2022العدد 190ملف إقليمي

تركيا والأزمة الأوكرانية: الفرص والمخاطر

يكاد يجمع المراقبون على أن الأزمة الأوكرانية كانت نتيجة مباشرة لمحاولات حلف شمال الأطلسي التوسع شرقًا وضم أوكرانيا إلى عضويته بما يضمن المزيد من تطويق روسيا ومحاولة خنقها، الأمر الذي أدى إلى شن الأخيرة حربًا استباقية على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2012 ومطالبة موسكو بحياد أوكرانيا وبضمانات لعدم انضمامها لاحقًا إلى الحلف.

كما هناك إجماع على أن الحرب في أوكرانيا هي الأزمة الأخطر والأكثر تشعبًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام نظام القطبين خلال ما عُرف بالحرب الباردة، وعلى الرغم من أن الحرب العسكرية المباشرة تطال بلدين فقط هما (روسيا وأوكرانيا)، فإن تداعياتها طالت تقريبًا جميع الدول في العالم، كما أن تطوراتها ومجرياتها تفتح على تغييرات جذرية في طبيعة النظام العالمي والتأسيس لمرحلة ما بعد التفرد الأمريكي في قيادة العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية في العام 1990.

ومن الدول الأكثر تأثرًا بتداعيات الحرب الأوكرانية تركيا التي تجاور جغرافيًّا عبر البحر الأسود كلًا من طرفي النزاع (روسيا وأوكرانيا)، كما تترك الحرب الأوكرانية أثرها على تركيا من جرَّاء العلاقات الجيدة اقتصاديًّا وسياسيًّا بين تركيا وكل من (روسيا وأوكرانيا) بحيث وضع نشوب الحرب بينهما تركيا في موقف حرج والانحياز لطرف دون آخر يعني بكل بساطة خسارة الطرف الآخر.

العلاقات الاقتصادية التركية مع روسيا وأوكرانيا:

يبلغ حجم التجارة بين تركيا وروسيا حوالي 35 مليار دولار سنويًّا  منها 28 مليارًا واردات تركية يذهب معظمها إلى شراء الطاقة؛ إذ تستورد تركيا من روسيا 34 في المئة تقريبًا من حاجتها إلى الغاز الطبيعي وحوالي العشرة في المئة من حاجتها للنفط، كذلك تستورد تركيا من روسيا حوالي 65 في المئة من حاجتها للقمح، ويأتي السواح الروس إلى تركيا في المرتبة الأولى وعددهم حوالي 5 ملايين سائح بمعدل خمسة مليار دولار سنويًّا، كذلك هناك استثمارات تركية في روسيا بقيمة 21 مليار دولار عبر 150 مشروعًا يتقدمهم الاستثمار في قطاع البناء الذي يبلغ 11 مليارًا أي حوالي ثلث حجم قطاع البناء التركي في الخارج، وللأتراك 655 محلًا للبيع في روسيا و267 محلًا في أوكرانيا، كما أن الروس هم الذين يبنون المفاعل النووي في “آق قويو” قرب مرسين ويزودون تركيا بصواريخ إس 400،  كما لهم خط نفط “الدفق التركي” من روسيا عبر البحر الأسود إلى غرب إسطنبول الذي يلحظ نقل الطاقة إلى أوروبا، كما تتعاون تركيا وروسيا في عدد كبير من القضايا الإقليمية مثل (القوقاز، وسوريا، وليبيا … وغيرها).

ولتركيا علاقات متطورة اقتصاديًّا وعسكريًّا مع أوكرانيا حيث حجم التجارة يقارب 7 مليار دولار بينها 2.6 مليار دولار صادرات تركية، كما يقصد تركيا للسياحة ثلاثة ملايين أوكراني  ينفقون حوالي ثلاثة مليار دولار، ولتركيا استثمارات في أوكرانيا بقيمة 5 مليارات دولار، وتستورد تركيا 15 في المئة من حاجتها للقمح من أوكرانيا، وتعتبر أوكرانيا سوقًا مهمة لطائرات بيرقدار المسيرة بلا طيار التي لعبت دورًا في قصف الحركات الانفصالية في شرق أوكرانيا قبل اندلاع حرب 24 شباط/فبراير، ويقال إنها لعبت دورًا مهمًّا أيضًا في التصدي للقوات الروسية بعد دخولها إلى أوكرانيا، وكانت من أحد أهم أسباب الانزعاج الروسي من تركيا.

وبذلك يبلغ حجم التجارة الخارجية التركية مع كل من (روسيا وأوكرانيا) حوالي الأربعين مليار دولار من أصل الحجم الإجمالي للتجارة الخارجية التركية البالغ حوالي 500 مليار دولار أي حوالي ثمانية في المئة، كما يبلغ حجم دخل السياحة الروسية والأوكرانية في تركيا  28 في المئة من الدخل العام للسياحة في تركيا البالغ 25 مليار دولار، كما تُصدّر تركيا نسبة مهمة من منتجاتها الزراعية ولا سيما (الطماطم والرمان والبرتقال والحامض) إلى روسيا وأوكرانيا وتستورد منهما نسبة كبيرة من القمح والزيوت.

أهمية الوساطة:

على الرغم من أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي فإنها لم ترَ في الخطر المحتمل لنشوب الحرب إلا خسائر اقتصادية وربما أكثر من ذلك، في حال تفاقم الوضع العسكري وانتشاره خارج حدود أوكرانيا، وتركيا لا شك ستخسر الكثير من مزايا العلاقات الاقتصادية مع روسيا وأوكرانيا مع توقف التجارة والحركة السياحية ليس فقط من روسيا وأوكرانيا بل من دول أوروبية وغير أوروبية أخرى.

كما ستواجه تركيا تحديًا كبيرًا يتمثل في الموقف الذي ستعتمده في حال انفجار الحرب بين روسيا وأوكرانيا- فيما يتعلق بحركة الملاحة في مضيقي (البوسفور والدردنيل)- الذي تنظمه أحكام معاهدة مونترو لعام 1936.

إضافة إلى أن منع الحرب سيحول دون أي موقف قد يعرض علاقات تركيا ومصالحها مع روسيا للخطر في المناطق “المشتركة” لنزاعات مثل (القوقاز وسوريا وليبيا وشرق المتوسط). أيضًا يمكن للوساطة في حال نجاحها أن تبرز  صورة أردوغان في دور “بطل السلام”، الأمر الذي يحقق لأردوغان نرجسية شخصية مستمدة من النزعة الإمبراطورية العثمانية ويمكن أن يستثمر ذلك لصالحه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري بعد سنة ونيِّف؛ لذا عملت تركيا منذ ما قبل انفجار الأزمة على محاولة منع اندلاعها.

الوساطة التركية:

بدأت المحاولات التركية للتوسط بين روسيا وأوكرانيا بزيارة أردوغان إلى كييف في الثالث من شباط/فبراير 2022، واجتمع بالرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، لكن أردوغان بعد انتهاء الزيارة لم يستكمل طريقه إلى موسكو؛ بسبب عدم رضا الروس على تزويد أنقرة كييف بمسيرات بيرقدار(TB2) ، وهكذا توقفت الوساطة قبل استكمالها، ولكن الأتراك لم يتخلوا عن جهود الوساطة ونجحوا بعد اندلاع الحرب في 24 شباط / فبراير في جمع وزيري خارجية روسيا “سيرغي لافروف” وأوكرانيا “ديميترو كوليبا” على هامش منتدى أنتاليا الذي انعقد في  العاشر من آذار/ مارس 2022، ولم يسفر الاجتماع عن أي نتيجة، ويوم 29 آذار/مارس 2022 عقد اجتماع بين ممثلي حكومة روسيا وأوكرانيا في إسطنبول رعاه أردوغان شخصيًّا من دون أن تسفر عن شيءٍ واضح.

وقد بدا أن جهود تركيا للمصالحة لا تقتصر على محاولات جمع المتنازعين في أرض تركية؛ فقد عملت تركيا على توزيع مواقفها من الأزمة، فقد نددت أنقرة بالهجوم الروسي على أوكرانيا ووصفت المقاومة الأوكرانية بالوطنية، لكن تركيا في الوقت نفسه رفضت طرد روسيا من عضوية المجلس الأوروبي وامتنعت وحدها عن التصويت الذي جرى في 25 شباط/فبراير، فيما عارضت القرار روسيا وأرمينيا ولم تشارك أذربيجان في التصويت، وأيد القرار 42 عضوًا الباقين، وفي الثاني من آذار/مارس 2022  أيدت تركيا قرار الأمم المتحدة المندد بالهجوم الروسي، والذي دعاه إلى الانسحاب الفوري من أوكرانيا وأيد القرار 141 دولة منها تركيا وعارضته خمس دول وامتنعت 35 دولة عن التصويت.

وبعد أن فرض الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي عقوبات اقتصادية واسعة على روسيا، امتنعت تركيا عن الالتزام بالعقوبات وتجاهلتها واستمرت في علاقاتها معها، كما رفضت إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية.

اتفاقية مونترو:

كان أمام تركيا- في حال نشوب الحرب- تحدٍ كبير وهو الموقف الذي ستتخذه من  مسألة المرور في مضيقي (البوسفور والدردنيل) أمام سفن الدول المتحاربة، وهذا الأمر تنظمه اتفاقية مونترو لعام 1936، وقد حاولت تركيا في البداية أن تؤجل قرارها بشأن المضائق عَلّ محاولات وقف إطلاق النار تنجح وتجنّب تركيا اتخاذ موقف لصالح هذا الطرف أو ذاك، وفعلًا منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا حاول وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو” عدم اتخاذ موقف بالقول أن: “خبراء الخارجية التركية لا يزالون يدرسون ما إذا كان الهجوم الروسي يشكل “حالة حرب” المنصوص عليها في اتفاقية مونترو والتي تقضي بإغلاق المضائق”.

لم يستغرق الأمر طويلًا حتى اعترفت تركيا بأن مصطلح “حالة الحرب” ينطبق على الوضع بين روسيا وأوكرانيا، يكتسب الاعتراف بحالة الحرب أهميته لجهة مدى استعداد تركيا لتطبيق أحكام اتفاقية مونترو أم لا، فهذه الاتفاقية التي وُقعت في 20 تموز/يوليو من العام 1936 تنظم حركة الملاحة من وإلى البحر الأسود عبر مضائق (البوسفور والدردنيل)، المادة العشرون من الاتفاقية تقول: “إنه في حالة وجود تركيا في حالة حرب مع أي دولة أخرى يمكن لها أن تغلق المضائق وفقًا لما تريد”. لكن تركيا لم تكن في حالة حرب مع أي دولة؛ لذا اتجهت الأنظار إلى المادة 19 من الاتفاقية التي تقول أنه: ” في حالة دخول أي دولة من دول البحر الأسود حربًا مع دولة أخرى فبإمكان تركيا إغلاق المضائق أمام حركة السفن الحربية التابعة للدول المتحاربة في الاتجاهين، لكن يمكن للسفن الموجودة في البحر المتوسط والمسجلة مثلًا في قاعدة في البحر الأسود أن تطلب من أنقرة السماح لها بعبور المضائق للعودة إلى قاعدتها الأم، كذلك عبر المضائق من البحر الأسود إذا كانت قاعدتها الأم في البحر المتوسط”.

لذا أعلنت تركيا رسميًّا في إغلاق المضائق أمام كل السفن الحربية لجميع الدول بدءًا من نهاية شباط/فبراير 2022، واستدركت تركيا بالقول مسبقًا إن إغلاق المضائق لا يعني خطوة عدائية تجاه روسيا بل هو تطبيق حرفي للاتفاقية، كما أن تركيا تواجه تحديات تتعلق بالاتفاقية ذاتها؛ حيث أن هناك مطالبات أو تلميحات من قبل دول لا تنتمي إلى البحر الأسود مثل الولايات المتحدة إلى وجوب تعديل الاتفاقية بحيث يسمح لسفن هذه الدول العبور بحرية إلى البحر الأسود وبالعدد والحجم الذي تريد، ذلك إن الاتفاقية تمنع دخول أكثر من سفينتين تابعتين لدولة واحدة يزيد وزنهما على 45 ألف طن التواجد في  البحر الأسود أكثر من 22 يومًا.

 وقد واجهت الولايات المتحدة هذه الصعوبات في أثناء المناورات التي قادتها في العام 2021 في البحر الأسود لدول حلف شمال الأطلسي ومنها تركيا، ولمحت ضمنًا إلى الرغبة بتعديل الاتفاقية، الأمر الذي واجه معارضة شديدة داخل تركيا؛ لأن أي تعديل في الاتفاقية مهما كان “صغيرًا” يفتح بابًا لن ينغلق على مطالبات بتعديلات واسعة في الاتفاقية من قبل دول كثيرة. وقد حذرت المعارضة التركية السلطة من أي توجه للتعديل في الاتفاقية، علمًا بأن الأتراك يعتبرون هذه الاتفاقية ركيزة أساسية للأمن القومي التركي ومكملة لمعاهدة لوزان عام 1923، التي رسمت أسس الكيان التركي.

تغلبت الاعتبارات التاريخية والوطنية في قرار تركيا إغلاق مضيقي (البوسفور والدردنيل)، وكما توقعت تركيا لم تعتبر موسكو هذه الخطوة عملًا عدائيًّا ضدها في ظل عدم حاجة روسيا القريبة لسفنها الواقعة في البحر المتوسط، وفي ظل العقوبات الغربية على روسيا التي ستجد أن من مصلحتها المؤكدة استمرار العلاقات الاقتصادية مع دولة في حلف شمال الأطلسي وقريبة منها مثل تركيا.

الفرص والمخاطر:

مع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا والتداعيات المختلفة وفي رأسها العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا انكشفت أمام تركيا مجموعة من الفرص لم تكن تتوقعها:

الأولى: هي أن العقوبات تركت وراءها أزمة في مدى مواصلة روسيا مد أوروبا بالغاز والنفط مع بدء أوروبا البحث في بدائل عن الغاز الروسي.

 والثانية: هي تجميد ألمانيا رخصة العمل بخط نورث ستريم 2 الروسي، وبالتالي عدم بدء استخدامه ما يوجه ضربة لمشاريع تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا.

 وهنا برزت تركيا كواحدة من هذه البدائل من خلال نقل الغاز الإسرائيلي في حقل ليفيتان بأنبوب تحت البحر يصل إلى ميناء جيحان التركي ومنه عبر الأنابيب الموجودة أصلًا داخل الأراضي التركية والواصلة إلى أوروبا، وقد جاء هذا البديل المحتمل بعدما أعلنت الولايات المتحدة عدم دعمها لمد خط أنابيب ميديست من إسرائيل إلى قبرص فاليونان وإيطاليا فأوروبا والبالغ طوله حوالي ألفي كيلومتر وبعمق ثلاثة كيلومترات تحت الماء والمقدرة كلفته بحوالي تسعة مليارات دولار وربما أكثر.

 في حين أن الخط الإسرائيلي- التركي هو ربع هذه المسافة وبكلفة أقل بكثير، إضافة إلى كلفة خط ميديست العالية والتي يمكن أن تكون مضاعفة فإن اتفاق تركيا وليبيا في 28 تشرين الثاني 2019 على ترسيم مشترك لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما جعل البحر المتوسط ينقسم بالخط التركي – الليبي إلى شطرين، وبات خط ميدسيت يحتاج إلى إذن من تركيا؛ للسماح بمروره عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لتركيا.

ويرى الجنرال التركي المتقاعد “جيم غوردينيز”- والمعروف باهتمامه الكبير بالمجال البحري التركي- أن انسحاب الولايات المتحدة من المشروع لم يكن مفاجئًا ويظهر أن موقفها كان في الأساس مشروعًا سياسيًّا يستهدف إغراء تركيا لتخفيف موقفها من الصراع مع قبرص واليونان حول المناطق الاقتصادية الخالصة كما الضغط على روسيا عبر إيجاد بدائل عبر تركيا التي ستكون مسرورة لهذه “الهدية” الأمريكية.

وقد اكتسب خط الغاز والنفط من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا زخمًا من خلال بدء تحسين العلاقات بين تركيا وإسرائيل مع زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ إلى أنقرة في التاسع من آذار/مارس 2022 وتركيز محادثاته مع أردوغان على التعاون في مجال الطاقة، وتستورد دول الاتحاد الأوروبي أربعين في المئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي أي 155 مليار متر مكعب من روسيا، ويوفر حقل ليفيتان  حتى الآن حوالي عشرة مليارات متر مكعب مع السعي لزيادة الانتاج إلى عشرين مليار متر مكعب سنويًّا. ومع أن الخط عبر تركيا لا يغطي  سوى جزء بسيط من احتياجات أوروبا ولا يشكل بديلًا للخط الروسي فإنه يعتبر  جزءًا من البدائل ويوفر لتركيا عائدات مالية بدل المرور فضلًا عن زيادة الأهمية الإستراتيجية لتركيا تجاه أوروبا، كما تستورد أوروبا 25 في المئة من احتياجاتها للنفط  و42 في المئة من الفحم من روسيا، كذلك فإن الحديث يتزايد عن إمكانية انضمام أذربيجان وتركمانستان كبلدين مصدرين للغاز إلى أوروبا عبر تركيا وبحجم يقارب العشرين مليار متر مكعب.

الفرصة الثالثة التي قد تظهر أمام أنقرة: هي مسألة “الأموال الغربية القذرة” الهاربة من روسيا بعد انسحاب العديد من الشركات الغربية من روسيا بناءً على قرار العقوبات الغربية على روسيا، وتأمل تركيا أن تكون وجهة الأموال التي ستخرج  من روسيا هي تركيا.

الفرصة الرابعة من الحرب الروسية – الأوكرانية: هي استعادة تركيا دورها وأهميتها الأطلسية؛ إذ يرى محللون أن انفجار الحرب الأوكرانية يؤكد للأوروبيين أن مركز التهديد العالمي لا يزال على الأرض الأوروبية وليس قرب الصين وهذا ما يُعيد الاعتبار للجغرافيا الأوروبية وأهمية دول أخرى مثل تركيا في الصراع ضد روسيا، كما أن الأزمة الأوكرانية سوف تشدّ من جديد العصب الأطلسي بشقيه (الأمريكي والأوروبي) بما فيه تركيا، وقد يدفع ذلك الرئيس الأمريكي “جو بايدن” نفسه للتخلي عن عدائه وعن محاولات التخلص من أردوغان.

في المقابل لا تُخفي الحرب في أوكرانيا المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها تركيا، فشرارة الحرب في الجوار الجغرافي لتركيا بين البلدين المتحاربين يحمل مخاطر انتقالها إليها بمعزل عن الأسباب، وتُلقي الحرب بظلها الثقيل على الاقتصاد التركي حيث هناك مخاطر تراجع حجم التجارة مع البلدين المتحاربين (روسيا وأوكرانيا) والاستثمار فيهما، كما أن قطاع السياحة التركي معرض للتراجع في العام 2022 مع تراجع الحجوزات من السائحين الروس والأوكرانيين كما من دول أخرى قد ترى في تركيا بلدًا “قريبًا” من ساحة الحرب.

وتترك أزمة الغاز والنفط أثرها على كل الاقتصادات العالمية لجهة تراجع تدفق النفط والغاز وارتفاع أسعارهما وتركيا من أكثر الدول تأثرًا كونها بلدًا ليس نفطيًّا، وبالتالي ترهق الخزينة التركية بكلفة إضافية على ما كان مخططًا أو مقدَّرًا له بحيث قد لا يقل  ارتفاع كلفة الفاتورة النفطية عن 20 مليار دولار عما تتكلَّفه تركيا والقريب من خمسين مليار دولار، كما سيزيد كل ذلك حجم الدين التركي الخارجي البالغ عشية الحرب حوالي 500 مليار دولار.

ولا شك أن ارتفاع الأسعار والمعيشة عمومًا بسبب الحرب يؤرق المواطن التركي ويضغط بالتالي على سعر صرف العملة التي تراوحت في الفترة التي تلت بدء الحرب عند حدود 15 ليرة مقابل الدولار الواحد، وارتفاع نسبة التضخم إلى أكثر من 140 في المئة.

وهذا الارتفاع في الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع نسبة التضخم يترك أثره على موقع سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان، حيث أظهرت استطلاعات الرأي بعد الأزمة الأوكرانية – ورغم تقدير الجميع للموقف التركي المتوازن للسلطة من أطراف الحرب الأوكرانية- أن شعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية وشريكه حزب الحركة القومية مجتمعين في تراجع مستمر بحيث بدأت تنزل عن حد الأربعين في المئة، وهي نتيجة تعني سقوطًا محتمًا لأردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة في مطلع صيف 2023، في حال اتفقت المعارضة على مرشح مشترك يواجه أردوغان وفي حال لم يؤيد حزب الشعوب الديموقراطي الكردي (وهذا احتمال بعيد) أردوغان.

كما تُلقي الحرب في أوكرانيا بظلها أيضًا على ما يمكن أن تُسفر عنه من تحولات في الخريطة الجيوبوليتيكية في المحيط الإقليمي لتركيا وفي العالم، وتتعزز هذه المخاطر كون تركيا عضوًا في حلف شمال الأطلسي وتتأثر بطبيعة التموضع التي يمكن أن تكون عليه تركيا تبعًا لنتائج الحرب وتداعياتها على التوازنات الدولية وبالتالي الاستقرار والسلم  في تركيا، كما التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى