لا مِراءَ في أن الاحتفاليات الأخيرة التي أُقيمت في مصر والمرتبطة بآثارها القديمة، وعلى رأسها مناسبة نقل المومياوات الملكية إلى المتحف المصري بميدان التحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط، قد أثارت ولا زالت تثير العديد من التساؤلات لدى قطاعات كبيرة ممن تابعوا مثل تلك المناسبات أو سمعوا بها سواءً على المستوى المحلي أو الإقليمي بشكلٍ عام، ولعل أهم تلك التساؤلات يدور حول كلٍ من موسيقى مصر القديمة، والتغني بلغتها التي اندثرت منذ قرون عديدة، فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وهل في الإمكان حقًا التعرف على ملامح العالم الصوتي القديم سواءً في عالم النغم أو منطوق الكلمات؟ وما هو الحد الذي يفصل في هذا الأمر بين الحقيقة العلمية والخيال الفني؟
إن فنون الأداء الصوتي، سواءً بالعزف على الآلات الموسيقية أو الغناء هي أكثر الفنون ارتباطًا بالزمن؛ حيث تبدأ وتنتهي في حدود زمنية لا تتخطاها. وهذه الآنية الأدائية قد يتم تعويضها نوعًا ما إذا قام نفس المؤدي بإعادة الأداء في وقت لاحق ومكان مغاير، أو كان هناك نوع من التسجيل الصوتي بأي وسيلة تقنية، أو وجود مدونة موسيقية يمكن الرجوع إليها. وبطبيعة الحال لا تنطبق الحالة الأولى أو الثانية على أي من موسيقات العالم القديم على الإجمال؛ حيث اختفت كل الشعوب القديمة من على مسرح الحياة، ولم تتطور تقنيات التسجيلات الصوتية إلا في العصور الحديثة فقط؛ ولذا فلا مناص من أن نتجه إلى البحث عن مدونات موسيقية علّها تكون مساعدة لنا في هذا الأمر.
ولكن حتى في هذه الأخيرة فإننا لسنا بأحسن حالًا، فإلى الآن لم يعثر على مدونات موسيقية مصرية قديمة مؤكَدة قد تُمكّنا من التعرف على ملامح العالم النغمي أو الإيقاعي في مصر القديمة في أي من عصورها التاريخية، فالمرجح أن المعرفة الموسيقية بالألحان والإيقاعات كانت تتم بطريقة شفاهية يتم توارثها من جيل إلى آخر، وهذا أمر تشترك فيه الحضارة المصرية القديمة مع معظم حضارات العالم القديم.
وإذا كان هذا هو الحال، فما هو السبيل إلى دراسة واقع الحياة الموسيقية في حضارات العالم القديم بشكلٍ عام، والحالة المصرية هنا بشكلٍ خاص؟
لقد كان هذا الأمر هو الشاغل الرئيس لعدد من الباحثين في المجال الموسيقي منذ القرن التاسع عشر، وأخذ رويدًا رويدًا في التبلور حتى وصلنا إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وهنا اجتمع هؤلاء المهتمون بهذا المبحث، وقاموا بإنشاء حلقة بحثية تجمع عدد من التخصصات البينية من أجل دراسة فنون الأداء الصوتي في تلك الأزمنة السحيقة، والتي تمتد هي الأخرى إلى عصور ما قبل التاريخ. ولقد تم تدشين هذا المبحث البيني بشكلٍ رسمي في ثمانينيات القرن الماضي، ويطلق عليه الآن على الإجمال “علم الآثار الموسيقية”، ويجمع تحت لواءه العديد من التخصصات: كـعلم الآثار، وعلوم الموسيقى، وتاريخ الفن، وعلم الآلات الموسيقية، وعلوم فيزياء الصوت، وعلوم لغات الحضارات القديمة المختلفة، وعلم موسيقى الشعوب،… وغيرها من العلوم .
أما فيما يخص المصادر التي يعتمد عليها هذا المبحث في تقصِّي و دراسة جوانب النشاط الموسيقي في العالم القديم، فهي تتمثل في مثلث رأسه الآلات الموسيقية الأثرية، وضلعاه أحدهما المناظر الموسيقية المصورة على الآثار، والآخر النصوص القديمة التي ترتبط بالموسيقى والموسيقيين بشكلٍ عام.
وعلى الرغم من كثرة الآلات الموسيقية الأثرية التي وصلت لنا من مصر القديمة، والمحفوظة حاليًّا في متاحف العالم الكبرى، فإنها للأسف لم تنل نصيبًا وافرًا من البحث والدراسة حتى الآن.
ويساعد الفحص الدقيق لهذه الآلات القديمة في إلقاء الضوء على عدد من الجوانب الهامة فيما يخص تقنيات الصناعة، وآثار استخدام وإصلاح الآلات في العصور القديمة، كما هو الحال في تقصي آثار بصمات الأوتار على جسم الآلة الوترية على سبيل المثال، ذلك علاوة على إمكانية استصناع مستنسخات لتلك الآلات من أجل استكمال دراستها واستكشاف إمكاناتها الصوتية المختلفة. وعملية استنساخ الآلات تلك تدخل في عداد “علم الآثار التجريبي”، حيث يتم دراسة اللون والنطاق الصوتي الخاص بالآلة، وكل ما يمكن أن تصدره من نغمات، علاوة على رنينها الصوتي وكافة المسافات والأبعاد الموسيقية التي يمكن أداؤها على الآلة، والكثير من الجوانب الموسيقية والصوتية الأخرى، ذلك فضلًا على دراسة طرق تصنيع الآلة الموسيقية والمواد التي كانت تستخدم في ذلك، وما لكل هذا من أثر على نوعية الصوت المنبعث من الآلة القديمة.
وبطبيعة الحال فإن محاولات العزف على الآلات الأثرية ذاتها أو مستنسخاتها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدلنا على أي من الألحان أو الإيقاعات التي كان يعزفها الموسيقيون في العصور القديمة. وهنا يحاول المتخصص المعاصر استكشاف جميع الإمكانات الصوتية الخاصة بهذه الآلة، مع الأخذ في الاعتبار عدم معرفتنا بتقنيات أداء العازفين القدماء لنفس تلك الآلات، وتغير نفس تلك التقنيات في حقب العصور القديمة المختلفة، وبعد كل ذلك يتم توثيق ونشر كل تلك النتائج بشكلٍ علمي دقيق. وقد ينظم فريق البحث العلمي بالتعاون مع بعض الموسيقيين المعاصرين عددًا من الحفلات التي يتم فيها عزف إبداعات موسيقية حديثة وارتجالات مختلفة على مستنسخات الآلات الأثرية، في محاولة لإطلاع الجماهير على المذاق الصوتي الخاص الذي يمكن أن ينتج عن الآلات القديمة، ولكن دون ادعاء بأن هذه الإبداعات المعاصرة تطابق بأي حال من الأحوال موسيقى سالف العصور على أمثال تلك الآلات.
وعلى سبيل المثال، كان لمعهد الشرقيات التابع لجامعة شيكاغو بالولايات المتحدة تجربة جيدة في هذا المجال منذ عدة سنوات، تم فيها تقديم أعمال موسيقية في حفل للجمهور على مستنسخ لقيثارة أور السومرية الشهيرة في إطار دراستها من الناحية الأثرية والموسيقية، وذلك كله دون الادعاء “بإحياء” للموسيقى والغناء السومري، بل في محاولة فنية تحترم حدود المعرفة العلمية الدقيقة، وتطلق العنان في ذات الوقت للمخيلة الفنية في إبداع حديث يحاول فيه الفنانون تخيل ما كان، ولكن بثقافتهم وفهمهم وحصيلتهم السمعية والفنية المعاصرة، والتي هي بلا أدنى شك تختلف كلية عن مفردات العالم النغمي لمن عاشوا قبل آلاف السنين.
وهنا يجب أيضًا الأخذ في الاعتبار وجود العديد من المشاكل التي تواجه الباحث في هذا المجال، فأغلب الآلات الموسيقية الأثرية المصنعة من الأخشاب مثلًا كانت قد تحللت واندثرت أوتارها والجلود المستخدمة في استكمال صندوقها المصوت حين اكتشافها. ذلك علاوة على اندثار ريشة النفخ التي كانت متواجدة عند فوهة آلات النفخ الخشبية في مواجهة فم العازف، والتي تجعل من الصعب محاولة التمييز بين ما إذا كانت الريشة في الأصل من النوع المفرد (كما في آلة الكلارينت الحديثة مثلًا)، أو من النوع المزدوج (كما هو الحال في آلة الأوبوا الحديثة).
ومن ناحية أخرى، فإن السياق الأثري لمعظم الآلات الموسيقية المصرية القديمة المحفوظة في متاحف العالم غير معروف، حيث أن أغلبها كان قد تم شراؤه من تجار الآثار منذ زمنٍ بعيد، مما يعيق التأريخ الدقيق لهذه الآلات. وعلى الرغم من ذلك، فإن البقية الباقية والتي تم توثيقها أثريًّا من خلال أعمال الحفائر قد عُثر على أغلبها ضمن الأثاث الجنائزي في مقابر القدماء، وإن كانت بعض الآلات قد عثر عليها بالفعل في قبور لموسيقيين، فهذا لا ينطبق إلا على عدد غير قليل منها- كما هو الحال مع آلتي النفير التي عثر عليها بمقبرة الملك توت عنخ آمون مثلًا، حيث لم يكن الملك ذاته بطبيعة الحال هو الذي يقوم بالعزف على تلك الآلات.
ولكن حتى الآن مازالت تلك الآلات الموسيقية الأثرية من مصر القديمة تنتظر الكثير من البحث العلمي الدقيق، حيث كانت المناظر والرسومات الخاصة بالموسيقى والموسيقيين- وحتى عهد قريب جدًا – هي شغل الباحثين الشاغل في دراسة جوانب الحياة الموسيقية في مصر القديمة.
وأعمال الفن التشكيلي تلك كثيرة بالفعل، سواء كانت من تصاوير ومناظر على الآثار الثابتة والمنقولة، أو التماثيل المختلفة، وكلها بلا شك مُعين جيد لإلقاء الضوء على جوانب الحياة الموسيقية والغنائية وإطارها الاجتماعي والثقافي العام في مراحل التاريخ المصري القديم. ومن ذلك توثيق آلات معينة، وأسماء تلك الآلات، وأسماء الموسيقيين وألقابهم، والمجاميع الآلية المختلفة، والمناسبات التي كانت تتواجد فيها الموسيقى و مصاحبتها للغناء والرقص، سواء في السياقات (الدينية، أو الاجتماعية، أو الحربية، أو… غيرها)، وذلك في الفترات التاريخية المختلفة.
ولكن هذه التصاوير، وعلى الرغم من غزارتها، فهي لا تخلو من مشكلات لم ينتبه لها المتخصصون إلا في القرن الحالي عند التعامل معها من أجل التوصل إلى ملامح الحياة الموسيقية في تلك العصور القديمة. ولقد ذهب أحدهم – وكان من الموسيقيين – في النصف الأول من القرن العشرين إلى الحد الذي حاول فيه استنباط مسافات موسيقية ونغمات بعينها من واقع مواضع أذرع المغنيين المصاحبين للعازفين على الآلات الموسيقية، فضلًا عن مواضع أصابع العازفين والعازفات على أوتار الآلات الوترية المصورة مثلًا.
ولقد اتضح في السنوات الأخيرة عوار هذا المنهج الناتج عن قلة الدراية بطبيعة الفن المصري القديم وخصائصه وقواعده، ذلك أن معظم المناظر التي وصلت إلينا من مصر القديمة كانت مسجلة على جدران مقابر أو معابد، وهذه السياقات الأثرية كانت مرتبطة بعلية القوم أو بالملوك وعالم الآلهة. ومن المعروف لدى المتخصصين الآن أن فنون التصوير المصري القديم سواءٌ في القبور أو المعابد كانت تتبع نظمًا وقواعد وتقاليد خاصة، والتي كانت بدورها تختلف باختلاف المرحلة التي ينتمى إليها الأثر؛ حيث أن تلك القواعد لم تكن تصويرًا “فوتوغرافيًّا” للواقع على الحقيقة، بل كانت تُشكِّل المناظر وتنظمها على الحوائط بطريقة رمزية منمطة، و حسب مفاهيم معينة، وقواعد فنية متبعة للبرنامج الفني والتصويري في مقابر الملوك وعلية القوم، أو في معابد الآلهة. أي أن تلك المناظر كانت تصور جزءًا من الواقع في حين تحذف الكثير مما كان يمارس فعليًّا في وقتها وذلك لكونه لا يتفق مع تلك التقاليد والقواعد الفنية. وبذا فليس كل ما تم إدراجه ضمن هذا الرصيد التشيكلي كان مطابقًا بطريقة حرفية للواقع، وليس كل ما لم يتضمنه لم يكن موجودًا على الحقيقة في نفس الفترة التاريخية التي تعود لها تلك المناظر، ولذا فإن التصاوير الموسيقية بلغتها الفنية المرئية لا يمكن أن تعبر في هذه الحالة عن ملامح الأداء الصوتي لما كان يعزفه العازفون على آلاتهم الموسيقية، أو الخصائص الغنائية للأصوات البشرية التي صاحبتها تلك الآلات.
وتمثل النصوص القديمة المصدر الثالث الذي يمكن أن نستقي منه الكثير من المعلومات عن النشاط الموسيقي ومناسباته المختلفة، علاوة على أوضاع الموسيقيين، ورصيدهم الفني، وتباين قدراتهم الفنية ومراتبهم، وأحوالهم الاجتماعية،… وغيرها من الجوانب الأخرى. ولم يتم التطرق إلى هذا المصدر الهام إلا مع بدايات القرن الحادي والعشرين، وذلك لما يتطلبه من إجادة للغة المصرية القديمة، وهذا أمر لا يتأتى بطبيعة الحال إلا لمتخصصي علم المصريات المنشغلين باللغة المصرية القديمة، والذين لم يولوا اهتمامًا بهذا المجال إلا في العقدين الأخيرين.
وعلى الرغم من أهمية هذا المصدر، فإن من أكبر العقبات التي تواجه الباحثين فيه هي محاولة التوصل إلى مدلول الكلمات التقنية التي تصف بعض طرق الأداء الموسيقي، أو الآلات ذاتها، أو المواد المصنوعة منها كما هو الحال في بعض النصوص. ولا زال هذا مجال رحب للدراسة العلمية من المنتظر أن يسهم في اتساع رقعة معرفتنا بملامح الوسط الموسيقي بجوانبه المختلفة في مصر القديمة، ولكن بطبيعة الحال، فإن البحث في النصوص القديمة ذاتها لا يمكن أن يفضي إلى التعرف على ماهية الألحان والخصائص الصوتية والأدائية عند القدماء على مستوى كل من العزف أو الغناء.
وهذا يقودنا إلى التساؤل الآخر عن مدى إمكانية التلفظ بكلمات النصوص المصرية القديمة، وهي ظاهرة بدأت تتزايد مؤخرًا في الأوساط الموسيقية المصرية.
وواقع الأمر من الناحية العلمية، أننا لا نعرف على التحقيق منطوق اللغة المصرية القديمة في أي من عصورها المختلفة؛ وذلك لأن اللغة المصرية القديمة ذاتها لم تصلنا إلا كلغة كتابية محفوظة في مخطوطاتها وعلى آثارها القديمة على مدار أربعة آلاف عام، علاوة على أن تلك اللغة الكتابية كانت تتسم بالمحافظة الشديدة، وذلك على خلاف اللغة المتحدثة المتغيرة بطبيعة الحال، والتي عاصرت تلك الكتابات على مدار حقب التاريخ القديم؛ ولأن كل من تكلموها رحلوا عن الدنيا منذ قرون عديدة، وتم التحول أيضًا إلى اللسان العربي منذ ما يربو على الألف عام، فإنه يستحيل الجزم بمعرفة مؤكدة بمنطوق اللغة المصرية في أي من مراحلها القديمة.
ولذا يعكف عدد قليل من فقهاء اللغة المصرية القديمة، والمهتمون على التخصيص بعلم وظائف أصوات اللغة، أو “الفونولوجيا”، على دراسة التطورات والتغيرات الصوتية ومحاولة التعرف على القيم الصوتية الخاصة بنظام اللغة الصوتي من حيث صوامتها (أي سواكن الأحرف)، وصوائتها (أي حروف الحركة) في كل مرحلة تاريخية، وهو أمر يتسم بقدر كبير من الصعوبة، ويتطلب مهارات لغوية ومعرفية لا تتأتى لمعظم المشتغلين في علم المصريات على العموم، أو حتى كثير من المتخصصين في فروع اللغة المصرية الأخرى، كالأجرومية أو الخطوط ونظم الكتابة مثلًا.
ولكن لتسهيل دراسة اللغة المصرية القديمة، و هي حجر الأساس في دراسات علم المصريات، ولقراءة وتفسير وترجمة النصوص والكتابات القديمة، فتواضع العلماء منذ زمن بعيد على تحديد وتثبيت قيم صوتية اصطلاحية تقريبية للعلامات ذات القيم الصوتية في الكتابات المصرية القديمة السابقة على المرحلة القبطية، وحيث أن تلك الكتابات القديمة بخطوطها الثلاث (الهيروغليفية، والهيراطيقية، والديموطيقية) كانت في أغلبها لا تعبر كتابيًّا إلا عن صوامت أو بعض صوامت الكلمات دون صوائتها، بالإضافة إلى علامات أخرى غير صوتية للتعبير عن المعنى المراد من الكلمات، فاصطلح العلماء على إضافة حركة خفيفة كالياء الممالة خطفًا في اللغة العربية، وذلك من أجل تيسير التلفظ بصوامت الكلمات الاصطلاحية تلك داخل قاعات الدرس من ناحية، ولتسهيل التواصل العلمي بين الباحثين من ناحية أخرى. وذلك كله مع الإقرار مسبقًا بأن هذا ما هو إلا منطوق اصطلاحى مصطنع لا يعكس الواقع الصوتي للكلمات المصرية القديمة في أي من المراحل الزمنية بشكلٍ صحيح، ولذا لا تختلف للكلمة الواحدة عند الباحثين في منطوقها من حيث الصوائت والصوامت سواءٌ كانت الكلمة من نص يعود إلى الألف الثالثة أو المائة الثالثة قبل الميلاد، أو في نص من شمال مصر أم جنوبها. وذلك في خلاف صريح لمنطق الأمور من الناحية اللغوية من حيث التغيرات التي تطرأ عادة على صوتيات أي لغة حية في الزمان والمكان عبر تاريخها الطويل.
ولذا فإن منطوق ما يتغنى به المغنيون المحدثون من كلمات نصوص وأشعار مصرية قديمة ضمن أعمال فنية موسيقية معاصرة، ما هي إلا استخدام لهذا النطق الاصطناعي الاصطلاحي الذي يُستخدم في قاعات الدرس، ولذا فهو لا يعبر حقيقةً عن منطوق الكلمات المصرية القديمة في المرحلة التاريخية التي يعود إليها النص الذي يحوي تلك الكلمات، ولا هو حتى يعكس أو يتبنى نتائج أي من الأبحاث التي قام بها فقهاء اللغة المصرية القديمة في مجال علم وظائف أصوات اللغة المصرية القديمة وصوتياتها في أي من فتراتها اللغوية المختلفة.
وبناءً على كل ما تقدم يتضح أن المجال الخاص بدراسة العوالم الصوتية لحضارة مصر القديمة، سواء كانت موسيقية أو لغوية وغنائية، لهو مجال رحب له متطلباته وغاياته، وله عظيم الفائدة في الكشف عن جوانب النشاط الموسيقي والغنائي، والذي لعب دورًا بالغ الأهمية في التراث الحضاري لمصر القديمة. وعلى الرغم من صعوبة هذا المبحث العلمي، فلا يستطيع المشتغلون به على التجاسر بالادعاء بأنهم يسيرون على درب يفضي بهم إلى “إحياء” أي من اللغة أو الموسيقى المصرية القديمة.
وهذا على خلاف المجال الفني في عصرنا الحديث، حيث يحاول الفنانون إطلاق العنان لخيالهم الفني في محاولة لتخيل أجواء العالم القديم كما يتراءى لهم وحسب ثقافتهم الموسيقية وخلفياتهم الفكرية، وكما يتصورها جمهورهم الحالي وتتقبلها مسامعه، وقد يلجؤون في ذلك إلى: استخدام آلات موسيقية حديثة، أو أخرى شعبية، أو مستنسخات آلات أثرية قديمة، أو يجمعون تلك الأشتات في نسيج واحد، وكل ذلك بتقنيات الأداء الحالية بطبيعة الحال. وقد يضيفون إلى ذلك أصوات بشرية تتغنى بنصوص مصرية قديمة مترجمة إلى لغة حديثة، أو يتخذون من طريقة التلفظ الاصطلاحي لدارسي اللغة المصرية القديمة سبيلًا للإمعان في إيهام المستمعين ومحاولة منهم لبث شعور بالعالم القديم الغير مألوف، والغريب على مسامع المتلقي في زماننا هذا.