الجدل الحالي في ليبيا حول العملية الانتخابية وقوانينها وتشريعاتها ونتائجها، ليس وليد اللحظة، بل أنه يعود إلى سنوات عديدة ماضية، ويرتبط بجذور وطبيعة الصراع الذي عاشته البلاد منذ عام 2011، وأثرت فيه عوامل داخلية وخارجية عديدة.
ولقد ازداد هذا الجدل بشكلٍ ملحوظ بعد إقرار مجلس النواب لقانونيِّ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث اعتبرت هيئة رئاسة مجلس النواب في بيان لها بهذه المناسبة أن انتخاب الرئيس والبرلمان “يضع الشعب أمام مسؤوليته ويعيد الأمانة للشعب الليبي”، وأن المجلس بإصداره للتشريعات، القوانين المنظمة للانتخابات المقبلة، “يكون قد أنهى مرحلة من أخطر المراحل التي مرت على تاريخ ليبيا الحديث وبعد مضي سنوات من عدم الاستقرار والحروب والفوضى”، ويتركّز الجدل بشكلٍ خاص حول نص المادة (12) من قانون الانتخابات الرئاسية، كونها تحول دون ترشُّح مسؤولين حكوميينبقوا على رأس مناصبهم حتى الآن حيث عدّت هذه المادة “المترشح سواء أكان مدنيًّا أم عسكريًّا متوقفًا عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وإذا لم يُنتخب فإنه يعود لسابق عمله “، وبالرغم من أن بعض مناطق غرب ليبيا تشهد أنشطة رسمية وشعبية تُعبِّر من خلالها عن رفضها لإجراء الانتخابات للضغط على مجلس النواب الذي أقر هذه القوانين، وكذلك لفت نظر المجتمع الدولي الداعم بقوة لإجراء هذه الانتخابات، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن هذه المادة لم تقف حائلًا دون ترشح شخصيات حكومية
وسياسية بارزة في الساحة الليبية للانتخابات، بالرغم من أنها لم تتخلَّ عن مواقعها الرسمية قبل إجراء الانتخابات بثلاثة أشهر.
يعود الجدل الداخلي المتواصل حول قضية الانتخابات في ليبيا إلى انتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان)، والتي أُجريت في 7 يوليو/ تموز عام 2012، بعد أن أُجلت عن موعدها الذي كان مقررًا في 19 يونيو/ حزيران؛ بسبب الظروف الأمنية في البلاد، وهذه الانتخابات هي الثانية التي شهدتها البلاد بعد الانتخابات المحلية التي أُجريت مطلع نفس العام، وقد نُظمت انتخابات المؤتمر الوطني العام وفقًا لمواد القانون رقم 4 لسنة 2012، الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي، والذي نصَّ على أن المؤتمر الوطني العام هو السلطة التشريعية المؤقتة والمنتخبة للدولة الليبية في المرحلة الانتقالية ويتألف من مئتي عضو يمثلون مختلف مناطق ليبيا، ويُنتَخَبون وفقًا لأحكام القانون الذي أثار الكثير من الجدل؛ بسبب نظام المحاصصة الذي اعتمده، حيث رأى ناشطون من مناطق شرق ليبيا في حينه بأنه يمثل ظلمًا وحيفًا بحقهم، وينص القانون على أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات هي الجهة التي تتولى تنظيم وإدارة العملية الانتخابية والإشراف عليها([1]).
لقد أصبح المؤتمر الوطني العام بعد تشكيله مكانًا للتصارع بين القوى السياسية المُمثلة في الشارع، وبالتالي لم يتمكن من إنجاز أهم مهمة كُلِّف بها وهي كتابة دستور جديد للبلاد؛ ليدخل المشهد الليبي في فترة ولاية المؤتمر الوطني العام بخلافات مُعقدة- خاصةً بعد انتخابات مجلس النواب في 25 يونيو/ حزيران 2014؛ نتيجة الإقبال الضعيف عليها، وما شاب العملية الانتخابية من أعمال عنف، إلا أنه بالرغم من ذلك، اعتبرت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أن سير الانتخابات التشريعية كان مقبولًا نظرًا “للظروف الصعبة التي نُظمت فيها”([2]).
وبالرغم من كل ما تشهده الساحة الليبية من تباينات، فإن إجراء الانتخابات في موعدها أصبح الخيار الراجح اليوم؛ لأنه لا بديل عنه للحفاظ على حالة الاستقرار النسبية التي تعيشها البلاد منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، خاصةً أن معظم الخلافات تتمحور حول نص المادة (12) من القانون رقم 1 الخاص بانتخاب رئيس البلاد الصادر عن مجلس النواب، والتي تشترط أن يتوقف المترشح لشغل المنصب عن عمله في الدولة قبل ثلاثة أشهر من تاريخ إجراء الانتخابات، فقد أثبتت تطورات الأحداث أن الثغرات الموجودة في القانون واللائحة المُنظمة لعملية الانتخابات التي أعدتها المفوضية وأصبحت جزءًا من القانون- جعلت من أمر تجاوز الشرط الوارد في هذه المادة ممكنًا، خاصة بعد ترشُّح مسؤولين في الدولة للانتخابات الرئاسية دون التقيد بنصها، وبات واضحًا بأن الدعم الدولي القوي لإجراء الانتخابات ورفض تأجيلها، يقابله مطالب تيارات وشخصيات سياسية معينة بتعديل قوانين الانتخابات الحالية بهدف منع ترشُّح شخصيات بعينها لكن هذا الأمر هو الآخر ترفضه مناطق معينة في ليبيا، وتساندها في ذلك أطراف دولية.
ويمكن تتبع تطورات وملامح ملف الانتخابات في ليبيا منذ التغيير الذي شهدته ليبيا عام 2011 وحتى اليوم، فيما يلي:
أولًا: انتخابات المؤتمر الوطني العام، 7 يوليو/ تموز 2012:
انتُخِبَ المؤتمر الوطني العام (البرلمان) في السابع من يوليو/ تموز 2012؛ من أجل إنجاز مهمة إنشاء جمعية تأسيسية لصياغة دستور للبلاد، بناءً على ما نص عليه الإعلان الدستوري المؤقت، غير أن المؤتمر رأى تشكيل الجمعية من خلال انتخابها من قبل الليبيين مباشرةً، حيث قرر في 10 أبريل/ نيسان 2013، بأن تجرى انتخابات لأعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، وجرت بالفعل هذه الانتخابات في 20 فبراير/ شباط 2014.
وتسلّم المؤتمر الوطني العام السلطة رسميًّا من المجلس الوطني الانتقالي في حفل أُقيم بتاريخ 8 أغسطس/ آب 2012 لهذا الغرض، حيث تنحى مصطفى عبدالجليل من منصبه كرئيس للدولة وسلّم المنصب إلى أكبر عضو في المؤتمر “محمد علي سالم”، ويتكون المؤتمر من 200 مقعد موزعة بنسب معينة على مناطق ليبيا المختلفة، وفي 4 أغسطس/ آب 2014 قام نائب رئيس المؤتمر الوطني “عزالدين العوامي” المنتهية ولايته بتسليم السلطة التشريعية من قبل المؤتمر الوطني إلى مجلس النواب المنتخب في مدينة طبرق شرقي ليبيا([3])، وفي 25 مايو/ أيار 2014، حدد المؤتمر الوطني العام يوم 25 يونيو/ حزيران 2014، كموعد لانتخاب مجلس النواب الليبي.
تكوّن المؤتمر الوطني العام من مجموعتين سياسيتين رئيستين: تحالف القوى الوطنية (ليبرالي)، وحزب العدالة والبناء (إسلامي)، وقد أثبتت التجربة فشل هاتين المجموعتين الرئيستين بالبرلمان في التوصل إلى حلول بشأن القضايا الأكبر والأكثر أهمية التي واجهها المؤتمر الوطني العام؛ نتيجة اشتعال الصراع بين “حكومة الإنقاذ الليبية”، التي شكلّها عدد من أعضاء التيار الإسلامي ضمن المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته القانونية، ومقرها في طرابلس، والمدعومة من قبل تحالف جهات إسلامية تعرف باسم “فجر ليبيا”_ وبين الحكومة المعترف بها دوليًّا آنذاك والمنبثقة عن مجلس النواب المنتخب، والمعروفة رسميًّا باسم “الحكومة الليبية”، ومقرها في مدينة بنغازي شرق البلاد، ونشب هذا الصراع على خلفية الحكم الصادر عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في طرابلس، والذي عدّته غير قابل للنقض، وأن القانون المُنظم للانتخابات البرلمانية التي تمت في يونيو/ حزيران 2014، المُعَد من قبل ما تُعرف بـ”لجنة فبراير” في المؤتمر الوطني_ مُلغى، وهو ما يعني حلّ مجلس النواب المنتخب، وكل ما ترتب على هذا المجلس من قرارات تشمل تشكيل الحكومة، والإعلان عن انتخابات رئاسية، ووصلت الخلافات لدرجة إعلان النائب الثاني لرئيس المؤتمر الوطني بُعَيْد قرار المحكمة أن “المؤتمر استأنف نشاطه، وسيستمر إلى أن يصدر الدستور، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة”([4])، إلا أن هذا الحكم عُدَّ باطلًا؛ لأنه صدر تحت التهديد نتيجة حصار جماعات مسلحة تابعة للأحزاب والكتل السياسية الخاسرة في انتخابات مجلس النواب لمقر المحكمة، وعليه فقد رفض مجلس النواب هذا الحكم، واستمر تعامل المجتمع الدولي معه وتواصلت اجتماعاته- بالرغم من صدور قرار المحكمة- ويعد ذلك من أبرز مظاهر الخلافات التي سادت المشهد الانتخابي في ليبيا منذ انطلاق العملية السياسية بعد عام 2011.
لقد تسبّب الانقسام بين الأحزاب في ليبيا والجدل الذي أثاره قانون العزل السياسي([5])، فضلًا عن تدهورِ الوضع الأمني في التأثير وبشكلٍ كبير على قدرة المؤتمر الوطني العام في تحقيقِ تقدم حقيقي نحو إعداد دستور جديد للبلاد والذي كان المهمة الأساسية التي كُلّفت بها هذه الهيئة الحاكِمة.
ثانياً: انتخابات مجلس النواب في عام 2014:
تُعد انتخابات مجلس النواب الاستحقاق الثالث للمرحلة الانتقالية في ليبيا بعد التغيير الذي شهدته البلاد في عام 2011، حيث أُجريت في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران 2014، وتذكر المفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية في موقعها الإلكتروني الرسمي إلى أن عدد المشاركين في هذه الانتخابات يزيد على (630000) ناخب، بنسبة تصل إلى (41)%، وعلى الرغم من أن الأوضاع التي جرت فيها هذه العملية الانتخابية كانت صعبة بكل المقاييس إلا أن تنفيذها جاء وفقًا لنصوص القانون الانتخابي والمعايير الدولية وفي أجواء من الشفافية والنزاهة([6]).
تشير مصادر كثيرة أخرى إلى أن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات كانت أقل بكثير من تلك التي أوردتها المفوضية الوطنية للانتخابات، وتؤكد بأن نسبة الإقبال على هذه الانتخابات كانت ضعيفة جدًا، وأن المشاركة اقتصرت على نسبة تتراوح بين (15-18)% فقط من الناخبين المسجلين.([7])
تمثلت الظروف الصعبة التي أُجريت فيها انتخابات مجلس النواب بتوتر الوضع الأمني بدرجة كبيرة لا يمكن مقارنتها بحال مع الوضع الحالي لليبيا؛ حيث كانت العاصمة تشهد مواجهات مسلحة للسيطرة على مطار طرابلس، وُصفت حينها بأنها الأسوأ منذ عام 2011، وحل مجلس النواب الحالي محل المؤتمر الوطني العام، الذي كان يُتهم بالتسبب باضطراب الوضع الأمني في مناطق مختلفة من البلاد.
أُجريت انتخابات مجلس النواب وفق مواد القانون رقم (10) لعام 2014، الصادر عن المؤتمر الوطني العام، ووفق اللوائح التنظيمية الصادرة في هذا الخصوص، وكان هذا القانون قد نص على أن مجلس النواب هو السلطة التشريعية المؤقتة للدولة في المرحلة الانتقالية، ويتألف من مئتي عضو يُختارون بطريق الانتخاب الحر المباشر، كما نص على اعتماد النظام الانتخابي الفردي في انتخاب أعضاء مجلس النواب وفقًا لنظام الصوت الواحد، وخصص 16% من مقاعد مجلس النواب تترشح لها النساء فقط.
يقع مقر مجلس النواب الليبي في مدينة بنغازي، إلا أن غالبية أعضاء مجلس النواب توافقوا على اختيار مدينة طبرق التي تنعم بالهدوء النسبي لعقد جلساتهم.
ومن أبرز مظاهر الجدل والخلاف أيضًا حول شرعية مجلس النواب، أن الدائرة الدستورية في المحكمة العليا بطرابلس أصدرت بتاريخ 6/11/2014، حكمًا بعدم دستورية “الفقرة الحادية عشرة من التعديل الدستوري السابع الصادر في مارس 2014 وما ترتب عليه من آثار”، ما فُسِّر على أن الحكم يحل بذلك مجلس النواب على خلفية “بطلان”، تعديل إعلان دستوري مؤقت انتخب بموجبه المجلس، مما جعل مجلس النواب وتيارات سياسية تعلن عن رفضها ذلك الحكم، فيما شككت جهات في نزاهته بالنظر لمحاصرة قوات من فجر ليبيا لمقر المحكمة عند إصداره، في حين أكدت دول عديدة ومنظمات دولية وإقليمية اعترافها بمجلس النواب الليبي باعتباره الجهة المنتخبة. وعلى الجانب الآخر، رحبت “فجر ليبيا” التي تسيطر على مدينة طرابلس وجهات أخرى بالحكم معتبرة مجلس النواب في إطار “المنحل”، من جهة أخرى أعلنت لجنة فبراير والتي أُسند إليها (مقترح فبراير) من قبل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته “أن حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا لا يمس شرعية مجلس النواب المنتخب”([8]).
ثالثاً: تشكيل ملتقى الحوار السياسي الليبي:
يُعتبر ملتقى الحوار السياسي الليبي أحد الجهات التي مارست دورًا سياسيًّا انتقاليًّا في ليبيا خلال مرحلة مهمة من تاريخ البلاد، وقام بمظهر من مظاهر الانتخابات من خلال تصويته لاختيار السلطة التنفيذية، التي خلفت حكومة الوفاق الوطني ومجلسها الرئاسي بعد نفاذ مدة شرعيته المتضمنة في الاتفاق السياسي الليبي (اتفاق الصخيرات، 17 ديسمبر/ كانون الاول 2015)، ويتكون ملتقى الحوار من 75 عضوًا من النساء والرجال اختارتهم البعثة الأممية باعتبارهم يُمثلون ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الليبي- بعد سلسلة اجتماعات داخلية- وقبل ذلك بدأ الملتقى على نطاقٍ موسع بمسمى “منتدى الحوار السياسي الليبي”، في سبتمبر/ أيلول 2019، تحت قيادة “ستيفاني وليامز” نائبة المبعوث الأممي إلى ليبيا، وتم تعريف الهدف من المنتدى على أنه “خلق توافق في الآراء حول إطار وترتيبات حكم موحدة من شأنها أن تؤدي إلى إجراء انتخابات وطنية في أقصر إطار زمني ممكن من أجل استعادة سيادة ليبيا والشرعية الديمقراطية للمؤسسات الليبية”.
بدأت جلسات ملتقى الحوار السياسي بأعضائه الـ75 بتيسير من البعثة الأممية، بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 2510 (2020)، الذي صادق على مخرجات مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا، حيث بدأت محادثات الملتقى بجلستين افتراضيتين في 7 و 8 نوفمبر/ تشرين الثاني، واستمرت باجتماعات مباشرة من (9 إلى15 ) نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وفي ختام الملتقى، توافق أعضاؤه على خارطة طريق لإجراء انتخابات وطنية وشاملة وديمقراطية وذات مصداقية، وذلك في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، واعتبرت البعثة الأممية هذا التطور فرصة لليبيين لإنهاء المرحلة الانتقالية واختيار طريق جديد للمضي قدمًا، كما اتفق أعضاء الملتقى على ضرورة إصلاح السلطة التنفيذية بما يتماشى وخلاصات مؤتمر برلين، وحدّدوا هيكل واختصاصات المجلس الرئاسي ورئيس للحكومة منفصل عن المجلس، وحدّدوا أيضًا معايير الترشح لهذه المناصب، ومعايير الاختيار للمجلس الرئاسي بعد إصلاحه ومنصب رئيس الوزراء([9]).
وضعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا- بناءً على توصية من “أغلبية ساحقة من الجماهير الليبية”- شرطًا يقضي بأن المشاركة في منتدى الحوار السياسي الليبي تتطلب من المشاركين التعهد بأنهم لن يشاركوا في السلطة السياسية أو السيادية في المؤسسات الجديدة التي سيتم إنشاؤها([10]).
في الفترة من (1 إلى5 ) فبراير/ شباط 2021، اختار أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي، السلطة التنفيذية الليبية للمرحلة الانتقالية والمتمثلة بالمجلس الرئاسي الجديد وحكومة الوحدة الوطنية، وتمت عملية التصويت على مرحلتين، إذ تمت المرحلة الأولى بنظام التصويت الفردي لعضوية المجلس الرئاسي وفقًا للمجمعات الانتخابية، والمرحلة الثانية بنظام القوائم الانتخابية، وانتهت بفوز قائمة المنفي- دبيبة، حيث فاز محمد المنفي برئاسة المجلس الرئاسي الليبي الجديد مع نائبيه (موسى الكوني وعبد الله اللافي)، فيما فاز عبدالحميد الدبيبة بمنصب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، والذي تمكّن من تشكيلها في 10 مارس/ آذار 2021، بعد أن حكمت البلاد قبل ذلك حكومتين متنافستين، هما حكومة الوفاق الوطني ومقرها طرابلس، والحكومة الليبية المؤقتة ومقرها بنغازي، وبتاريخ 10 مارس/ آذار 2021، منح مجلس النواب الليبي الثقة لحكومة الوحدة الوطنية([11])؛ ليُصوِّت في 21 سبتمبر/ أيلول 2021، على سحب الثقة منها لأسباب تتعلق بسلبيات حول إعداد الميزانية والإنفاق الحكومي، من وجهة نظر المجلس، وقد لاقى هذا الإجراء رفضًا داخليًّا ودوليًّا باعتبار أن الصفة القانونية للحكومة وطبيعة مهمتها مؤقتة، وتتمثل بتسيير أمور البلاد لحين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتسليم السلطة للمؤسسات المنتخبة، إذ أعلنت البعثة الأممية في ليبيا عبر بيان لها بهذا الشأن، أن حكومة الوحدة الوطنية هي “الحكومة الشرعية حتى إجراء الانتخابات”، فيما علّق رئيس مجلس النواب على ما جاء في بيان البعثة بأنه ليس من حقها الاعتراض على مسألة داخلية([12]).
بَقيَ أن نذكر هنا بأن أعضاء السلطة التنفيذية سبق أن تعهدوا بعدم الترشح مستقبلًا لمناصب حكومية، إلا أن ذلك لم يَحُلْ دون تقدم بعضهم للترشح إلى الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وفي ظل اشتداد المنافسة على الترشح لهذه الانتخابات قد يستبعد القضاء المرشحين الذين خالفوا هذه التعهدات وكذا نص المادة (12) من قانون انتخاب الرئيس.
رابعاً: إقرار مجلس النواب الليبي لقانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية:
أَقر مجلس النواب الليبي في 4 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي قانون الانتخابات التشريعية، وكان قبل ذلك قد أقرَّ قانون الانتخابات الرئاسية وإحالته إلى المفوضية الوطنية الليبية العليا للانتخابات، وحظيت هذه التطورات بترحيب البعثة الأممية في ليبيا وقوى دولية وإقليمية فاعلة في الشأن الليبي.
جاء إقرار قانون الانتخابات التشريعية بعد أقل من شهر على تبني قانون الانتخابات الرئاسية المثير للجدل، والذي صادق عليه رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” بدون أن يطرحه للتصويت، ما أثار موجة استياء بين عدد من الأطراف السياسية، فقد أثارت المادة 12 من قانون الانتخابات الرئاسية انتقادات شديدة، وهي تنصّ على إمكان ترشح مسؤول عسكري بشرط التوقف “عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وإذا لم يُنتخب فإنه يعود لسابق عمله”([13])، الأمر الذي عدّه معارضون بأن هذه المادة مفصلة وفق مقاس شخصيات سياسية بعينها، وهذا ما نفاه رئيس مجلس النواب في تصريحات له مؤخرًا، بتأكيده على أن “المادة 12 من قانون الانتخابات الليبية لن تُعدَّل.. وعلى أي شخص يرغب في الترشح لانتخابات ليبيا أن يتوقف عن عمله مؤقتًا”، وأن قوانين الانتخابات عامة، ولم تُقر من أجل شخص بعينه كما يزعم البعض([14]).
خامساً: موقف المجتمع الدولي الداعم لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ليبيا:
التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها المحدد يوم 24 ديسمبر/ كانون أول المقبل، وحثّ جميع الجهات الفاعلة والمترشحين الليبيين على ضرورة التقيد بالتزامهم بقبول نتائجها، كما دعى السلطات الليبية إلى تقديم الدعم اللازم للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات وتمكينها من تنفيذ العملية الانتخابية([15]).
وقد وصل هذا الدعم لإجراء الانتخابات إلى درجة التحذير من أن “الأفراد أو الكيانات داخل ليبيا أو خارجها التي قد تحاول أن تعرقل العملية الانتخابية وعملية الانتقال السياسي أو تقوّضهما أو تتلاعب بهما أو تزوّرهما ستخضع للمسائلة، وقد تُدرج في قائمة لجنة الجزاءات التابعة للأمم المتحدة؛ عملًا بالقرار رقم 2571 الصادر عن مجلس الأمن في العام 2021″، وتأكيد الالتزام باحترام العملية الانتخابية الليبية، وحض “جميع الجهات الفاعلة الدولية على أن تحذو حذوهم”([16]).
سادساً: موقف جامعة الدول العربية من الانتخابات السابقة والمرتقبة:
في أول تعامل لجامعة الدول العربية بشأن الانتخابات بليبيا، رحّب مجلس الجامعة على المستوى الوزاري، بتاريخ 5 سبتمبر/ أيلول عام 2012، بالانتخابات العامة التي جرت بتاريخ 7/7/2012، وأفضت إلى انتقال السلطة للمؤتمر الوطني العام، وأشاد بنزاهة وشفافية هذه الانتخابات “بشهادة المراقبين العرب والدوليين”([17])، وأعاد المجلس في 6 مارس/ آذار 2013، الترحيب بنتائج انتخاب المؤتمر الوطني العام وما ترتب عليها من نتائج إيجابية تثملت في تشكيل الحكومة الانتقالية، كما رحب أيضًا بمشاركة الأمانة العامة للجامعة في مراقبة الانتخابات.
بتاريخ 11 سبتمبر/ أيلول 2018، دعى مجلس الجامعة كلًا من (مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة) إلى الالتزام بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بالإسراع بعقد جلسة مجلس النواب لإقرار مشروع قانون الاستفتاء على الدستور وصولًا إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أقرب وقت ممكن، وهذا ما لم يحصل لاحقًا.
في 6 مارس/ آذار 2019، وقمة تونس في 31 مارس/ آذار من نفس العام، رحب مجلس الجامعة باستراتيجية وخطة العمل التي أعدتها الأمم المتحدة والتي عرضها المبعوث الأممي لحل الأزمة في ليبيا، بما في ذلك ما تضمنته الخطة بعقد المؤتمر الوطني الجامع، والاستفتاء على الدستور، وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وعبّر مجلس الجامعة الوزاري في 3 مارس/ آذار 2021، عن دعمه الكامل لخارطة طريق المرحلة التمهيدية للحل الشامل، التي أقرها ملتقى الحوار السياسي الليبي برعاية البعثة الأممية للتوصل إلى انتخابات تشريعية ورئاسية على قاعدة دستورية متفق عليها، والترحيب بالاتفاق على تحديد يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، موعدًا لإجراء الانتخابات، وفي إطار ترحيبه باختيار السلطة التنفيذية الجديدة (رئيس مجلس النواب ونائبيه ورئيس حكومة الوحدة الوطنية)، أعرب عن الدعم الكامل لها في تنفيذ مهامها المنصوص عليها في خارطة الطريق، وشدّد على ضرورة اضطلاع كافة المؤسسات الليبية المعنية بمسؤولياتها إزاء الالتزام بإجراء الانتخابات بموعدها.
في 9 سبتمبر/ أيلول 2021، حثَّ مجلس الجامعة المؤسسات الليبية المختصة على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوضيح القاعدة الدستورية للانتخابات وسن القوانين حسب الاقتضاء بما يتيح للمفوضية العليا للانتخابات الحصول على الموارد المالية والوقت الكافي للتحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية وفقًا للجدول الزمني المحدد في خارطة الطريق والتأكيد على أهمية أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة وضمان المشاركة الكاملة.
الخلاصة:
في ضوء قيام المفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية بفتح التسجيل لمرشحي الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتقدّم أسماء بارزة بالترشح للانتخابات الرئاسية، سيبقى أمر رفض الجماعات المسلحة لبعض المرشحين واردًا، ويُعد ذلك من أهم التحديات التي قد تعرقل إجراء الانتخابات في موعدها، ولكن يبقى موقف القوى الدولية الفاعلة بليبيا مهمًا في معادلة الترشح والفوز.
إن قيام شخصيات بارزة في المشهد الليبي بالترشح للانتخابات الرئاسية، خلافًا لنص المادة (12) من قانون انتخاب الرئيس قد يُعمِّق الخلافات والجدل بشأن شرعية الانتخابات ويجعل انخفاض نسبة الإقبال على المشاركة فيها غير مستبعد.
في ضوء ترشُّح شخصيات سياسية على درجة عالية للانتخابات الرئاسية، بدا واضحًا أن هنالك تقديم تفسيرات وتأويلات متباينة لنص المادة (12)، وعليه فإن القضاء الليبي بات أمام امتحان صعب جدًا للبَتِّ بترشيحات من هذا الوزن في الأيام المقبلة، خاصةً أن الدبيبة كان قد اتهم المجلس بإصدار قوانين انتخابية “غير توافقية”، وأنه قد تتسبب بمشكلةٍ كبيرة للعملية الانتخابية، وعبّر عن عزمه تقديم ترشيحه للانتخابات الرئاسية في “الوقت المناسب”، فيما قال صالح خلال تصريحات خاصة لقناة (العربية) الإخبارية “إنه لا مجال لتعديل قانون الانتخابات في ليبيا”، وأن “المادة 12 من قانون الانتخابات الليبية لن تُعدل.. وعلى أي شخص يرغب في الترشح لانتخابات ليبيا أن يتوقف عن عمله مؤقتًا”، وأن قوانين الانتخابات عامة، ولم تقر من أجل شخص بعينه كما يزعم البعض([18]).
فإصدار المفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية، لقرار يتضمن اعتماد القائمة الأولية لمرشحي الانتخابات الرئاسية، الذين بلغ عددهم 73 مترشحًا من مجموع 98 مرشح، ونشرها على موقعها الإلكتروني الرسمي لقائمة المرشحين المستبعدين التي ضمت 25 مترشحًا لا تنطبق عليهم شروط الترشح للانتخابات الرئاسية، يفتح الباب واسعًا أمام احتمالات عودة التوتر من جديد للبلاد ما لم يتم التعامل مع ملفات المرشحين بروح الوعي والمسؤولية، التي تراعي حساسيات الوضع وحراجة المرحلة الحالية ومصلحة البلاد العليا.
وفي أحدث تطور حول ملف الانتخابات الليبية، قد يكون من المفيد لهذه الدراسة تقديم عرض موجز لأهم ما جاء في إحاطة المبعوث الأممي المستقيل “يان كوبيش” لمجلس الأمن، ومداخلات أغلب أعضاء المجلس وبيان رئاسته حول مسألة إجراء الانتخابات، وذلك بتاريخ 24/11/2021؛ حيث تضمنت دعوة الأطراف الليبية إلى الالتزام بالعملية الانتخابية في ليبيا، والالتزام بنتائج الانتخابات، وتهديد المعرقلين بخضوعهم للعقوبات، وتأكيد المبعوث الأممي على أن “ليبيا تعاني مرحلة سياسية هشة، وأن عدم إجراء الانتخابات قد يؤدي إلى نزاعات وصراعات”، ونوّه بأن “النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية ستُعلن بشكلٍ متزامن، وأن القضاء هو صاحب الكلمة الأخيرة فيما يخص العملية الانتخابية”، فيما شذّ مندوب روسيا بمجلس الأمن عن قاعدة دعم الانتخابات، من خلال تأكيده في مداخلته على “وجوب الاستماع إلى الأصوات التي تنادي بتأجيل الانتخابات، ودافع عن وجود ممثلين عن النظام السابق في الانتخابات واعتبره يُعزز من نجاح العملية الانتخابية”، فيما دعى المندوب الأمريكي المجلس إلى “محاسبة معرقلي الانتخابات”.
([1]) . الموقع الإلكتروني الرسمي للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية.
([2]) . المؤتمر الوطني العام، موقع فناة الجزيرة، 1/4/2015.
([3]) . البرلمان الليبي الجديد يتسلم مهامه بنجاح في طبرق، بوابة أفريقيا الإخبارية، تاريخ النشر 4 أغسطس/ آب 2014.
([4]) المؤتمر الوطني العام، موقع قناة الجزيرة، مصدر سبق ذكره.
([5]) قانونٍ تم سنّه لحظر كل مسؤول تولي منصبًا عامًا في حكومة القذافي، حيث سعى التيار الإسلامي بالمؤتمر الوطني العام في أيار/ مايو 2013، إلى إصداره، في خطوة وُصفت حينها بأنها محاولة لممارسة ضغوط على الليبراليين والوسطيين في البرلمان.
([6]) الموقع الإلكتروني الرسمي للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات الليبية.
([7]) انتخابات مجلس النواب الليبي 2014، موسوعة ويكيبيديا الحرة.
([8]) “لجنه فبراير” الليبية: حكم المحكمة العليا لا يمس شرعية انتخاب مجلس النواب، شبكة محيط، تاريخ النشر: 8/11/2014.
([9]) ملتقى الحوار السياسي الليبي، الموقع الرسمي لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
([10]) بيان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا حول استئناف المحادثات السياسية والعسكرية بين الليبيين، موقع البعثة الإلكتروني الرسمي، منشور بتاريخ: 18/10/2020.
([11]) “مجلس النواب الليبي يمنح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة”. موقع: akhbar.ly. 10، منشور بتاريخ: بتاريخ 10 مارس/ آذار 2021.
([12]) “ليبيا .. صالح ينتقد تحريض الدبيبة واعتراض البعثة الأممية على مسألة داخلية”، موقع قناة روسيا اليوم الإلكتروني، منشور بتاريخ: 22/9/2021.
([13]) “ليبيا: البرلمان يصادق على قانون الانتخابات التشريعية المقررة نهاية العام”، موقع قناة فرانس24، منشور بتاريخ: 4/10/2021.
([14]) “عقيلة صالح: لا مجال لتعديل قانون الانتخابات”، موقع صحيفة اليوم السابع المصرية الإلكتروني، منشور بتاريخ: 20/11/2021.
([15]) أبرز نتائج مؤتمر باريس الدولي من أجل ليبيا، موقع جريدة بوابة الوسط الليبية الإلكترونية، منشور بتاريخ: 12/11/2021.
([16]) أبرز نتائج مؤتمر باريس الدولي من أجل ليبيا، موقع جريدة بوابة الوسط الليبية الإلكترونية، منشور بتاريخ: 12/11/2021.
([17]) مجلد قرارات الدورة العادية 138 لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، القاهرة، 5/9/2012.
([18]) عقيلة صالح: لامجال لتعديل قانون الانتخابات الليبية”، موقع جريدة اليوم السابع المصرية، منشور بتاريخ: 20/11/2021.