يبدو أن انسحاب الولايات المتحدة الامريكية من الاتفاق النووي مع إيران في 8 مايو 2018 قد يؤدي الى بحث إيران عن فرص وبدائل أخرى لحماية مصالحها من ناحية، وتعزيز نفوذها الدولي والإقليمي من ناحية أخرى. وهو ما قد يدفعها الى العودة مرة أخرى الى الاهتمام بالقارة الافريقية. إلا أن هذه العودة وهذا الاهتمام قد يلقى بظلاله على الامن القومي العربي من ناحية وخاصة أمن دول منطقة الخليج، ومن ناحية أخرى قد ينقل الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط الى القارة الأفريقية يفضي إلي تنامي التوترات الطائفية.
السياسة الإيرانية في القارة الإفريقية
يبدو أن الواقع الدولي والعقوبات الدولية التي تم فرضها طويلاً على إيران واضرت بالاقتصاد الإيراني دفعها الى ضرورة البحث عن فرص وبدائل اخري لتجاوز آثار تلك العقوبات التي تم فرضها من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة إثر استمرار تطويرها لبرنامجها النووي وذلك من خلال تعزيز حضورها في القارة الإفريقية. خصوصاً وأن القارة كانت تتمتع بالأولوية خلال فترة الرئيس الإيراني السابق “أحمدي نجاد” (2005-2013).
ولا يمكن بأى حال من الأحوال تناول السياسة الإيرانية في أفريقيا بعيدا عن المشروع الإيديولوجي الإيراني ومساعيها لنشر المذهب الشيعي علي نطاق واسع.
وتتمثل معالم السياسة الإيرانية في القارة الأفريقية فيما يلي:
- محاولة التوازن بين كل من الأدوات الاقتصادية والأدوات الأيديولوجية، وأهمها الأداة الدينية.
- السعي إلي الحصول على حلفاء في القارة والعمل استقطاب الدول التي تربطها علاقات قوية مع الغرب مثل كينيا وأوغندا في شرق أفريقيا.
- سعى إيران إلى كسب أصوات الأفارقة في المنظمات الدولية سواء في الأمم المتحدة، أو في منظمة التعاون الإسلامي أو المنظمة الفرانكفونية أو حركة عدم الانحياز.
- اختراق النظم الأمنية والإقليمية الخاصة بالقرن الأفريقي وفى تأثيراته على أمن البحر الأحمر([1]).
- محاولات خلق كيانات جديدة مصطنعة، تنال من مقومات وأسس النظم الإقليمية السائدة([2]).
- تفجير الخلاف بين دول المنبع والمصب لحوض النيل والتأثيرات السلبية المائية والزراعية([3]).
- محاولة تفجير مناطق الأطراف للنظام الإقليمي العربي في أفريقيا وخلق بذور العداء بين الشعوب العربية والأفريقية، وذلك وفق أسس ودعاوى دينية وعرقية وثقافية([4]).
- ضرب المصالح العربية في العمق الأفريقي حيث تصب هذه العلاقات في الاتجاه المعاكس أو في خدمة المصالح والأهداف الإيرانية([5]).
أدوات النظام الإيراني للتمدد في أفريقيا
تعتمد الاستراتيجية الإيرانية تجاه أفريقيا على بناء النفوذ السياسي والمذهبي أكثر منه نفوذ عسكري، ذلك بالأخذ في الاعتبار السقف المسموح به من الدول الكبرى وخاصة التي استعمرت أفريقيا مسبقاً، وما زالت تعتبرها مجال نفوذها لذا تعتمد أدوات السياسة الخارجية الإيرانية تجاه القارة الأفريقية على الأدوات الاقتصادية وأدوات القوة الناعمة (الأدوات الثقافية والتعليمية)، ويذكر في هذا الشأن أنه في مؤتمر تحت شعار “الأطروحة المهدَوية وواقع أتباع أهل البيت في أفريقيا”، استضافت إيران في 12/ 5/ 2016 طلابًا من 30 دولة أفريقية، كما أنه من المبادرات الجديدة في هذا الاتجاه الشيعي تأسيس “رابطة عموم إفريقيا لآل البيت” في 10/ 8/ 2016، وإعلان زعماء الحوزات الشيعية في أفريقيا بدء نشاطها في العاصمة السنغالية داكار.
وتتمثل أبرز الوسائل والأدوات التي تعتمد عليها إيران في تمددها في افريقيا فيما يلي:
- تقديم بعض المساعدات التكنولوجية في مجالات الطاقة والصناعات البتروكيماوية، وإقامة مشروعات في قطاعات الزراعة والصحة والري، وقد ساهم هذا التعاون على تحقيق نمو في ميزان التبادل التجاري بين إيران وأفريقيا.
- دور المهاجرين والتجار الشيعة في نشر المذهب الشيعي في الدول الأفريقية التي تضم مسلمين، ومما يساعد إيران في استخدام هذه الأداة وجود المغتربين اللبنانيين الشيعة الذين هاجروا في سنوات ماضية من لبنان واستقروا في دول أفريقية، إضافة إلى التجار العراقيين.
- البعثات العلمية والثقافية وإنشاء الحسينات حيث قامت إيران ببناء عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية والدينية في أفريقيا لنشر التشيع، واستغلَّت إيران المنح التي تقدّمها جامعاتها للطلاب في عدد من البلدان الأفريقية مثل النيجر، وجامبيا، ونيجيريا، والكاميرون، وجزر القمر، والصومال لإيجاد موطئ قدم لها.
- استهداف الطرق الصوفية وطبقة الأشراف الهاشميين، حيث أنشأ الإيرانيون روابط قوية مع البعض من الطرق الصوفية أصحاب النفوذ القوي في المجتمعات الإفريقية المسلمة وجماعات من الأشراف، وسعت إلى التقرب إليهم بالدعم الاقتصادي.
- المراكز البحثية والاستشارية وذلك لما لها من أهمية لمثل هذه المنصات ومستودعات الأفكار والتي تتعامل مع النخبة والقيادات الشيعية في الدول الأفريقية.
خارطة التمدد الإيراني في أفريقيا
اختلفت دوافع النظام الإيراني من وراء التغلغل في إفريقيا من بلد إلى آخَر، بين اقتصادية وسياسية ودينية، ولتحقيق أهدافه في هذه القارة كان لا بد له البحث عن مناطق استراتيجية للتمركز ينطلق من خلالها ويستخدمها مسارًا رئيسيًّا لبلوغ الأهداف المنشودة. ويمكن استعراض خارطة التمدد الإيراني في إفريقيا علي النحو التالي:
- علاقات مع منطقة “الحزام الإسلامي غربي أفريقيا”، ويقصد بإقليم غرب أفريقيا المنطقة الجغرافية التي تمتد من موريتانيا غرباً حتى النيجر شرقاً، ومن موريتانيا شمالاً حتى ليبيريا جنوباً ومنها حتى نيجيريا، وقد استفادت إيران من خصائص هذا الإقليم لتدعيم علاقاتها مع دوله، بإعتباره أنه يمثل كتلة إسلامية في القارة الأفريقية، نظراً لأن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي لغالبية سكان هذا الإقليم، حيث شكلت هذه التركيبة السكانية بيئة خصبة لنشر التشيع.
- منطقة “حوض النيل وشرق أفريقيا”، وعن طريق هذه المنطقة، تمكنت إيران باستخدام مصطلح “الجهاد البحري” من نقل المعركة من مضيق هرمز والخليج العربي، إلى منطقة القرن الأفريقي وخليج عدن وباب المندب بين إريتريا واليمن، والذي يعتبر أضيق ممر في خليج عدن، من خلال إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري، والجهاد البحري هو استراتيجية إيرانية، تعني انتهاج سياسات تمكن الدولة من السيطرة أو التواجد القوي بالقرب من الممرات الملاحية، تحسباً لأي مواجهة عسكرية تهدد مصالحها. بالإضافة إلى فتح ممرات بحرية وبرية، تسهل الوصول إلى مناطق الأزمات في الشرق الأوسط، عبر تأمين وجود إيراني قريب من هذه المناطق وتوفير أوراق للمساومة في الشرق الأوسط. وتمثل هذا الأمر في الاهتمام الإيراني بالسودان، من أجل الوجود القوي في البحر الأحمر، كما عززت علاقاتها أيضاً مع إريتريا وجيبوتي واليمن.
- ويعتبر التمدّد في القرن الإفريقي الضامن الاستراتيجي للمشروع الإيراني في تطويق دول الخليج من الضفة الأخرى للبحر المتوسط، وخطوط إمداد الأذرع الإيرانية من الحوثيين، وحزب الله، فقد كانتْ حرب القرصنة التي تداعت لها دول كثيرة تحت ذريعة حماية مصلحها في نهاية العقد الماضي من هذا القرن السبب المعلن لوجودها البحري في المنطقة وسرعان ما توّج بإقامة القاعدة المتعددة المهام في ميناء (مصوع) الإريتري على باب المندب.
- مناطق جنوب وشمال أفريقيا، حيث أن إيران قد استغلت الأقلية المسلمة في جنوب أفريقيا، بسبب قوتها الاقتصادية ودورها في نمو الاقتصاد الوطني. بالإضافة إلى ميل هذه الأقلية إلي تعزيز الدور الإيراني في مواجهة الصهيونية. كما ترى إيران أن جنوب أفريقيا أقوى اقتصاد أفريقي وبوابة أفريقيا السياسية إلى العالم، خصوصاً بعد تحالفها مع الهند والبرازيل. وفي الشمال الأفريقي ارتكزت إيران على الغالبية الإسلامية لسكان دول شمال أفريقيا، وتعتبر الجزائر نقطة ارتكاز الحضور الإيراني في دول المغرب العربي، رغم ما شابها من توترات.
القرن الأفريقي: مسرح للتنافس الإقليمي بين إيران ودول الخليج العربي
سوف يتم التركيز في هذا الجزء على السياسة الإيرانية في منطقة القرن الأفريقي، لما لهذه المنطقة من أهمية في خارطة التمدد الإيراني في أفريقيا، وباعتباره ساحة صراع دولي ومسرح لتنافس قوى إقليمية صاعدة، كما أن الوجود الإيراني يمثل تهديداً للدُّوَل العربيَّة التي لها مشاريع ومصالح في إفريقيا.
يأتي التوجه الإيراني نحو إفريقيا، وبخاصة في منطقة القرن الإفريقي، في سياق التحول في أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، فهي محاولة من مجرد مواجهة الظروف المحلية الطارئة، وتلبية الاحتياجات في ظل معطيات الوضع القائم، إلى محاولة للتعرف على المناخ الدولي المحيط، وتهيئته بما يحقق أكبر قدر ممكن من المصالح الإيرانية، والتي في مقدمتها الحيلولة دون ترك الساحة للهيمنة الأمريكية.
ويتسق هذا التوجه مع التكالب والتنافس بين القوى الدولية، ولاسيما الإقليمية بين إيران وإسرائيل، في منطقة القرن الأفريقي والذي أنتقل إلى حلقة جديدة وهي الصراع فيما بين هذه القوي عليها، ذلك أنه ينطوي على عنصر النفط وأولوية تأمين الإمدادات من الطاقة والتي تعتبر واحداً من الاعتبارات الرئيسية التي تصوغ بها الدول سياساتها وعلاقاتها الخارجية. وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي في صياغاته الكلية والأمن الخليجي بصفة خاصة، خاصة في ظل التطورات المتلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الإفريقية والتي تبشر بإعادة رسم خريطة التوازن الإقليمي في المنطقة، وربما يكون ذلك في غير مصلحة النظام الإقليمي العربي وينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي.
لذا يحاول هذا الجزء من الدراسة إلقاء الضوء علي تأثير تصاعد النفوذ الإيراني في ظل التدافع الدولي والإقليمي نحو منطقة القرن الإفريقي علي منظومة الأمن الخليجي([6]).
وبالنسبة لموقع العرب وخاصة دول الخليج في ظل التدافع الدولي والإيراني نحو القرن الأفريقي([7]):
- تعد منطقة القرن الأفريقي ذات أهمية بالغة للبلدان العربية وتشكل عمقا استراتيجيا لها. وترتبط بها على أكثر من مستوى، نتيجة الجوار الجغرافي والتداخل البشري، والتفاعل التاريخي والحضاري. فهذه المنطقة تشكل جزءا مهما من الوطن العربي، لوجود ثلاث دول فيها تنتمي للوطن العربي، وهي السودان وجيبوتي والصومال.
- ويمكن القول، بأن عروبة السودان والصومال وجيبوتي، والتحكم في منابع النيل وتأمين الاحتياجات المائية لكل من مصر والسودان والصومال، وأمن البحر الأحمر، تمثل محاور مهمة بالنسبة لدول الخليج العربي في هذه المنطقة، نظرا لارتباطها المباشر بالأمن القومي العربي بشكل عام والأمن الخليجي بشكل خاص، وتأثيرها في المصالح الحيوية لبعض الأطراف العربية على وجه الخصوص الخليجية منها.
- ولهذا، فإن ما يحدث من تطورات متلاحقة على أطراف النظام الإقليمي العربي والنظام الخليجي كنظام فرعى في امتداداته الإفريقية ينذر بوجود تهديدات خطيرة لمنظومة الأمن القومي العربي والأمن الخليجي بشكل خاص، وذلك نتيجة النزاعات المسلحة والانفلات الأمني وانتشار التطرف وظاهرة القرصنة، والتي فتحت المنطقة أمام وجود عسكري دولي دائم يحد من حرية حركة الجوار العربي، وإنها ستؤثر يقيناً في أمن البحر الأحمر وتدفق مياه النيل إلى كل من السودان ومصر. فلقد تم انفصال جنوب السودان برعاية دولية وأفريقية وغياب عربي واضح، وتقوم أوغندا وبوروندي بعملية حفظ السلام في الصومال، كما باتت دول إفريقية كبرى مثل إثيوبيا وجنوب إفريقيا والسنغال من أبرز المؤيدين لجمهورية أرض الصومال داخل الاتحاد الإفريقي. ويبدو أن الولايات المتحدة والدول الغربية أضحت تفضل الحل الإفريقي على الحل العربي بالنسبة لمناطق التوتر والتأزم على خط التماس العربي الإفريقي. لذا، فإن ما يحدث في منطقة القرن الإفريقي من تفاعلات وتجاذبات سيفضي لا محالة إلى إعادة تشكيله وصياغته من الناحية الجيوستراتيجية، حيث يعكس طبيعة التحالفات الإقليمية والدولية الجديدة، وأن هذا التغير سيكون معادياً للمد العربي والإسلامي في المنطقة.
- ومع قيام موجة التغيير بثورات الربيع العربي، بدا أن إعادة التفكير في خريطة المصالح الاستراتيجية العربية عامة والخليجية خاصة أمر مهم، لتسليط الضوء على واحدة من المناطق التي أهملت أو حُيّدت في العقود الماضية، وهي منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل. والذي أكد على تأثير الغياب العربي في عزل الدول الأفرو – عربية عن المنطقة وحرمانها من أي نفوذ أو مبادرة لحل الصراعات التي تنشب في الإقليم كما يحدث في السودان والصومال. وهو ما أدي إلي ترك المنطقة إلي النظام الدولي والإقليمي الذي لم يعمل على حل مشاكل منطقة القرن الأفريقي، بل عمقها بحروب الوكالة وبالتشجيع علي قيام دولة جنوب السودان والذي سيؤثر سلبياً في التوازن الاستراتيجي في المنطقة إذا ما سادت علاقات التوتر مع السودان بدلا من التعاون، فيما حُيّد العرب تمامًا طوال العقدين الماضيين عن التأثير في مجريات الأمور هناك، أو حتى المساهمة في حفظ أمن الممرات البحرية الهامة التي تسيطر عليها المنطقة في خليج عدن وباب المندب، لذا وجهت دعوات إلى تنسيق السياسات العربية ومنها الخليجية مع قوى رئيسة في الإقليم كالسودان وإثيوبيا من أجل إيجاد صيغة عربية – أفريقية مشتركة لحفظ الأمن القومي المشترك من التدخلات الخارجية سواء من أطراف الإقليم (إيران، إسرائيل، تركيا) أو من المجتمع الدولي.
- ويشكل التكالب والتنافس الدولي، ولاسيما الإقليمي بين إيران وإسرائيل، تهديداً مباشراً، وينال من أسس ودعائم الأمن القومي العربي في صياغاته الكلية والأمن الخليجي بشكل خاص، وفى امتداداته الأفريقية، بمعنى أنه يؤثر حتماً في أمن المنطقة ككل، هذا بالإضافة إلى أنه يشكل تهديدا للمصالح الاستراتيجية للعرب والخليج خاصة.
- ويشكل كثافة النفوذ الإيراني في العمق الأفريقي، وفى ضوء التراجع وسلبية الأداء العربي، خصماً موضوعياً من الوجود والمصالح العربية، حيث تقوم باختراق النظم الأمنية والإقليمية الخاصة بالقرن الأفريقي بمفهومه الجيوسياسى، باعتباره ممراً وبوابة للممرات البحرية الكبرى التي تطل عليها المنطقة العربية وهي البحر الأحمر والتي تؤثر على السعودية كجزء من دول الخليج بل الدولة القائد في هذا النظام الفرعي. كما تزيد من تعقيدات استمرارية المعضلة الصومالية، وذلك على الرغم من التباين المذهبي، حيث الطابع السني للجماعات الصومالية، إلا أن إيران ومثلما فعلت في السابق في أفغانستان، فإنها لا تتردد في التعاون تكتيكياً، مع أي تنظيمات سنية أصولية. وعلى الرغم من أنه توجد جاليات عربية مؤثرة في بعض الدول الأفريقية خاصة في الغرب، فأنها لا تمارس دوراً سياسياً فاعلاً في خدمة المصالح العربية، بل في الاتجاه المعاكس في خدمة المصالح والأهداف الإيرانية. كما حاولت تفجير مناطق الأطراف للنظام الإقليمي العربي والتي تمس منطقة الخليج، ولكن لعدم ترك هذه الساحة بالمطلق، بل ربما لتوظيف كثافة الوجود والنفوذ الإيراني ضمن الأوراق الضاغطة والمهمة في أي مقايضات سياسية محتملة، أو لدرء أخطار متوقعة.
ويتضح التنافس الإيراني- الخليجي في افريقيا في العديد من البلدان فنجد مثلاً السودان، ظلت ايران على علاقات قوية بالسودان في المجالات العسكرية والمخابراتية فقد مثلت السودان نقطة نقل هامة للسلاح الإيراني وتزويد المجاهدين في غزة ولبنان عبر السودان (حزب الله، وحماس)، كما أنها كانت من داعمي الحركات الانفصالية في السودان، إلا ان المملكة العربية السعودية استطاعت من خلال علاقاتها بنظام عمر البشير أن تؤثر على الحكومة السودانية في 2014 مما ادي الى طرد السودان لمسئولين ايرانين متهمة إياهم بنشر الإسلام الشيعي عبر المراكز الثقافية الخاصة بها وإعلان الخرطوم تحالفها مع معسكر السعودية و ذلك في محاولة من النظام السوداني تخطي حكم المحكمة الجنائية الدولية التي اتهمت الرئيس السوداني “عمر البشير” في وقت سابق بارتكابه جرائم إبادة في دارفور، ونتيجة هذا الموقف السوداني قامت المملكة العربية السعودية بإيداع 1 مليون دولار في البنك المركزي السوداني([8]).
أما اريتريا فهي تعتبر شريك أساسي لإيران في المنطقة والتي تستخدم إيران قواتها البحرية كأساس استراتيجي لها وذلك لإرساء موطئ قدم لها في البحر الأحمر وخليج عدن.
كما تستخدم إيران الصومال كبوابة رئيسية لتزويد المتمردين الحوثيين في اليمن بالسلاح في صراعهم مع قوات التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية، وذلك بالتزامن مع سيطرة الحوثيين على ساحل البحر الأحمر مما يهدد الملاحة البحرية الدولية في باب المندب وطريق هرمز وهو ما يمثل سلاح وسياسة ردع قوية لإيران في مواجهة العقوبات الاقتصادية والعزلة السياسية سواء الإقليمية او الدولية. وعلى الرغم من ذلك تظل الصومال تتبع سياسة “حيادية” حيث تخشي من خسارة 80 مليون دولار من المنح السعودية.
تداعيات التنافس الإيراني-الخليجي في افريقيا
إن التنافس الخليجي- الإيراني في القارة الأفريقية قد يدفع الى تصدير نموذجي للإسلام المتشدد (السني-الشيعي) في القارة الافريقية وهو ما قد يؤدي الى تأجيج الصراعات الطائفية كما هو واضح في نيجيريا على سبيل المثال وليس الحصر، ومن ثم التأثير على الاستقرار والأمن الافريقي. إلا أن هذا التنافس سيحول انظار دول الشرق الأوسط الى القارة الافريقية ويعيد الاهتمام بها مرة أخرى، وقد يتمثل ذلك في توطيد العلاقات الاقتصادية والسياسية مع العديد من الدول الافريقية وضخ استثمارات اقتصادية وزيادة الأموال المتدفقة للقارة السمراء.
ومما لا شك فيه أن التغلغل الإيراني في إفريقيا قد حقق لها مكاسب اقتصادية وسياسية، فقد أصبحت إيران المصدر الأول للنفط إلى جمهورية جنوب أفريقيا، ووقعت مع أوغندا العديد من الاتفاقيات التجارية، وأقامت علاقات قوية مع السنغال، كما عرضت على كينيا المساعدة في إقامة مشروعات نووية لتوليد الطاقة الكهربائية، وكذلك وقعت معها اتفاقيات في شتى المجالات، وأعطت أهمية قصوى لإريتريا، فالعلاقات بين الجانبين تتطور سريعاً، والدليل على ذلك الزيارة التي قام بها الرئيس الإريتري إلى طهران في 2008، ووقع خلالها اتفاقيات في مجال التجارة والاستثمارات والاقتصاد والزراعة، فضلاً عن الحضور البحري الأمني الإيراني في ميناء عصب الإريتري الذي يعد من المواقع الاستراتيجية المهمة في البحر الأحمر، ووقعت مع جمهورية جزر القمر اتفاقية لتوسيع العلاقات السياسية وتقديم المساعدات، فضلاً عن علاقاتها مع جيبوتي التي تتميز هي الأخرى بموقع استراتيجي مهم على البحر الأحمر، والتي زارها أحمدي نجاد في عامي (2006-2009).
وإدراكا منها لمخاطر تزايد النفوذ الإيراني في أفريقيا فقد تحركت دول مجلس التعاون الخليجي للتغلغل في القارة الأفريقية، فقد سعت السعودية إلى بناء قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، الدولة المطلة على الجانب الغربي من مضيق باب المندب، لتأمين حماية للمضيق الذي يوصل نفطها إلى العالم، وكانت باكورة التحرك السعودي نحو جيبوتي، بدأت بمنحها 5 زوارق بحرية سريعة ومتطورة، مع تكثيف الوجود العسكري فيها، ومن هنا ساهمت جيبوتي كثيراً في نجاح عمليات السفن والبوارج العسكرية لقوات التحالف العربي في تحرير جزيرة ميون اليمنية من سيطرة الحوثيين، فاستعادوا السيطرة على مضيق باب المندب، واستلمته قوات الجيش الوطني اليمني الذي وصل هناك عبر جيبوتي.
بالتوازي تحركت الدبلوماسية السعودية نحو إرتيريا، ففي أبريل 2017 وخلال زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى السعودية، توصلت معها إلى اتفاق تعاون عسكري وأمني واقتصادي لمحاربة الإرهاب والتجارة غير المشروعة والقرصنة في مياه البحر الأحمر، وعدم السماح لأي تدخلات أجنبية في الشأن اليمني.
هذا فضلاً عن العلاقات السعودية- الاثيوبية، التي تطورات اخيراً خاصة في دعم الحكومة في مشروع بناء سد النهضة وهو ما يتعارض بصورة واضحة مع المصالح المصرية.
وكما هو واضح أهمية القارة الافريقية في حماية المصالح الاستراتيجية والامن القومي العربي بصفة عامة والخليجي بصفة خاصة، ولا سيما في ظل التنافس السني- الشيعي في الصراعات الداخلية في الدول العربية مثل اليمن، ومن ناحية أخرى أهميتها على المصالح التجارية الدولية والملاحة الدولية من خلال السواحل الافريقية وكونها مطلة على المضايق البحرية الاستراتيجية.
مستقبل التمدد الإيراني في أفريقيا
يمكن القول أنه إن أمكن اعتبار ما حققته إيران عبر علاقاتها مع الدول الإفريقية إنجازا لها، إلا أن هذا التمدد أصبح يواجه العديد من التحديات، أبرزها عدم استيفاء طهران للكثير من اتفاقاتها الاقتصادية تجاه بعض الدول الأفريقية. وظهرت ذلك جلياً في العلاقات مع السودان، فأضحت السعودية أكبر مستثمر في السودان، وتدهورت العلاقات بين طهران والخرطوم. كما شكلت الضغوط الدولية الرامية إلى تحجيم النفوذ الإيراني في أفريقيا تحدياً جديداً في مواجهة التوغل الإيراني، ما كشفت عنه خطوة إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، ومشاركة بعض الدول الأفريقية في عملية عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، وتأييد دول أخرى مثل موريتانيا والسنغال للعملية، بالإضافة إلى قطع السودان وجزر القمر علاقاتها مع إيران على خلفية أزمة حرق السفارة السعودية بطهران.
ولعب عنصر المخاوف السنية من نشر التشيع دوراً مهماً في الوقوف بوجه التوغل الإيراني، ما اتضح جلياً في حالة المملكة المغربية، التي توترت علاقاتها مع طهران بعد اتهامات للأخيرة بمحاولة نشر التشيع في المملكة. بالإضافة إلى توتر العلاقات مع نيجيريا بسبب اتهامات لطهران بدعم حركة الزكزاكي الأصولية، واتهامات أخرى بدعم حركات انفصالية مثل كاسامانس في السنغال. وهذا ما دفع دولاً سنية إلى الدخول بثقل في أفريقيا لمواجهة النفوذ الإيراني هناك، وعلى رأس هذه الدول، السعودية وبعض الدول الخليجية ومصر عبر بعثات الأزهر.
من الملاحظ أنه رغم التمدد الإيراني في القارة الأفريقية، ألا أن هذا التمدد ظل دون أن يمثل تهديداً فعلياً للمصالح الأمريكية أو الإسرائيلية علي حد سواء.
في ضوء هذه التقاطعات والتعقيدات في علاقات إيران
الخارجية، والبحث عن بدائل تمددية أو توسعية في ظل التجاذبات والتحديات التي
تواجها في المنطقة العربية، فإن احتمالات تزايد بأن تحول إيران جهودها لتحقيق
تواجد ونفوذ أكبر في البحر الأحمر والقرن الأفريقي وشمال اليمن، وتلقي بثقلها الاستراتيجي
وإمكانياتها السياسية والاقتصادية في القارة الأفريقية.
([1]) إبراهيم أحمد عرفات، مصالح القوى الإقليمية في القرن الأفريقي، السياسة الدولية، العدد 177، (القاهرة: يوليو 2009)، ص 180.
([2])حمدي عبد الرحمن، التنافس الدولي في القرن الأفريقي، السياسة الدولية، العدد 177، (القاهرة: يوليو 2009)، ص ص 172-179.
([3])سامى صبري عبد القوى، إسرائيل ودول حوض النيل، السياسة الدولية، العدد 181، (القاهرة: يوليو 2010)، ص ص 130 – 135.
([4])سمر إبراهيم، الوجود العسكري والأمني في منطقة القرن الأفريقي، ملف الأهرام الاستراتيجي، العدد 157 (القاهرة: يناير 2008)، ص 5.
([5])فائقة الرفاعي، انعكاسات التحركات الإيرانية على الأمن والاستقرار ومصالح القوى الإقليمية وأساليب المواجهة، ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر التحركات الإيرانية في شرق لأفريقيا والقرن الأفريقي وانعكاساتها على الأمن الإقليمي والاستقرار في المنطقة، المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، القاهرة، 21 أكتوبر 2009، ص 11.
([6]) نجلاء مرعي، إيران والنفوذ المتصاعد في القرن الإفريقى، 11/ 12/ 2012.
([7]) فاطمة الصمادي، السُّودان وإيران: تبعات انهيار التحالف، 22/ 9/ 2014.
([8]) لمزيد من التفصيل انظر:
Kenneth Katzman, “Iran’s Foreign and Defense Policies”, Congressional Research Service, July 18, 2018.