منذ بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أعاقت الحرب في أوكرانيا المفاوضات المتعلقة بإحياء الاتفاق النووي الإيراني (المعروف أيضًا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة)، وحلول 4 مارس، بعد ما يقرب من 11 شهرًا من المحادثات، كانت المفاوضات في فيينا بين إيران و(ممثلي روسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا)، الولايات المتحدة لا تشارك بشكلٍ مباشر في المحادثات _تحقق تقدمًا كبيرًا، على الرغم من بعض القضايا ظلت دون حل، لكن بعد فترة من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، دعت روسيا إلى التزام وضمان أمريكي أقوى بالاتفاق، بالإضافة إلى ذلك، طالب الروس بضمانات بأن العقوبات المتعلقة بالصراع في أوكرانيا لن تؤثر على التجارة بين موسكو وطهران.
لم تكن دعوة روسيا في اللحظة الأخيرة للحصول على ضمان مكتوب من جانب الولايات المتحدة هي ما أدت إلى وصول محادثات فيينا إلى طريق مسدود، فقد كان هناك أيضًا الشرط الإيراني المرتبط بإزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية وهو ما رفضته إدارة جو بايدن. ومع ذلك لاتزال تداعيات الحرب في أوكرانيا المستمرة للآن تلقي بظلالها على الدور الإيراني في المنطقة وهو ما تجلَّى في عدد من المؤشرات منها التحركات الإسرائيلية الإقليمية، وتزايد احتمالات الاعتماد على النفط الإيراني كبديل للنفط الروسي في السوق الأوروبية، محاولة إيران ترسيخ وضعها في سوريا مستغلة اهتمام روسيا بالحرب في أوكرانيا، استمرار إيران في تصعيد الاستفزازات الإقليمية وآخرها الكشف عن قاعدة للطائرات المسيَّرة.
وفى هذا المقال سنتناول إلى أي مدى أثرت الحرب في أوكرانيا على الملف النووي الإيراني، وما هي الفرص المحتمل أن توفرها الحرب لإيران، ومن ثم تدفعها إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق مع واشنطن.
أولًا: الموقف الإيراني من الحرب في أوكرانيا- الدروس المستفادة:
عبر المرشد الإيراني “علي خامنئي” عن موقفه من الأزمة الأوكرانية قائلًا: “إن إيران ترغب في إنهاء الحرب في أوكرانيا لكنها تعتقد أن جذور الأزمة ترجع إلى سياسات الولايات المتحدة والدول الغربية، والتدخل في شؤون الدول الأخرى من خلال فرض تغييرات في النظام وتنصيب سياسيين موالين للغرب”، مؤكدًا: “أنه يجب تعلم درسين من الأزمة الأوكرانية من قبل الحكومات والشعوب في جميع أنحاء العالم: أنه لا يمكن الوثوق بالغرب، وأن الدعم الشعبي له أهمية قصوى”. كما استغل خامنئي الفرصة للتنديد بعلاقات بعض الدول بالولايات المتحدة، معتبرًا أن دعم الحكومات الغربية للأنظمة والسياسيين الذين تم تنصيبهم من هذه الحكومات هو سراب، مستشهدًا بالانسحاب الأمريكي للقوات من أفغانستان عندما سقطت في أيدي طالبان كمثال.
كما قال وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان”: “إن سبب الأزمة الأوكرانية هو استفزازات الناتو في الفناء الخلفي لروسيا”.
كما قال نائب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء “عزيز ناصر زاده”: “الدرس الرئيس من حرب أوكرانيا هو أنه لا يمكنك أن تغمض عينيك عن أهمية عنصر الردع، وتتحدث عن الحد من قوتك الصاروخية (العسكرية)”، كما أدلى العديد من المسؤولين في إيران بتعليقات مماثلة، مؤيدة للرواية القائلة:” بأن الحرب هي مصير أي دولة تتخلى عن قدراتها الرادعة للخصوم، وتعتمد على ضمانات أمنية من قوى أجنبية”. مشيرين دائمًا إلى مذكرة بودابست لعام 1994، التي نقلت فيها أوكرانيا الصواريخ الإستراتيجية السوفيتية السابقة والأسلحة النووية إلى روسيا مقابل ضمانات أمنية.
ما نستنتجه هنا أن إيران لن تتخلى عن مخزونها من الصواريخ الباليستية أو قدراتها النووية، حتى تظل محتفظة بقدرتها على الردع، ومن ثم تزداد قناعة الحرس الثوري الإيراني والنظام الإيراني بأن الاعتماد على جعل الصواريخ ركيزة إستراتيجية للردع، أهم نقاط إستراتيجية الردع الإيرانية لحماية أمنها.
دوافع إيران لإحياء الاتفاق النووي:
إن التحدي الذي تواجهه إيران هو أنها تدرك أن برنامجها النووي قد اخترق بالكامل من قبل المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، وهو ما أوضحته عدد من الهجمات التي نفذتها إسرائيل داخل إيران ولم تعد المواجهة معها تقتصر على تدمير أهداف إيرانية في داخل الميدان السوري فقط، فقد كان لديهم العديد من المنشآت السرية على مر السنين إما تم تخريبها أو الكشف عنها علنًا، ومن ثم فإنه في ظل الإصرار الإسرائيلي على تعطيل القدرات النووية الإيرانية فإنه سيتعين على إيران العمل على إتمام الاتفاق النووي من أجل وقف المساعي الإسرائيلية لتدمير المنشآت النووية من جهة، ولعوائد رفع العقوبات الأمريكية من جهة أخرى لاسيما في ظل استمرار الصراع بين روسيا والغرب.
لقد زادت أهمية إيران كمنتج للنفط من تعقيد السياسات المتعلقة بالدفع لإعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث أدت العقوبات التي يقودها الغرب على روسيا؛ بسبب الحرب في أوكرانيا، إلى ارتفاع أسعار النفط الخام. وفى ظل مناقشة بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي، فرض حظر نفطي على روسيا، فإن هذا يضغط على الدول الأوروبية للبحث عن مصادر بديلة، ومن ثم إيران هي أحد الخيارات.
حيث إن عودة النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية من شأنه أن يخفف من أزمة الإمدادات الدولية، وينقذ سوق الطاقة الأوروبي، كما يمكن لإيران أن تجني كثيرًا من عوائد بيع النفط، ومن ثم فإن التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي مع الغرب ورفع العقوبات الأمريكية ودخول إيران كمصدر بديل للطاقة لأوروبا، التي تريد احتواء النفوذ الروسي في أسواق النفط والغاز وإضعاف مواقعها الاقتصادية في أوروبا، كلها محفزات لدفع إيران لإيجاد منفعة في إحياء الاتفاق مع واشنطن.
وبناء على ذلك، ونتيجة لرغبة إيران في زيادة إنتاج ومبيعات النفط في السوق العالمي، يبدو أنها ستعمل على إتمام الاتفاق مع واشنطن؛ لأن أسعار النفط المتزايدة قد تساهم بشكلٍ كبير في تعافي الاقتصاد الإيراني المتضرر من العقوبات، لا سيما وقد تراجعت صادرات النفط الخام- شريان الحياة الاقتصادي لإيران الغنية بالنفط- نتيجة للعقوبات الأمريكية، حيث أشارت التقديرات إلى أنها انخفضت من حوالي 2.8 مليون برميل يوميًّا في 2018 إلى 700000 برميل يوميًّا.
ثانيًا: تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية على إيران:
- الملف النووي الإيراني كورقة مساومة روسية:
بعد ما يقرب من عام من المفاوضات، كانت إيران والقوى الدولية على وشك الموافقة على استعادة الاتفاق النووي لعام 2015؛ حيث أجرت (إيران، وروسيا، والصين، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا)، مفاوضات في فيينا منذ أبريل 2021 ، تشارك فيها الولايات المتحدة بشكلٍ غير مباشر وذلك للعودة الأمريكية للاتفاق الذي انسحبت منه عام 2018 ، وردت طهران بتجاوز تدريجي للحدود التي فرضها الاتفاق على أنشطتها النووية، ومن ثم كانت سياسة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” للانضمام إلى الاتفاقية إذا عادت إيران إلى الامتثال الكامل.
ومنذ بدء الحرب على أوكرانيا ، كانت هناك مخاوف من أن تلك التطورات، لا سيما المواجهة المتصاعدة بين (روسيا، والغرب) قد تؤثر سلبًا على مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني. ثم جاء الموقف الروسي الذي أوضح الرغبة في استخدام الملف النووي الإيراني كورقة مساومة بين روسيا والغرب، وذلك من خلال مطالبة الولايات المتحدة بضمان ألا يكون للعقوبات المفروضة على موسكو- بسبب حرب أوكرانيا – أيُّ تأثير على الاتفاق مع إيران، وقد رفضت الولايات المتحدة على الفور طلب روسيا، حيث قال وزير الخارجية “أنطوني بلينكين”: “إن مثل هذه المطالب غير ذات صلة وأن العقوبات المفروضة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا لا علاقة لها بالاتفاق النووي الإيراني”. وفي غضون ذلك، حذرت القوى الغربية موسكو من إفساد الاتفاق شبه المكتمل لإعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال للاتفاق.
وقالت (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) في بيان مشترك للأمم المتحدة: “إن نافذة الفرصة تغلق، ندعو جميع الأطراف إلى اتخاذ القرارات اللازمة لإغلاق هذه الصفقة الآن، وندعو روسيا إلى عدم إضافة شروط غريبة إلى إبرامها”. وقد حذرت وزارة الخارجية الأمريكية من أنها لن تسمح لروسيا باستخدام الاتفاق كمنفذ هروب لتهرب من العقوبات المتعلقة بأوكرانيا، واكتفت بالقول إنها لن تعاقب مشاركة روسيا في مشاريع نووية في إيران بموجب اتفاق نووي متجدد. وقد رفع وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” الآمال بتلاشي المطلب الروسي كتحدي أمام محادثات فيينا في 15 مارس عندما قال إنه تلقى تعهد كتابي من الولايات المتحدة بأن العقوبات المفروضة على موسكو بسبب حرب أوكرانيا لن تؤثر على التجارة والتعاون مع إيران.
أما عن الموقف الإيراني من المطلب الروسي، فقد قال وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان”: “نريد إبرام اتفاق جيد ولن نسمح لأي عامل خارجي بالتأثير على المصالح الوطنية الإيرانية في محادثات فيينا”.
الموقف الإيراني كان معقدًا إزاء المطلب الروسي، والذي بدا كعقبة أمام محادثات فيينا التي كانت أوشكت على الانتهاء، فقد حاولت إيران على مدى عقود تصوير روسيا كحليف أو على الأقل شريك إستراتيجي، لا غنى عنه فيما يخص استيراد الأسلحة والصواريخ ومواجهة بعض السياسات الأمريكية في المنطقة. في غضون ذلك، مع استمرار تصعيد العمليات العسكرية الروسية، تتعرقل المصالح الإيرانية بسبب الغياب المستمر لاتفاق نووي.
ومن ثم تظهر موسكو وكأنها تحاول جعل محادثات خطة العمل الشاملة المشتركة رهينة لمصالحها، أو استخدامها كورقة مساومة للتوصل إلى اتفاق مع الغرب بشأن أوكرانيا.
- ملء الفراغ الروسي في سوريا:
مع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، تقوم طهران بعملية ملء الفراغ الذي خلفته موسكو في سوريا، فمثلما ملأت روسيا الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن إيران تملأ الفراغ الذي تتركه روسيا بالانسحاب من سوريا، وقد ينذر هذا بتدهور جوهري في الاستقرار الإقليمي، وقد عملت إيران لسنوات على تطهير سوريا عرقيًّا من الأغلبية السنية، وإعادة إسكان جنوب سوريا بالمقاتلين الأجانب وعائلاتهم من دول مثل: (أفغانستان، وباكستان). وخلال شهر مايو 2022، كما قام الرئيس السوري “بشار الأسد” بزيارة مفاجئة إلى طهران، حيث التقى بالمرشد الأعلى “آية الله علي خامنئي”، والرئيس “إبراهيم رئيسي”، وهي ثاني زيارة للأسد لإيران منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، وخلال الزيارة أشاد الأسد بسياسة طهران الخارجية الإقليمية، مشيرًا إلى أن إيران تسير في طريق صحيح وأن علاقة بلاده بإيران منعت الإسرائيليين من الهيمنة على الشرق الأوسط، وبعد يوم واحد من وصول الأسد إلى طهران، أكد وزير الخارجية “حسين أمير عبد اللهيان” أن “رسالة” الزيارة هي أن العلاقات الإيرانية السورية تظل ممتازة ولا تتزعزع.
تنبع هذه الزيارة في سياق التطورات الدولية والإقليمية الجارية ومنها: الحرب في أوكرانيا، وارتفاع وتيرة تطبيع العلاقات العربية مع الأسد، ومن ثم تأكيد استمرار اعتماد سوريا على إيران خاصة مع التغييرات في الموقف الروسي في سوريا الناتجة عن الحرب في سوريا؛ فقد نقل الروس بعض قواعدهم إلى فيلق القدس، وقد بدأت القوات المدعومة من إيران في استغلال الموقف الروسي المتراجع في شمال شرق سوريا، مما يعني زيادة توسع النفوذ الإيراني وتوطيده في سوريا وإعادة تشكيل دورها سياسيًّا وعسكريًّا ودبلوماسيًّا. إعادة التموضع الإيراني في سوريا في ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا من شأنه إحداث قلق لدى الجانب الإسرائيلي، الذي حافظ على علاقات وثيقة مع موسكو لرغبة إسرائيل في التأكد من أن دور روسيا في سوريا يحد من نفوذ إيران بها.
- العلاقات الإسرائيلية الإقليمية:
قامت إسرائيل بتنظيم اجتماع استضافت وزراء خارجية (إسرائيل، وواشنطن، والإمارات، ومصر، والبحرين) في سديه بوكير، كان الحرص الأمريكي على الحضور طمأنة الدول الحضور بأن الولايات المتحدة عازمة على التزامها بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وأن الاتفاق النووي الإيراني هو أفضل الخيارات المتاحة للقيام بذلك.
ربما حاول البعض داخل إسرائيل الترويج لكون الاجتماع بذور تشكيل نوع من الناتو في الشرق الأوسط لاحتواء إيران، لكن وفقًا لموقف إدارة بايدن المتراخي إزاء التباطؤ الإسرائيلي في عقد الاتفاق والتشدد إزاء المطالبة بإزالة الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، ومع الاستياء العربي والخليجي من عدم فرض قيود على برامج الصواريخ والطائرات -بدون طيار- الإيرانية، وغياب رد أمريكي على الهجمات المختلفة التي شنها وكلاء إيران -الحوثيون في اليمن- على الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية خلال الأشهر القليلة الماضية بما في ذلك، غارة على منشأة أرامكو السعودية في 25 مارس الماضي؛ لذا كان إجماع الآراء في هذا الاجتماع إلى توصيل رسالة لواشنطن بالاستياء من السياسات الأمريكية إزاء إيران، لكن من جهة أخرى عكس الوجود الأمريكي حاجة واشنطن لحلفائها الإقليميين من أجل زيادة إنتاج النفط لتعويض نقص النفط والغاز الروسي، وهو ما قابله عزوف من بعض الدول الخليجية الرافضة للتراخي الأمريكي إزاء إيران وتهديداتها للأمن الخليجي.
إجمالًا: يمكن القول أن الحرب في أوكرانيا تحمل فرصًا وتحديات لإيران، من جهة الفرص ستجعل إيران مصدرًا محتملًا للطاقة والغاز لسوق الطاقة الأوروبية، بينما التحديات التي تحملها تلك الحرب لإيران فتتمثل في أنها ستجعل إيران مصدرًا للطاقة لأوروبا بديلًا لروسيا وهو يخلق إشكالية مرتبطة في كون روسيا ركيزة أساسية في السياسة الخارجية الإيرانية القائمة على تعزيز الاتجاه شرقًا، والاعتماد على تعزيز العلاقات والتعاون مع كلٍ من (روسيا، الصين).