إننا نستفيد من الطبيعة والبيئة لأنها ذات قيمة حياتية بالنسبة إلينا، ونفقد الطبيعة لأننا نعتبرها مجانية. إن الطبيعة لا تتعارض مع الإنسان ولكنها تتأثر كثيراً بسلوكياته، وهو في أمسّ الحاجة إلى الطبيعة، والمفارقة أنه لا يحرص عليها، وتؤدي تصرفاته العشوائية إلىظهور ظواهر خطيرة تؤثر على التوازن البيئي، كظاهرة الاحتباس الحراري والمتغيرات المناخية المتعددة التي تهدد حياة آلاف البشر.
فالأرض تشكل وحدة متكاملة لسكانها، والبسيطة كلها مجال معاشهم وتحقيق آمالهم وهو ما يستوجب تعاونهم وتضامنهم عندما يحتاجها وباء كوباء كورونا، والذي أطلق عليه وبحق الوباء العالمي والملاحظ أن سبل مواجهته تباينت من دولة لأخرى، ففرضت الحواجز بين بعضها البعض، وأغلقت حدودها وتفوقت على نفسها. وبينما يتم التأكيد على عولمة الوباء الكاملة، فالمفارقة ان سبل مواجهته يمكن وصفها في هذا الوضع بالعولمة الناقصة لضعف التعاون الإقليمي والدولي، رغم ما يفرض الوضع الراهن من أهمية العمل الجماعي والمشترك. والأسوأ اندفاع بعض قادة بعض الدول إلى تسييس مواقفها وتبادل الاتهامات مع بعضها البعض، لتغطية عجزها عن المواجهة الفعّالة لهذا الوباء على المستوي المحلي (حالة الولايات المتحدة والصين) بدلاً من دعم جهود التعاون المشترك.
فلنتذكّر تطور هذا الوباء وتصاعد منحنى حالات الاصابة وارتفاع معدلات الوفيات بسببه في جميع دول العالم، إنه هذا العالم الذي صار “صغيراً” أو يوصف بأنه صار “قرية كبيرة”، وهو ما تتطلب تعاوناً وتكاتفاً بين دولية وأقاليمة لا سيما تلك المتجاورة وتربطها روابط مشتركة كالمجموعة العربية، حتي يمكن التصدي له بكفاءة وفاعلية. فهو وباء يفوق الطيور المهاجرة، فهو لا يعترف بالحدود بين الدول، ويتجاوزها دون موانع أو حواجز. وللأسف تصبح مكافحة هذا الوباء أكبر من مجرد الرغبة في التنافس الدولي على النفوذ بين القوى المتصارعة، لأن الجميع بدأ يتأكد أننا أمام مسألة وجودية.
وقد فاجأت هذه الجائحة كل دول العالم ومجتمعاتها بمتغيرات عاصفة وعميقة، وامتدّ ذلك – بطبيعة الحال – إلى المجموعة العربية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل تساعد أوضاع العالم العربي الراهن على احتواء هذه الوباء؟ أمَا أن هناك معوقات إضافية قد تعرقل ذلك؟ فما هي؟
أولاً: نظرة على الأوضاع العربية الراهنة:
إن مواجهة تداعيات جائحة كورونا تتطلب في جانب منها، دعم فرص التعاون، للحد من إهدار الجهود والموارد وحسن استثمارها في إطار التكامل الإنمائي لخير كافة الشعوب العربية. ولكن مؤشرات العمل العربي المشترك –للأسف- تسير في طريق معاكس إن لم يكن الانحدار، فنراه يتراجع في مختلف المجالات. وربما تكون جائحة كورونا فرصة لاستعادة روح العمل العربي المشترك، وزيادة الإحساس بالخطر المشترك الذي أصبح على الأبواب.
إن ضرورات المرحلة الراهنة وما بعدها تتطلب ضمن أمور أخرى، عملاً جماعياً لمواجهة تحديات جائحة كورونا كما تقضي جهداً مدنياً وأهلياً متصاعداً في الأداء وتبادل المعرفة، وعدم الاكتفاء بالجهود الحكومية، فالوباء يتسع نطاقه، ويتجاوز هذه الجهود، ولذا لابد من جهود الجماعات المدنية والأهلية والقطاع الخاص، للمشاركة الفعالة في حشد كل الجهود للتغلب على هذا الوباء.
إن العالم العربي يضم قاعدة ذاتية – قائمة واحتمالية- من القوة البشرية والعلماء والكفاءات، والموارد الطبيعية والاقتصادية التي يمكن – في إطار منظومة تكامل نشط – إن تحقق الإنماء والأمن وإعادة الاعتبار والمكانة اللائقين بالوطن العربي، فضلاً عن أن أكثر من ثلثي الأراضي العربية الصالحة للزراعة تقع في خمسة دول عربية، وأن معظم النفط يكمن في خمس دول أخرى وأن ثلاثة أقطار عربية يتركز فيها أكثر من نصف سكان الوطن العربي. وهذا التباين في توزيع القوى المنتجة يجعل من المتعذر تحقيق تنمية قطرية صحيحة منفصلة في حين يمكن في الأساس والمنطق السليم للتكامل القومي يتم من خلاله ترشيد استخدام عناصر الإنتاج. فالعمل الاقتصادي والتنموي المنفرد انتهى إلىحالة أصبح فيها المواطن العربي لا يضمن أمن غذائه وينتظر قمح الولايات المتحدة أو استراليا أو فرنسا أو كندا، وهبات وقروض الدول المانحة وما تفرضه من قيود، بينما أمامنا السودان مثلاً الذي يشكل سلة الغذاء العربي.
ولاشك أن هذا التردي في العمل العربي المشترك لا يعدو أن يكون ظاهرة – وإن هامة – من ظواهر الوضع العربي العام. فلا يصح النظر فيه أو معالجته بالانفصال عن هذا الوضع. لاشك أن سياسيات الدول العربية التي تتغلب فيها المصالح الإقليمية والقطرية والفئوية والشخصية على المصلحة القومية العربية هي في مقدمة أسباب هذا التردي. وحريٌ بجهود المؤمنين بالعروبة – من رجال فكر أو عمل – أن تقوي وتتضافر لتنمية الشعور القومي في نفوس الجماهير وللضغط على الحاكمين وأرباب السلطة بشتى الوسائل لتصحيح مسائر سياستهم ولاخضاعها لمطالب المسيرة القومية الشاملة.
ولن يتحقق الخروج بأقل قدر من الخسائر من مأزق أزمة كورونا، إلا إذا أدركت كل دولة عربية أن النظام العربي الراهن، رغم كل مظاهر ضعفه وتدهوره، يظل الضمان الحقيقي لبقائها ولحماية شعوبها وكيانها فالمصير واحد ومشترك.
ثانياً: العالم العربي أصبح في عين العاصفة والحروب المدمّرة:
إن الناظر للعالم العربي بنظرة الطائر تشهد على الفور حوائط النيران المحيطة بأقاليمه، والمتمثّلة في تعدد الحروب في مختلف الجبهات هذه الحروب التي تُستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة حتى المحرّمة منها، والتي تضر بأوضاع البيئة العربية ضرراً بالغاً، وتهيئ المناخ لكافة أنواع الأوبئة وتؤدي إلى موجات النزوح واللجوء والهجرة القهرية.
فاليمن السعيد مثلاً يخوض في شعابه وجباله حروبا أهلية عبثية. والأزمة اليمنية الراهنة تتلخص في سلطة ضعيفة، ولا شيء يمنع من صومله اليمن، ومصير اليمن أصبح على المحك، وكل السيناريوهات مطروحة وواردة، لاسيما وأن هناك أطرافاً إقليمية مجاورة تتدخل بشكل سافر في الشئون اليمنية وتزود بعض أطراف الصراع (الحوثيين بالسلاح) مما يعرقل جهود حل هذا النزاع، وجعل أوضاع اليمن تترنح بين دراما مؤلمة وكوميديا بكائية بعضها يتمثل في نظام الحكم والصراع على السلطة، والتدخلات الخارجية. فضلا عن الواقع اليمني القبلي المتأصل ليس في تراث اليمن فقط وإنما في صخورها وجبالها وأسلوب حياتها، والتقت هذه العناصر لتخلق دولة تعاني مرتكزاتها من خلل بنيوي يتحدي التعديلات، ونزاعات قبليّة تتفجر اذا ما تعدت إحداها على ميزان التوزان الاجتماعي والقبلي، وتتعرض المستشفيات والكوادر الطبية للتدمير والخراب والخاسر الأكبر هو الشعب اليمني.
ويمكن توصيف الصراع الحالي في اليمن بأنه صراع محلي/ اقليمي/ دولي، فهناك معركة بين أنصار استعادة نظام “الجمهورية” ودُعاة نظام “الإمامة” الجديد، وهو الصراع القائم بين الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً وبين نظام حكم “السيد” الذي يمثله عبد الملك الحوثي وحكومة “الانقلاب” المهيمنة على العاصمة صنعاء. وهي معركة أيضاً ذات طابع جيوسياسي في ظل الصراع بين مشروعي”الوحدة” الذي أُرسي في عام 1991 وأصبح على المحل بفعل تمدد حالة “الملشنة” إلى الجنوب، وبين مشروع “الانفصال” وحنين العودة إلى دولة الجنوب، فضلاً عن طابع الصراع الاستقطابي “المحلي – الإقليمي”، خاصة في ظل الدعم الإيراني الذي تحظى به الحركة الحوثية في مقابل التحالف العربي لاستعادة الشرعية، إلى جانب ظهور مؤشرات حول دعم قوي الانفصال الجنوبي([1]) وفي هذا الصراع العبثي الشعب اليمني الشقيق يدفع الثمن، ويواجه مخاطر المجاعة والأوبئة وفي مقدمتها وباء الكورونا، في وقت يتسم بانهيار الوضع الصحي والنقص الحاد في متطلباته، التي تجعله شبه عاجز عن مواجهة الحد الأدنى من تداعيات جائحة كورونا، وأصبحت اليمن بؤرة صراع استمر عدة سنوات يغذيها تجار الاسلحة.
وقد أوضحت خبرة الصراعات العربية في السنوات السابقة أن الأمن العربي هو في النهاية مسئولية أبنائه ولن يحفظه سوى العرب وليس بعقد إتفاقيات أمنية مع أطراف غير عربية، فهذه الأطراف لا تسعى إلا تحقيق مصالحها. والدول العربية التي تعمل منفردة وتحاول التأثير على مسار الصراعات العربية العربية الراهنة، إنطلاقاً من تصورها أنها تحقق مصالحها، بينما هي على العكس، لن تستطيع حماية نفسها من نيران مرتدة، كما هو واضح للغاية وفي مثال آخر الأزمة السورية، والتي تتقاتل فيها قوات عربية، فضلاً عن جماعات أغلب أفرادها من المرتزقة وغير سوريين، وتؤيدها أطراف عربية ضد بعضها البعض. وآن الآوان لأن يعيد القادة العرب النظر في هذا الملف الخطير في ضوء الماضى ومخاطر الحاضر ومتطلبات المستقبل ووضع حد للحروب الأخرى.
وتكتفي مختلف القوى الدولية بالشجب والتنديد فيما تنظر القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة بالارتياح، لأن هذه الأزمة المتواصلة تشكل سوقاً رائجاً لتجار الأسلحة، الذين يقبضون ثمن الأسلحة فوراً ونقداً على حساب أوضاع التنمية المحلية، وفي مقدمتها وقطاعات الصحة والتعليم والغذاء.
وربما يستحق الوضع في اليمن كلمة عن موقف الولايات المتحدة. فقد استغلت قوتها في وضع أسس “بنية النفوذ” على مستوى العالم، لفرض الهيمنة عليه، وفي أحياناً كثيرة فرض عدم الاستقرار وعرقلة تسوية الصراعات الإقليمية، ومن بينها المنطقة العربية حتي تتجدد أسواق بيع السلاح الأمريكي الذي يشكل عنصراً هاماً في الاقتصاد الأمريكي.
ثالثاً: موازنات ينبغي أن تراعي أولويات الإنفاق الرشيد:
جرت العادة في أغلب الدول العربية ان يتم اعتماد موازنات سنوية، تعتمدها السلطة التنفيذية وتعرض على السلطة التشريعية لإقرارها إن وُجدت، وقيمة توزيع بنود الإنفاق وقيمتها وفقاً لتقديرات السلطة التنفيذية، والتي تعكس الأهمية النسبية التي لكل قطاع، والتي تختلف عادة من عام لآخر وفق المتغيرات التي تحدث في كل دولة وعادة يحظى قطاع التعليم بأهمية نسبية، لاسيما إذا كان برامج لتحديث المناهج، فضلاً عن الاهتمام عادة بمؤسسات التطوير التكنولوجي. ولذا يطلق عليها موازنات بصيرة تعكس فكراً رشيداً.
وفي أغلبية الأحوال، يخطر قطاع التعليم وقطاع الصحة بنسب مرتفعة في بنود الموازنة السنوية. ويعكس الاهتمام بهذين القطاعين، لارتباطهما الوثيق بمتطلبات التنمية الشاملة، كما أنه بتزايد الاهتمام بالتنمية العلمية والتكنولوجية وتطوير الابحاث، وتشجيع القدرة على الإبداع والابتكار، وهل من بين أهداف”المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم” التي آن الأوان لتنشيط عملها ودعم مشاريعها، فالثقافة هي العروة الوثقي بين أبناء الأمة العربية، فهي لسانها وفكرها ومستودع قيمتها ومناط رسالتها إلى نفسها وإلى العالم وتقرب بين مواقفها.
وحديثنا عن هذه المنظمة يرجع لاستشعار الحاجة إلى دورها في تنشيط الأبحاث العلمية التي انشغلت بها كل دول العالم، لإيجاد مصل أو لمكافحة وباء كورونا. فعلى الرغم من كثرة الجامعات العربية، إذا ما قيست بعدد السكان، ومع ذلك لا نستطيع القول أنه هناك مناخاً علمياً منتجاً في الوطن العربي المعاصر، على الرغم من وجود منظمات عربية للبحث العلمي في الوطن العربي، ووجود علماء عرب متميزين في مختلف المجالات، وبعضهم حصل على جائزة نوبل، ولكن ذلك ربما يعود إلى عدم وجود مناخ ثقافي فاعل في الوطن العربي.
إن استمرار وضع التجزئة القطرية الراهنة في ظل تفاوت وعدم اتساق توزيع الموارد العربية البشرية والاقتصادية ترك في كل قطر عربي أوضاعاً سلبية متشابهة، وحرم الدول العربية بنفس الوقت من إيجابيات المزايا المتوفرة على مستوى الوطن العربية ككل. فالمشكلة الأساسيّة اليوم، هي أن الأمة العربية مازالت مجزّأة إلى اثنتين وعشرين دولة، فهي كالجسد الواحد المقطع الأوصال، والوزنان الإقليمي والدولي لهذه الأمة اليوم يقاسان بما تحتوي عليه الأجزاء المقطعة من ثقل وهو أقل بكثير من وزن الأمة العربية فيما لو كانت قوية متحدة. ذلك لأن “الكل” هو أكثر من مجموع أجزائة كما يثبت ذلك مذهب “الهيأة” في علم النفس، فاليد المحتوية على خمسة أصابع هي أكبر من مجموع خمسة أصابع غير مرتبطة ببعضها.
وإذا لم يخطط العرب لمستقبلهم في المرحلة القادمة، سوف يخطط الآخرون لنا بالشكل الذي يتضمن مزيداً من التهميش والتبعية والاستقطاب للوطن العربي. والتحدي التقني في هذا كله هو في كيفية إعادة بناء الثقة العربية في الذات، وفي الأمكانيات وفي القدرة على الحركة والفعل، فهل سترتفع النظم العربية إلى مستويات التحديات ومن بينها المشاركة في إيجاد علاج لوباء كورونا.
ولقد كشف هذا الوباء أهمية الإنجاز في القطاعين الصحي والتعليم. وتجدر الإشارة هنا أن الإهتمام الشئون الصحية جاء مبكرا، ولكنه جاء في مؤخرة مجالات التعاون العربي بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية (المادة الثانية من ميثاق جامعة الدول العربية)، وهذا الترتيب يعكس النظرة العربية في ذلك الوقت (1943) لموضوع الصحة. وتجدر الإشارة إلى أن الظهور المفاجئ لهذا الوباء أظهر ضعف الصناعات الصحية في أغلب الدول العربية، والمتمثّل في مدى توافر أجهزة التنفس الصناعي والأسرة الطبية أو الأدوية الوقائية، أو الملابس الطبية الوقائية، أو الكمامات، فضلاً عن عدم توافر المستشفيات المتخصصة بالقدر الكافي في أغلب الدول العربية لإستيعاب وعلاج المصابين.
وقد تدفع أزمة وباء كورونا وما أظهرته من تحديات، إلى التفكير فى إقامة مشروعات عربية مشتركة في القطاع الصحي لإنتاج مستلزماته الضرورية.
ولقد تجدد الاهتمام بقضايا التعليم والبحث العلمي والصحة فيما بعد ولكنه لم يصل إلىالمستوى المؤمل فيه.
وهنا نستذكر الاقتراح الذي طرحه د. محمد السيد سعيد عام 1999، بشأن إنشاء جامعة عربية عملاقة “للتعليم والبحث العلمي”، تلحق بها أفضل العقول الأكاديمية والبحثية العربية في كافة التخصصات، فضلا عن علماء المهجر، وأفضل الطلاب العرب في مجالات الدراسات العليا، أي درجات الماجيستير والدكتوراه، الذين يفترض فيهم المساعدة في البحث العلمي التطبيقي الذي تجريه أقسام الجامعى في مختلف الميادين، وأن تساهم الدول العربية في تمويلها، وبحيث يتيح تفرغ أساتذتها والدارسين العرب، من العالم العربي وخارجه، تفرغاً تاماً للتجديد العلمي للثقافة العربية في شتى المجالات المعرفة.
وحسب ما توفر لدينا من معلومات، لم تظهر أية مؤشرات تدل على وجود جهود مشتركة بين الباحثين العرب المتخصصين في مجال الأوبئة للتوصل لعقار يساهم في مواجهة وباء كورونا، وربما الاستثناء من ذلك، ما أعلنته الحكومة الجزائرية أنها بدأت بإنتاج أجهزة للكشف السريع عن فيروس كورونا تظهر نتائجها خلال 15 دقيقة بالشراكة مع شركتين أحداهما أردنية وأخرى كندية.
رابعاً: الانخفاض غير المسبوق لأسعار النفط:
شهد شهر مايو 2020 هبوطاً غير عادي لأسعار النفط، وانخفاض الطلب عليه لأسباب أهمها توقف النشاط الإقتصادي على مستوى العالم، فضلاً عن توقف حركة الطيران والسيارات وغيرها، تطبيقاً للإجراءات الاحترازية، وانخفاض الطاقة التخزينية للنفط الخام أدى إلى زيادة الضغط على الدول المنتجة للنفظ وإنهيار أسعاره وأصاب ذلك الدول العربية المنتجة للنفط.
ومن المعروف أن منطقة الخليج العربية لها أهمية خاصة على خريطة الثروات الهيدروكربونية في العالم، حيث تبلغ الاحتياطيات النفطية المؤكدة بها نحو 52% من جملة الإحتياطيات النفطية في العالم. وكانت الولايات المتحدة لفترة قريبة تعتمد على نفط منطقة الخليج العربية في سد جانب من احتياجاتها المتصاعدة ثم جاء إنتاج النفط الصخري الأمريكي الذي قلل من اعتماد الولايات المتحدة على نفط الخليج، بعد أن بلغ النفط الصخري ذروة انتاجه ابتداء من عام 2020، وبطبيعة الحال تأثر بإنخفاض الأسعار الذي حدث في مايو 2020.
وبالنسبة لدول الخليج العربية المنتجة للنفط، فإن انهيار أسعاره ترتب عليه عدة نتائج وتداعيات على أكثر من مستوى. فالصناديق السيادية -مثلا_ تعتمد فى تمويلها على النفط بشكل مباشر، وعن طريق عائداته تقوم هذه الصناديق بمضاعفة أصول الدوله، خارج اقتصادها المحلي، يهدف تجاوز الاعتماد على مصدر أحادي للدخل من خلال تطوير قطاعات بديلة، فضلاً عن توظيفه لتعزيز النفوذ السياسي، وتأمين مستقل الأجيال القادمة.
وكانت دول الخليج العربية قد أعدت موازناتها وتقديراتها على أساس أسعار النفط السائدة قبل مايو 2020، التي انخفضت بما لا يقل عن 60 %، وبالتالي فإن الأمر سيتطلب إعادة تقدير هذه الموازنات على أساس أسعار النفط الجديدة؛ مما أضطر أغلب هذه الدول إلى تبني اجراءات تقشفية وإلى ضغط ميزانيتها.
وسيؤدي استمرار انخفاض عائدات النفط إلى وضع صعب بالنسبة للدول المنتجة التي تعتمد بشكل رئيسي على “الربيع الإستراتيجي” في تمويل مزانياتها، فضلاً عن تقديم المعونات أوالإستمثارات للدول العربية غير النفطية وغيرها.
كما أن استمرار تراجع العائدات أدى إلى انخفاض حاد في حجم تحويلات العمالة الوافدة في الدول الخليجية والتى أُعيد أغلبها إلى أوطانها وقد وفرت هذه التحويلات وفرت في السابق موارد مالية هامة للدول العربية المصدرة للعمالة ساهمة فى تخفيف العجز في موازين مدفوعاتها فضلاً عن إسهامها في تخفيف حجم البطالة وضغوطها فيها. وبالتالى ستفقد الدول المصدّرة لمقوم هام من مقومات مواجهة تحديات الوباء كورونا داخلياً. وقد كان انتقال العمالة فيما بين الدول العربية على هذا النحو يمثل أحد المصادر الهامة للدخل القومي بالنسبة للدول المصدرة لهذه العمالة، ونموذجاً لظاهرة الاعتماد البشري المتبادل بين الجانبين العربيين. وتوقف هذه الظاهرة _ولو مؤقتاً_ يضعف من قدرات الدولة العربية المتلقية، من موارد التمويل اللازمة لمواجهة تداعيات جائحة كورونا أو المساعدة في جهود التعافي بعدها.
وقد تحركت الدول العربية المنتجة للنفط مؤخراً للمشاركة في صناديق دولية ستخصص لدعم الدول التي تضررت من وباء كورونا وتداعياتها، ولم يتوافر لدينا معلومات تتعلق فى الاتجاه لإنشاء صناديق مماثلة على المستوى العربي. ونلاحظ مؤشرات لاتجاه أكثر من دولة عربية لصندوق النقد الدولي لطلب قروض أو مساعدات، لتدبير جانب من التمويل اللازم لمواجهة تداعيات هذا الوباء والمساعدة في جهود التعافي بعدها.
كما يلاحظ أن أغلب الدول العربية تصرفت على قاعدة “أُنجُ بنفسك” و”يارب نفسي” ولم تحدث إتصالات نشطة عربية/عربية، للتشاور سواء حول الأوضاع الصحية، أو الاستفادة من الخبرات المكتسبة، ولم يحدث أي تبادل منظم للمعلومات التي اقد تسهل معالجة واحتواء هذا الخطر وحصر امتداده وانتشاره.
وختاماً: كانت أغلب الدول العربية، قبل جائحة كورونا تعاني من عدة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية، تجعلها لا تقف على أرضية صلبة أمام الجائحة العالمية، ويجعل قدرتها على الاستجابة لتحديات هذا الوباء ضعيفة. والعرب كمجموعة يواجهون بدورهم تحديات مجتمعة على كافة المستويات الداخلية والإقليمية، مع قدرة متواضعة للتصدي لهذه التحديات. فالنظام العربي أصبح في مفترق الطرق بين مزيد من الاضمحلال والنهوض، وهذا يعني أن هناك فرصاً متساوية أمام هذا النهوض والاضمحلال.
وما بعد كورونا ستكون أوضاع العالم العربي في حالة أسوأ عن ما قبل كورونا، وربما يدفع ذلك قادة النظام العربي إلى دعم آليات التعاون العربي ولخلق أوضاع أكثر قدرة على مواجهة تحديات ومتطلبات المرحلة القادمة، ونعتقد أن هذا التحول سيتطلب وقتاً ليس بالقصير لتحقيقه. فالنظام الإقليمي العربي مازال يعيش عصر”الأزمة المفتوحة”، وتطوره يرتبط بتطور أنظمة الحكم العربية ووعيها بخطورة الموقف الراهن.
([1] (أحمد علبة، المعضلة اليمنية: الصراع على دولة مأزومة، كراسات استراتيجية –مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، رقم 285- فبراير 2018 ص 3 وما بعدها.