- تشهد الأحداث المتسارعة التي تمر بها المنطقة تطورات داخلية وخارجية جذرية، يتعلق بعضها بسياسات يجري فيها التحرر من منطلقات قومية سابقة، والتخلص من مفاهيم وطنية قديمة، وتجاهل روابط تاريخية وإستراتيجية بين دول المنطقة. ويتصل البعض الآخر بتدخلات خارجية تستهدف بعضها تحقيق أهداف «إمبراطورية» في الإقليم، ويعمل بعضها الآخر في اتجاه فرض أطماع وتحقيق مصالح متضاربة على ساحته، بأساليب تتسم بالمباشرة والجرأة على تحدي أنماط التعامل الدولية، وتجاهل القوانين والأعراف والتقاليد التي استقر عليها المجتمع الدولي. ويمكن تحديد هذه التطورات في الملامح التالية:
داخليًا:
- تنامي سياسات المحاور
والتحالفات السياسية في المنطقة، وزيادة الاستقطاب على ساحتها بين ما يُسمى بدول
الاعتدال ودول الممانعة، بما تتضمنه من إقامة تحالفات عسكرية يتم فيها «استدعاء»
قوات أجنبية، وتشجيع إقامة قواعد عسكرية على الأراضي العربية، بذريعة الدفاع عن
الأمن في مواجهة «تهديدات» الدول «الشقيقة» وحماية «استقلال» القرار الوطني.
- تجاهل الحساسيات العربية من إقامة تحالفات مع قوى لها استراتيجيات وأجندات توسعية في دول الإقليم، ومنحها فرص التواجد العسكري الطويل الأمد بالبلاد، وذلك في مقابل تحقيق أهداف محلية قصيرة النظر، تتحكم فيها مشاعر العناد ونوازع المكايدة السياسية مع الدول العربية المجاورة.
- تضاؤل الفكر السياسي العربي بأهمية التضامن ووحدة الأمن للدول العربية، واستبدالها بسياسات تتجاوز أهداف التنافس المشروع في اكتساب النفوذ، والتجاذب الطبيعي لتحقيق المكاسب، إلى ممارسة الإضرار المتعمد بالأمن القومي للدول العربية عبر إقامة علاقات «عمل» وثيقة مع منظمات مصنفة في هذه الدول «إرهابية»، والانتماء لتجمعات غير عربية لها أطماع معروفة ومعلنة في الإقليم.
خارجيًا:
- عودة الدول الكبرى إلى صور
التعامل النمطي المستهتر بمصير البشرية، والمستهين بالرأي العام العالمي والمؤسسات
الأممية، والمستند لمنطق الاستعلاء والغلبة في التعامل مع الآخرين، والمستعد
لتسويغ الحروب والقوة المباشرة أو التهديد بها لفرض مصالحه الخاصة، وذلك دون
التقيد بأية اعتبارات خاصة بمصالح الدول والشعوب.
- تجاهل هذه الدول للقرارات الدولية الهادفة لحفظ الأمن والسلام وحماية المدنيين وحقوق الإنسان، وهي ممارسات أقدمت عليها بجرأة منقطعة النظير عبر تدخلات عسكرية وسياسية في دول أوروبية وعربية، وضغوط سافرة في المجال الدولي لإحباط مصالح الشعوب والإطاحة بآمالها في تسوية قضاياها المركزية، من خلال التضييق على المؤسسات الأممية وتعجيزها من القيام بمهامها، ومنعها من تحقيق أي اختراق لتسوية القضايا المثارة على الساحتين الدولية والإقليمية. وكان آخر مظاهرها الفيتو الروسي المتكرر لدعم النظام السوري وتغطية استخدامه أسلحة محرمة دوليًا، والفيتو الأمريكي لدعم قرار نقل السفارة الأمريكية في القدس على قاعدة الاعتراف بها عاصمة لدولة إسرائيل.
- تصاعد طموحات الدول الإقليمية غير العربية في المنطقة، وزيادة ممارساتها الفجة في التدخل في قضاياها الساخنة، وقيام بعضها بإشراك ميليشيات مسلحة لمساندتها في تحركاتها. ورغم تناقض المشروعات السياسية للدول الإقليمية في المنطقة مع بعضها البعض، إلا أن الواضح أنها جميعًا تقدر أهمية التعاون بينها في هذه المرحلة التي تتقارب فيها الأهداف في استبعاد الأدوار العربية، وتغييبها عن جهود تسوية مشاكلها في المنطقة. وذلك مقابل تثبيت مواقع الدول الإقليمية كأطراف رئيسية ومؤثرة يُعترف بأدوارها وحقوقها ومصالحها في أية تسويات قادمة، وذلك على حساب أدوار ومصالح الدول الأصلية في الإقليم.
v v v
وبالرغم من خطورة الأوضاع التي تشهدها المنطقة، وحساسية الظروف التي تمر بدولها، إلا أن الواضح أن الوضع العربي يعاني في معظمه من غياب الإرادة السياسية، ويفتقد في عمومه إلى وحدة الهدف والرؤية والموقف، حيث تعاني بعض دوله من أزمات أمنية وعسكرية تهددها بالفناء أو التقسيم، وحيث يركز بعضها الآخر اهتماماتها على مشاكلها الداخلية المتأزمة وخططها المتأخرة في التنمية، أو على أولوياتها الخارجية المختلفة من حيث تقدير خطورة القضايا، وطبيعة التهديد ومصدره. ويتبع البعض الآخر أسلوب «النأي بالنفس» عن التورط في مشاكل المنطقة، وتقتصر مساهمته في قضاياها على التأييد المعنوي. بينما يقدر البعض الثالث أن مصلحته تقتضي التماهي بعلاقاته وتحالفاته مع القوى الخارجية التي تعمل على عرقلة التضامن العربي، وتهميش أدوار دول المنطقة، وشغل الفراغ الناتج عن غيابها عن الساحة. وذلك كله في مقابل تصعيد وتيرة «التناغم» الضمني في مواقف القوى الدولية والإقليمية المتدخلة في الإقليم، والتي تتجسد مظاهرها في حصر التجاذبات بينها في أضيق الحدود، وتفادي الصدام بين تحركاتها على الساحة الإقليمية. والحرص على ألا يؤثر تنافسها في مجالات على تعاونها في مجالات أخرى، والتزام القوى الإقليمية الصارم «بالإعلام» المسبق للدول الكبرى بأية ممارسات عسكرية تقوم بها على الساحة. وهو الأمر الذي يعكس بوضوح حقيقة مرور العلاقات بين الدول الكبرى، أو بينها وبين الدول الإقليمية غير العربية على ساحة الإقليم بفترة مرحلية، تغطي ظروفًا مؤقتة تقتضي تهدئة الأوضاع وتطويع المواقف، وتحمُّل التجاورات، ومراعاة الحذر في تحركات القوى المتواجهة على الساحة. إلا أن هذه الأوضاع يمكن أن تتغير بسرعة نتيجة تقلب السياسات أو تغير التوازنات، أو وقوع أخطاء في التقدير، أو تصادم في المصالح. وهو ما قد يترتب عليه قلب مسار الأوضاع في المنطقة رأسًا على عقب. خاصة في ضوء ما يمكن أن يؤدي إليه هذا التطور من تصدع معادلات كانت قائمة، أو إثارة صراعات كانت مكبوتة، أو هز بديهيات كانت مستقرة. لاسيما في ظروف التوتر والتربص والاستفزاز، التي أصبحت تسم العلاقات الأمريكية الروسية في الوقت الراهن.
v v v
ومن هنا يمكن القول إن تعقد الأوضاع في المنطقة، وتداخل المواقف والمصالح الخارجية على ساحتها، وغياب التأثير العربي على مقدراتها، قد أسفر عن ظهور معطيات جديدة، وانبعاث مفاهيم كان الظن أنها اندثرت، وطرح وقائع على الأرض، من شأنها التأثير في تطورات القضايا ومسار الأحداث في الإقليم، ويمكن حصر أهم ملامحها فيما يلي:
أولاً: تقدير القوى الكبرى لأهمية المواقع التي أصبحت تشغلها القوى الإقليمية غير العربية على ساحة الإقليم. وثقتها في فعالية أدوارها، وتفضيلها أن تمثل عناصر الثقل في المنطقة، وهو ما يظهر في علاقات روسيا المتنامية مع دول الجوار الإقليمية، وتشاركها معهم في المواقف والأهداف القريبة، واعترافها بأدوارهم في قضايا المنطقة الساخنة، وتحالفها معهم في جهود تسويتها، كما يوضحه – من ناحية أخرى – تهاون الولايات المتحدة تجاه «الاندفاعات» العسكرية للنظام التركي، وتحملها لتصرفاته الفجة في الإقليم، وترددها، في نفس الوقت، في احتواء النفوذ الإيراني الهادف لهز استقرار دول المنطقة، إضافة إلى دعمها المطلق لإسرائيل، وتجاوز كافة المعادلات الدولية للقضية الفلسطينية لصالحها.
وبالرغم مما يبدو من قيام «الثلاثي الإقليمي» بدور الوكالة عن القوتين الكبيرتين في ضوء قنواتهم المفتوحة على قوى محلية أو دينية أو طائفية أو قبائلية أو أيديولوجية، إلا أن المعتقد أن مكونات هذا الثلاثي يمكن أن تخرج من عباءة القوتين عبر قيامها باتخاذ مواقف مستقلة عنهما إذا قدرت أن تطور الأحداث قد أخذ منحى يهدد مشروعها في الإقليم. وإن كان هذا لا يقلل من حرصها على تفادي القيام بأية تصرفات تجاه بعضها البعض، من شأنها فرض مواجهة، أو إثارة حساسية، أو تجاوز خطوط حُمر في مجالي الأمن والمصالح المباشرة. ويبدو أن إسرائيل هي الأكثر حظًا في هذا المثلث من حيث استقلالية القرار وحرية الحركة، والاستفادة من تطورات الأحداث في المنطقة. وذلك من منطلق قوة موقعها في الداخل الأمريكي، ووضوح أهدافها في الإقليم المتمثلة في تشجيعها لاستمرار الاضطراب المحكوم على ساحتها، والحفاظ على المعادلات الراهنة الحاكمة لتوازناتها.
ثانيًا: أن التفاهمات بين كل من روسيا وإيران وتركيا، التي تبلورت انطلاقًا من تعاونهم في الملف السوري، لا تمثل مجرد توافق مرحلي مؤقت في المواقف. كما أن ما يشاع عن تنافسها تدحضه الوقائع التي يعكسها على الأرض تقاسم النفوذ بينها على الساحة السورية، خاصة وأن الشراكات بين النظم الثلاثة لا تقف عند توحد مواقفها من القضية الكردية، أو تشابه أنظمة الحكم ومقاصدها. وإنما تتعداها إلى الطموح المشترك لاستغلال الفرصة التاريخية الناتجة عن الانكفاء الأمريكي والغربي عمومًا في المنطقة، خاصة وأن تهجمهم على الديمقراطية الغربية، وتمردهم على القيم التي تمثلها، تمثل الغطاء الأيديولوجي لتعاون الأنظمة الثلاثة رغم عدم تشاركهم في أية منظومة مفاهيمية سوى الطموح إلى السيطرة داخليًا وخارجيًا، والاستقواء بالسيطرة الخارجية على الداخل. ولذلك فإن هذه الأطراف تعاني من قلق مشترك تجاه أية تحركات تحدث داخل إحدى دولها، ويمكن أن تسفر عن تغييرات ديمقراطية، أو تثير أية احتمالات لانفلات أمني أو ديني على أراضيها، قد تمتد آثارها بالتبعية إلى المساس بقضايا الأمن والاستقرار لنظم الحكم في الدولتين الأخريين.
ثالثًا: أن الطابع المتوتر للعلاقات الأمريكية الإيرانية لا تعبر بالضرورة عن حقيقتها، ولا تعكس بدقة مسارها وخفاياها. وهو أمر تظهر دلالاته المبكرة في قيام الولايات المتحدة بخلق الظروف لتصعيد دور إيران في المنطقة، وتسهيل عملية اختراقها للعالم العربي. كما وضحت علاماته في حرص الأمريكيين على إعلان تجنبهم المساس بالنظام الإيراني أو العمل على إسقاطه. وذلك باعتبار أن دور إيران لا يهدد المصالح الأمريكية ولا يعرض أمن إسرائيل للخطر. فضلاً عن عائد إبقائه «فزاعة» للمنطقة، تدفع الدول العربية إلى طلب حماية الولايات المتحدة واستدعاء قواعدها العسكرية على أراضيها واستيراد الأسلحة منها بمئات البلايين من الدولارات.
وإذا كان الرئيس أوباما قد أصر على توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وإدارة الظهر للدول العربية، فقد كان بذلك يمثل اتجاهًا غالبًا في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يعبر عن الشعور الأمريكي العام بالتهديد الذي يمثله الإرهاب العربي الذي تقع الطائفة السنية في «بؤرته». وقد جاء الرئيس ترامب مبشرًا بسياسة أكثر تشددًا تجاه إيران من حيث الرغبة في تعديل الاتفاق النووي، وتقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، إلا أن المعتقد أن هذه السياسة تحمل في طياتها تشددًا في الشكل أكثر من المضمون، لأسباب داخلية تتصل باسترضاء التيارات السياسية الأمريكية المؤيدة له، ولأخرى خارجية تتعلق بطمأنة إسرائيل والدول العربية الحليفة. ومع ذلك فإن هذا التقدير لا يتعارض مع الاتجاه الأمريكي لرسم حدود المسموح وغير المسموح به إيرانيًا في المنطقة باعتبار أنه يمس المصالح الأمريكية المباشرة مع دول الإقليم.
رابعًا: أن سياسة أردوغان في المنطقة، المعروفة بتوجهاتها الإمبراطورية، والتي لم تعد ممارساتها تقتصر على مد النفوذ وفرض المصالح في الإقليم، وإنما أيضًا على تغليف هذه السياسة بأفكار راديكالية دينية وقومية. وقد ظهر هذا الاتجاه واضحًا مع زيادة توجه الحكومة التركية إلى تقوية الحكم الفردي «السلطاني» لأردوغان من خلال كسب موقف المؤسسات الدينية التركية، ومساعدتها في تأسيس قواعد الاستبداد الأساسية المتمثلة في ضرب المجتمع المدني، والصحافة الحرة، وتغيير مناهج التربية والتعليم. وقد تجسدت نماذج هذا الاتجاه – خارجيًا – بإنشاء ما يُسمى بمجالس علماء الدين في بعض الدول الأفريقية، حيث قامت في الفترة الأخيرة بإقامة الصلوات والأدعية لنصرة الجيش التركي في عفرين، وذلك في واقع أفريقي لا يدري شيئًا عن المشكلة، ولا يعرف موقع المدينة، أو سبب الهجوم التركي عليها. فضلاً عن الدور الذي يقوم به الأئمة الأتراك في أوروبا، والتي لم تعد دولها تخفي امتعاضها من توجهاتهم الراديكالية المسيسة، وهو ما دفع بعض هذه الدول إلى طردهم من البلاد أو التضييق عليهم، أو رفض قبول دعوتهم في المساجد الإسلامية في أوروبا.
ومن هنا يتضح الطابع التخريبي للنفوذ التركي الهادف للامتداد والتوسع في المنطقة، عبر إثارة معارك واحتلال أراضٍ، وتحقيق تواجد متعدد الأغراض، في مواقع حساسة في دول عربية مجاورة، واستثمار الدين لتسويق مبرراتها، فضلاً عن منازعتها مع دول متوسطية، بعضها عربية، في حقوقها لاستغلال ثرواتها الطبيعية في مناطقها الاقتصادية الخالصة، تحت غطاء سياسي بامتداد سيادتها خارج حدودها الإقليمية في البحر المتوسط عبر «احتلالها» لجزء من أراضي دولة مطلة عليه. وهو الأمر الذي يوضح أن التهديد التركي لدول المنطقة لا يقل خطورة عن التهديدات التي تمثلها الدول الإقليمية غير العربية الأخرى على أمن واستقرار الإقليم. خاصة مع سوء التقدير التركي في الاعتقاد بأن عضوية بلادها في المنظمة الأطلنطية يمكن أن تحميها من ردود الأفعال الأمريكية والأوروبية من جراء تصرفاتها الفجة في سوريا، وذلك بالرغم من وضوح الدلائل على خضوع العلاقات التركية الأطلنطية لعملية مراجعة من طرف أعضاء التحالف بسبب حملة أردوغان في سوريا، فضلاً عن دعم واشنطن المفتوح للوحدات الكردية التي تحاربها أنقرة على الأراضي السورية.
خامسًا: أن حرص إيران على إظهار علاقاتها المؤثرة والمسيطرة على المجتمعات الشيعية حين تتحدث باسمهم، وتتشدق بمظلوميتهم، وتدعي تمثيلهم، لا يعبر عن واقع الحال على ساحة المنطقة. لأن المجتمعات الشيعية في الدول العربية تعتبر أكثر المتضررين من سياسات إيران، حيث تُضعِف من موقفهم، وتضعهم في موضع الشك من سكان الدول، وباقي مكونات المجتمع التي يعيشون فيها. خاصة بالنسبة لمن يعرف منهم أن إيران تسعى لتعزيز موقعها كقوة إقليمية وعالمية لا تكترث كثيرًا بمصلحة الشيعة غير الإيرانيين إلا بقدر الاستفادة منهم في تحقيق هذا الهدف، لاسيما إذا كانت تقوم بممارسات من شأنها هز الاستقرار في الدول التي يقيمون فيها. وذلك فضلاً عما هو معروف من أن الشيعة ليسوا مذهبًا واحدًا متجانسًا، بل مذاهب عدة تتميز بتنوع شديد ومختلف باختلاف مرجعياتها. وقد يكون بعضها أقرب فقهيًا إلى المذهب السني من أتباع مرجعيات أخرى. فضلاً عن أن النظرية الشيعية التقليدية تؤمن بفكرة انتظار المهدي، وإحالة الشئون الدنيوية في «عصر الغيبة» إلى الناس «لأنهم أعلم بشئون دنياهم»، بما يعني الفصل بين الدين والسياسة. وهو ما يتعارض، جذريًا، مع فكرة «ولاية الفقيه» التي تتبناها الدولة الإيرانية.
v v v
وبالرغم مما تشهده المنطقة من تقلبات وتجاذبات وتوترات، إلا أن الواضح للعيان أن الموقف في سوريا يبدو الأسوأ والأكثر إيلامًا في المشهد العربي، إذ لا يقتصر على حالة الخراب، وأعداد الضحايا، واستمرار استباحة البلاد، وتوظيفها لتحسين الموقع واستنزاف الآخر. وإنما أيضًا لما يبدو من صعوبة التوصل بشأنها إلى تحقيق تسوية سياسية مستقرة ومتوازنة.
ويستلفت النظر في هذا الشأن الموقف الروسي الذي كان الأكثر استفادة من التطورات على الساحة السورية، من حيث السيطرة على الداخل السوري، وإقامة قواعد برية وبحرية على أراضيها، وتوسيع نفوذه في المنطقة بحيث أصبح يمثل القوة النافذة والمؤثرة على ساحتها. وهو الموقف الذي تمثل في اتخاذ روسيا قرارًا مفاجئًا بسحب القوات الروسية من سوريا، والذي لم تعره كثير من الدوائر السياسية ما يستحقه من اهتمام، وذلك تأسيسًا على تقديرها بأن إعلان الانسحاب يعد بمثابة إعادة تموضع في المسألة السورية وليس في الجغرافيا السورية. وذلك في ضوء الاعتقاد بأن التواجد الروسي في سوريا أصبح يمثل واقعًا فعليًا قائمًا يصعب التشكيك فيه أو التراجع عنه، وأن كل المطلوب، روسيًا، في هذه المرحلة هو إعطاء هذا التواجد زخمًا جديدًا في المنطقة، باعتبار أن المشروع الروسي في سوريا بات يشترط وقف الحرب، لاستكمال خطوات نجاحه قبل أن تتغير الظروف وتتبدل المعطيات. وحتى لا ينتهي كل ما تم تحقيقه فيها بالفشل. وهو ما أصبح يستلزم اتباع سياسة جديدة تتناسب مع طبيعة الظروف التي باتت تتطلب الدخول في مرحلة السلام، والبدء في عمليات إعادة الإعمار. كما أصبحت تحتاج إلى آليات مختلفة، وتفاهمات إقليمية ودولية جديدة بما يؤدي إلى نقل المهمة الروسية في الجزء الأكبر منها إلى المجال السياسي، مع ما يتضمنه ذلك من دفع المعارضة السورية إلى طاولة المفاوضات بالشروط الروسية، وتثبيت موقع بشار الأسد في سوريا والمنطقة.
ومن هنا يمكن تفسير النشاط الروسي المحموم في عقد اجتماعات متوالية مع الأطراف المعنية لتسوية المشكلة السورية، إلا أن الواضح أنها لم تستطع حتى الآن التوصل إلى نتائج حاسمة، نتيجة تعدد مصالح الأطراف المؤثرة في القضية، وإصرار الجانب الأمريكي وحلفائه على عرقلة الجهود الروسية في هذا الشأن، والحيلولة دون احتكارها جهود تسوية المشكلة بشروط روسية كاملة. فضلاً عن الإصرار الأمريكي على أن يكون لها تواجد عسكري مؤثر في شمال ووسط سوريا لمساندة الأكراد وضبط النشاط الإيراني، وضمان أمن إسرائيل. وهو ما يهدد بطرح أكثر السيناريوهات إقلاقًا للجانب الروسي من حيث استمرار حالة اللاحرب واللاسلم في سورية لفترة طويلة. مما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على المشروع الروسي في سوريا، وعلى اقتصاديات البلاد المأزومة، مما قد يدخلها في مزالق خيار الحسم العسكري.
v v v
ولا يبق بعد ذلك إلا الإشارة إلى السياسة الأمريكية المندفعة في استعداء روسيا، والمنسحبة من قضايا المنطقة، والمترددة في الدفاع عن حلفائها، والممانعة في الوفاء بالتزاماتها الدولية. وهي سياسة – رغم تركيبتها المؤسسية – إلا أنها أصبحت تشهد في عهد الرئيس الحالي تغيرًا في التوجه، وفجائية في القرار، وتقلبًا في المسار، وتراجعًا في المواقف. وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بأن تأثيرات «قبضة» الرئيس على هذه السياسة، تفوق تأثيرات أي رئيس سابق عليه، وتظهر دلالة هذا التقدير في أن شخصنة القرار والمواقف والسياسة أصبحت – بفضله – ظاهرة ثابتة وليست حالة عابرة. كما أن مواقفه وسياساته مهما بلغت من الوضوح، فهي عُرضة للتغيير الكلي دون شرح أو تفسير. فضلاً عن قدرته على صبغ الحقائق بتفسيرات خاصة، واستدعاء التاريخ بشكل انتقائي. إضافة إلى حساسيته من النقد وعدم استعداده للاعتذار مهما ارتكب من أخطاء في سياساته، أو تجاوزات في حقوق الآخرين. الأمر الذي أصبح يشكل صعوبة في التعويل على السياسة الأمريكية في المستقبل المنظور. أو توهم أن وراء هذه الفجائية والتلقائية في اتخاذ القرار أية خطة أو استراتيجية، أو افتراض أن يتصرف الرئيس بما لا يتوافق مع طبيعته. خاصة مع ما ترتبه تصريحاته من تأثير على مكانة بلاده كقوة عظمى، ما يُظهرها بمظهر المستهين بموقع القيادة الدولية، ويُفقدها ثقة دول العالم في مواقفها والاطمئنان لوعودها. فضلاً عما تسببه تغريداته من التباس في الفهم وفراغ في التصور وخلط في التقدير بين الترتيبات السياسية الأمريكية المؤقتة والموقف السياسي الأمريكي الثابت. إلا أن الشاهد، من ناحية أخرى، أن ترامب يُظهر اهتمامًا أقل بترجمة نزواته إلى فعل سياسي ملموس، الأمر الذي يُمكِّن أركان إدارته من أن يكون لها دور أكبر في احتواء قراراته ولجم اندفاعاته. ¢