2023العدد 193ملف ثقافي

عرف العالم حقائقهم وتغيرت صورتهم وكبرت أحلامهم “العرب بعد مونديال قطر 2022″

سيبقى 20 نوفمبر 2022 يومًا فاصلًا في تاريخ كرة القدم العربية، وأيضًا أحد أيام العرب الاستثنائية سياسيًّا واجتماعيًّا، ففي هذا اليوم بدأ المونديال الكروي الثاني والعشرون الذي استضافته قطر كأول مونديال يُقام على أرض عربية، ولهذا كان يومًا فاض بأحلام ومخاوف وشكوك وهواجسَ وكثيرٍ من أسئلة لم تكتمل إجاباتها إلا في 18 ديسمبر2022، عند إسدال ستار نهاية وختام هذا المونديال العربي، والمؤكد أنه لم يكن مجرد مونديال آخر من تلك التي يشهدها ويعيشها العالم كل أربع سنوات، إنما كان بداية تغيير حقيقي وهائل لا يزال تتواصل حتى الآن نتائجه، ولم ولن يبقى، مقصورًا على كرة القدم العربية فقط بجماهيرها ومؤسساتها ونجومها وحساباتها وطموحاتها؛ فإلى جانب النجاح في استضافة المونديال كأكبر وأهم بطولة كروية على سطح الأرض، كانت هناك بطولات كروية أخرى بدأت تستضيفها الأرض العربية وانتصارات كروية أيضًا منحت الكرة العربية ما كانت تحتاجه من ثقة وقدرة وكبرياء؛ لتخرج من القمقم الضيق للعالم الواسع. وإلى جانب التغيير الكروي الكبير، كان هناك تغيير آخر أيضًا لا يقل أهمية وضرورة يتعلق برؤية العالم للعرب ورؤية العرب لأنفسهم وما يستحقونه وما يقدرون عليه الآن وغدًا، تغيير لم يتوقع حدوثه سواء العالم أو حتى العرب أنفسهم الذين كانوا يظنونه صعبًا وبعيدًا للغاية إن لم يكن مستحيلًا.

وأمام ضخامة هذا التغيير الذي جرى ولا يزال يجري، لابد من التمهل طويلًا لتحديد مقدمات هذا التغيير ثم أسبابه قبل التوقف أمام نتائجه. ففي البداية، ساد الاعتقاد بأن العرب استضافوا هذا المونديال فقط لأنهم يملكون المال لكنهم لا يملكون الخبرة والقدرة على تنظيم مونديال بهذا الحجم، واعتقاد ثانٍ: بأن العرب سيكونون في هذا المونديال مجرد ضيوف شرف مثل كثيرين سبقوهم فاكتفوا بأنهم أصحاب أرض وملعب لا أصحاب لعب وموهبة، واعتقاد ثالث: بأن هذا المونديال لن ينجح إنسانيًّا واجتماعيًّا؛ لأنه يُقام وسط عرب اتهمهم العالم مسبقًا بالتشدد والانغلاق وعدم قبول الآخر، وبالتالي سيضطر العالم هذه المرة لأن يلعب وسط غربة ومناخ عدائي يفضل الكراهية عن الحب ويجذبه لون الدم أكثر مما يهوي رائحة الورد، واعتقاد رابع: بأن العرب منقسمون فيما بينهم تسبقهم دائمًا خلافات وحساسيات، وبالتالي لن يشهد هذا المونديال صدام العرب مع هذا العالم الكبير حولهم فقط، إنما ستكون هناك أيضًا أزمات عربية خالصة، وإن العرب لن يسعدهم نجاح قطر في استضافة المونديال أو نجاح في الملعب لأي من المنتخبات العربية المشاركة، وأمام كل ذلك كان الفشل هو النتيجة التي توقعها وراهن عليها أو بمعنى آخر أكثر دقة أرادها كثيرون في هذا العالم لهذا المونديال على أرض عربية ووسط العرب

وكانت أولى وأكبر محاولات إفشال هذا المونديال العربي، هي عودة الحديث عن عمال فقراء ماتوا في أثناء بناء ملاعب المونديال في قطر، وقبل أشهر قليلة من بدء المونديال علت نبرة هذا الحديث وزاد الإلحاح عليه، ولم ينتبه أصحاب هذه الاتهامات أو حتى العرب أنفسهم إلى حقيقة بالغة البساطة والوضوح، وهي أن قطر كانت تتحمل تكاليف البناء لكن من تقوم بالعمل على الأرض شركات أوروبية يقوم مهندسوها وخبراؤها الأجانب بالعمل على الأرض وتحت إشرافهم الكامل والمباشر، فلو كانت هناك ظروف غير آدمية أو غير مناسبة فقد كان من الضروري أن يطالب هؤلاء المشرفون بتحسينها وتغييرها بدلًا من سكوت طال كثيرًا حتى انتهاء العمل وجمع الأرباح لتبدأ بعدها الشكاوى ونثر الاتهامات. والمحاولة الثانية كانت اختبارًا دوليًّا لمدى تمسك العرب بتقاليدهم وعاداتهم، فعلت قبل المونديال أيضًا أصوات تساءلت هل ستوافق قطر على استقبال الشواذ في أثناء المونديال، وتعترف بحقوقهم في الحضور والفرجة على الكرة ورفع شعاراتهم، وألوانهم في مدرجات الملاعب أم سترفض ذلك؟  وكان القصد هو اتهام العرب بالتشدد والتطرف في حال الرفض، واتهامهم بالتخلي عن معتقداتهم في حال القبول، وبسرعة، ونفس القصد، كان هناك سؤال آخر يتعلق بالمشروبات الكحولية، وهل سيتم السماح بدخولها للملاعب مثلما يجري في كل مونديال وبطولات أخرى أم سترفض قطر هذا السماح ؟ رفضت قطر الاثنين (الشواذ، والمشروبات الكحولية)، دون أن تخسر قطر والعرب معها لكنها كانت خسارة من راهنوا على اتهام العرب إما بالتشدد أو التفريط. واضطر العالم لاحترام قواعد وتقاليد ومعتقدات عربية دون أي اتهامات بتشدد أو تطرف،

ووسط كل هذه الأجواء ومع كل هذه المعتقدات والحروب المعلنة وغير المعلنة، بدأ المونديال وانتهى ليأتي وقت الحديث عن نتائج كل ما جرى وكانت النتيجة الأولى هي نجاح قطر في الاستضافة، وعقب المونديال أكد “جياني إينفانتينو” رئيس الفيفا أن “مونديال 2022، كان المونديال الأنجح على الإطلاق في تاريخ كرة القدم”، ولم ينسَ إينفانتينو الأرقام في حديثه؛ فقال: “إن مونديال قطر كان الأنجح؛ لأنه المونديال الذي شاهد مبارياته خمسة مليارات إنسان؛ ولأن إيرادته بلغت سبعة مليارات دولار، وهي أرقام لم تتحقق في أي مونديال سابق”. وغير الأرقام قال إينفانتينو: “إن هذا المونديال أتاح للعالم فرصة حقيقية واستثنائية للتعرف على الثقافة العربية”. وأشار إينفانتينو إلى مهرجان المشجعين الذي نظمته الدوحة على هامش المونديال، وحضره أكثر من مليون و700 ألف مشجع من مختلف جنسيات العالم، استمعوا في كل ليلة للأغاني والموسيقى العربية، وتذوقوا الطعام العربي، وتعرفوا على العادات العربية، وكيف يجيد العرب استقبال ضيوفهم مهما كانت اختلافات اللغة والهُوية والدين والثقافة، وكان أهم ما قاله إينفانتينو وردده كثيرون غيره أيضًا: “أن العالم اكتشف خطأ كثيرٍ من معتقداته السابقة عن العرب”.

وبعيدًا عمَ قاله إينفانتينو رغم أهميته وقيمته، كانت هناك حكايات أخرى كثيرة عاشها غرباء جاؤوا إلى قطر من أجل المونديال، فتحولت البطولة الكروية إلى فرصة استثنائية لهم لإعادة اكتشاف العرب، وعلى سبيل المثال: ومن بين مئات الهنود الذين جاؤوا إلى قطر للفرجة على المونديال، كانت هناك امرأة هندية اسمها “نوشي ناجيرا” في الثالثة والثلاثين من عمرها اختارت أن تسافر بمفردها وفي سيارتها الخاصة من كيرالا إلى الدوحة، وملأت نوشي سيارتها بكل ما ستحتاج إليه خلال هذه الرحلة الطويلة من (ثياب، وطعام، وماء، وخيمة صالحة للنوم)، وبعدما تركت نوشي طفلها في رعاية والدتها بدأت رحلتها وقادت سيارتها من مدينة ماهي الصغيرة جدًا حتى ميناء بومباي، وسافرت نوشي هي وسيارتها بالبحر من بومباي حتى مسقط، وعادت تقود سيارتها من جديد عبر طرقات ومدن (عمان، والإمارات، والكويت، والسعودية، حتى الدوحة في قطر). وخلال أيام هذه الرحلة، توقفت نوشي في كل مدينة ليفاجئها ترحيب العرب بها واستعدادهم لمعاونتها وإرشادها وتقديم الطعام لها والاطمئنان على صحتها وسلامتها، وكان أهم ما قالته نوشي إحساسها بالأمان، لم تشعر بأي غربة أو خوف، ولأنها أصلًا صاحبة مدونة “رحلات شهيرة”، فقد عادت نوشي إلى الهند بعد المونديال لتكتب عما شاهدته وعايشته في بلاد العرب، وكيف تم سنينًا طويلة قديمة ترويج أكاذيب كثيرة عنهم لتضخيم أخطاء وتشويه الصورة والسيرة.

ولم تكن نوشي وحدها التي قامت بهذه الرحلة واقتربت إلى هذا الحد من العرب، إنما كانوا كثيرين جدًا من مختلف بلدان العالم، جاؤوا سواء لقطر أو لبلدان الخليج القريبة، فلم يكن مونديال 2022 هو مونديال البلد الواحد؛ لأن مساحة قطر دفعت بجماهير كثيرة لأن تقيم في البلدان القريبة وتسافر للدوحة وقت المباريات فقط، فكانت فرصة للاحتكاك بمختلف الثقافات والعادات العربية، وأدى ذلك لاكتشاف حقائق كثيرة كانت غائبة سواء بالعمد والتضليل أو الجهل والإهمال، وعاد هؤلاء الكثيرون بحكاياتهم وذكرياتهم وتعليقاتهم وكتاباتهم التي ملخصها أن العرب ليسوا متوحشين كما كان مُتصوَرًا، وليسوا بدائيين كما كان مُتخيَّلًا، وليسوا متطرفين كما كان مزعومًا، ولا يعني ذلك أن العرب جميعهم ملائكة لكنهم ليسوا شياطين أيضًا بعدما حرصت وسائل إعلام غربية كثيرة على شيطنتهم بكل الصور والمعاني. وكان ذلك أحد مكاسب العرب الأساسية من هذا المونديال؛ فالأمان الذي ناله الجميع سواء في الدوحة أو باقي مدن الخليج، لم يكن أمانًا مصطنعًا فرضته قبضة أمن قوية، إنما كان مناخًا طبيعيًّا يليق بكرم العرب وحفاوتهم بأي غريب وشهامة عربية مع كل ضيف. ومثلما ربح العرب ربحت أيضًا اللغة العربية التي دخلت لأول مرة بطولات الكرة الكبرى، فكل نشيد وطني لأي منتخب مشارك كان يتم تقديمه قبل المباراة باللغة العربية، وتنقل ذلك شاشات العالم، وأغاني الافتتاح، والختام، كانت عربية سواء السلام عليكم في الافتتاح أو عز العرب في الختام. وغير اللغة العربية، كان المطبخ العربي أيضًا، فقد اكتشف المتفرجون مذاق الطعام العربي الذي غالبًا لا يجري تسويقه عالميًّا مثل: طعام إيطالي، أو صيني، أو تركي، حتى طباخو المنتخبات المشاركة في المونديال أبدوا إعجابهم بما رؤوه في الأسواق العربية وتذوقوا الطعام العربي بأنفسهم، لكن منعتهم نظم منتخباتهم من تقديم طعام عربي لمنتخباتهم في أثناء أيام المونديال، لكنهم اصطحبوا معهم إلى بلادهم هذا المذاق العربي والأطباق العربية وطريقة إعدادها

وغير صورة العرب الحقيقية التي ظهرت واضحة ومكتملة وجميلة في عيون الجميع، كان أحد المكاسب العربية المهمة هو خسارة كل من راهن على الخلافات والانقسامات العربية، وبعد انتهاء المونديال بدأ كثيرون يلاحظون ذلك، فصحيفة “فرانكفورتر ألجماينه” الألمانية أشارت في تقرير مطول أن المونديال وحَّد العرب مثلما وحد الغرباء في رفضهم لكثير مما كان يُقال عن العرب. وفي دراسة لجامعة إكسفورد البريطانية، كان التأكيد على أن كرة القدم أخيرًا نجحت في اختطاف العرب من كل وأي خلافات سياسية وأعادتهم لأمة تتحدث لسان واحد وتلتزم بعادات واحدة وتقاليد راسخة ومتشابهة. ودراسات غربية أخرى أشارت إلى أن التضامن العربي بدأ بالفعل قبل المونديال وازادت مساحته في أثناء وبعد المونديال، ففي البداية تضامن العرب مع قطر حين رفضت الاعتراف بالمثليين والسماح بالخمور، وعلى الرغم من هجمة إعلامية غربية هبَّت فجأة ضد قطر بسبب هذا الأمر، تضامن العرب مع قطر ودافعوا عنها ودافعوا أيضًا عن معتقداتهم التي هي نفسها في قطر، فقد شعروا أن هذه الهجمة ليست ضد قطر تحديدًا إنما ضدهم جميعًا، وأنها ليست حرب قطر بمفردها حتى إن كانت هي صاحبة المونديال، ثم زاد التضامن العربي حين بدأت المباريات، وكان العرب يلتفون حول أي منتخب عربي يلعب ويفرحون لفوز أي منتخب عربي. سقطت فجأة وبشكلٍ لافت كل الحساسيات السياسية والاجتماعية والكروية أيضًا، وكانت المنتخبات العربية المشاركة تفاجَأ بالتشجيع العربي حتى في بلدان عربية بعيدة جغرافيًّا عن قطر، تشجيع حملته ورصدته صفحات السوشيال ميديا وتعليقات وإشارات إعلامية عبر مختلف الشاشات العربية، ومن أجمل وأصدق التعابير التي قيلت بهذا الشأن كان إن المونديال كان وحدة شعوب عربية قبل أن تكون مبادرات حكومية عربية

والتفت كثير من المحللين السياسيين الغربيين لظاهرة التشجيع الشعبي اليمني للمنتخب السعودي رغم توتر أحداث وخلاف رؤى، لكن كرة القدم انتصرت أخيرًا على السياسة بعدما كانت السياسية العربية بخلافاتها هي التي تفسد الأجواء والعلاقات الكروية العربية، وبعدما عاشت كرة القدم العربية طويلًا بمثابة دعوة للكراهية، تحولت فجأة إلى دعوة للحب والتضامن، ولم يعد هناك فارق بين دولة عربية يلعب منتخبها في المونديال ودولة لا تشارك فيه، اعتبر الجميع أن الأربعة منتخبات المشاركة( قطر، والسعودية، وتونس، والمغرب)، هي منتخبات عربية تلعب في الدوحة بالنيابة عن كل العرب. وكان هذا التضامن والتلاحم الذي جرى دون أي تمهيد ومقدمات هو ما أزعج الإعلام الإسرائيلي كثيرًا، فكل الحسابات الإسرائيلية ودراساتهم كانت تؤكد ضخامة الانقسام العربي وأن الشروخ في العلاقات العربية لم يعد من السهل أو من الممكن ترميمها وإصلاحها، ثم فوجئت إسرائيل بما جرى، (السعودي، واليمني، والقطري) مع السوري، والمصري مع المغربي، والسوداني مع التونسي، والعراقي مع الكويتي، والسوري مع اللبناني، والجزائري مع الإماراتي، سقطت حواجز الجغرافيا وماتت أشواك السياسة ولو مؤقتًا.

أما على المستوى الكروي داخل الملاعب، فلم يكن العرب في المونديال مجرد ضيوف شرف، فالسعودية فازت على الأرجنتين ومعها ميسي لتكون أول خسارة مونديالية للأرجنتين في تاريخها أمام منتخب عربي وآسيوي، وفازت تونس على فرنسا التي سافرت إلى قطر، وهي صاحبة لقب المونديال الماضي. أما المغرب التي كانت أول دولة عربية تصل للدور قبل النهائي، فلم تكتب تاريخًا جديدًا لها وللكرة العربية معها، إنما أنهت المغرب زمنًا كرويًّا عربيًّا بالتحديد في العاشر من ديسمبر 2022، حين تأهلت رسميًّا لقبل النهائي، ففي هذا اليوم تغيرت خريطة الكرة العربية كلها تغيرت تمامًا كأنه يوم تحول لنهاية عصر وبداية عصر جديد، عصر جديد بدأ وسيدوم لن يُقبل بعد الآن رؤية مسؤول كروي عربي يتباهى ويحتفل بأنه قاد منتخب بلاده للتأهل لنهائيات أي مونديال مقبل، أو إعلام كروي عربي يقيم مهرجانًا احتفاليًّا صاخبًا بعد فوز منتخب بلاده بإحدى مباريات دور المجموعات في أي مونديال مستقبلًا، ولن يبقى جمهور كروي عربي واحد يسهل خداعه بعد الآن بمجرد التأهل للمونديال أو فوز عابر أو حتى التأهل لدور الـ 16، وليس القصد أن كل العرب سيطلبون بعد انتصارات المغرب أن تتأهل منتخباتهم للأدوار النهائية لتتكرر انتصارات المغرب في المونديال القطري، فكرة القدم لعبة فيها الفوز والخسارة وليس لها أي منطق وليست فيها أي ضمانات وحقوق محفوظة، ومن الممكن جدًا أن تخرج (المغرب، أو فرنسا، أو الأرجنتين، أو كرواتيا) من دور المجموعات في المونديال المقبل، لكن المؤكد أن أهل الكرة العربية تغير طموحهم وتبدلت تمامًا حساباتهم وأحكامهم، ولن تستطيع أفكار قديمة ووجوه قديمة أن تصمد وتقاوم هذا التغيير مهما حاول أصحابها أو تخيلوا أن الأيام ستتوالى ومعها مسابقات عربية محلية سينشغل بها الناس وينسون ما جرى في مونديال 2022؛ فلا أحد سينسى ما حققه المغاربة وانتصاراتهم وسيبقى ذلك دليلًا يستند إليه كل من سيطالبون بتغيير الفكر الكروي في كثير من البلدان العربية. فليس الكثير من المال ضرورة حتمية ولازمة للنجاح الكروي، وما أنفقته المغرب كرويًّا، سواء في إعداد منتخبها أو مرتبات جهازه الفني يقل كثيرًا عما تنفقه بلدان أخرى كثيرة، وليس المدرب الأجنبي ضرورة لتحقيق الأحلام الكروية، فمعظم هؤلاء الأجانب يقومون بمهامهم كموظفين دون دوافع حقيقية للفوز إلا مجرد المجد الشخصي وكسب المال ويجيدون بيع الوهم سواء للمسؤولين أو الجماهير، فالأحلام الكروية العربية لم تعد بعد الآن مستحيلة.

وإذا كان اثنان من أهم وأشهر نجوم الكرة العربية في أوروبا (المصري محمد صلاح، والجزائري رياض محرز)، قد غابا عن المونديال القطري، فقد احتفل العرب جميعهم بنجوم المنتخبات العربية التي شاركت، ثم أضافوا لهم نجمًا فرنسيًّا من أصول عربية هو اللاعب الكبير “كيليان مبابي”، فقد عرف الذين لم يكونوا يعرفون أن مبابي من أصول جزائرية ووالدته هي فايزة العماري أو المرأة الحديدية التي قادت ابنها لكل نجاحاته والمنافسة على مكانة ولقب اللاعب الأفضل في العالم، وأكد الفرنسيون كثيرًا أنه لولا هذه المرأة العربية كان من الممكن ألا يكمل مبابي مشواره الكروي بهذا النجاح وهي التي قضت على غروره حين أصبح في 2018، أصغر لاعب فرنسي يسجل هدفًا في تاريخ المونديال والثاني في العالم بعد بيليه، وهي أيضًا التي علمته أن ينفق الكثير من ماله لمساعدة الفقراء وأن يشعر بمعاناتهم وأوجاعهم، وبعد انفصال فايزة عن زوجها وانتقالها إلى باريس، لا تزال تحلم بما هو أكثر وأجمل لمن منحته حياتها وأحلامها

ولم تكن المرأة العربية غائبة عن مكاسب العرب من هذا المونديال، فبعيدًا عن أن المونديال القطري كان الأول في التاريخ الذي تقوم فيه نساء بتحكيم مبارياته، كان أيضًا انتصارًا للمرأة العربية التي استعادت حقها في حب كرة القدم والفرجة عليها، وقدم التليفزيون الألماني تقريرًا عن المرأة العربية في المدرجات المونديالية، وأن الحضور النسائي كان أكثر من المتوقع وكانت المشجعات من مختلف البلدان العربية وبالتحديد من بلدان لم تكن حتى وقت قريب تسمح بذلك، وإلى جانب أن هذا الحضور كان حقًا غائبًا لأي فتاة أو امرأة عربية، فقد كان دليلًا أيضًا لم يقم بترتيبه أحد على أن المجتمعات العربية ليست مجتمعات منغلقة ومتطرفة- كما جرى تصويرها- فالنساء العربيات في المدرجات دون إزعاج أو إساءة لهن. وتزامن ذلك مع تأهل المنتخب النسائي المغربي لنهائيات كأس العالم التي ستقام في (أستراليا، ونيوزيلندا)، كأول منتخب عربي يشارك في نهائيات كأس العالم للكرة النسائية بعد احتلاله المركز الثاني في البطولة الإفريقية الأخيرة لكرة القدم النسائية.

وإذا كان كل ذلك نجاحات (سياسية، واجتماعية، وإعلامية، وكروية) تحققت للعرب في مونديال 2022، فهناك نجاحات أخرى ليست أقل اهمية وضرورة بدأت تتحقق وتكتمل يومًا بعد يوم؛ فبعد استضافة قطر لمونديال 2022، استضافت المغرب بنجاح أيضًا مونديال الأندية، وبالتأكيد هناك فوارق كثيرة بين مونديال البلدان ومونديال الأندية، لكن المسافة الزمنية القصيرة بين المونديالين أبقت على نفس الاهتمام الإعلامي ونفس النتائج الإيجابية. وما اكتشفه العالم عن العرب في الدوحة وبقية مدن الخليج كـ (دبي، وأبو ظبي، والمنامة، والكويت، ومسقط) تأكد حين تابع العالم أيضًا مونديال الأندية وحكاياته في (الرباط، وكازابلانكا، وطنجة)، وسينتظر العالم العام المقبل ليعيش نفس التجربة المونديالية للأندية ولكن على الأراض السعودية. وتزامن كل ذلك مع تعاقد نادي النصر السعودي مع النجم البرتغالي الكبير “كريستيانو رونالدو”، ورغم أن رونالدو لم يكن أول نجم كبير يتعاقد معه نادٍ عربي، لكن كانت هناك فوارق كثيرة بين التعاقد مع رونالدو وأي تعاقدات أخرى سبقته؛ ففي الماضي كان هؤلاء النجوم يأتون للأندية العربية لجمع المزيد من المال قبل اعتزالهم، فقد كانت هذه هي رؤيتهم للعرب والكرة العربية اعتقادًا بأن العرب فقط يملكون المال ولا تسعدهم إلا الصور التذكارية مع هؤلاء النجوم،  أما الآن فقد جاء رونالدو للنصر السعودي ليس ليختتم مشواره الكروي ولكن لمواصلة التحدي والنجاح في الملاعب، وفوجئ الأوربيون وفوجئ هؤلاء بأن رونالدو في السعودية لم يتغير كلاعب كرة يمارس مهنته بمنتهى الالتزام والانضباط ، ورغم أنه أتم أمس الثامنة والثلاثين من العمر، إلا أنه لا يزال بنفس جهد وحماسة وطموح لاعب في بداية حياته. وبالإضافة لذلك، كان مجرد تعاقد النصر مع رونالدو كافيًا لأن يزيد عدد متابعي النصر السعودي على إنستجرام من 860 ألف متابع إلى 11 مليون في أيام قليلة، وسيكون هناك قريبًا نجوم آخرون سيأتون للأرض العربية ليس بداعي الترفيه والراحة وجمع المال إنما ليلعبوا نفس الكرة التي يلعبونها في أوروبا.

وبعد نجاح قطر في استضافة وتنظيم المونديال الماضي، لم يعد هناك من يدهشه أن تتقدم دولة عربية أخرى لاستضافة مونديال أو دورة أوليمبية أو أي بطولة رياضية كبرى، فقد نال العرب ما يستحقونه من احترام رياضي، ولم يعد يخشاهم العالم أو يمارس ضدهم أحكامه الظالمة والكاذبة بعدما جاء هذا العالم بنفسه إليهم، وأدرك الحقائق التي كانت غائبة أو مخفية، ولا تزال تتوالى مكاسب العرب في كل المجالات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى