2022العدد 189ملف عربي

الدور الإماراتي: محاولات لتسكين الخلافات وتطويع الأزمات عبر تغليب المصالح

لا مراءَ أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد أصبحت تمثل قوة إقليمية ذات ثقل سياسي واقتصادي كبير، وتشير العديد من التطورات والتحركات إلى أن ثمة تحولات قد طرأت في الفترة الأخيرة على السياسة الخارجية الإماراتية والمتمثلة في تخليها عن سياسة التدخل المباشر في الصراعات العسكرية الإقليمية، بما في ذلك إعلانها عن تخفيض وإعادة نشر قواتها في اليمن، وسعيها إلى تبني سياسة بناء الجسور والعمل على تجاوز الخلافات وبدء المصالحات وإعادة رسم خريطة تحالفاتها الإقليمية مع التركيز على تحقيق المصالح الاقتصادية وتدفق الاستثمارات الخارجية إلى البلاد، وذلك بما يسهم في دعم وتعزيز الأمن الإقليمي، ويمكن فهم التطورات والمستجدات التي طرأت على السياسة الخارجية الإماراتية وذلك في ضوء استعراض وثيقة مبادئ الخمسين التي تم إصدارها بتاريخ 5 سبتمبر 2021.

قراءة في وثيقة مبادئ الخمسين:

تلخص وثيقة مبادئ الخمسين ما وجه به الشيخ “خليفة بن زايد آل نهيان” رئيس الدولة من توجهات جديدة لدولة الإمارات، إذ تنص الوثيقة على عشرة مبادئ أقرَّتها الدولة خلال الخمسين عامًا القادمة والتي تشكل مرجعًا لجميع مؤسساتها لتعزيز أركان الاتحاد وبناء اقتصاد مستدام.

وتتسم هذه المبادئ بالتكامل والشمولية والترابط، وتعكس جميعها روح الاتحاد وقيمه السامية والمتمثلة في قيم التسامح والتعايش السلمي، ومن ثم تعد وثيقة مبادئ الخمسين وثيقة نهضوية جديدة وخارطة طريق استراتيجية تحدد توجهات الإمارات للخمسين سنة المقبلة؛ لتحقيق الريادة في مختلف المجالات.

ويشير المبدأ الأول من المبادئ العشر الواردة في الوثيقة إلى أن الأولوية الرئيسة الكبرى ستبقى تقوية الاتحاد من مؤسسات وتشريعات وصلاحيات وميزانيات وتطوير كافة مناطق الدولة عمرانيًّا وتنمويًّا واقتصاديًّا. أما المبدأ الثاني، فيشير إلى أن التركيز بشكلٍ كامل خلال الفترة المقبلة سيكون على بناء الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم وأن التنمية الاقتصادية للدولة هي المصلحة الوطنية الأعلى. وقد تطرق المبدأ الثالث للسياسة الخارجية لدولة الإمارات باعتبار أنها أداة لخدمة الأهداف الوطنية العليا وعلى رأسها المصالح الاقتصادية. أما المبدأ الرابع، فيوضح أن المحرك الرئيس المستقبلي للنمو هو رأس المال البشري، وتطوير التعليم واستقطاب المواهب والحفاظ على أصحاب التخصصات والبناء المستمر للمهارات. ويعكس المبدأ الخامس أبرز أولويات السياسة الخارجية الإماراتية والمتمثلة في أن حُسن الجوار أساس للاستقرار وأن المحيط الجغرافي والشعبي والثقافي الذي تعيش ضمنه الدولة يعتبر خط الدفاع الأول عن أمنها وسلامتها مما يتطلب تطوير علاقات سياسية واقتصادية وشعبية مستقرة وإيجابية مع هذا المحيط. وبالنسبة للمبدأ السادس، فيتمثل في أن ترسيخ السمعة العالمية لدولة الإمارات هي مهمة وطنية للمؤسسات كافة. وفيما يتعلق بالمبدأ السابع، فيوضح أن التفوق الرقمي والتقني والعلمي لدولة الإمارات سيرسم حدودها التنموية والاقتصادية وترسيخها كعاصمة للمواهب والشركات والاستثمارات، ويعكس كل من المبدأ (الثامن والتاسع والعاشر) توجهات السياسة الخارجية الإماراتية الراهنة وما طرأ عليها من تغيرات، إذ يشير المبدأ الثامن إلى أن منظومة القيم في دولة الإمارات ستبقى قائمة على الانفتاح والتسامح وحفظ الحقوق وترسيخ دولة العدالة وحفظ الكرامة البشرية واحترام الثقافات وترسيخ الأخوة الإنسانية واحترام الهوية الوطنية. أما المبدأ التاسع، فيشير إلى أن المساعدات الإنسانية الخارجية لدولة الإمارات هي جزء لا يتجزأ من مسيرتها والتزاماتها الأخلاقية تجاه الشعوب الأقل حظًّا، وعدم ارتباط هذه المساعدات الإنسانية الخارجية بـ(دين أو عرق أو لون أو ثقافة)، وأن الاختلاف السياسي مع أي دولة لا يبرر عدم إغاثتها من الكوارث والطوارئ والأزمات. وبالنسبة للمبدأ العاشر، فيعكس أبرز ملامح السياسة الخارجية الإماراتية الجديدة والمتمثلة في الدعوة للسلم والسلام والمفاوضات والحوار لحل كافة الخلافات والسعي مع الشركاء الإقليميين والأصدقاء العالميين؛ لترسيخ السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي.

وفي إطار تفسير أسباب التغيير الذي طرأ على السياسة الخارجية الإمارتية يرى العديد من المراقبين السياسيين أن من بين هذه الأسباب، هو شعور صانعي القرار في الإمارات بالاطمئنان في ضوء انحسار تأثير الإخوان المسلمين ومن ثم قناعتهم بعدم جدوى الحل العسكري، ومن بين الأسباب أيضًا، تراجع الولايات المتحدة عن التدخل في مشكلات المنطقة العربية وعزوفها عن الانخراط فيها- لاسيما بعد انسحابها من أفغانستان واستئنافها الحوار مع إيران حول برنامجها النووي. ومن بين العوامل التي دفعت أبو ظبي إلى التخلي عن الحل العسكري وتبني سياسة الحوار لحل الخلافات هو قناعتها بأن التدخل في الصراعات العسكرية الإقليمية خاصة في كل من (اليمن وليبيا) كانت له تكلفة باهظة على اقتصادها.

المصالحة الخليجية وإنهاء الأزمة مع دولة قطر:

بعد قرابة أربعة أعوام من القطيعة مع قطر، شاركت الإمارات في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية التاريخية في دورتها الواحدة والأربعين، والتي عُقدت بتاريخ 5 يناير 2021 بمدينة العُلا شمال غرب السعودية، واستهدفت إنهاء الأزمة الخليجية(*) وتحقيق المصالحة مع قطر، وقد وقع المشاركون في القمة على البيان الختامي الصادر عنها فيما سُمي “بيان العُلا”، والذي عكس في مجمله اعتزام الدول المشاركة تجاوز الأزمة وبدء صفحة جديدة في سبيل تحقيق أمن واستقرار المنطقة وشعوبها وتغليب مصالحها العليا بما يرسخ مبادئ حُسن الجوار، وقد أكدت مخرجات القمة طيًّا كاملًا لنقاط الخلاف مع قطر، ومن ثم عودة كاملة للعلاقات الدبلوماسية بين كل من (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) من جهة، وقطر من جهة أخرى.

وفي أعقاب انتهاء قمة العُلا شرعت أبو ظبي في تنفيذ الالتزامات المتبادلة الواردة في بيان العُلا حيث اتخذت خطوات عملية تبدي من خلالها حُسن نواياها تجاه تنفيذ ما أتفق عليه خلال القمة، حيث أعلنت عن إعادة فتح حدودها والمنافذ البرية والبحرية والجوية مع قطر، ومن ثم رفع الحظر الجوي الذي كان مفروضًا على الرحلات القطرية.

وتأكيدًا لعزمها على طي صفحة الخلاف مع قطر والعمل على بناء جسور التعاون مع دول الجوار الجغرافي، استقبل الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني” أمير دولة قطر بتاريخ 26 أغسطس 2021 وفدًا إماراتيًّا برئاسة الشيخ “طحنون بن زايد آل نهيان” مستشار الأمن الوطني بدولة الإمارات، وتم خلال هذه الزيارة بحث العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون بين البلدين خاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية والمشاريع الاستثمارية الحيوية التي تخدم عملية البناء والتنمية وتحقق المصالح المشتركة للبلدين.

إعادة الزخم إلى العلاقات الإماراتية-التركية:

بعد سنوات من التنافس الإقليمي والتصريحات العدائية بين تركيا والإمارات وتبادل الاتهامات بالتدخل وممارسة النفوذ شهدت العلاقات الإماراتية التركية خلال الآونة الأخيرة عدة تطورات إيجابية، ففي إطار دبلوماسية تسكين الخلافات التي تبنتها الإمارات مؤخرًا من خلال العمل على بناء علاقات متوازنة مع الأطراف الإقليمية، شهدت الفترة الأخيرة عددًا من الاتصالات واللقاءات بين مسؤولي البلدين، ففي 30 أغسطس 2021 جرى اتصال هاتفي بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” والشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، وذلك بعد نحو أسبوعين من استقبال الرئيس التركي وفدًا إماراتيًّا برئاسة الشيخ “طحنون بن زايد آل نهيان” مستشار الأمن الوطني بالإمارات، وخلال الاتصال الهاتفي بحث الجانبان العلاقات الثنائية وسُبل تعزيزها، مع إعطاء الأولوية لمجالات التجارة والاستثمار.

وفي 18 أكتوبر 2021 استقبل “صقر غباش” رئيس المجلس الوطني الاتحادي الإماراتي بمقر المجلس بأبوظبي “توغاي تونشير” سفير تركيا لدى الإمارات،  وقد تم خلال اللقاء التأكيد على أهمية تطوير العلاقات البرلمانية مع البرلمان التركي، كما تم التأكيد على أهمية بلورة رؤى مشتركة فيما يتعلق بالعديد من القضايا الإقليمية والدولية بما في ذلك تحديات الأمن والاستقرار في المنطقة.

كما شهدت الفترة الأخيرة سلسلة اجتماعات؛ لتعزيز التعاون الاقتصادي التركي-الإماراتي، لعل أبرزها لقاء الدكتور “ثاني بن أحمد الزيودي” وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية بوفد تجاري تركي خلال شهر أكتوبر 2021، وذلك على هامش فعاليات معرض “إكسبو 2020 دبي”، والذي تشارك فيه تركيا، وقد بحث الجانبان خلال هذا اللقاء خطط تنويع الفرص الاقتصادية والتحديات الاقتصادية وسبل معالجتها، بالإضافة إلى خطوات تنمية التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين(*).

وفي إطار تنفيذ المبدأ التاسع من مبادئ “وثيقة الخمسين”، والذي أكد على أن المساعدات الإنسانية الخارجية لدولة الإمارات هي جزء لا يتجزأ من مسيرتها والتزاماتها الأخلاقية أعلنت الإمارات في 3 نوفمبر 2021 عن تقديم 36.7 مليون درهم (10 ملايين دولار أمريكي)؛ للمساهمة في دعم مراحل إعادة التأهيل لبعض المناطق في شمال تركيا التي تضررت من الفيضانات، ومناطق أخرى في جنوب غربها تعرضت لحرائق الغابات، وقد أعربت دولة الإمارات في هذا الصدد عن تضامنها مع الشعب التركي في هذه الظروف الاستثنائية، مؤكدة حرصها على المساهمة في توفير الدعم المناسب للتخفيف من حدة التداعيات الإنسانية والأضرار الناجمة عن الفيضانات وحرائق الغابات.

وفي تطور يُعد الأبرز سياسيًّا على طريق إعادة الزخم للعلاقات التركية-الإماراتية، قام الشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة _بزيارة رسمية إلى أنقرة في 24 نوفمبر 2021، وذلك بهدف بحث سُبل تعزيز التعاون والعمل المشترك بين البلدين في مختلف المجالات، وبما يسهم في دعم أمن واستقرار المنطقة، وقد مثلت هذه الزيارة نقلة نوعية هامة في مسار العلاقات بين البلدين على مختلف الأصعدة والانطلاق نحو مرحلة جديدة من الشراكة، وجدير بالذكر أن هذه الزيارة قد شهدت توقيع 12 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين البلدين في مختلف المجالات (المالية والمصرفية والبيئة والطاقة والصحة)، كما أعلنت دولة الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة (10) مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا.

وفي سياق التحسن الذي طرأ على العلاقات الإمارتية التركية وفي أول زيارة له إلى دولة الإمارات منذ عقد من الزمان وصل الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في 14 فبراير 2022 إلى العاصمة أبو ظبي يرافقه وفد وزاري، وذلك بهدف تعزيز التقارب السياسي والاقتصادي بين البلدين، وقد شكلت هذه الزيارة خطوة هامة على طريق تعزيز الشراكة الاستراتيجية المتنامية بين البلدين إلى جانب أهميتها على صعيد الجهود المبذولة لحلحلة العديد من الأزمات في المنطقة، وقد وقع الجانبان خلال هذه الزيارة 13 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات الصناعات الدفاعية والصحة وتغير المناخ والصناعة والتكنولوجيا والثقافة والزراعة والتجارة والاقتصاد والنقل البري والبحري والشباب وإدارة الكوارث والإعلام والاتصال .     

التقارب الإماراتي-الإيراني:

بعد سنوات من الجفاء والنظر إلى المساعي الإيرانية للهيمنة على المنطقة على أنها أبرز العوامل التي تهدد أمنها القومي، سعت أبو ظبي في الآونة الأخيرة إلى اتخاذ خطوات جادة لتهدئة التوتر مع طهران. وفي هذا الإطار كان المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي “أنور قرقاش” قد أعلن أمام ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي أن بلاده ما زالت تشعر بقلق عميق من سلوك إيران في اليمن، وعلى الرغم من ذلك فهي تعمل على التهدئة التي تأتي في إطار خيار سياسي مؤيد للدبلوماسية وتجنب المواجهة، وأضاف “قرقاش” أن أبو ظبي ترى أنه لا مصلحة لها في المواجهة التي ستدفع ثمنها المنطقة كلها على مدى عقود قادمة.

وكان نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية “على باقري كني” قد زار أبو ظبي في 24 نوفمبر 2021، والتقى بالمستشار الرئاسي “أنور قرقاش” ومسؤولين إماراتيين آخرين في تطور أعتبره المراقبون السياسيون تمهيدًا لتحسن محتمل في العلاقات بين البلدين.

وتُعد زيارة مستشار الأمن القومي لدولة الإمارات “طحنون بن زايد” لطهران بتاريخ 6 ديسمبر 2021 الأولى من نوعها لمسؤول إماراتي رفيع المستوى إلى طهران منذ توتر العلاقات بين البلدين، وخلال الزيارة التقى المسؤول الإماراتي بعدد من المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن الإيراني “على شمخاني”، وقد جاءت هذه الزيارة من منطلق حرص أبو ظبي على مد جسور التعاون مع دول الجوار الجغرافي ومن بينها إيران ومساعيها إلى تبني الحلول السلمية والحوار وخطوات إعادة بناء الثقة لمواجهة التحديات الإقليمية وبما يسهم في حلحلة الأزمات بالمنطقة.

وقد كشفت هذه الزيارة عن جدية واضحة من قبل طهران لتحقيق الاستقرار والتعاون المشترك مع دول المنطقة، فمن جانبه رحب الرئيس الإيراني بالتحسن الذي طرأ على العلاقات مع دولة الإمارات خاصة في ظل الدعوة التي وجهها مستشار الأمن الوطني الإماراتي إليه لزيارة بلاده.

وفي إطار تحليل أسباب التغيير الجذري والملموس الذي طرأ على العلاقات الإماراتية-الإيرانية من خلال توجه أبوظبي نحو علاقة أكثر برجماتية مع طهران، أصدر “مركز ستراتفور” الأمريكي-وهو مركز معني بالدراسات الاستراتيجية والأمنية- مؤخرًا تقريرًا استراتيجيًّا بعنوان “لقاء نادر بين الإمارات وإيران يزيد من آمال تهدئة التوترات الخليجية” أشار فيه إلى إمكانية فهم التحول الجذري الذي طرأ على السياسة الخارجية الإماراتية تجاه طهران في إطار مساعي أبوظبي نحو تحسين علاقاتها بدول الجوار الجغرافي بما في ذلك قطر وتركيا وأيضًا إيران، وذلك انطلاقًا من قناعتها بأهمية وجود حوار دبلوماسي مع هذه الدول الفاعلة في المنطقة، مما يعزز من قدرات أبوظبي على التأثير على العديد من القضايا الملحة في المنطقة وحلحلة الأزمات ومن ثم دعم مصالحها السياسية والاقتصادية.

كما يلفت التقرير الاستراتيجي أيضًا إلى أن وجود حوار دبلوماسي إيراني-إماراتي يقلل من مخاطر استهداف الإمارات من قبل طهران حال حدوث صراع إقليمي أوسع نطاقًا، خاصة في ظل تزايد احتمالات الاستهداف الإيراني للإمارات بعد إبرام الأخيرة اتفاقات تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومن المرجح أيضًا أن يؤدي هذا الحوار الدبلوماسي إلى تعزيز قدرات أبو ظبي على التأثير على طهران فيما يتعلق بملفها النووي.

ويشير التقرير الاستراتيجي أيضًا إلى أن العلاقات الإيرانية-الإماراتية قد شهدت صفحة جديدة؛ نظرًا لأن سياسة الإدارة الأمريكية الراهنة برئاسة “جو بايدن” والمتمثلة في الانسحاب من أفغانستان وما يشير إليه ذلك من عزوف الإدارة الأمريكية عن الانخراط في أزمات المنطقة قد أدت إلى خلق فراغ سياسي فيها لا يمكن أن يُسد إلا بطريقتين: إما التفاهم والحوار بين دول المنطقة، أو التنافس والتصادم فيما بينها، ولعل التقارب الإماراتي الإيراني الراهن دليل على أن هذه الدول راغبة في الحوار، وأخيرًا يؤكد التقرير أن هذا التقارب يصب أيضًا في مصلحة الجانبين على الصعيد الاقتصادي- علمًا بأن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد وصل إلى 15 مليار دولار سنويًّا.

تعزيز المصالح الاقتصادية والأمنية مع إسرائيل:

تُعد دولة الإمارات العربية المتحدة الأولى خليجيًّا التي بدأت رسميًّا عملية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في إطار اتفاقية السلام التي تم توقيعها بين البلدين في 15 سبتمبر 2020، ولا يُنظر لهذه الاتفاقية باعتبارها تؤسس لعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل فحسب، بل أيضًا على أنها اتفاقية استراتيجية شاملة بين البلدين. ومما لا شك فيه أن هذه الاتفاقية قد ساعدت دولة الإمارات على تحقيق مصالحها الوطنية خاصة فيما يتعلق بالحصول على الأسلحة الأكثر تطورًا، ومما يدلل على ذلك حصولها مؤخرًا على صفقة تسليحية ضخمة من الولايات المتحدة بلغت قيمتها 23.37 مليار دولار، وتعد هذه الصفقة هي الأكبر بين الصفقات التسليحية لدولة الإمارات مع الولايات المتحدة؛ إذ حصلت بموجبها أبو ظبي على (50 طائرة من طراز إف-35 المتطورة، و18 طائرة حربية مسيرة، وصواريخ جو-جو، وأخرى جو-أرض)، وكانت الإدارة الأمريكية برئاسة “جو بايدن” قد أعلنت موافقتها على الصفقة بعد تمكنها من تجاوز محاولات نواب في الكونجرس الأمريكي إعاقة تمريرها بسبب دور الإمارات في الحرب اليمنية، وبذلك تكون دولة الإمارات قد ظفرت بصفقة تسليحية ستضعها في مقدمة الدول الكبرى إقليميًّا من حيث نوعية السلاح.

وفي إطار مساعي المسؤولين الإماراتيين والإسرائيليين لتوطيد علاقاتهما الاقتصادية الثنائية وقعت الدولتان ما لا يقل عن ستين مذكرة تفاهم واتفاق تعاون في مجالات مختلفة مثل (التجارة والبحث والتطوير والأمن السيبراني والصحة والتعليم والطيران …وغيرها). كما أعلن البلدان عن خطط لإنشاء صندوق استثمار ثنائي في مجال المناخ، إلى جانب بدء المباحثات الثنائية بشأن إنشاء صندوق إماراتي بقيمة 10 مليار دولار للاستثمار في مجال التكنولوجيا الإسرائيلية ومجالات أخرى.

وجدير بالذكر أنه خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت” إلى الإمارات في 13 ديسمبر 2021 – والتي تُعد الأولى من نوعها لمسؤول إسرائيلي على هذا المستوى- التقى بولي عهد أبو ظبي الشيخ “محمد بن زايد”، وقد تمحور اللقاء حول تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين بما في ذلك زيادة حجم التبادل التجاري بينهما(*)، خاصة في ظل دراسة الجانبين لإمكانية توقيع اتفاقية تجارة حرة في عام 2022.

وقد أظهرت زيارة “بينيت” للإمارات المساعي الحثيثة التي تبذلها أبو ظبي للموازنة بين علاقاتها مع إسرائيل وخفض التصعيد في المنطقة، حيث تجنب المسؤولان (الإماراتي والإسرائيلي) التطرق إلى الملف النووي الإيراني؛ حيث لم يشر البيان المشترك والذي أصدرته وكالة أنباء الإمارات إلى إيران. كما تجنب الجانبان أيضًا مناقشة القضية الفلسطينية؛ حيث تم التركيز على تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما، على أن تتم مناقشة القضية الفلسطينية في اجتماعات مقبلة.

وفي زيارته الرسمية الأولى للإمارات في أواخر يناير 2022 أكد الرئيس الإسرائيلي “إسحق هيرتسوغ” أن بلاده تدعم الاحتياجات الأمنية لدولة الإمارات وتسعى إلى إقامة علاقات أقوى مع دول المنطقة، وقد جاءت زيارة الرئيس الإسرائيلي للإمارات ولقاؤه بالمسؤولين الإماراتيين وعلى رأسهم الشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” ولي عهد حاكم أبو ظبي في وقت يشهد تصاعدًا للتوتر في المنطقة، وذلك في ظل تعرض الإمارات لهجومين بالصواريخ وطائرات مسيرة خلال شهر يناير من قبل المتمردين الحوثيين في اليمن. وخلال هذه الزيارة بحث الجانبان العلاقات الثنائية والقضايا الأمنية بما في ذلك رؤيتهما المشتركة للتهديدات للاستقرار والسلام الإقليميين، وبصفة خاصة تلك التهديدات التي تمثلها “الميليشيات والقوى الإرهابية”.

رؤيــة مستقبليــة:

لا شك أن التحولات التي طرأت مؤخرًا على السياسة الخارجية الإماراتية من خلال مساعيها لنزع فتيل التوترات في المنطقة وتجاوز الخلافات السياسية والتركيز على دعم العلاقات الاقتصادية _سوف يسهم في تعزيز دورها الإقليمي وصياغة تفاهمات استراتيجية مع الأطراف الإقليمية، وذلك بما يمهد لتحالفات إقليمية جديدة في المنطقة. كما أن حصولها على الصفقة التسليحية الأخيرة من الولايات المتحدة سوف يُعزز من تفوقها التسليحي وسوف يضعها في مقدمة الدول الكبرى إقليميًّا.

وفي هذا الإطار يشير المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (German Institute for International & Security Affairs) إلى “أن الإمارات مهتمة بشكلٍ كبير بالسيطرة على الطرق البحرية من خليج عدن إلى البحر الأحمر، وأنها قد سيطرت بالفعل على عدة موانئ وجزر يمنية منذ عام 2015، كما أنشأت قواعد في إريتريا وأرض الصومال، مما ساهم في تعزيز موقعها كقوة إقليمية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي”. ويرى المعهد الألماني أيضًا “أن الإمارات لم تعد لاعبًا ثانويًّا في الشرق الأوسط، بل أضحت تتمتع بنفوذ إقليمي يتخطى حدودها بمسافات بعيدة”. وعليه فمن المرجح أن تسعى أبو ظبي إلى توظيف ثقلها الإقليمي بما يمكنها من أن تكون طرفًا في أي محادثات دولية تتناول الملف النووي الإيراني، خصوصًا وأنها لديها مخاوف عدة – شأنها في ذلك شأن بقية دول مجلس التعاون الخليجي- حول توسع نفوذ إيران في المنطقة ومنظومتها الباليستية وطموحها النووي.

ومن ناحية أخرى، يرى بعض المراقبين السياسيين أنه من المستبعد أن يكون للإمارات أي دور في التأثير على إيران في موضوع المباحثات النووية خاصة في ظل رفض طهران أن تكون إحدى دول مجلس التعاون الخليجي طرفًا في أي محادثات دولية تتناول الملف النووي الإيراني، بالإضافة إلى كون مفاوضات فيينا صعبة ومعقدة وتتطلب ضغوطًا على مستويات دولية.


(*) كانت كل من السعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر قد أعلنت في يونيو 2017 قطع العلاقات مع قطر وإغلاق مجالاتها الجوية وحدودها البحرية والبرية، ووقف المعاملات التجارية مع الدوحة. وقد قامت الدول الأربعة باتخاذ هذه الإجراءات استنادًا إلى اتهامها للدوحة بزعزعة استقرار المنطقة والتقرب من إيران ودعم تيارات الإسلام السياسي، وهو الأمر الذي نفته الدوحة جملة وتفصيلًا.

(*) سجل التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين نموًا بنحو 21% خلال عام 2020، حيث بلغ نحو 8.9 مليار دولار، وذلك مقارنة مع عام 2019، والذي بلغ خلاله حجم التبادل التجاري نحو 7.3 مليار دولار.

(*) جدير بالذكر أن البلدين قد عززا قيمة التبادل التجاري بينهما بواقع عشرة أضعاف خلال الأشهر العشر الأولى فقط من عام 2021؛ لتصل إلى ما يقرب من 900 مليون دولار.

اظهر المزيد

سامية بيبرس

وزير مفوض- الامانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى