2018العدد 176تقارير

حول انعكاس الأوضاع في البحر الأحمر والقرن الإفريقي علي الأمن القومي العربي

إشكالية مفهوم الأمن القومي العربي:

يواجه مفهوم الأمن القومي العربي غموضًا والتباسًا في تعريفه وتحديد جوانبه، ومقوماته، ومصدر هذا الالتباس، طبيعة الرابطة القومية التي تجمع الدول العربية، ويتجسد ذلك في أن الشعوب العربية تنتمي تاريخيًا إلى أمة واحدة، لكن هذه الأمة في الوقت ذاته، مجزأة إلى كيانات سياسية مستقلة، تشكل دولاً ذات سيادة في النظام العالمي، اثنان وعشرين دولة عربية، تختلف فيما بينها في النظام السياسي المعتمد، والقوانين المطبقة، فمنها النظام شبه الرئاسي، ومنها من يعتمد النظام البرلماني، ومنها الأنظمة الملكية، ولذلك تولد عن هذه السمة، تنامي المنطق القطري، وسعت كل دولة إلى البحث عن مصالحها الذاتية، في مقابل تقزيم المصالح القومية، مما أدى إلى تغييب، مفهوم الأمن القومي، بجانبه السياسي والعسكري، ولم تسهم العوامل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، في خلق نظام عربي قادر على حفظ الأمن القومي للدول العربية. ومن أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الإشكالية في مفهوم الأمن القومي العربي، يمكن إجمالها في سببين رئيسين:

الأول: هو واقع التجزئة فمعظم الدول العربية اتبعت منذ استقلالها سياسات قطرية، تتناقض غالبًا مع الأهداف القومية، فدساتير بعضها تنص على أن حماية الأمن الوطني تعلو على أي واجب أو وظيفة أخرى للدولة، كما أن هذه الدساتير، تستخدم مصطلح (الأمة) للدلالة على شعب هذه الدولة.

الثاني: خلافات الدول العربية بينها وبين بعض، خاصةً عقب غزو العراق للكويت، ظهرت بوضوح مقولات (أنكرت وجود نظام عربي في أي وقت من الأوقات)، ومنهم من زعم أن النظام العربي قد انهار تمامًا جراء غزو العراق للكويت.

عمد كثير من الباحثين العرب بسبب صعوبة وضع تعريف جامع لمفهوم الأمن القومي العربي، الناجم عن واقع الأمة العربية وخصوصيتها إلى الانتقال من فكرة تعريف الأمن القومي العربي، باعتباره الأمن الوطني لكل دولة، إلى فكرة لصق الأمن العربي بالأمن الإقليمي للدول العربية، وذلك كخطوة وسطية بين القطرية والقومية، وقد عارض ذلك أيضًا الكثير من الباحثين، فقد أكد الدكتور حامد ربيع ” أن تصور الأمن العربي على أنه أساسًا، أمن إقليمي هو تعبير بعيد عن الصواب، إنه البديل للأمن القومي، وليس مجرد تطبيق لمفهوم الأمن القومي”.

كما يرى الدكتور علي الدين هلال، أن الأمن القومي ليس مجرد صورة من صور الأمن الإقليمي، وحق الدفاع الشرعي الجماعي عن النفس وفقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، لذلك فإنه يرى في هذه النظرية، تهوينًا من حجم الروابط التي تجمع بين البلاد العربية، واقتصارها على رابطة الجوار الجغرافي. وبالتالي فإنه يرى أن الأمن القومي العربي يستند إلى وحدة الأمة العربية، وإلى وحدة الانتماء، وإلى مفهومي الأمة الواحدة والمصير الواحد، فالأمن العربي كذلك ليس مجرد حاصل جمع الأمن الوطني للبلاد العربية، بل هو مفهوم يأخذ في اعتباره الأخطار والتهديدات الموجهة كوحدة واحدة يتخطاها ويتجاوزها.

مواجهة المخاطر والتحديات (داخلياً وخارجياً)

وتأسيسًا على كل ما ذكر من تأثير التحولات والمتغيرات العالمية على مصادر تهديد الأمن القومي العربي وخارطة التفاعلات داخله، فقد توصل المفكرون إلى مجموعة من التوصيات، حتى يمكن مواجهة هذه المخاطر والتحديات أبرزها:

  • تغيير الإدراك للأمن القومي العربي.
  • تسويغ البدائل المطروحة الهادفة إلى ملْء الفراغ الإستراتيجي الناتج عن هشاشته.
  • تغيير الإدراك لمصادر تهديد الأمن القومي العربي سواء على صعيد النخب الحاكمة وأيضًا على صعيد الشعوب العربية.
  • إعادة ترتيب الخارطة السياسية للوطن العربي.
  • ربط التنمية العربية بمراكز السوق الرأسمالية.

البحر الأحمر

منطقة البحر الأحمر، لها تأثير مباشر على الأمن القومي العربي، لذا علينا أن نبدأ أولاً بالتعرف على الأهمية الاستراتيجية له، ومحاولات القوى الدولية والإقليمية الكبرى الهيمنة على هذه المنطقة، وكيفية ضمان الأمن والاستقرار والتعاون في هذه المنطقة، فالبحر الأحمر يتمتع بموقع استراتيجي فريد جعله يتحكم في حركة العالم شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، فهو يقع على خط التماس الجغرافي والتاريخي بين العالمين العربي/الإفريقي، والإفريقي/الآسيوي، ويمتد طوليًا ما بين السويس في أقصى الشمال، وباب المندب (بوابة الدموع) في أقصى الجنوب. يبلغ طوله 1200 ميل، وعرضه أقصاه 190 ميلاً بين ميناء مصوع الأريتيري وجيزان على الساحل الشرقي الآسيوي، بينما يبلغ أقل اتساعه حوالى 40 ميلاً بين مينائي عصب وألخا، ويحتوى البحر الأحمر على 380 جزيرة، موزعة على كل من السعودية، أريتريا، اليمن، السودان، مصر، جيبوتي، والبحر الأحمر استراتيجيًا، يتغلغل ويتجاور مع الشرق الأوسط، العالم العربي، منطقة الخليج العربي، القرن الأفريقي، المحيط الهندي، البحر الأبيض المتوسط.

ومما يزيد من الأهمية للبحر الأحمر، وجود قناة السويس في شماله ومضيق باب المندب في جنوبه، فمن يمكنه السيطرة على أي منهما، يمكنه السيطرة على الملاحة في البحر الأحمر، وقد زادت هذه الأهمية بعد انسحاب الولايات المتحدة من قاعدة هويلس في ليبيا، وكذا الانسحاب من فيتنام والهند الصينية، كما أنه أهم شريان لنقل بترول الخليج العربي وإيران، إلى أوروبا والولايات المتحدة واليابان، وفى فترة الحرب الباردة، أصبح مجالاً لتدفق القوة العسكرية، ما بين البحر الأبيض والبحر الأسود والمحيط الأطلنطي، وبين المحيط الهندي والهادي، لقد أوضحت كل من حربي الخليج الأولى والثانية، أن البحر الأحمر وكل الدول الواقعة عليه، كانت طرفًا بصورة أو بأخرى في هاتين الحربين، ويتضح أيضًا، أنه لا يمكن أن يتم الفصل بين الخليج العربي والبحر الأحمر، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا ولا أمنيًا. هذا من الناحية الجيوستراتيجية والسياسية، أما اقتصاديًا فهو يتصدر البحار في  ما يحتويه من معادن وعلى رأسها النفط والغاز الطبيعي، ويحتوي كذلك على أكثر من ثلاثمائة من أنواع الأسماك والحيوانات البحرية، ومن هنا يأتي تنافس القوى الكبرى أو على الأقل تتعاون من أجل تحقيق مصالحها الاقتصادية، أو من أجل المساس بمصالح الخصوم، عبر هذا الممر المائي الحيوي، مما قد يؤدي إلى أن يكون منطقة صراع إقليمي أو دولي. إذاً فهذه الأهمية الإستراتيجية لموقعه جعلته وعلى مر العصور مطمعًا للدول القوية، فممراته المائية ومضايقه تلعب دورًا كبيرًا، خاصةً في التجارة العالمية بين أفريقيا الشرقية وآسيا وأوروبا وكافة بلدان الشرق الأوسط. لذا اهتمت الدول الإقليمية (إسرائيل/إيران/أثيوبيا) بضرورة أن يكون لها استراتيجية فيه، فإسرائيل عملت وحتى قبل قيام الدولة، على أن يكون لها بعض النقاط الإستراتيجية لاعتبارات تأمينها، في حال مواجهتها مع العرب، ومن ثم التوسع الاقتصادي، وفي مرحلة لاحقة، الالتفاف على المقاطعة العربية لها، حتى ركز قادتها على الأبعاد التاريخية لعلاقة اليهود بالبحر الأحمر، متخذين من قول أحد مؤرخيهم (إيلداد) ” إن البحر الأحمر كان بحرًا يهوديًا في الماضي، وسيبقى كذلك في الحاضر والمستقبل “. وقد نبهت حرب أكتوبر إسرائيل إلى أهمية المدخل الجنوبي للبحر الأحمر (باب المندب) حيث اتجهت إلى طرح فكرة تدويل باب المندب ومجموعة الجزر العربية التي تتحكم في المضيق، أما إيران فهي ترى أن هذه المنطقة تؤثر متغيراتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية على أمنها القومي ودورها في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة والخليج بصفة خاصة. ويحظى البحر الأحمر بأهمية بالغة في سياستها سواء استراتيجيًا أو اقتصاديًا بالإضافة لارتباط منطقة القرن الإفريقي ارتباطًا وثيقًا بالمشرق العربي.

وكذلك أثيوبيا، التي عملت لفترة طويلة على تهديد الأمن القومي العربي في القرن الإفريقي، والبحر الأحمر، ومصر والسودان والصومال وجيبوتي، إضافة إلى تحكمها في منابع النيل باعتبارها إحدى دول حوض النيل.

وهنا يتصدر السؤال الأكبر والأهم، هل هناك سياسة عربية متناسقة ومتكاملة تجاه البحر الأحمر؟، والشاهد على عدم وجودها، فضلاً عن عدم وضوح التوجهات الجيوبوليتيكية تجاهه، ما حدث وما يحدث في كل من جزيرة سوقطرة وميناء ومدينة الحديدة وباب المندب. إذاً فمن أجل ضمان الأمن والاستقرار في البحر الأحمر، من حيث كونه يلعب دورًا كبيرًا في استقرار منظومة الأمن القومي العربي يتوجب وجود استراتيجية عربية شاملة، يطول شرحها، لكن لضيق المساحة، يمكن إيجاز ما يجب أخذه في الاعتبار، حل المشاكل الداخلية للدول حتى يمكن إبعاد دول المنطقة عن دائرة الصراع والاستقطاب الدولي، على الدول التعامل مع أنظمة الحكم القائمة بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية يضاف إليها دول منطقة القرن الأفريقي، التعاون مع أثيوبيا بشأن قضية مياه النيل وهو ما يمثل بعدًا هامًا للأمن في كل من مصر والسودان، تحقيق السيطرة على جزر باب المندب بالتواجد فيها سواء كان عسكريًا أو مدنيًا أو مشتركًا، وضع خطة اقتصادية مشتركة لاستغلال البحر الأحمر وتنميته، هذا تصور قد يكون مخلاً للاستراتيجية، لكن لا تصح استراتيجية تغفل هذه البديهيات.

القرن الأفريقي

علينا أن نبدأ أولاً بالبحث في مشكلة شرق القارة الإفريقية بشكل عام، خاصة وأن القرن الإفريقي هو أحد مناطقه، وذلك حتى نفهم دلالات تصاعد التنافس الإقليمي والدولي على الشرق الإفريقي، وهو مصطلح يشير إلى المنطقة الواقعة على رأس مضيق باب المندب على الساحل الإفريقي، وهذه المنطقة تضم دول أثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا وأوغندا وتنزانيا، كما أن المنطقة بمعناها الجيوسياسي الواسع تضم دولتي السودان شمالاً وجنوبًا وسيشل وموريشيوس. وقد شهد الشرق الإفريقي في تسعينات القرن الماضي تحولات هامة، من حيث اقتناع هذه الدول بضرورة مقابلة الحروب والإرهاب، وتحديه بنظم سياسية أكثر ميلاً للسلام منها للحرب، والتركيز بصورة أكبر على تحقيق التنمية.

ومن هنا تظهر إشكالية تعريف القرن الإفريقي.

تعريف القرن الأفريقي

هناك إشكالية قد تبدو هامة في تعريف منطقة القرن الأفريقي، بين التعريفين الجغرافي والسياسي، فيرى كثير من الباحثين، أن مفهوم القرن الأفريقي يبدو مراوغًا، من حيث اختلاط  الجوانب الجغرافية بالجوانب السياسية، فهو لا يشكل مفهومًا أصيلاً نابعًا من التطور التاريخي والحضاري لسكان المنطقة، وإنما هو مدرك جغرافي، يرتبط بالموقع على الخريطة، لذلك يمكن أن نعرفه جغرافيًا على الأقل كالآتي: القرن الأفريقي أو شبه الجزيرة الصومالية، هو شبه جزيرة تقع في شرق إفريقيا، في المنطقة الواقعة على رأس باب المندب من الساحل الأفريقي، ويحده المحيط الهندي جنوبًا، والبحر شمالاً، ويقع به دول جيبوتي، الصومال، أريتريا، ويجاوره كل من دولتي السودان، كينيا، أثيوبيا، وهذه المنطقة تشرف وتتحكم في مضيق باب المندب، وتطل على خليج عدن، (بعض الجغرافيين لا يدخلون كلًا من دولتي السودان، ويعتبرونهما ضمن دول حوض النيل، وكذلك كينيا ضمن دول القرن الأفريقي) لذلك يحتل القرن الأفريقي موقعًا جيواستراتيجيًا شديد الأهمية من حيث إنه يشرف على طريق الملاحة بشقيها العسكري والاقتصادي بين الشرق والغرب وكذلك الممرات الملاحية الدولية، وأيضًا إمدادات الطاقة عبر باب المندب، قناة السويس، كما يمثل بوابة العبور نحو عمق القارة الإفريقية. ومن هنا فإنه – القرن الأفريقي – يعتبر شديد الحيوية والأهمية، بالنسبة للأمن القومي العربي، من حيث إنه يرتبط به على أكثر من مستوى، نتيجة الجوار الجغرافي والتداخل البشري، وعلاقات التفاعل والتأثير المتبادل، وكما وهذا هو المهم، تمثل منطقة القرن الأفريقي، عمقًا استراتيجيًا ومجالاً حيويا و استراتيجيًا للمنطقة العربية.

هذا ويمكن لنا التوصل من خلال التعريف الجغرافي، إلى المفهوم السياسي لمنطقة القرن الأفريقي بشكل خاص، بل لمنطقة شرق القارة الإفريقية بشكل عام، وذلك من خلال النظر إلى الحروب الأهلية التي نشأت، والصراعات العنيفة على السلطة، وانهيار مشروع الدولة الوطنية في بعض الدول التي استقلت، والكوارث الطبيعية، والتنافس الدولي على الثروة والنفوذ الذي لم ينقطع يومًا واحدًا – فكل هذه العوامل السياسية بالإضافة إلى الموقع الجغرافي، والأهمية الجيواستراتيجية، قد أسهمت في التوسع في استخدام مفهوم القرن الأفريقي.

ومن خلال تعريف القرن الأفريقي لابد من معرفة مكانة إفريقيا في خريطة المصالح الدولية.

  • مكانة إفريقيا في خريطة المصالح الدولية

للقارة الإفريقية مكانة خاصة وهامة في خريطة المصالح الدولية، قديمة قدم الاكتشافات الجغرافية، إلا أنها شهدت في السنوات الأخيرة نموًا كبيرًا، لحضور العديد من القوى الدولية، ليكون لها موطئ قدم في مناطق مختلفة من القارة، في ظل الثروات والمقومات الهائلة القديم منها والحديث، التي تمتلكها القارة، فإلى جانب الثروات النفطية والغازية التي تتميز بالجودة العالية التي تفوق جودة النفط في مناطق أخرى في العالم، ومنها نفط الخليج، خاصة وأن هذا النفط يتمركز في معظمه داخل المياه العميقة، مما يسهل عمليات نقل هذا النفط ومشتقاته، كما تعتبر أراضي القارة مخزنًا للمصادر المعدنية، التي تعتمد عليها دول العالم المختلفة في النمو الصناعي، أيضًا تتمتع القارة بموقع استراتيجي مهم على الخريطة، يضاف إلى ذلك التنوع المناخي، والتربة الخصبة، كما تتمتع بتوافر الموارد المائية، تمتلك القارة حوالي أربعة آلاف كيلو متر مربع من مصادر المياه العذبة المتجددة في السنة (بما يوازي حوالى 10% من مصادر المياه العذبة المتجددة في العالم).

  • الأهمية الجيوسياسية والجيواستراتيجية لأفريقيا

فالأهمية الجيوسياسية للقارة تأتي من حيث تشكليها لكتلة تصويتية في المحافل الدولية تمثل ظهيرًا سياسيًا للحقوق العربية.

أما الأهمية الجيواستراتيجية فهي مرتبطة بعدد من المحددات، تبدأ أولاً من الموقع الجغرافي للقارة، فهي ثاني أكبر القارات مساحة  بعد آسيا (6% من مساحة الأرض)، وترتبط بقناة السويس، وتحيط بها مياه البحار والمحيطات من جميع الأطراف، ويفصلها عن أوروبا مضيق جبل طارق، وممر صقلية، وعن قارة آسيا قناة السويس وممر باب المندب، كما أنها تتوسط العالمين القديم والجديد، مما يجعل لها دورًا حاكمًا في حركة النقل الدولي في المجالين المدني والعسكري، وأيضًا فهي مطلة على الممر النفطي العالمي ومتحكمة فيه عبر قناة السويس وطريق رأس الرجاء الصالح، فإذا ما عرفنا مثلاً أن الولايات المتحدة الأمريكية تستهلك حاليًا أكثر من 20 مليون برميل نفط يوميًا، إذًا فهذا الموقع يشكل أهمية كبرى لأمريكا، مما حدا بها لإنشاء قواعد عسكرية في جيبوتي على سبيل المثال، أما المحدد الثاني فينصب على الموارد التي تزخر بها القارة الأفريقية، بدءًا من النفط الذي تحتوي القارة على احتياطات منه تصل إلى 125,6مليار برميل (إحصاء 2008)، بالإضافة إلى زيادة حركة الاستكشاف الجارية، أما الغاز فتحتوي القارة الآن على 7,9% من الاحتياطات حتى الآن، بخلاف ما يستكشف في الفترة الأخيرة خاصةً في مصر، وثالث الموارد فهي المعادن، والتي تقدر الاحتياطات منها بـ 30% من الاحتياطات العالمية، وذلك شاملاً الكروم، البلاتين، الماس، الذهب، النحاس، الكوبلت، الحديد، المنجنيز، الفوسفات، اليورانيوم، وكل هذه المعادن مرشحة للزيادة نظرًا إلى أن هناك أجزاء كثيرة من القارة لم تشملها المسوحات الجيولوجية، أما رابع هذه الموارد وهي المحاصيل الزراعية، فنتيجةً لأن خط الاستواء يكاد يقسم القارة إلى قسمين متساويين، ومتناظرين تقريبا، مما جعلها قارةً استوائية مدارية/ وشبه مدارية، يقطعها مدار السرطان في الشمال، ومدار الجدي في الجنوب، فقد انعكس هذا التنوع المناخي للقارة على إنتاجها الزراعي والمحصولي، ورابع تلك الموارد هي الطاقات البشرية، حيث يبلغ عدد السكان أكثر من مليار نسمة، يشكلون أكثر من 14,8% سكان العالم، كما تتمتع بأعلى معدلات الخصوبة، ومنذ عام 2000 تضاعف استثمار القطاع الخاص ثلاث مرات، ليصل إلى معدل بلغ 19 مليار دولار في الأعوام ما بين 2006 و2008، وأخيرًا فخامس الموارد وهي الأسواق وحركة الاستثمار، فالتقديرات العالمية تفصح أن إفريقيا أصبحت واحدة من أكثر وأسرع مناطق العالم نموًا، فقد زاد الناتج المحلي الإجمالي للقارة فيما بين الأعوام 2000 و2008 بمعدل 4,9% سنويًا، ففي عام 2008 كان الناتج الأفريقي يساوى 1,6 تريليون دولار، أي ما يعادل تقريبًا كلاً من روسيا والبرازيل، كما زادت العائدات من المصادر الطبيعية (الدعامة القديمة لاقتصاد إفريقيا) بحيث مثلت 24% من النمو الاقتصادي، وجاءت النسبة الباقية من القطاعات الواعدة المزدهرة الأخرى، مثل القطاع المالي وتجارة التجزئة والزراعة، أيضًا فقد هبط معدل التضخم إلى 8% بعد أن كان يرتفع حتى أكثر من 22%.

  • الصراع الدولي والإقليمي على إفريقيا

يعود ارتباط القوى الدولية الكبرى بأفريقيا، إلى عهود قديمة وبعيدة، حيث تدافعت القوى الأوربية للسيطرة على القارة، ووضعت القواعد العامة لتأسيس مناطق الهيمنة للقوى الأوربية الرئيسية على ساحتها (بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، ألمانيا)، وفى عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، بدأت دول القارة تحصل على استقلالها تباعًا، إلا أن التنافس الدولي على القارة استمر مع تغيير الفاعلين الرئيسين، فحلت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي محل القوى الأوربية التقليدية، ومع بداية الألفية الجديدة، زاد الاهتمام الدولي بالقارة التي باتت دولها تتطلع لتحقيق معدلات أعلى من التنمية، ومع ظهور مجموعة من الأزمات الاقتصادية والأمنية، زادت أهمية القارة في إطار سعي القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الهيمنة الدولية، عبر مداخل اقتصادية وأمنية، ترتبط بالسيطرة على الموارد الطبيعية في العالم، خاصة النفط والغاز والسعي إلى البحث عن مصادر جديدة للطاقة والسيطرة على الممرات المائية.

وقد تصاعد وازداد التنافس الدولي عليها في العقدين الأخيرين، خاصة على مواردها وبالأخص مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، وعمل الغرب وأمريكا على وضع المخططات الاستراتيجية لتلبية هذه المتطلبات المتزايدة، يضاف إلى هذه القوى، قوى ولاعبون جدد أبرزهم الصين، وعلى مسافة منهم تلعب كل من تركيا وإيران، ولقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2002 أن إفريقيا منطقة استراتيجية لها، ومن ثم تم تكوين القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم) عام 2006، أما الصين فقد حقق التعاون التجاري بينها وبين الدول الأفريقية، نموًا متسارعًا ومنجزات ملحوظة، فقد وصل حجم التجارة بينهما إلى 106,8 مليار دولار في عام 2008، وغطت المشروعات الاستثمارية الصينية 49 دولة إفريقية، وبلغ حجم الاستثمار الصيني المباشر 550 مليار دولار في النصف الأول من عام 2009 وتجاوزت نسبة الزيادة 80%، وتسعى إيران لأن يكون لها موطئ قدم في إفريقيا، وتعمل الدبلوماسية الإيرانية على كسر الحصار الأمريكي/الغربي من خلال اكتساب مناطق نفوذ جديدة في القارة، عبر مدخلين اقتصادي وعسكري، وذلك منذ عام 1979، فقد سعت إلى تصدير الثورة الإسلامية، لاسيما الشرق الأفريقي القريب منها، والغرب الأفريقي الذي يضم أكبر نسبة من المسلمين، كما تعتبر دول السودان، كينيا، جنوب إفريقيا، تنزانيا، أثيوبيا، الكنغو الديمقراطية، أوغندا، نيجيريا، سيراليون، هي أهم الدول التي تستهدفها الاستثمارات الإيرانية، كما عملت على الحصول على اليورانيوم من أوغندا وزمبابوي في إطار مشروعها النووي. أما تركيا فقد سعت إلى اكتساب السوق الإفريقية من خلال تنظيم ما عرف باسم (تسكون) وهو كونفدرالية لرجال الأعمال والصناعيين، تحت رعاية ودعم وزارتي التجارة والشئون الخارجية التركية. أما إسرائيل، فتحتاج إلى مقال آخر منفرد.

  • الحروب الأهلية الإفريقية

لما بدأت دول القارة الإفريقية، تحصل على استقلالها تباعًا، اعتبارًا من بداية  عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، نتيجةً لكفاح شعوبها، وظهور قيادات وطنية في معظم دولها، وانتشار المد الثوري في دول العالم الثالث، ونتيجة الصراع الحاد عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بين كتلتين غربية مُستَعمِرة، وشرقية بازغة، ولكن للأسف فعقب الاستقلال مباشرةً، بدأت الحروب الأهلية في الكثير من دول القارة تنشب أظافرها في جسد هذه الدول الوليدة حديثة الاستقلال، وبالرغم من دور القوى الدولية والإقليمية في إثارة الحروب-لأهدافها الخاصة- في القارة الأفريقية فإنها  كانت أيضًا نتاجًا للعديد من الثوابت والمتغيرات الهيكلية الكامنة في صميم بنية الدول والمجتمعات الإفريقية، حيث إن حركة التفاعلات السياسية الداخلية في دول الحروب الأهلية، تمثل أمرًا هامًا، لأسباب اندلاع الحروب الأهلية الإفريقية، فالحروب الأهلية لا يمكن فهمها دون إرجاعها إلى المتغيرات الداخلية، وعلى الرغم من أهمية المتغيرات الخارجية في تفاقم الحروب الأهلية، إلا أن دورها يأتي في المرتبة التالية، لأنه لا يمكن للمتغيرات الخارجية مهما كانت قوتها، أن تخلق الحرب، ما لم تكن المتغيرات الداخلية تساعد على ذلك. هذا وكانت أبرز تلك الحروب في الكونغو ونيجيريا وتشاد وأثيوبيا وأوغندا والصومال وأنجولا وموزمبيق ورواندا وبوروندي وليبيريا وسيراليون. هذا وقد مثلت هذه الحروب تبديدًا واستنزافًا هائلاً للموارد والطاقات الحيوية لهذه الدول، كما أدت إلى تقويض هيكل الدولة ذاته، كما حدث في حالات الصومال وليبيريا، أيضًا فظاهرة الحروب الأهلية، قد أفرزت العديد من الظواهر السياسية والإنسانية الهامة، مثل ظاهرة اللاجئين، وتدخل القوى الخارجية بشكل سافر، أيضًا شيوع ثقافة العنف في هذه المجتمعات، كما تسببت في إضعاف المكانة الدولية والإقليمية لتلك الدول، ومن المعروف فإن ظاهرة الحروب الأهلية الإفريقية، صارت ظاهرة واسعة الانتشار في القارة الإفريقية، في عقد التسعينات من القرن العشرين، وأهمها كانت الحرب الأهلية الصومالية والتي مثلت مأساة إنسانية مروعة وامتدت تداعياتها الداخلية وتأثيراتها الخارجية حتي الآن.

  • الوجود العسكري الأجنبي في القرن الأفريقي

تكاثف الوجود العسكري الأجنبي في القرن الأفريقي خلال الثلاث عقود الماضية، وكان ذلك مدفوعًا في الأغلب الأعم، بالاعتبارات الجيوسياسية مثل ضمان الدعم اللوجستي للحروب (حرب الخليج)، تأمين مضيق باب المندب الذي يعد من أكبر محطات النقل البحري الاستراتيجي، الحفاظ على الأمن والاستقرار في القرن الأفريقي (وفقًا للمفهوم الأمريكي)، تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب، التدريب العسكري، التدخل الإنساني، تدابير مكافحة القرصنة، ضمان تدفق النفط، حماية استثمارات الطاقة، تيسير التعاون مع الحلفاء (أمريكا والغرب) والأفارقة. ويمكن أن نأخذ مثالاً على التواجد العسكري الأجنبي في إحدى دول القرن الإفريقي، ولتكن جيبوتي، حيث سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إقامة قاعدة عسكرية بها، وذلك للأهمية الاستراتيجية لجيبوتي، نتيجةً لموقعها حيث تطل على مضيق باب المندب، وبالتالي فهي من أهم محطات الشحن في العالم، إذ يتعين على قوافل التجارة بين أوربا وآسيا التي تمر عبر قناة السويس، استخدام مضيق باب المندب. ويقدر حجم النفط الذي يمر عبر مضيق باب المندب يوميًا ما يقرب من 3,8 مليون برميل، وهو ما يشكل نحو 4% من تجارة النفط العالمية. كما أن حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، قاموا كذلك بنشر قوات خاصة، ومرافق عسكرية في جيبوتي. كما أن الصين أرسلت من يوليو 2017 قوات عسكرية إلى جيبوتي للمساعدة في إنشاء قاعدتها البحرية الأولى خارج الصين، فالتجارة الصينية والتي تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار يوميًا، إلى أوربا في معظمها عن طريق مضيق باب المندب، كما أن تطوير مبادرتهم (حزام واحد –طريق واحد) يرتبط بوجود جيبوتي ضمن سلسلة اللؤلؤ، حيث يُمكنها هذا التواجد العسكري من حماية أفضل لتدفقاتها التجارية، كما أن جيبوتي تمثل حلقة وصل مهمة بين العالمين العربي والإفريقي بالنسبة للصين. هذا ولم يتبق لنا لاستجلاء واستكمال موضوع شرق القارة الإفريقية بشكل عام، والقرن الإفريقي بشكل خاص، سوى أن نتطرق إلى انتشار أماكن القواعد العسكرية بهذه المنطقة، الدولي منها والإقليمي.

أ ) القواعد العسكرية الدولية:

 تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية ،هذه القوات، خاصة قاعدة “ليمونير” العسكرية في جيبوتي، والتي تعد منطقة ارتكاز لعمليات الطائرات من دون طيار في شرق إفريقيا واليمن. وتأتي بعد ذلك الصين بأول قاعدة بحرية لها في جيبوتي، والتي سيبلغ عدد أفرادها عشرة آلاف جندي حتى 2026، وذلك لتأمين الملاحة البحرية، وتموين وإسناد القطع البحرية الصينية قبالة السواحل اليمنية والصومالية. ولفرنسا أيضًا قاعدة عسكرية لمكافحة القرصنة البحرية، وحفظ الاستقرار في القرن الأفريقي، كما حافظت فرنسا على قاعدتها في غرب إفريقيا ” قاعدة جلو ” في شمال مالي. ولليابان منذ 2010 قاعدة في جيبوتي، تعتبر أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها منذ عام 1945 وتضم 400 جندي.

ب) القواعد العسكرية الإقليمية:

 لم ينقطع الاهتمام الإسرائيلي بالبحر الأحمر، وإفريقيا، وبالأخص الشرق الإفريقي منذ عقود طويلة، فهي تعتبر البحر الأحمر ضمن الدوائر شديدة الأهمية، لأمنها القومي، وذلك لحماية حركة الملاحة من وإلى الموانئ الإسرائيلية، بالإضافة إلى الأهمية الاقتصادية والسياسية، لتعزيز علاقاتها بدول شرق إفريقيا، ويمكن هنا أن نذكر فقط القاعدة العسكرية الإسرائيلية في إريتريا، والثى تضم وحدات بحرية في أرخبيل “دهلك” وميناء “مصوع” ومركز للتنصت في جبال “أمباسويرا”. أما بالنسبة لتركيا فلها أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، في جنوب العاصمة الصومالية “مقديشيو” على مساحة 400 هكتار بتكلفة بلغت 50 مليون دولار، وهذه القاعدة تعتبر مؤشرًا على سعي تركيا لتعزيز انتشارها العسكري في منطقة القرن الإفريقي، ولمواجهة النفوذ المتصاعد لدول مثل إيران، إسرائيل، الصين. أما إيران فهي لها محاولات جادة ومكثفة، لحصول سفنها الحربية على تسهيلات في الموانئ السودانية والأريتيرية، والتي قد تستخدم في نقل بعض مصانع الصواريخ إلى الخارج.

  • التحول الاستراتيجي في القرن الإفريقي:

حيث يُكثف التصعيد الحوثي ضد حرية الملاحة الدولية في مضيق باب المندب، والذي يتزامن مع التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، والمشاكسة في شريان البحر الأحمر الحيوي، عن أهمية المبارزة التي ترسم حول المرور في المضايق للتجارة العالمية عمومًا، ولإمدادات الطاقة خصوصًا. لذا يندرج التحول الاستراتيجي في القرن الإفريقي، حيث موانئ البحر الأحمر الحيوية والصلات بالخليج العربي وأمنه القومي، في سياق اختبار القوة الدولي الإقليمي الدائر، وتشكل المصالحة الأثيوبية/ الإرترية أكثر من مفاجئة ما يساوي الانقلاب في موازين القوى في إطار مشهد جيوسياسي جديد يمثل فيه التحالف العربي (الإمارات والمملكة العربية السعودية) دور الرافعة في تركيب التحالفات وزيادة عناصر القوة في مواجهة القوى الإقليمية غير العربية، التي تسعى للتحكم والسيطرة في المنطقة، وضرب المصالح العربية الاقتصادية والأمنية.

عصــــــام عاشــــــور

كاتب وباحث مصري

اظهر المزيد

عصام عاشور

كــاتب وبـــاحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى