تركز هذه الدراسة على نظرة الرأى العام الاسرائيلى للنكبة الفلسطينية كما يتكشف ذلك فى الخطاب الاعلامى فى اسرائيل ، الذى يهدف الى الوقوف على مدى الاعتراف الاسرائيلى بالنكبة الفلسطينية او التنكر لها ، ومدى قبول المسؤولية عن وقوعها ، ومدى تحمل مسؤوليتها او التنكر لمجرد حدوثها او المسؤولية عنها ، مما يمكن الفلسطينيين من الاطلاع على الشكل الذى ينظر فيه داخل الحيز العام الاسرائيلى ، وعلى مدى كون النكبة وذاكرتها عنصرين مهمين فى بلورة الانماط السلوكية لدى الجمهور الاسرائيلى فى السنوات الاخيرة ، وتنسحب هذه السلوكيات وصولا الى تشريع قانون يفيد احياء ذكرى النكبة فى الفعاليات والبرامج الجماهيرية العامة الذى يشكل انتهاكا اساسيا لمبادئ حرية الفكر والتعبير .
ويتغذى الوعى العام الاسرائيلى تجاه النكبة بمعلومات لا تزوده بها اذرع الدولة الرسمية فحسب ، مثل جهاز التربية والتعليم او جهاز التنشئة الاجتماعية العسكرى ، بل ايضا اجهزة الاعلام الاسرائيلية ، اذ يقوم الاعلام الاسرائيلى بتكريس المواقف الرسمية الخاصة من المسائل الجوهرية المركزية ، وعلى رأسها الموقف الاسرائيلى الذى يلقى بكامل المسؤولية عن المأساة التى وقعت عام 1948 على القيادة الفلسطينية ، وهو بهذا يطهر الاخلاق الاسرائيلية من اى مسئولية عن تأثير الحرب فى الشعب الفلسطينى ، وبالتالى يؤدى الاعلام الاسرائيلى المنضوى تحت الخطاب السائد دورا مركزيا فى تكريس الوعى العام الذى يستوى مع الموقف الرسمى.
وتنبع اهمية هذه الدراسة ايضا فى محاولة تبيان الفارق القائم بين نتائج الابحاث التاريخية بشأن النكبة ، وبين المواقف الرائجة فى الرأى العام الاسرائيلى فيما يتعلق باحداث النكبة ودلالاتها ، فان عدد الابحاث التاريخية عن النكبة فى تصاعد مستمر منذ عام 1948 حتى اليوم ، اذ خلصت الابحاث الاساسية فى هذا المجال الى نتائج تقوض الادعاءات الاسرائيلية الخاصة بالنكبة ، وخصوصا خرافة ” الاقلية مقابل الاكثرية ” التى شاعت فى اسرائيل ، وخرافة ” الهروب الجماعى فى مقابل التهجير والطرد المتعمدين ” وخرافة ” طهارة السلاح ” ، ولا تتغلغل هذه الابحاث الكثيرة فيما يخص احداث النكبة وملابساتها .
اما عن الكتاب فهو مكون من ستة فصول تتحدثا الكاتبتان عن النكبة والهدف من فحص خطابه فى الرأى العام الاسرائيلى والتأمل فى تعامل اسرائيل والجمهور الاسرائيلى مع المشكلة الفلسطينية ومع حلها ، وفى الاستعداد للتوصل الى تسويات حقيقية على شكل حل دائم ونهائى بين الطرفين ، فتحليل خطاب النكبة فى الاعلام الاسرائيلى ، فى محاولة للوقوف على مميزات التعامل الاسرائيلى مع هذا الحدث التاريخى الذى غير ملامح الواقع الديموغرافى والجغرافى والسياسى فى المنطقة برمتها ، يمكن من ذلك فهم طيف التفسيرات التى تنسبها قوى اجتماعية متعددة الى هذه المسألة والمواقف منها ، اذ نستطيع من خلال هذا التحليل ان نتبين جاهزية الجمهور الاسرائيلى للاعتراف بالمسؤولية الاسرائيلية عن نشوء مشكلة اللاجئين ، ولتوفير رد نزيه على هذه المسئولية فى حل مستقبلى للصراع ، وعلى غرار ما طرح من ابحاث اخرى ، فان مسألة الاعتراف بغبن الماضى والاستعداد لتحمل المسئولية عنه تشكل نقطة انطلاق مهمة من اجل فض المنازعات .
وفى سياق الحديث فان اسرائيل تسيطر سيطرة مادية تامة على كل ما هو فلسطينى ، والتامر الوحيد الذى يعكر صفو مشروعيتها وتطبيعها هو الذاكرة ، فاسرائيل عاجزة عن ابادة الفلسطينيين جسديا ، ولذا تبقى ابادتهم الرمزية البديل المضون الوحيد ، ومن هنا نجد ان تعامل اسرائيل مع النكبة نابع من رغبتها فى العثور على افضل الطرق لمحوها رمزيا ، فاسكات الشهود من جهة ، وتحويل النقاش الى الجدل بشأن التفصيلات والحقائق من جهة اخرى ، هما نوع من التقنين المشل على حد التعبير ، اذ تتحول الضحية الى ما يشبه المدعى فى المحكمة ، وتجبر على استخدام لغة جلادها من اجل اسماع صوتها ، الامر الذى يضعفها ويفرغ نضالها من اى مضمون حقيقى .
وثمة ادعاء سائد في الرأى العام الفلسطينى يفيد بان الذاكرة الفلسطينية مهيكلة بغية نزع الشرعية عن اسرائيل ، عبر تضخيم مأساة الفلسطينيين الى ابعد الحدود ، ومع ذلك فان استمرار سياسة التميز والسلب والاستيطان والاخلاء وهدم البيوت والمس بالفلسطينيين الابرياء ، يحول الخطاب الاسرائيلى الى خطاب اجوف ، فسياسة الاحتلال فى ارجاء الضفة الغربية ، والحصار المضروب على قطاع غزة ، والتمييز ضد مواطنى اسرائيل الفلسطينيين ، تثبت كلها ذاكرة النكبة كل يوم ، وتجعل ادعاء نزع الشرعية عاريا من الصحة .
هذا ويشدد الخطاب الجماهيرى الاسرائيلى على حدثين يهوديين لا علاقة لهما بالضرورة بالنكبة الفلسطينية ، لكن الغاية من ورائهما النكبة وابطال مفعولها السياسى والاخلاقى على حد سواء : الحدث الاول ” طرد ” اليهود من الدول العربية فى اعقاب تدهور الصراع الفلسطينى – الاسرائيلى .
الثانى ذكر المحرقة كحدث يلقى بظل كبير على النكبة ، وخصوصا فى ضوء الادعاء القائل بان زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية ، الحاج امين الحسينى ، ساعد النازيين فى اثناء الحرب العالمية الثانية ، ويجرى تضخيم هذا المسألة جدا من اجل تبرير العلاقة بين المحرقة والنكبة ، ونفى الاخيرة فى اعقاب الاولى ، كما فعل رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو فى خطابه امام المؤتمر الصهيونى العالمى فى القدس فى 21 اكتوبر 2015 عندما حمل الحاج امين الحسينى المسؤولية عن اقناع النازيين بابادة اليهود .
وتشير نتائج البحث بوضوح الى التمييز بين انكار النكبة وانكار المسؤولية عنها ، كما تشير الى ان الاعتقاد السائد بان النكبة تشكل تهديدا وهو اعتقاد يتلاءم مع الفترة الحالية ، ذلك بان اسرائيل مشغولة بالعديد من المشاريع التى تهدف الى حمايتها من النقد الخارجى بسبب تنكرها للحقوق الفلسطينية ، ويؤدى الموقف السائد فى اسرائيل ، والذى يربط بين معتقد انكار النكبة وانكار المسؤولية عنها من جهة ، وبين النظر اليها كتهديد يمس شرعية اسرائيل من جهة اخرى ـ الى نشوء حاجز ادراكى وسياسى ونفسى امام اى مصلحة بين الطرفين ، ويمكن القول بمصطلحات التحليل النفسى ، ان مجرد التخوف من الذاكرة الفلسطينية يعيد المكبوت الى الوعى الاسرائيلى ، وهو يتجسد فى انعدام الثقة الاسرائيلية بالنفس وبصدقية الطريق وبمسوغات افعال اسرائيل فى سياق النكبة وازاء الفلسطينيين بصورة عامة وهذا يالاضافة الى ان التعامل مع النكبة باعتبارها تهديدا ومسا بمشروعية اسرائيل يحمل دلالة عميقة على ان اسرائيل بحاجة الى اعتراف فلسطينى كى تحظى بالطمأنينه بينها وبين نفسها ، ويمكن لهذه الحاجة الاسرائيلية ان تعكس الشروخات العميقة فى الصلابة الاخلاقية للرواية والمعتقد الذاتى الاسرائيلى .
وهناك اشارة الى الصراع الفلسطينى الاسرائيلى ، حيث تقول الكاتبة انه اذا تمعنا فى تاريخ ذلك الصراع ، فان الاعلام والدعاية ولاحقا الدبلوماسية الجماهيرية ادت دورا مركزيا فى تحديد تطور الصراع وامكانات نجاح هذا الطرف او ذاك لا باقناع المجتمع الدولى بصدقيته فحسب ، بل ايضا فى تحشيد قطاعات واسعة من المجتمع للدفاع عن الموقف الرسمى الذى اتبعه كل من الطرفين ، ومن نافل القول ان الحركة الصهيونية تحولت الى ظاهرة دعائية بمجرد قربها على نشر كميات هائلة من التحليلات والمعلومات فيما يتعلق بحالة اليهود وضرورة ان يكون لهم وطن قومى يضمن لهم امنهم وحريتهم فى تطوير ثقافتهم ولغتهم الخاصة ، وفى السنوات الاخيرة نجحت اسرائيل فى تطوير منظومة دعائية ودبلوماسية جماهيرية واسعتى النطاق .
فالنظرة التحليلية الى المنظومة الدعائية والدبلوماسية الجماهيرية الاسرائيلية والتى انعكست فى النظرة الى النكبة الفلسطينية فى الحيز العام الاسرائيلى تظهر ان لهاتين المنظومة والدبلوماسية خصائص ومقومات واضحة المعالم ويمكن تلخيصها فى عدة نقاط منها :-
– تقسيم العالم الى معسكرين ، معسكر اصدقاء ومعسكر اعداء وذلك وفق موقف كل منهما من الصراع الفلسطينى – الاسرائيلى ، ومدى تماهيه مع خصوصية وصدقية اسرائيل ، والعمل المتواصل من دون كلل على تقوية المعسكر الاول ، وتفكيك المعسكر الثانى من خلال توفير معلومات تضعف موقفه او اجراء صفقات مصلحية مع بعض اعضائه .
-التركيز على اهمية التاريخ وارتباط الشعب اليهودى بارض اسرائيل كما تثبت الكتب السماوية المتعددة ، وكما تثبت السلوكيات الدينية والاجتماعية لليهود فى كل تاريخهم حيث اماكن سكناهم .
-التركيز على الواقع الحالى والتخلى عن التاريخ القريب والابقاء على التاريخ البعيد لسحب الشرعية عن المحاولات الفلسطينية ” الهاتدقة الى التركيز على العقود الاخيرة من تاريخ فلسطين ” ، والعودة بالذاكرة الى الاف السنين من اجل التاكيد على الواقع الحالى كاعادة بناء لواقع يهودى تم اغتصابه ومحوه بالقوة بين الماضى الغابر ، وما النكبة الفلسطينية الا انعكاس لمحاولات المس بهذا المسار الشرعى والذى لم يكن منه مفر لا لموافقة الامم الكبرى على ذلك فقط ، بل ايضا لكون اقامة الدولة الاسرائيلية حاجة وجودية للشعب اليهودى وامنه المستقبلى .
-محاولة اختراق اى منظومة اعلامية والتأثير عليها من باب النزاهة والحيادية ، اذا ان هذه المبادئ ليست مبادئ اعلامية فحسب ، بل هى ايضا مبادئ شاملة تضمن لاسرائيل الحفاظ على غلبتها فى فرض وقائع الارض فى الوقت الذى تدعى انها تسعى الى تفاوض حقيقى لحل النزاع .
-التأكيد على ان اى سلوكيات اسرائيلية فيها تجاوزات اخلاقية او قانونية هى قسرية تفرض على الطرف الاسرائيلى من جانب الطرف الاخر – الفلسطينى الى لا يترك لاسرائيل اى مجال سوى ما تقوم به متفادية الوقوع فى تناقضات داخلية على اساس ان الواقع الاسرائيلى ليس شرعيا فحسب بل اخلاقى ايضا .
وهذا الادعاء ينعكس فى المقولة الاسرائيلية ” اطلاق النار والبكاء فى الوقت نفسه ” وذلك انعكاسا لمقولة ان الجنود الاسرائيليين يطلقون النار فى حالات الدفاع عن النفس فقط ، لكن عندما لا توجد لديهم خيارات اخرى يلجأون الى استعمال العنف والقوة العسكرية بعد تحفظات جمة ، وهذه التسويغات تمنح الشرعية لاستعمال العنف الفائض فى مناطق مدنية اهلة من دون ان يكون قى ذلك تناقض داخلى ، وذلك نتيجة الواقع الذى لابد معه استعمال السلاح ، وهو ما يحرر الجنود الاسرائيليين من المسؤولية الاخلاقية عما يفعلون وينحى باللائمة على ضحايا العنف انفسهم .
-اظهارالنقاشات والخلافات الداخلية على انها جزء من ماهية الكيان الاسرائيلى وتعكس ما فى المجتمع الاسرائيلى من ديمقراطية وليبرالية ومدى تسامح ، وفى الوقت نفسه تأكيد عدم تحلى الطرف العربى بروح الانفتاح والحوار والنقاش ، ومنم خلال هذا التباين يتم بناء صوة نمطية عمودية تضع اسرائيل فى مرتبة اعلى من الطرف العربى على صعيد القضايا الاخلاقية والديمقراطية ، ويتم ربط هذا التباين بالتاريخ والثقافة من اجل التأكيد انه ليس محض مصادفة انما جزء لا تجزأ من الفوارق الحضارية القائمة بين الطرفين ، كذلك يتم ربط صورة المجتمع المنفتح والتعددة بمفهوم الشعب المختار وفوقيته الذى ترسخ فى الذهنية اليهودية عبر الزمن ، وهذا كله يربط بالنجاحات العلمية والتكنولوجية والامنية الاسرائيلية ، التى تثبت بصورة قاطعة مقولة تميز الشعب وفوقيته .
– خلق التماهى ما بين اسرائيل والدولة الحديثة المتطورة والمتميزة ، والعالم الغربى من خلال التشديد على الجذور اليهودية للحضارة المسيحية الغربية والتكامل فيما بينهما على المستوى الاخلاقى ورؤيتهما للواقع الانسانى، وايضا من خلال ابراز الجوانب العملية المشابهة ، تكنولوجيا وعلميا واقتصاديا ، والتى تثبت انتماء اسرائيل الى الحضارة الغربية فى مقابل الحضارة الشرقية التى يطغى عليها الفكر الاسلامى وقيمه المحافظة .
-اعتماد شخصيات مهنية دعائية توفر للمشاهدين تحليلات موثوقا بها الامر الذى يمنح الدعائية الاسرائيلية صدقية عالية فى ذهن المجتمع الاسرائيلى ولدى قطاعات واسعة فى المجتمعات الدولية تثق ثقة كبيرة بهذه الشخصيات ، وعلة رأسها قادة سابقون فى الجيش الاسرائيلى او صحافيون مخضرمون، وهذا ما ظهر فى تعامل المجتمع الدولى سنة 2014 مع كتاب الصحافى فى ” هارتس ” ارى شافيط ، وهذا النمط من العمل الاعلامى والدعائى يساعد فى ترسيخ الصورة الاعلامية التى تظهر اسرائيل دولة ليبرالية ومنفتحة وديمقراطية تتحلى بروح المهنية والانفتاح الذهنى والفكر فى الوقت نفسه .
– التغطية الاعلامية للمجتمع الفلسطينى ، لا من منظور اعرف عدوك فحسب بل ايضا لتأكيد الاهتمام الاسرائيلى بهذا المجتمع يأتى فى اطار انسانى يتناهى مع الشرائح الضعيفة فيه ، وكان هذا الواقع لا ينجم عن منظومة السيطرة الاسرائيلية وعن عمليات القمع والتهميش الاقتصادى .
– ابراز الخلافات الداخلية فى المجتع الفلسطينى على انها انعكاس لعدم نضوجه ولقصوره فى حق نفسه ، وعلى انها مؤشر الى تخلفه وعدم قدرته على معالجة هذه الخلافات بشكل حضارى كما فى المجتمع الاسرائيلى ، هذا من جهة ومن جهة اخرى استغلال الخلافات من اجل شرهنة عدم منح افراد هذا المجتمع حقوقهم القومية ، ونزع الشرعية عن حقهم فى تقرير المصير .
– التعامل مع الخطاب الفلسطينى بحذلقة ، ذلك بان الانكار للوراية الفلسطينية ، ولا سييما فيما يتعلق بالنكبة ، سببه عدم تحمل الفلسطينيين المسؤولية عما حث لهم ، وايضا ادعاؤهم بان ما حدث ليس مسؤوليتهم وحدهم ، ولا ينحصر بهم فقط ، فالتهجير كان فى ذلك الحين ظاهرة منتشرة فى العالم ، حتى انه كان شرعيا ، وبالتالى فانت السلوك الفلسطينى ، والعربية بصورة عامة ، ليس وفق ما هو متبع ، وعدم القبول بالتوطين فى اماكن سكن اللاجئين يدل على غباء سياسى منذ النكبة حتى اليوم ، وهو ما سيؤدى الى هلاك الفلسطينيين .