقاش مسهب حول تأثير الفيروس في انتهاء العولمة، ضمن حكم متسّرع لم تغب عنه “جدليّة” معالم النظام العالمي الجديد لما بعد “كورونا”، مما أوجد أنماطاً مغايرة، وربما متضادّة، من التغطيات الإعلامية للوباء، الذي حصد، ولا يزال، العديد من الضحايا ضمن أرجاء المعمورة، ملقياً بظلاله القاتمة على مختلف المجالات الحيويّة، بدون أن يتم حتى الآن إنتاج عقار ناجع لخنق الفيروس نهائياً.
“كورونا” في المشهد الإعلامي:
فرضت جائحة “كورونا” غير المسبوقة أهميتها الوازنة على الأجندة الإعلامية، وشغلت المساحة الأكبر من تغطيتها المتوالية، بنسب متفاوتة، والتي تركزت حول قضايا رئيسية تتمثل في الآتي:
أولاً: مركزية القرار:
سارعت معظم دول العالم، منذ تفشّي “كورونا” عبر القارات، لاتخاذ تدابير احترازية وإجراءات وقائية تخصّ أمنها القوميّ لمواجهة الفيروس؛ تنوعت بين إغلاق الحدود وإعلان حالة الطوارئ والعزل الذاتي وحظر التجول والحجر الصحي ومنع التجمعات ووقف عمل المؤسسات العامة والخاصة خلا العمل عن بعد، ووقف الدراسة مع اعتماد نمط التعليم عن بعد، وإلغاء الأنشطة، ووقف حركة الطيران، جزئياً أو كلياً، وتقييد الحركة التجارية، واستنفار الجيوش، عدا رصد الموارد المالية للإنفاق على كلائف أكبر عملية عزل جماعي وحصار طوعيّ على مرّ التاريخ.
وواكبت وسائل الإعلام حيثيات الأزمة بطرق مختلفة، فمنها من تناغم مع إجراءات الدولة المشددة للحفاظ على سلامة المواطنين والمقيمين على أراضيها، رغم تبعاتها الثقيلة على الاقتصاد، وذلك من خلال إعلاء أهميتها وتناول بُعدها “الإيجابي” في تمتين أواصر التكافل الاجتماعي وتقوية العلاقة بين أطراف المعادلة الداخلية، واستلال التغطية الشمولية واستقاء المعلومات الدقيقة من مصادرها الرسميّة، وإفراد مساحات غير مسبوقة للمحتوى الصحيّ التوعويّ للالتزام بتعليمات العزل وسلوك التباعد الاجتماعي ووسائل النظافة، بالاستعانة بالمختصين، وإبراز دور الأطباء بوصفهم جنود الجبهة الأمامية بمواجهة “العدو” غير المرئي، بعدما فرضت يوميات “الحرب الفيروسية” على وسائل الإعلام إعادة ترتيب أولوياتها، مقابل من اكتفى منها بتغطية الرصد الكميّ دون النوعي، وتقديم جرعات خفيفة من التوعية والتثقيف، نظير ضعف الخطاب الإعلامي الصحيّ في مخاطبة كافة فئات الجمهور والتأثير فيها، مما أبعدها عن بلوغ المستوى المطلوب الذي يتفق مع حراجة اللحظة الراهنة.
وتتبنى المنابر “المؤيدة” لجهود الدولة صيغة تطلع الناس في وقت الأزمات إلى الدولة بصفتها المرجع والإطار الوحيد المنظم في صيغته السيادية الكلية، والمؤسسة الشرعية القادرة على اتخاذ خطوات شاملة وملزمة وإصدار القرارات الحاسمة، بينما لا يدلل إغلاق الحدود السياسية على صعود قوة الدولة أو مركزية قرارها؛ فبعض الدول غير الجاهزة لمواجهة الوباء تلجأ لتلك الخطوة لمنع انتشار العدوى كإجراء وقائيّ، والتي قد يتبعها إجراء إغلاق الأحياء والمدن والأبنية داخلها، باعتبار أن الوقاية بالمنع والإغلاق سلاحها الأول.
ولم يَسلَم نهج الدولة لمواجهة الفيروس من انتقاد بعض وسائل الإعلام، إزاء حصر صلاحيات القرار بيد سلطة واحدة رئيسية، بما يؤدي لتفرّد البت بالتخصصات الداخلة ضمن صلاحية الوظيفة الإدارية بعيداً عن ممثليها، من مجالس بلديات ومحافظات، سبيلاً لتوطيد المركزية وتعزيز سيطرة الدولة على حساب المشاركة الوطنية، فضلاً عن أن تقديم الفيروس “كعدو” من أجل إضفاء الشرعية على “حالة الإستثناء الجديدة”، قد يتسبب في تدهور الديمقراطية والنزوع للاستبداد وإتاحة فرصة الإستئثار بالسلطة السياسية من قِبل بعض قادة الدول، عدا انهيار النظام الاقتصادي العالمي، مما قوبل باحتجاجات من جانب بعض الجماعات داخل المجتمع، مثل المظاهرات التي خرجت في روسيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، فيما قد يعود الانتقاد، في جانب منه، لحسابات اقتصادية خشية الخسائر الناجمة عن إجراءات الإغلاق والحظر التي اعتمدتها معظم دول العالم.
وتكمن الخشية، وفق هذا المنظور، في عدم تخلي الدولة كلية عن السلطات الإستثنائية التي منحتها لذاتها لمواجهة الوباء، برضى شعبي لحمايته من المخاطر، وتلك التي قد تكتسبها إن طال أمد الأزمة. ففي ساحات المنطقة التي خلت من المتظاهرين الذين خرجوا قبل الأزمة لإعلاء مطالب حقوقية، كما في الجزائر ولبنان والعراق، قامت الجيوش باستعادتها لضبط تنفيذ “العزل المنزلي”، بما يبعث قلقاً من توظيف الأنظمة “لكورونا” في تعزيز السيطرة المجتمعيّة وتتبّع حركة المعارضين، في حين أن الصورة “الزاهية” للمؤسسات العسكرية التي ارتسمت في أذهان الرأي العام العالمي جرّاء إسهامها في محاولات محاصرة آثار الوباء قد يمنحها، لاحقاً، المزيد من مساحة الحركة وتعزيز الدور اقتصادياً في بعض الدول، عملاً بتجليات ضبط الأزمة.
ويتماهى ذلك مع تأثير إجراءات بعض الدول في الحدّ من الحريّات وتحجيم دور الإعلام وتقييد وصوله للمعلومة وفرض العقوبات القاسية لجهة الاعتقال والغرامة المالية بتهمة نشر أنباء كاذبة، ومراقبة “مروجي” الإشاعات الافتراضية وملاحقتهم قانونياً، وتتبع حركة المواطنين. وبالرغم من أهمية رفع القيود الرسميّة عن الإعلام لتمكينه من أداء عمله والتنسيق معه لضمان التدفق المعلوماتي الدقيق، وضرورة تتبّع الحالات المصابة والمخالطة لتحجيم انتشار العدوى، فإن ضبط المحتوى المضلّل للجمهور يعدّ، أيضاً، أمراً حيوياً في زمن “كورونا”، نظير نزعة التهويل حد التأويل التي تضمنتها مشاهد إعلامية متوالية، وبث أنباء مزيّفة لإظهار الفشل الرسميّ في المواجهة لخدمة أجندات خارجية، مما ينتج خطاباً إعلامياً بعيداً عن الحسّ الوطنيّ، وأكثر قبولاً لجذت الشائعات، بما يؤدي لإشاعة الذعر والفوضى وتهديد السلّم المجتمعيّ وعرقلة جهود احتواء الأزمة.
ثانياً: الدولة القومية:
شغلت الدولة حيزاً رئيساً في المشهد الإعلامي المضادّ للأزمة، إزاء تواتر ثيمة “العودّة” التي مهّد لها الفيروس بعدما وفّر فرصّة تعزيز الوطنية وتقوية مكانة الدولة القوميّة في السياسات المحلية والدولية، ما دفع خبراء كثُر، ومنهم أولئك الذين سارعوا سابقاً لإعلان نعيها من منظري “ما بعد”، للاعتقاد بالإنكفاء مرة أخرى نحو ساحتها الداخلية والعودة بها لوظائفها التقليديه تأسيساً حيوياً لدور جديد أكثر قوة في المرحلة المقبلة. وقد تجلّت أبرز مظاهرها، التي أوردتها المنابر الإعلامية، في الجوانب التالية:
- تعزيز قوة الدولة: حمل تفشّي فيروس “كورونا” في طيّاته تأثيرات عميقة ممتدّة على الدولة والمجتمع معاً، ولكنه أسهم، أيضاً، في تقوية سيطرة الدولة، قياساً بالإجراءات الحمائيّة المشدّدة التي اتخذتها لمواجهة الوباء، وذلك إبان فترة ليست قليلة من الترويج لنموذج انسحابها من الاقتصاد والمجال العام لصالح فواعل أخرى.
بيدّ أن عناصر جديدة قد توفرت لإعادة النظر في مفهوم قوة الدولة، نظير الحرب ضدّ “عدو” غير مرئي، فباتت أدواتها، خلافاً لمجالاتها التقليدية، تتمثل في جاهزية منظومة الرعاية الصحيّة، بينما تقدمت مؤسسات الصحة ومخابر البحث العلمي وأدوات الإنتاج الغذائي والدوائي إلى واجهة المشهد، في حين صب دور القوات المسلحة في خدمة الأهداف الاستراتيجية الصحيّة وتوجيه الجهود لحماية الجبهة الداخلية وضبط الالتزام بالتعليمات والقيام بعمليات التطهير في الشوارع والأماكن العامة، بعدما فرض الفيروس على الدولة إعادة ترتيب أدوار بعض مؤسساتها لمواجهة الوباء. ويرتبط ذلك بمفهوم الأمن القومي الذي طاله التغيير بعدما أسهم الاستحقاق الجديد الذي فرضّه الفيروس في تصدّر الأمن الصحي، المرتبط حكماً بالأمن الاجتماعي وصولاً لوسائل الإعلام، الأولوية.
- سياسة أحادية الجانب: ساد الاعتقاد، عند محللين، بتآكل أسّ التعاون الدولي أمام تعاطي الدول مع “كورونا” وطنياً، بدرجة كبيرة، واعتماد نمط من النشاط الاقتصادي المحليّ لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجالات حيوية محددة، تجسيداً لحالة الإنكفاء والحمائية التجارية وصون المصلحة القومية، إزاء تراجع دور الفواعل الإقليمية والدولية، قياساً بالإنقسامات داخل الاتحاد الأوروبي التي عرقلت جهوده في وضع استراتيجية موحّدة للمواجهة، واحجام دوله عن مساعدة نظرائها ممن تلقوا العون من خارجه، ما دفع الكثير لحكم متسرّع بتهديد الفيروس لفكرة الاتحاد نفسها، إذ ليس سهلاً تفككه، وإنما قد تقود الأزمة لظهور شقوق في جدرانه وإعادة هيكلة بعض مؤسساته.
ولأن تداعيات الفيروس لا تعرف حدوداً، فإن السياسات الوطنية المنفردة لن تفلح في مواجهته بجهد محليّ محض، بل عبر التعاون والتنسيق العالمي الشامل، لاسيما في مسألتي تسريع تطوير اللقاح للمرض، وهو ما يحدث حالياً، ومعالجة التحديات الاقتصادية المنتظرة. وعليه، فالعالم قد يتباعد مؤقتاً ليحمي كل طرف نفسه من أوزار الفيروس، ولكنه معني بالتقارب لإعمال المواجهة المشتركة له، من دون انتفاء سمة المنافسة، إقليمياً ودولياً، التي ستستمر ولن تتوقف.
- “نهاية العولمة”: ارتبط الحديث عن قوة “عودة” الدولة إلى مسرح العلاقات الدولية في زمن “كورونا” بانتهاء العولمة، أو انحسار أمد مسارها وتغير مفهومها، وذلك عقب انتصار الدولة القومية على منافسيها من الفاعلين الدوليين الآخرين و”استدارتها” نحو الداخل بعيداً عن ما فرّضته العولمة من تهميش سلطتها وإضعاف قدرة سيطرتها على حدودها، حدّ القول باختفائها لصالح دولة متعددة الثقافات، وكأن العولمة، وفق هذا المنظور، نقيضٌ أو خصم لها، رغم توازي مسار صعود قوتهما.
بيدَ أن تفكيك البنية التحتيّة للعولمة ليس أمراً سهلاً ولا متاحاً آنياً؛ إزاء عمّق الإتجاه الأعظم نحو الترابط الاقتصاديّ والتقنيّ في بنيّة النظام الدولي المعاصر، والذي تُعليّ العولمة من شأنه بعدما أنتجت “مجتمعاً شبكياً” يتسّم بالإعتماد المتبادل والمصالح المشتركة بين الدول، لاسيما في الأبعاد الإقتصادية والمالية والنقدية التي تعدّ أهم ركائزها، وشركات متعددة الجنسيات ومتخطيّة القوميات، و”فورة” معلوماتية وتكنولوجية، استفادت منها الدولة لبسط سيطرتها محلياً، وبما ينبثق عنها مجتمعة من مؤشرات أخرى تتمثل في اتسّاع نطاق التجارة الدولية، وتنامي حجم الاستثمارات الخارجية، والعمالة الأجنبية، والطلبة الدارسين خارج بلادهم، وشبكة المنظمات الدولية غير الحكومية، في ظل انتفاء ما يشير إلى تآكلها أو تخلي البشرية عنها، بما يجعل مسار العولمة ماضياً دونما توقف بدون نفي احتمال تعرض بعض جوانبه إلى تغيير بايجاد أبعاد جديدة.
فيما سيبزغ من بين ثنايا التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبنيوية التي يشهدها العالم نظاماً عالمياً جديداً في مرحلة “ما بعد كورونا”، قد يتجه نحو التعددية القطبية، وفي نظر آخرين ستتحول السلطة والنفوذ العالميين من الولايات المتحدة إلى الصين. وأياً يكنْ؛ فإن الدول الكبرى ستوظف ملف الفيروس، لاسيما التي تنجح منها في إيجاد عقار شافٍ منه، لجهة تعزيز مكانتها و”قوتها الناعمة” دولياً في إطار العولمة، فيما ستتم معالجة الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الأزمة من خلال استثمار هياكل العولمة القائمة مع محاولة التنافس القومي لدفع مساراتها باتجاه مصالح الدولة القومية، بما قد يؤدي إلى خلافات سياسية لن تصل إلى مرحلة الصدام العسكري المباشر.
ثالثاً: السيطرة على الرعاية الصحية
سلّطت وسائل الإعلام الضوء على عمق الاختلالات الثقيلة التي كشف عنها فيروس “كورونا” في نظم الرعاية الصحية والبنى التحتية لكثير من دول العالم، وسط غياب شبكة أمان صحيّ استباقيّ فيها، نظير نقص عدد المشافي والأسِرّة المُجهزة والطواقم الطبيّة المدربة والمؤهلة وأجهزة التنفس والكمامات والمسحات والبدلات الواقية؛ ما أدى لإرتفاع عدد الضحايا واتسّاع رقعة الوباء، الذي لم تنجُ منه دول صناعية غنيّة بمواردها المالية ومتقدمة علميّاً وطبياً، إزاء عدم استعداد نظمها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، بينما تمكنت دول محدودة الموارد وأخرى فقيرة من إدارة الأزمة بفاعلية واستنفار طاقاتها البشرية لمواجهة خطر انتشاره، بما يعكس ضعف نظم الحوكمة الاقتصادية والسياسية على مدى الاستجابة للأزمة الصحيّة.
ومع ذلك؛ فقد انتشرت تسمية المشافي، لاسيما التابعة للقطاع العام، بخط “المواجهة الأول”، كما الأطباء بخط “الدفاع الأول”، في الخطاب الإعلامي، للتدليل على حيوية دورهما، ضمن محتوى صحيّ غير مسبوق لمواكبة تطورات الأزمة، رغم غياب الإعلام العلمي عموماً، بدون أن يخلو من انتقاد ظروف الحجر الصحي السيئة وسوء الإدارة الصحيّة، في بعض الدول.
وأبرز الإعلام تأثير اتجاهات الدول حيال “كورونا” في سياساتها المضادّة؛ إذ أدّت الاستجابة المتأخرة في اتخاذ الإجراءات الوقائيّة، إما بسبب “التقليل” من حجم المشكلة أو تأخر الإعتراف بانتقال العدوى لساحاتها والتكتّم عن منسوب تفشي الفيروس داخلياً، وبالتالي ضعف الالتزام الشعبيّ بالتعليمات، إلى تأزم الوضع الصحي وارتفاع عدد الإصابات والوفيات، تماهياً مع سبب اعتماد دول سياسات صحيّة متخبطة، مثل مبدأ “مناعة القطيع”، وتطبيق قانون “الطب الحربي” في المشافي على حالات مصابة بالفيروس بتركها لحتفّها، لاسيما من كبار السن، ممن لا تستطيع الدولة، التي تعجز منظومتها الصحية عن التعامل مع الأعداد المتزايدة من المرضى، توفير العلاج لهم.
ويتماهى ذلك مع ما كشفه الفيروس عن النزعة الصراعية للدولة القومية، واندفاعها لخوض منافسات غير إنسانية، أحياناً، للحصول على الأدوات الصحية الضرورية لمكافحة المرض، فضلاً عن فشل دول الغرب المتحالفة في إظهار التضامن مع دولة غربية أساسية كإيطالياً، وعدم الإستجابة لطلبها العاجل بتقديم مساعدات طبية لها، والتي تلقتها من مصر والإمارات والصين وروسيا، وحظر كل من فرنسا وألمانيا تصدير أقنعة الوجه، مثلما حظرت روسيا وتركيا مثلاً تصدير الكمامات وأقنعة التنفس، بما يظهر الفرق الشاسع بين “العون” و”التضامن” كمنظومة أخلاقية.
بيدَ أن وسائل الإعلام لم تخلُ من مساحات “مُضلّلة” للجمهور عند التسويق لعلاجات “وهميّة” للمرض بوصفات شعبيّة وأدوية غير مرخصة، بينما تدأب مخابر البحث العلمي عبر الدول، لاسيما الكبرى منها، لإنتاج عقار شافٍ، مما قد يزيد حدّة المنافسة بينها مع قدر من المواجهة، بخاصة شركات الأدوية لنيل المكاسب التجارية، ولكنه سيدفع، أيضاً، تجاه تكاتف الخبرات وتعاونها عبر المشاركة في الاكتشافات ذات الصلة، بحيث قد تخفف سرعة الوصول للمصل من عمق الأزمات الناتجة عن الفيروس.
الخاتمة:
لم يكن دور الإعلام في جهود مواجهة “كورونا” بالمستوى المتفق مع حراجة اللحظة الراهنة، فبإستثناء حالات قليلة لا تزال تقدّم إسهامات جدّيّة عبر المنابر المختلفة، فإن مفهوم إدارة الأزمة غاب، إجمالا، عن المشهد الإعلامي، لصالح غلبة الجانب الرصدي الكميّ، مع تقديم جرعات خفيفة من التوعية والتثقيف، نظير ضعف الخطاب الصحيّ المؤثر، مقابل إشغال مساحات وافية للنقاش حول تأثير الفيروس في تقوية الدولة القومية وتعزيز الوطنية، مع استلال حكم متسرّع “بانتهاء” العولمة، وهو أمر ليس سهلاً ولا متاحاً آنياً؛ نظراً لصعوبة تفكيك بنيتها التحتية، بما يجعل مسارها يمضي دون توقف مع احتمال تعرض بعض جوانبه إلى تغيير بإيجاد أبعاد جديدة.
ولأن الأزمة لم تنته بعد، فإن وسائل الإعلام معنيّة بوضع خطة شمولية لتقديم الرسائل الإعلامية الدقيقة والهادفة، والالتزام بناصيتي المصداقيّة والشموليّة المتوازنة الذي يعدّ ديدنها لاستعادة ثقة الجمهور بها مجدداً، مع أهمية رفع القيود الرسميّة عن أداء عملها، استلالاً من الدور الإعلامي المجتمعيّ الذي يصب في خانة تعزيز الوعي بالمسؤولية وروح التكافل الاجتماعي لإعلاء المصلحة الوطنية العامة، ومواجهة المرحلة المقبلة الأكثر خطورة لتداعيات الأزمة.