2018العدد 176دراسات

إعادة إعمار الدول في بؤر الصراعات العربية المحددات والإشكاليات

شهدت الأعوام الأخيرة تصاعد الجدل بشأن تعقيدات إعادة إعمار الدول العربية المنهارة التي شهدت صراعات داخلية مسلحة أثرت في سيادتها وقدرتها على احتواء ما بداخلها من اختلافات، وصارت بيئة حاضنة للتنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة، خلال السنوات الثماني الماضية. ومن ثم، أصبحت هذه الدول هدفاً سهلاً للتدخلات الإقليمية والدولية، مما كان له كثير من التداعيات التي حالت دون استقرار المنطقة، وانعكست بصورة أو بأخرى على التحول في تثبيت التهدئة وأساليب التسوية وتحقيق السلام([1]).

وبناء عليه، فإن أحد التساؤلات الرئيسية (المؤجلة) التي تعقب تسوية أو حل الصراعات الداخلية المسلحة في المنطقة العربية ما يتعلق بتعقيدات أو حسابات اليوم التاليThe Day After حينما تسكت المدافع وتبدأ السيناريوهات أو التصورات أو المشروعات الخاصة بإعادة بناء أو إعمار ما دمرت الصراعات والحروب، وهو ما ينطبق على حالات ليبيا واليمن وسوريا والعراق([2])، إذ تواجه القوى الدولية الكبرى والمنظمات الإغاثية العالمية معضلة الاندفاع لاتخاذ قرارات كبرى دون التفكير المتأني في النتائج التي سوف تترتب عليها في اليوم التالي لتطبيقها، لاسيما في ظل عدم وضوح الرؤية لشكل البناء الجديد الذي سوف يحل محل ما يهدم([3]). ويصبح الفراغ وما يرتبط به من فوضى وصراع هو سيد الموقف في اليوم التالي، والتي أطلقت عليه بعض الكتابات “المناطق الخارجة عن السيطرة” نتيجة قيام أطراف وقوى مختلفة بملء فراغات السلطة والقيام بمهام الدولة([4]).

وقد شهدت الجهود المبذولة لإعادة بناء وإعمار الدول المنهارة في الإقليم، تقدماً ملموساً عكسته العديد من المؤشرات، إلا أن تلك الجهود لا تزال تواجه العديد من الإشكاليات والتعقيدات، حيث يجمع الكثير من الخبراء إن عمليات إعادة الإعمار في بؤر الصراعات العربية ستكون شاقة وضخمة سواء الخاصة بإصلاح الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية والإسكان والتعليم والصحة([5])، أم المرتبطة بإعادة تأهيل وتدريب وتوحيد قوات الشرطة والجيش وتجاوز تعقيدات الانتقال السياسي والتصالح الوطني على نحو يجعلها بمثابة ملف مضغوط يؤثر في واقع استقرار تلك الدول التي تتطلع إلى دخول مرحلة جديدة بدلاً من الدوران في حلقة المتاهة المستديمة([6]).

وفي هذا السياق، تناقش هذه الدراسة أبعاد عملية إعادة إعمار الدول في بؤر الصراعات العربية، من خلال رصد وتحليل أسباب إعادة الإعمار في هذه الدول، فضلاً عن استعراض أبرز مؤشراته، وكذلك سياسات وبرامج إعادة البناء والأعمار التي شرعت الدول المنهارة في البدء فيها، وأخيراً تناول أهم الإشكاليات التي سوف تواجه عمليات إعمار تلك الدول، التي تختلف أسباب اللجوء إليها من حالة لأخرى، طبقاً للسياقات الداخلية وتدخلات الأطراف الإقليمية وأدوار القوى الدولية وشواغل المنظمات العالمية غير الحكومية المعنية بالإعمار، ويمكن تناول النقاط الرئيسية المشار إليها كل على حدة بقدر من التفصيل على النحو التالي:

أولاً: أسباب إعادة إعمار الدول المنهارة

يمكن تقسيم هذه الأسباب إلى مجموعتين من الأسباب، الأولى بأسباب تتعلق بالدول المنهارة، والثانية بأسباب تتعلق بالجهات والأطراف المنوط بها إعادة الإعمار، ويمكن تناول أهم هذين النمطين من الأسباب على النحو التالي:

1- أسباب تتعلق بالدول المنهارة: يتمثل أبرز هذه الأسباب في الآتي:

أ- إنهاء الصراعات وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة: إذ لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر من دون استقرار وأمن وسلام([7])، بحيث ترتكز خطة التعافي لدول الصراعات على أربعة محاور رئيسية، أولها: تجديد العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، عبر أسس تعيد ثقة المواطنين في الدولة مرة أخرى، وتصبح العلاقة قائمة على التمكين المتبادل([8]).

وثانيها: مواجهة التحديات التي تعترض اللاجئين، إذ تسببت الحروب خاصة في سوريا بنزوح عدد كبير من اللاجئين الذين توجهوا تحديداً إلى لبنان والأردن ومصر والعراق، مما أدى إلى خلق مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة، فعلى سبيل المثال تشكل أزمة النازحين أحد التحديات الأساسية التي تواجه السلطات العراقية في ظل غياب المرافق الضرورية والموارد الكافية للإسراع في إعادة الإعمار، وجود أكثر من مليوني وذلك وفقاً لما أعلنته منظمة الهجرة الدولية([9]).

وثالثهما: زيادة التعاون الإقليمي والتقارب بين دول المنطقة في المجالات ذات الأهمية الكبيرة للتنمية الاقتصادية، ورابعها: إعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد في الدول التي تأثرت بعدم الاستقرار، إذ توجد دولاً في المنطقة لا تشهد صراعات أهلية مثل مصر وتونس، ولكن اقتصاداتها الوطنية تأثرت سلباً، نتيجة عدم الاستقرار في المنطقة، والذي انعكس سلباً على قطاعات اقتصادية كالسياحة والاستثمار الأجنبي، مما حض على العمل مع تلك الدول لمحاولة زيادة معدل النمو الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بزيادة الأيدي العاملة وخلق المزيد من الفرص الاقتصادية للشباب([10]).

ب- تعثر تجاوز “عتبة” المرحلة الانتقالية: فقد شهدت عدة بلاد عربية ثورات، اندلعت في فترات زمنية متقاربة، على المعرفة من أين جاءت ولكن لا تعرف إلى أين تسير، أو ما أطلق عليه البعض “المتاهة الانتقالية”.([11]) فقد كان هناك توافق بين القوى الوطنية والتيارات الفكرية والحركات الثورية والأحزاب السياسية في دول الثورات والصراعات، على هدم أبنية النظام القديم، لكن لم يتبلور اتفاق بشأن أسس وملامح النظام الجديد، على نحو يمكن من ترجمة شعارات الثورات المختلفة “حرية سياسية، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية” إلى وقائع يمكن تلمسها، بل تحولت الصراعات بين الفرقاء السياسيين من الصراع على السلطة إلى الصراع على الدولة، أو هوية الدولة. ([12])

بعبارة أخرى، كانت قوى الثورة واضحة في رؤيتها لجانب الهدم، لكن تفكيرها مضطرب في جانب البناء، لاسيما فيما يتعلق بأبعاد عديدة، ومنها حل المعضلة الأمنية ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وبناء المؤسسات السياسية، والتوافق حول المسألة الدستورية، وإنفاذ العدالة الانتقالية، وتحقيق المصالحة الوطنية([13])، لاسيما بعد تبلور نمط السيادة المتعددة وتكوين شبكات تحالف واسعة بين بعض الأطراف السياسية وبين بعض التنظيمات المسلحة، مما أدى إلى تحول الصراع السياسي إلى صراع مسلح هدد وحدة وسلامة الأراضي الليبية واليمنية والسورية والعراقية، علاوة على تحول بعض المناطق داخل الدول السابقة إلى بؤر للعناصر الإرهابية وانطلاقها لمختلف دول المنطقة خاصة دول الجوار الجغرافي([14])، الأمر الذي يهدد الأمن القومي لتلك الدول أيضاً، مما زاد من تعقيد الصراع، وصعب من وضع رؤية واضحة المعالم بشأن قضية إعادة الإعمار طالما استمر الصراع منتشراً في كافة أنحاء البلاد.

ج- تحقيق المصالحة الوطنية: يعد تحقيق المصالحة المجتمعية من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت للتفكير جدياً في إعادة إعمار بعض الدول العربية التي تصدعت على مدى السنوات الماضية، فاستمرار التصدع في التكوينات المجتمعية المختلفة، وشيوع ثقافة الصراع والعداء المتبادل التي تقوم على أسس عشائرية وقبلية وطائفية ومذهبية ودينية، قد تقود إلى استمرار الصراعات الداخلية لفترات طويلة([15])، لذا فإن قناعة الأطراف المتصارعة بضرورة البناء وإعادة الإعمار لتحقيق الاستقرار والأمن، تعد ضرورة هامة، ولابد أن يسبقها جهود لرأب الصدع بين التكوينات المجتمعية المختلفة، ومعالجة الاحتقان الاجتماعي، لترسيخ المصالحة المجتمعية بهدف الحفاظ على استدامة التسوية، ويرتبط ذلك بإيجاد آليات لتطبيق العدالة الانتقالية([16]).

2- أسباب تتعلق بالأطراف المشاركة في إعادة الإعمار، والتي تتمثل فيما يلي:

أ- السيطرة وتوسيع النفوذ، حيث يشير اتجاه في الأدبيات أن مشاركة بعض الدول في عمليات إعادة إعمار الدول المنهارة بالإقليم، يأتي ضمن رغبتها في تحقيق السيطرة وتوسيع النفوذ، فعلى سبيل المثال تريد إيران المشاركة في إعادة إعمار العراق تمهيداً لدور أكبر لمستقبل ميليشياتها في العراق وخاصة قوات الحشد الشعبي، لاسيما في ظل دورهم في تحرير المحافظات التي كانت تحت نفوذ داعش([17]).

كما تستعجل روسيا وضع ملف إعمار البنية التحتية على مائدة المفاوضات الدولية – الإقليمية تمهيداً للنفوذ المستقبلي، ويؤكد على هذا تحذير وزير الخارجية البريطاني في نهاية عام 2016 بوريس جونسون ونظيره الأمريكي السابق جون كيري من تحويل روسيا مدينة حلب إلى “غروزني سوريا” في إشارة إلى عاصمة الشيشان التي اعتبرتها منظمة الأمم المتحدة في عام 2003 “المدينة الأكثر دماراً على وجه الأرض” بعد محاصرة القوات الروسية لها وتدميرها([18]).

وكذلك تسعى تركيا إلى المشاركة في إعادة إعمار سوريا لترسيخ دوائر نفوذها هناك عن طريق مشاريع إعادة الإعمار، وخاصة البنى التحتية المتضررة من الحرب في حين تأمل تركيا بأن يساهم ذلك في تشجيع عدد كبير من اللاجئين الذين تستضيفهم، على العودة إلى سوريا، وليس الهدف من هذه المساهمة التركية في إعمار سوريا تحقيق الاستقرار في الوقت الراهن وحسب، إنما أيضاً إرساء النفوذ السياسي التركي مستقبلاً([19]).

ب- تحقيق أرباح لشركات الاستثمار في دول الإعمار: بما أن حالة التردي والتدمير التي شهدتها البنى التحتية لدول الصراعات في المنطقة من فاتورة تكلفة عمليات إعادة الإعمار، فإن تلك الدول سوف تمثل أسواق عمل مربحة ومغرية للشركات الاستثمارية لاسيما شركات المقاولات الكبرى في العالم، وهو الأمر الذي يفسر تهافت الشركات الاستثمارية للدخول في هذه الأسواق لتحقيق أرباح ومكاسب طائلة في المستقبل([20]).

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى التنافسي الدائر بين رجال الأعمال على إعادة إعمار سوريا، والذي وصل إلى حد الصراعات بينهم، فقد كشفت حملة شنها رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية وعضو البرلمان – فارس الشهابي– لحماية الصناعة النسيجية في حلب، عن وجود صراعات ضمن مجموعة من رجال الأعمال المقربين من نظام الأسد للسيطرة على الاقتصاد السوري في مرحلة إعادة الإعمار([21]).يضاف إلى ذلك أنه قد بدأ رجال الأعمال السوريون الذين هم بالفعل جزء من النخبة السياسية تشكيل شركات جديدة حتى يتمكنوا من وضع أنفسهم في الصف الأول في عمليات تطبيق مشاريع إعادة الإعمار([22]).

وكذلك تتنافس عشرات الشركات الليبية والمصرية والأوروبية للحصول على نصيب في مشروعات الإعمار في ليبيا وبخاصة في بنغازي، عقب طرد الجماعات المسلحة منها، بحيث تتسع بنغازي لأعمال كبيرة قد تستمر لأكثر من عشر سنوات، فهناك مشروعات كثيرة تعرضت للتدمير بشكل كامل مثل المراكز التجارية والمصانع وغيرها. ومن المدن الليبية الأخرى التي تتجه إليها أنظار المستثمرين لاقتناص عقود “إعادة الإعمار” مدينة “درنة” التي تقع في أقصى الشرق الليبي وهي أول مدينة ظهر فيها تنظيم “داعش” في نهاية عام 2014 قبل أن ينتقل إلى مدينة “سرت”، وتعد سرت هي الأخرى من المدن التي تجذب المستثمرين المحليين والعرب والأجانب، بسبب الدمار الذي لحق بها طوال السنوات السابقة([23]).

ثانياً: مؤشرات إعادة إعمار الدول المنهارة

تعددت مؤشرات إعادة إعمار الدول في دول الإقليم في عدة أشكال منها عقد صفات إعادة الإعمار بين حكومات تلك الدول والشركات الساعية إلى تحقيق الربح، وتنظيم العديد من المعارض الإقليمية والدولية التي تحفز على إعادة الإعمار.ويمكن استعراض بعضاً من تلك المؤشرات في الآتي:

  1. عقد صفقات ثنائية لإعادة الإعمار:

 أبرم عدد من حكومات الدول المنهارة صفقات إعادة الإعمار مع بعض الشركات الهادفة إلى الربح، ففي سوريا، أعلن وفد تجاري روسي زار دمشق في عام 2017 عن أن الشركات الروسية سوف تقود عملية إعادة إعمار سوريا بعد الحرب([24]).كما أبرمت إيران صفقات تجارية مع سوريا، وشجعت مواطنيها على الإنفاق بكثافة على العقارات، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات في بعض المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام([25]).

وكذلك وقعت روسيا على عدد من اتفاقيات حول موارد الطاقة وإعادة الإعمار مع سوريا، في الأعوام (2016-2018)، وهو ما تدلل عليه اتفاقية التعاون بين الجانبين السوري والروسي في مجال الطاقة والثروة المعدنية في 6 فبراير 2018، حيث تنص على تعاون الجانبين في تنفيذ مشاريع لتطوير وإعادة تأهيل حقول النفط والغاز ومناجم الفوسفات والعديد من مشاريع البنية التحتية في جميع قطاعات الطاقة في سوريا بما في ذلك مركز المعلومات الفيزيائية والجيوفيزيائية على نحو يشير إلى إعطاء نظام الأسد الشركات الروسية الأفضلية خلال عملية إعادة بناء سوريا([26]).

كما ظهر دور روسيا الاقتصادي في إعادة إعمار سوريا في اتفاقية تم توقيعها في عام 2016 بين وزير النفط والغاز السوري علي غانم، وشركة روسية برعاية وزارة الطاقة في روسيا، وتفيد الاتفاقية بتقديم سوريا 25% من إنتاجها للنفط والغاز إلى شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية التي ستوفر خدمات الدفاع والإنتاج والنقل من الحقول الموجودة في شرق سوريا، كما تشارك شركة روسية أخرى في هذه الاتفاقيات وهي شركة “يوروبوليس” وهي شركة مقاولة عسكرية خاصة وشهيرة، بحيث تقوم الشركة بخدمات الحماية الأمنية للآبار التي تديرها شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية في وسط سوريا وشرقها، بالإضافة إلى المشاركة في الصراع المستمر من “تدمر” إلى “دير الزور”([27]).

  • تنظيم المؤتمرات الإقليمية والدولية لإعادة الإعمار:

اهتمت حكومات دول المنطقة وغيرها من الدول الغربية بتنظيم معارض ومؤتمرات إقليمية ودولية للترويج لعمليات إعادة إعمار الدول التي شهدت تصدعاً في المنطقة، ومن أبرز تلك المؤتمرات المؤتمر الدولي لإعادة الإعمار الذي عقد في نهاية يوليو 2017 بعمان بعنوان “إعادة إعمار سوريا” برعاية نقابة مقاولي الإنشاءات ووزارة الأشغال العامة([28]).

كما استضافت الحكومة الصينية في بداية أغسطس 2017 “أول معرض تجاري لمشاريع إعادة إعمار سوريا” والذي أعلنت من خلاله إحدى مجموعات التجارة العربية الصينية، توقيع عقد بقيمة 2 مليار دولار من الحكومة لبناء الحدائق الصناعية في سوريا([29]).

وفي 17 أغسطس من العام نفسه، أشرف مسئولون سوريون على افتتاح معرض دمشق الدولي لأول مرة منذ بدء الثورة في سوريا، وقد روج نظام الأسد بكثافة لهذا المعرض، وهو معرض تجاري دولي يهدف إلى البدء في عمليات إعادة الإعمار في سوريا([30]).

كما نظمت الحكومة العراقية في سبتمبر 2016 في العاصمة بغداد مؤتمراً دولياً بعنوان “معرض العراق لبناء وإعمار المناطق المحررة”، لمناقشة  إعادة إعمار المناطق المحررة من قبضة تنظيم “داعش” بمشاركة 57 شركة تمثل 16 بلداً عربياً وأجنبياً، وقد قدرت حجم التكلفة لإعادة إعمار المناطق التي جرى تحريرها من تنظيم “داعش” بالإضافة إلى محافظة “نينوي” في الشمال بنحو 14 مليار دولار([31]).

وكذلك انطلق في الكويت خلالالفترة (12-14 فبراير 2018)، مؤتمر إعادة إعمار العراق الهادف إلى جمع أموال من المانحين الدوليين لدعم جهود بناء المناطق المتضررة من الحرب، وقد استمر المؤتمر ثلاثة أيام بحضور ممثلي عشرات الدول ومئات المنظمات والشركات ورجال الأعمال، وقد خصص اليوم الأول للمؤتمر للخبراء في إعادة الإعمار وللمنظمات غير الحكومية، واليوم الثاني للقطاع الخاص، واليوم الثالث لإعلان المساهمات المالية للدول المشاركة، وتعهدت منظمات دولية غير حكومية مع بدء المؤتمر بتقديم مساعدات إنسانية بقيمة 30 مليار دولار وجاءت تعهدات الأطراف المشاركة في المؤتمر على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية واستثمارات للمساهمة في إعادة إعمار العراق، وتجسد تلك التعهدات إرادة المجتمع الدولي للوقوف إلى جانب العراق للتخلص من الإرهاب بعد الانتصار على تنظيم “داعش”([32]).

  • إطلاق تصريحات وتخصيص زيارات رسمية للمساهمة في إعادة الإعمار:

إذأعربت عدة دول ومنظمات وهيئات إقليمية ودولية عن رغبتها للمشاركة في عمليات إعادة إعمار الدول المنهارة بالإقليم من خلال بلورة سياسات رسمية بشكل فردي أو بشكل جماعي، واتضح ذلك عبر الزيارات المتبادلة لوفود الدول، والتصريحات الرسمية التي أدلى بها عدد من مسئولي تلك الدول.

ويمكن الإشارة إلى عدد من النماذج في هذا الشأن:

* إعلان السفير السوري لدى روسيا، رياض حداد، في منتدى الأعمال الروسي السوري، في غرفة التجارة الصناعة والتجارة الروسية بتاريخ 26 فبراير 2018، أن الشركات الروسية التي ترغب في بالمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب في سوريا ستحصل على أكبر قدر من المزايا. وسبقه تصريح وزير الصناعة السوري أحمد الحمو في حوار مع وكالة الأنباء الروسية في ديسمبر 2017 باهتمام بلاده بمشاركة الشركات الروسية، في ملف إعادة إعمار سوريا بعد انتهاء الحرب على الإرهاب حيث سلمت سوريا قائمة بالتوريدات والتجهيزات بأهم المشاريع المتضررة والتي ترغب بتأمينها من قبل الجانب الروسي. ([33])

* زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في 12 فبراير 2018 إلى بغداد للتباحث مع المسئولين العراقيين حول إعادة إعمار البلاد بعد الهزيمة العسكرية لتنظيم “داعش”، وكيفية استفادة العراق من الخبرة الفرنسية في إعادة الإعمار، وقد جاءت هذه الزيارة بالتزامن مع انعقاد مؤتمر دولي في دولة الكويت حول إعادة إعمار العراق، والذي شاركت فيه فرنسا ضمن عشرات الدول ومئات الشركات ورجال الأعمال، والجدير بالذكر أن فرنسا تعد ثاني أكبر مساهم في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، إلى القيام بدورها في إعادة بناء العراق، واتضح ذلك في عام 2017، عندما منحت فرنسا قرضاً بقيمة 430 مليون يورو للعراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والذي كانت ميزانية مثقلة بأعباء المجهود الحربي وانخفاض أسعار النفط الخام([34]).

* إعلان وزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني محمد رضا نعمت زاده، استعداد بلاده المشاركة في إعمار مدينة “الموصل” شمالي العراق، وجاء ذلك خلال لقائه وفداً عراقياً في طهران، حيث أكد زاده أن “إيران تمتلك خبرات جيدة في مجال إنشاء الأحياء الصناعية”، ومستعدة لوضع هذه الخبرات بتصرف الجانب العراقي، وأشار إلى أن “العراق بحاجة إلى إعادة الإعمار والتطوير لاسيما في القطاعات الهندسية والبناء” إنشاء البنية التحتية لاسيما مد شبكات الماء والكهرباء وبناء الأرصفة البحرية والمنشآت العامة والترفيهية وغيرها([35]).

* إجراء الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في سبتمبر 2017 مباحثات مع السفير الصيني تيان تشي حول إمكانية مساهمة الشركات الصينية في إعمار اليمن – بحسب ما أوردته الأنباء الرسمية اليمنية-، وكذلك تفعيل اتفاقيات التعاون والاستفادة من القروض الموقعة بين الجانبين في مجالات مختلفة لاسيما في مجالات النفط والغاز والاتصالات، وذلك من أجل تعافي الاقتصاد اليمني وإعادة إعمار البنى التحتية المتضررة([36]).

* تأكيد نائب رئيس البنك الدولي لشئون منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – حافظ غانم -، أن إعادة الإعمار “تعد من أهم محاور الإستراتيجية الجديدة للبنك الدولي في المنطقة” معرباً عن الاستعدادات لإعادة إعمار اليمن وسوريا وليبيا فور الاتفاق على عملية السلام، كما أعلن غانم عن بدء تقدير حجم الدمار فعلياً في الدول المشار إليها بالشركة مع منظمة الأمم المتحدة والبنك الإسلامي للتنمية بالأقمار الصناعية، مشيراً إلى أن تقديرات البنك الدولي لإعادة إعمار سوريا نحو 180 مليار دولار، وليبيا 80 ملياراً، كما أشار إلى أن البنك في صدد التحضير لمشاريع أخرى في اليمن تقدر بنحو 100 مليون دولار([37]).

  • وضع خطط وبرامج حكومية لإعادة الإعمار

حيث شرعت عدد من حكومات الدول المنهارة بالإقليم في وضع خطط وبرامج لإعادة البناء والإعمار بشكل جزئي وليس كلي، وذلك باعتبار أن تلك الدول قد يوجد بها مساحات انهيار واسعة، وبالتالي حجم المساعدات المقدمة من الأطراف والجهات المشاركة في إعادة الإعمار قد لا تكفي البدء في إجراء عمليات إعادة إعمار شاملة لكافة المناطق التي شهدت تدميراً كبيراً، الأمر الذي بدوره يخدم فكرة “إعادة الإعمار الجزئي” أي إعطاء أولوية للبدء في إعمار المناطق الأكثر تأثراً من تبعات الحروب والصراعات الداخلية، أو المناطق الأقرب للمناطق المؤهلة بالسكان، وهكذا.

فعلى سبيل المثال، بدأت الحكومة العراقية بوضع برنامج لإعادة إعمار العراق، وهذا البرنامج سيتم على مرحلتين، المرحلة الأولى من برنامج العراق لإعادة إعمار المناطق التي خربتها الحرب مع “داعش” في عام 2018، وستستمر هذه الاتفاقية حتى العام 2022، أما المرحلة الثانية، فستبدأ في العام 2023 وستستمر حتى العام 2028([38])، وهذا وفق ما صرح به مهدي العلاق – الأمين العام لمجلس الوزراء العراقي، لوسائل الإعلام في 14 يونيو 2017.

كما أكد الناطق باسم مكتب رئيس الوزراء سعد الحديني، أن العراق أعطى مدينة “الموصل” الأولوية في برنامج الإعمار، نتيجة الضرر الهائل الذي لحق بها من جراء المعارك التي دارت فيها لتحرير المدينة من قبضة “داعش”، وتحدث الحديني عن أولويات برنامج الإعمار في الموصل حيث يركز أولاً على النازحين، بحيث سيتم تسخير الأموال اللازمة والآليات وقطاع الخدمات لإرجاع من يستطيع من السكان إلى البيوت، التي تتيح السكن فيها بعد تأمينها من قبل القوات الأمنية والجيش المتواجد حالياً في المدينة([39]).

كما سيشمل برنامج إعمار “الموصل” بناء مؤسسات الأمن والمتمثلة بالشرطة المحلية، وعناصر الاستخبارات وقوات الردع السريع، عبر تشجيع أبناء المدينة على التطوع، ثم إدخالهم في دورات تدريبية ومعاهد دراسية لتهيئة أفراد أمن مهنيين قادرين على الدفاع عن المدينة، تمهيداً لخروج الجيش والقوات القتالية منها، كما يتضمن البرنامج التأسيس للتعايش بين أطياف المدينة وقومياتها، لإحلال السلام بين سكان المدينة، وهم العرب السنة الذي يمثلون الأكثرية والأكراد، والعرب الشيعة الذي يمثلون أقلية صغيرة، إضافة إلى التركمان والمسيحيين، عبر نشر ثقافة التسامح وإبعاد المساجد عن التطرف، وتنظيم زيارات ميدانية دورية لأهالي الموصل في بغداد ومناطق الوسط والجنوب، لتحقيق الاندماج المجتمعي([40]).

ثالثاً: إشكاليات إعادة الإعمار

تواجه عمليات إعادة الإعمار في دول المنطقة العديد من الإشكاليات التي تحول دون نجاحها في تحقيق أهدافها، ومن أبرزها:

  1. تدمير البنية التحتية:

 فقد أسفرت الحروب والصراعات المسلحة في عدد من دول المنطقة عن حالة تدمير للبنية التحتية بدرجات متفاوتة، ويقصد بالبنية التحتية هنا “كافة المنشآت والمرافق الخدمية، مثل الطرق، الكباري، المطارات، سكك الحديد، بالإضافة إلى شبكات الصرف وإمدادات المياه والمدارس والمباني الحكومية وشبكات الكهرباء، علاوةً على شبكات الاتصالات والبريد وخدمات الأنترنت وغيرها، وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة عن حجم التدمير الذي طال البنى التحتية في بلدان الصراعات، فإن هناك بعض الكتابات التي تشير إلى جسامة الأوضاع وصعوبتها([41]).

  • التكلفة الضخمة لإعادة الإعمار:

 فحالة التردي والتدمير التي شهدتها البنى التحتية لبلدان الصراعات في المنطقة العربية، رفعت من فاتورة تكلفة عمليات إعادة الإعمار في الدول المنهارة، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن عملية إعادة إعمار سوريا سوف تحتاج إلى 400 مليار دولار([42])، ووفقاً لتقديرات البنك الدولي فإن إعمار ليبيا يحتاج إلى 200 مليار دولار([43])، أما اليمن، فوفقاً لتقديرات الحكومة اليمنية، التي صرح بها محمد المتيمي – وزير التخطيط اليمني– فإن تكلفة إعادة الإعمار سوف تصل إلى ما يزيد عن 100 مليار دولار، بينما يتوقع أن تبلغ تكلفة إعادة إعمار محافظة الأنبار العراقية إلى ما يزيد عن 20 مليار دولار، وذلك وفقاً لتقديرات الحكومة المحلية في المحافظة([44]).

ووفقاً لتقديرات الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب، أن تكلفة عمليات إعادة إعمار البنى التحتية للدول العربية التي دمرتها الحروب والصراعات وهي العراق واليمن وسوريا وليبيا، سوف تصل إلى تريليون دولار، فيما أن حجم الخسائر الصافية في النشاط الاقتصادي لتلك الدول نتيجة الصراعات والحروب والنزاعات يتجاوز 600 مليار دولار أي ما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية([45]).

  • تعقيدات إعادة هيكلة الجيوش النظامية:

 إذ تشهد دول الإقليم، التي تعرضت لتصدعات أو انقسامات حادة، خلال السنوات الماضية، نتيجة اندلاع ثورات شعبية أو اشتعال صراعات داخلية عمليات إعادة بناء أو هيكلة الجيوش بأشكال مختلفة، على نحو ما تعكسه حالات عدة مثل إعادة هيكلة الجيش الوطني الليبي برعاية مصر، وإعادة هيكلة عكسية لقوات الجيش الداعمة للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في ميلشيا الحوثيين، وإعلان مؤتمر قادة البلاد ورؤساء الأقاليم الصومالية الاتفاق على إعادة هيكلة الجيش، فضلا عن عمليات إعادة هيكلة ممتدة للجيش العراقي([46]).

ورغم هذه الجهود إلا أن هناك معوقات تصعب على الجيوش النظامية في الدول العربية المأزومة فرض سلطتها وسيطرتها على المجموعات المسلحة المختلفة من حيث الأيديولوجيا والأهداف والمصالح وأبرزها انتفاء العقيدة العسكرية للجيوش في الدول المنهارة، التي تتخذ من الدفاع عن الأمن الإقليمي للدولة، والحفاظ على السيادة الوطنية غاية لوجودها. ويتعذر مع هذه المتناقضات أن يؤلف جيشا قويا متناسق ومتجانس المكونات يمكن أن يشكل النواة المركزية لتلك الدولة تواجه التحديات التي تهب من كل اتجاه، داخليا وخارجيا([47]).

  • طول أمد الصراعات الداخلية المسلحة:

فلا تزال الصراعات المسلحة العربية مستمرة دون هدنة أو توقف مؤقت لالتقاط الأنفاس، فالصراع السوري بين نظام بشار الأسد من جانب، وبين قوى المعارضة بكافة طوائفها من جانب أخر، فضلاً عن الصراعات بين تنظيمات المعارضة المسلحة والجماعات الإرهابية وبعضها بعضاً، والذي دخل مرحلة متطورة للغاية نتيجة طول فترة المواجهات المسلحة، وهو ما جعل قضية إعادة الإعمار مؤجلة([48]).

  • تحديد الأطراف المشاركة في إعادة الإعمار:

 تعد عمليات إعادة الإعمار من أهم مراحل تسوية الصراعات الداخلية التي لا يمكن لأطراف الصراع تنفيذها بمعزل عن الدعم الإقليمي والدولي، نتيجة لافتقاد القوى السياسية والمجتمعية في مراحل ما بعد الصراعات الداخلية، الموارد الكافية والقدرات التنظيمية والمؤسسية التي تتطلبها عمليات إعادة الإعمار([49]).

يضاف إلى ذلك أن التكلفة الضخمة لعمليات إعادة الإعمار جعلت مسألة تحديد الأطراف المنوط بها عمليات إعادة الإعمار صعبة نسبياً، فالموارد المالية للمنظمات الدولية والإقليمية في ظل الاتساع الكبير في قاعدة البلدان التي تحتاج عمليات عاجلة، لم تعد كافية لتغطية كافة المناطق، علاوة على الاعتبارات السياسية التي تلعب دوراً بالغ الأهمية في تحديد قيام الدولة أو المنظمة الإقليمية – بالمشاركة في عملية إعادة الإعمار من عدمها.

ويرتبط بإشكالية تحديد الأطراف المشاركة في عملية إعادة الإعمار، قضيتين رئيستين هما:

أ- توافق المصالح: يتوقف بدء عمليات إعادة الإعمار على خلق مصالح لمختلف الأطراف السياسية والمجتمعية في إعادة الإعمار وتسوية الصراع بصورة نهائية، وهو ما يرتبط بمواجهة إقتصاديات الصراعات الداخلية، وتفكيك شبكات المصالح المستفيدة من استمرار الصراعات الداخلية، مما يدفعها لعرقلة التسوية والتصدي لعمليات إعادة الإعمار التي تهدد استمرار المكاسب الاقتصادية.

يضاف إلى ذلك، تتطلب عملية إعادة الإعمار تحقيق التوافق بين القوى الإقليمية والدولية على أهمية إعادة الإعمار، وتهديدات تواصل الصراع دون تسوية للاستقرار الإقليمي والأمن العالمي، حيث إن استعصاء الصراعات الداخلية على التسوية يرتبط بتعارض مصالح القوى الإقليمية والدولية واستمرار الحروب بالوكالة فيما بينهم من خلال الدعم العسكري واللوجستي لأطراف الصراعات الداخلية، وفي هذا السياق تتوقف عمليات إعادة الإعمار على توافق القوى الإقليمية والدولية على تمويل عمليات إعادة الإعمار والمشاركة بها، خاصة في ظل ارتفاع تكلفة إعادة إعمار الدول المنهارة في المنطقة، بما يتطلب تزايد الإسهامات الإقليمية والدولية في عملية إعادة الإعمار.

ب-حجم التمويل: تعد مسألة التمويل القضية الأبرز في تحديد حجم ونطاق عملية إعادة الإعمار في الدول في مرحلة ما بعد الصراع، إذ تشير تجارب إعادة الإعمار إلى أن بعض أنماط التمويل غالباً ما تكون متداخلة، فالنسبة إلى الدول المانحة، تشمل هذه الأنماط الدعم المباشر من خلال المساعدات الثنائية أو دعم المنظمات غير الحكومية، وآليات التمويل المجمعة، مثل الصناديق التي تديرها منظمة الأمم المتحدة، والتمويل الموجه إلى المنظمات غير الحكومية أو المنظمات غير الحكومية الدولية. ويمكن أن يتم التمويل الخاص أيضاً عبر الاستثمارات وتحويلات العاملين في بلدان المهجر والقروض المصرفية الخاصة والصناديق الائتمانية متعددة الأطراف، وفي بعض الحالات عبر خطط التمويل الصغرى، لذلك فإن عدم وجود الأموال العامة وضعف القدرات الاستخراجية للدولة يجعل اللجوء إلى مصادر التمويل الخاصة أمراً حتمياً.

ولا تقتصر تحديات التمويل على تأمينه من مصادر مختلفة أو ضمان استمرار المانحين في التزامهم على المدى الطويل بدعم تمويل إعادة الإعمار، بل أيضاً في التفاوض بشأن العلاقة بين التمويل وشروط الجهات المانحة. فقد أثرت ظاهرة الشروط على كثير من حالات إعادة الإعمار، وأفضت إلى سياسات غالباً ما كانت منفصلة عن الحقائق على الأرض وعن متطلبات إعادة البناء الخاصة بمرحلة ما بعد الصراع، وغالباً ما تقوم الشروط على مجموعة من الافتراضات التي تعكس رؤى الجهات المانحة وليس واقع مرحلة ما بعد الصراع، بما في ذلك الأفكار حول ما ينبغي أن تبدو عليه عملية إعادة الإعمار.

  • التسويات السياسية الهشة:

 واجهت جهود التسوية السياسية في عدد من دول المنطقة، فشلاً ذريعاً، فقد انهارت التسوية في اليمن التي كانت ترعاها الدول الخليجية، حيث لم يعد للمبادرة الخليجية وجود، مما أدى لانزلاق البلاد في أتون صراع مسلح، كما لا تزال تواجه تجربة التسوية الليبية، حتى بعد إعلان حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، العديد من التحديات التي يمكن أن تؤدي إلى فشلها، يأتي في مقدمتها رفض بعض الميليشيات لها، وهو ما يجعلها أيضاً تتسم بقدر من الهشاشة، ولاسيما مع ما تتمتع به القبائل الرافضة لها بقوة على الأرض، وهو ما يفرز قدراً كبيراً من عدم اليقين لدى الأطراف الدولية والإقليمية، مما يجعلها تحجم عن المشاركة في أية عملية إعادة الإعمار على الأقل في الأمد القصير.

ويتضح مما سبق، أن خبرة السنوات التي أعقبت موجات الثورات العربية، قد أثبتت بالفعل أن غالبية التسويات السياسية التي تتم بين الأطراف والفرقاء المتصارعة في غالبية دول المنطقة، تتسم بقدر كبير من الهشاشة، وافتقار التكامل، مما يجعلها أكثر عرضه للانهيار في أي لحظة، وهو ما يعد بيئة غير مناسبة، فضلاً عن خطرها في استيعاب أي عملية إعادة إعمار جادة، نظراً لإمكانية حدوث ارتداد سريع لحالة الصراع([50]).

  • غياب الخبرات التاريخية الناجحة في إعادة الإعمار:

 لم تشهد المنطقة العربية، نموذجاً واحداً ناجحاً يمكن الاحتذاء به أو محاكاته فيما يخص تجارب وعمليات إعادة الإعمار، بل على العكس من ذلك، فكافة التجارب التاريخية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الهدف المرجو منها، خاصة الحالة الأبرز وهي العراق بعد الغزو الأمريكي لها عام 2003، فقد واجهت تجربة إعادة الإعمار فيها العديد من التحديات، ومنها إهدار قرابة مائة مليار دولار نتيجة الفساد والعمولات والبيروقراطية والخصومات الداخلية.

رابعاً: سياسات إعادة إعمار الدول المنهارة

يقصد بعملية إعادة بناء الدولة إدخال تحولات جذرية على بنية مؤسسات الدولة حتى تتمكن من أداء وظائفها الأمنية، والاجتماعية، والسياسية بكفاءة تستند إلى الشرعية والرضا المجتمعي، أو هي تأسيس وتقوية الهياكل والأبنية العامة داخل إقليم ما، بشكل يمكن هذه الأبنية من توفير السلع العامة، وبناء سلطة ذات سيادة تتمتع بالحق في احتكار الاستخدام المشروع للقوة المادية، وتعبر عن السلطة الجماعية بدون الحاجة لاستخدام الإكراه([51])، كما تعرف أيضاً بأنها العملية التي بموجبها يتم بناء مؤسسات حكومية فاعلة وشرعية بهدف خلق الظروف الملائمة لتحقيق سلام مستقر ودائم، أو هي استخدام القوة المسلحة عقب مرحلة من الصراع أو الحرب بهدف بناء سلام مستقر ونظام ديمقراطي مستديم([52]).

وتهدف عملية إعادة الإعمار إلى تلبية مجموعة من الاحتياجات والجهود والأهداف التي تندرج تحت بند الاستقرار أو إعادة الإعمار، وينبغي أن تخدم هذه الأهداف الرئيسية إعادة توطين النازحين وتسهيل التنمية الشاملة الموجهة محلياً التي تساعد على إرساء الشرعية السياسية، ومن ثم فهي أيضاً محاولة لتنشيط المجتمعات المحلية من خلال توفير الخدمات الأساسية بما في ذلك الرعاية الصحية والمياه والطاقة والصرف الصحي، وإعادة تأهيل وإعادة بناء الوحدات السكنية، وكذلك الحصول على التعليم وتوفير فرص العمل على المدى القصير، واستعادة حرية التنقل والتجارة([53]).

وتشمل عمليات إعادة الإعمار أنشطة متعددة، بداية من رفع أثار الصراعات، وأنشطة إعادة بناء ما دمرته الحرب على مستوى البنى الأساسية والمرافق العامة والخدمات، فضلاً عن إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني لاستعادة الاتزان الاقتصادي وتفكيك اقتصاديات الصراعات الداخلية، والتصدي لشبكات الجريمة المنظمة، والتهريب، والتنظيمات الارهابية التي تسعى لاستمرار الصراع للحفاظ على مصالحها الاقتصادية.

ومع تعقد المشهد الإقليمي أصبح الحديث عن إعادة الإعمار في الدول المنهارة بالمنطقة، أمراً حتمياً بهدف الحفاظ على وحدتها وسلامتها الإقليمية، وهو ما يعد دافعاً حقيقياً للبحث عن أفضل الآليات والسياسات التي يمكن إتباعها في إعادة الإعمار، وهي ما يمكن أن تتغير من حالة لأخرى طبقاً لظروفها الخاصة، وأيضاً طبقاً لأهميتها بالنسبة للأطراف الدولية والإقليمية.

خلاصة القول أن فاعلية عمليات إعادة الإعمار تتوقف على عدة مشروطيات يتمثل أهمها في توافر النماذج المرجعية الناجحة لإعادة الإعمار الاسترشاد بالخبرات الدولية التي أعقبت الصراعات الدولية ومراعاة معايير الحكم الرشيد في تخصيص وإدارة الموارد المالية المخصصة لإعادة الإعمار وتحقيق التكامل بين الفواعل الداخلية والإقليمية والدولية والتوفيق بين مصالح مختلف الأطراف مع منح الأطراف الإقليمية ودول الجوار الجغرافي المباشر أدوار مركزية في المساعدة في عمليات إعادة الإعمار بالإضافة إلى التوفيق بين مصالح القوى الدولية وحشد الموارد المالية وتقديم المساعدات التقنية من جانب المنظمات الدولية للمساهمة في نجاح إعادة الإعمار.


([1]) د.داليا رشدي، “أبعاد ومتطلبات إعادة بناء الدولة بعد الصراعات”، ملحق اتجاهات نظرية، السياسة الدولية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 206، أكتوبر 2016، ص 11.

([2]) “إشكاليات معرقلة: تحديات إعادة الإعمار في بؤر الصراعات العربية”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 17 سبتمبر 2017.

([3]) “اليوم التالي في اليمن: استكشاف أبرز قضايا مرحلة ما بعد انتهاء الحرب وتحدياتها”، أوراق سياسات، مركز الإمارات للسياسات، 23 أكتوبر 2017. د. محمد كمال، “حسابات اليوم التالي”، المصري اليوم، 17 ابريل 2017.

([4]) د. محمد عبدالسلام، “نظرية الفراغ: التعامل مع المناطق الخالية من السيطرة في الشرق الأوسط، اتجاهات الأحداث، (أبوظبي: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة)، العدد 26، 2018، ص ص 6-7.

([5]) “إشكاليات عدة تعرقل الشروع في البناء وإعادة الإعمار في بؤر الصراعات العربية”، مقالة منشورة على الموقع الإلكتروني للإمارات اليوم، 12 ديسمبر 2014.

([6]) رضوان زيادة، “خرافة إعادة إعمار سوريا”، الحياة، 10 يوليو 2017.

([7]) فايربس بالونش، “الأسد بحاجة أيضاً إلى سوريا غير المقيدة”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 4 يناير 2017.

([8]) إبراهيم الغيطاني، محمود بيومي، محمد عبدالله يونس، ” البحث عن الاستقرار: الاتجاهات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط خلال عام 2014″، ملحق تقرير المستقبل، اتجاهات الأحداث، (أبوظبي: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة)، العدد 6، يناير 2015، ص ص 3-4.

([9]) “منظمة الهجرة: 2.3 مليون عراقي مازالوا نازحين”، الجزيرة نت، 9 مايو 2018.

([10]) “التكلفة الاقتصادية وثمن عدم الاستقرار في المنطقة”، الشرق، 10 يونيو 2015.

([11]) أبو بكر الدسوقي، “المصيدة الانتقالية: لماذا تتعثر الدول في فترات ما بعد الثورات العربية؟”، السياسة الدولية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 188، ابريل 2012.

([12]) ياسر الشيمي، “تحديات مصر في المرحلة الانتقالية الثانية”، مجموعة الأزمات الدولية، 30 يونيو 2012.Abdo, Doaa S., Zaazou, Zeinab D., “The Egyptian Revolution and The Post Socio-Economic Impact” ,(Topics in Middle Eastern and AfricanEconomies: Vol. 15, No. 1, May 2013.

([13]) د.بهجت قرني، “ما بعد سقوط رأس الحكم: تحديات المرحلة الانتقالية ومآلات الربيع العربي”، السياسة الدولية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 192، ابريل 2013، ص ص 36-40.

([14]) د.علي الدين هلال، “حال الأمة العربية 2015-2016: العرب وعام جديد من المخاطر”، المستقبل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، العدد 447، مايو 2016، ص ص 10-11.

([15]) أنظر: د.إدريس لكريني، “شروط الفاعلية: دور لجان المصالحة في معالجة الاستقطاب المجتمعي”، ملحق اتجاهات نظرية، السياسة الدولية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)،العدد 194، أكتوبر 2013، ص 24. عادل ماجد، “أصول المصالحة الوطنية”، الأهرام، 31 يوليو 2013.د.رضوان زيادة، “العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في العالم العربي”، ورقة مقدمة إلى المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 2006، ص 20.

([16])”National reconciliation in the Arab Springstates: lessons from Bugaria, Iraq, Morocco and South Africa” , Brookings Doha Center, 19 June 2013.

([17]) “إيران تريد إعمار الموصل لتوسيع نفوذ ميليشياتها”، ميدل إيست أونلاين، 16 يوليو 2017.

([18]) إبراهيم حميدي، “روسيا تقترح نموذج غروزني لإعمار سوريا ودول غربية تشترط الحل السياسي”، الشرق الأوسط، 14 سبتمبر 2017.

([19]) بينيديتا برتي، “هل إعادة الإعمار هي ساحة المعركة المقبلة في سوريا؟”، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، سبتمبر 2017.

([20]) د.مدحت نافع، إشكاليات إعادة الإعمار في ليبيا وسوريا ما بعد انتهاء الصراعات، السياسة الدولية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 213، يوليو 2018، ص 98.

([21]) “رجال أعمال جدد يتنافسون على إعادة الإعمار”، الشرق الأوسط، 16 أغسطس 2017.

([22]) لينا الخطيب، “الرابحون والخاسرون من إعادة إعمار سوريا”، الحياة، 12 أكتوبر 2017.

([23]) عبد الستار حتيتة، “انتهاء الحرب في بنغازي يفتح شهية رجال الأعمال لإعادة إعمارها”، الشرق الأوسط، 20 أغسطس 2017.

([24]) ستيفن هايدمان، “قواعد عملية إعادة الإعمار في سوريا”، بروكنجز الدوحة، 24 أغسطس 2017.

([25]) “إعادة إعمار سوريا: من أين سيأتي المال؟”، الجمهورية، 1 سبتمبر 2018.

([26]) “سوريا وروسيا توقعان اتفاقية للتعاون في مجالات الطاقة والثروة المعدنية”، اليوم السابع، 6 فبراير 2018.

([27]) نيل هاور، “للمنتصرين الأنقاض.. تحديات روسيا في إعادة إعمار سوريا”، 28 أغسطس 2017.

([28]) “انطلاق فعاليات المعرض الدولي للبناء والإنشاء ومؤتمر إعادة إعمار سوريا”، الرأي، 31 يوليو 2017.

([29]) “دور الصين في تشكيل مستقبل سوريا.. تحول جيواستراتيجي في الشرق الأوسط”، العالم بالعربية، 17 ديسمبر 2017.

([30]) “افتتاح معرض دمشق الدولي بعد خمس سنوات من الغياب”، وكالة الأنباء الروسية، 17 أغسطس 2017.

([31]) “العراق بحاجة إلى 14 مليار دولار لإعمار المناطق المحررة” ميدل إيست أونلاين، 26 سبتمبر 2016.

([32]) ميرزا الخويلدي، “30 مليار دولار حصيلة مؤتمر إعمار العراق”، الشرق الأوسط، 15 فبراير 2018.

([33]) “وزير الصناعة السوري: مهتمون بمشاركة الشركات الروسية بفعالية في ملف إعادة الإعمار”، وكالة الأنباء السورية، 25 ديسمبر 2017.

([34]) “لودريان يزور بغداد مع افتتاح مؤتمر إعمار العراق في الكويت”، ميدل إيست أونلاين، 12 فبراير 2018.

([35]) “إيران تتأهب لالتهام كعكعة الموصل وتوسيع نفوذ ميلشياتها”، العين الإخبارية، 16 يوليو 2017.

([36]) “هادي يفتح الأبواب أمام الصين للمشاركة في إعمار اليمن”، ميدل إيست أونلاين، 7 سبتمبر 2017.

([37]) “البنك الدولي يستعد لإعادة الإعمار في 4 دول عربية”، العربية نت، 9 أغسطس 2016.

([38]) “100 مليار دولار تكلفة إعادة إعمار مدن العراق المدمرة”، ميدل إيست أونلاين، 26 أغسطس 2017.

([39]) “100 مليار دولار فاتورة إعادة إعمار الموصل.. والمقاولون الرابح الأكبر”، المصري اليوم، 26 أغسطس 2017.

([40]) عدنان أبو زيد، “الخطة الإستراتيجية لإعمار الموصل أمام تحديات التنفيذ”، وكالة أنباء عراقيون، 26 يونيو 2017.

([41]) “البنك الدولي: ثلث مساكن سوريا ونصف مرافق التعليم والصحة مدمرة”، الشرق الأوسط، 11 يوليو 2017. “صراع الـ6 سنوات ينهش البنية التحتية في ليبيا”، الوطن، القاهرة، 26 ابريل 2017. “غوتيريش: الحرب في اليمن أسفرت عن تدمير البنية التحتية ونقص الغذاء”، اليمن الآن، 22 مايو 2018.

([42]) “400 مليار دولار كلفة الدمار في سوريا”، الشرق الأوسط، 10 أغسطس 2018.

([43]) “البنك الدولي: 200 مليار دولار لإعادة إعمار ليبيا”، العربية نت، 7 فبراير 2016.

([44]) مايكل نايتس، “نهاية البداية: إرساء الاستقرار في الموصل والأهداف الإستراتيجية الأمريكية المستقبلية في العراق”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 28 فبراير 2017. وانظر أيضاً: “الموصل تخلص من الجهاديين وتسقط في الخراب”، ميدل إيست أونلاين، 15 سبتمبر 2017.

([45]) أحمد يعقوب، “المصرفيون العرب: تريليون دولار تكلفة إعادة إعمار الدول العربية بسبب الحروب”، اليوم السابع، 12 مايو 2017.

([46]) لمزيد من التفصيل أنظر: سمية عبدالقادر شيخ محمود، “إشكالية بناء جيش وطني موحد في مجتمع منقسم طائفيا”، عمران، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 5/20، ربيع 2017، ص 8.”أزمة اليمن مصدرها الرئيسي جيش متعدد الولاءات”، العرب، لندن، 3 فبراير 2015.محمد برهومة، “إعادة بناء الجيش العراقي”، الغد الأردنية، 20 فبراير 2018.

([47]) د.محمد عبدالسلام، “الجيوش: لماذا يتم التركيز على القوات المسلحة في المنطقة العربية؟”، اتجاهات الأحداث، (أبوظبي: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة)، العدد 18، يونيو- أكتوبر 2016، ص ص 6-7.

([48]) “اليوم التالي: إشكاليات إعادة إعمار الدول المنهارة في الشرق الأوسط”، الندوة التي نظمتها وحدة التحولات الداخلية بالمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة RCSS في 11 إبريل 2016.

([49]) شاهيناز العقباوي، “صراع عالمي للفوز بكعكة إعادة إعمار دول الربيع العربي… 500 مليار دولار فاتورة بناء ليبيا وسوريا والعراق”، الأهرام العربي، 9 فبراير 2018.

([50]) محمد أبو الفضل، “الصراعات والعمل الإنساني والإعمار”، ميدل إيست أونلاين، 19 نوفمبر 2017.

([51])Armin Von Bogdandy et al., “State Building, Nation Building and Constitutional Politics in Post Conflict Situations: Conceptual Clarification and an Appraisal of Different  Approaches”, Max Planck Yearbook of nations law, vol. 9, 2005, p 583.

([52])James Dobbins et al., After the war: nation building from FRT to George W. Bush, (Santa Monica: RAND, 2008), p2.                                                                  

([53]) “إعادة إعمار سوريا”، مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط، 6 ديسمبر 2017.

اظهر المزيد

د. محمد عزالعرب

باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى