2018العدد 175ملف عربي

المعادلات الحاكمة لعلاقات القوى المؤثرة والمتداخلة في قضايا المنطقة

ينطوي السؤال عن المعادلات الحاكمة لعلاقات الدول المؤثرة في قضايا المنطقة،  على محاولة  تفحص آليات وقواعد إدارة هذه الدول لصراعاتها وتفاهماتها، وتاليًا الأثر الذي تركته هذه الإدارة على القضايا العربية، وخاصة الأزمات في سورية والعراق وليبيا واليمن وفلسطين، وعلى الرغم من الشكل الفوضوي الظاهري، لانخراط هذه الدول في الصراعات والأزمات العربية، والتداخلات الواضحة في أدوارها ومجالات تحركها، إلا أن الالتزام بالمعادلات، المتفق عليها، ضمنًا أو صراحة، ساهم بدرجة كبيرة في ضبط علاقات هذه القوى ضمن سياقات مشاريعها الجيوسياسية للمنطقة، وهذا ما يفسر بدرجة كبيرة أسباب ارتفاع منسوب التأزم في القضايا العربية بتناسب طردي مع الانفراجات الدائمة في علاقات هذه الأطراف، أو على الأقل نجاتها من التصادم البيني بينها رغم تعقد وتشابك الأزمة وإجهاض حلول الأزمات بشكل دائم.

ما سبق يطرح تساؤلاً آخر، ما دامت منطقتنا العربية ترزح تحت ثقل الأزمات منذ بداية القرن الماضي، فيما التغيرات على مستوى اللاعبين استقرت لمرحلة طويلة دون حصول تبدلات جذرية في مواقع وتراتبية أطراف اللعبة في النظام الدولي، فهل نحن أمام معادلات ثابتة أصبح بإمكان الأنظمة السياسية العربية، التعاطي معها وتخفيف حدة انعكاساتها، إن لم يكن اختراقها، على اعتبار أن إلغاءها غير ممكن في ظل الظروف الموضوعية للعالم العربي ؟.

الملاحظ أنه في سياق تداخل الأطراف الخارجية في صلب القضايا العربية،  المزمنة والطارئة، لم يكن ثمة توازٍ ما بين إدراك صانع القرار العربي لطبيعة المعادلات الحاكمة لعلاقات القوى المؤثرة والفاعلة، وبين إستراتيجيات التعاطي معها، وفي الغالب فإن هذه المعادلات كانت ذات طابع استقرار نسبي، تغيرت في أحيان كثيرة بعض قوانينها الداخلية، مثل معادلة الحفاظ على مبدأ تقاسم النفوذ وإدارته لمصلحة القوى المؤثرة، وجرى تطوير بعض المعادلات الأخرى، نظرًا للمتغيرات التي أصابت البيئة الدولية، مثل إشراك الأطراف الإقليمية بلعب أدوار محدّدة سلفًا، أي التعامل وفق معادلة المنظومات التي جرى تطبيقها بكثافة في الأزمة السورية، وأخيرًا ثمة معادلات جرى كسرها وخرجت من مجال اللعبة كمعادلة التأثير الأوروبي ودوره في رسم المعالم الجغرافية والسياسية للكيانات العربية، وفرض ذلك باعتباره قانونًا نافذًا.

طبيعة النظام الدولي الراهن والتفاعلات الجارية فيه

يتميز واقع العلاقات الدولية بكونه عملية متغيرة ومتطورة تتسم بالحراك والمرونة والديناميكية. وذلك نتيجة سعي الأطراف والقوى الفاعلة في الواقع الدولي إلى الحفاظ على أوضاعها ومصالحها التي تعكس ما تحوزه من قدرات وإمكانات وممكنات نسبية وموارد متاحة، فعندما تتغير القدرات بشكل حاسم لدى طرف ما من أطراف التفاعل فإن باقي الأطراف يسعون إلى إعادة التوازن من جديد عبر تفعيل سياسات واستراتيجيات جديدة تتناسب مع مستجدات الواقع الدولي وتحولاته، حيث تدرك الأطراف الفاعلة في ذلك الواقع أنه في ظل بيئة دولية لا يحكمها إلا منطق التنافس والصراع والذي يتحول بدوره إلى سياسات وسياسات مضادة؛ فإن تحقيق مصالحها واستراتيجياتها المبتغاة؛ إنما هو رهن بامتلاك القوة والسعي الدائم إلى زيادة هذه القوة وتعظيمها إلى أبعد مدى ممكن.

لقد تأثرت أنماط تدخل القوى الدولية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، الرازحة تحت وطأة أحداث وتحولات حادة منذ بداية العقد الحالي، بمتغيرات النظام الدولي إزاء التوزع المتغير للقوة العالمية، والحقائق البنيوية المغايرة، وموازين القوى الدولية المختلفة.

جاء ذلك ضمن مسار تحولي “ملتبس”، قد يأذن بنهاية، أو سقوط، نظام دولي قديم نحو تبلور آخر جديد لن تستقر ملامحه أو تتضح قواعده إلا بعد فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، وفق ديناميات التغيير وسرعتها. 

القوى الفاعلة والمؤثرة في القضايا العربية الراهنة

يمكن تقسيم القوى المؤثرة إلى ثلاثة أنواع:

قوى دولية محركة وأساسية:

الولايات المتحدة الأمريكية: الفاعل التقليدي والأساسي على مر عقود طويلة، وبناء على هذا التراكم التدخلي، تملك الولايات المتحدة قنوات تواصل مستقرة مع أنظمة الحكم في المنطقة، ولديها أصول عسكرية كبيرة، قواعد وطائرات، وقد أدارت حروبًا كبرى “حروب الخليج الأولى والثانية” كما أشرفت على تسويات مفصلية “اتفاقيات السلام العربي الإسرائيلي”.

تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى إرساء معادلة جديدة في المنطقة تقوم على أساس توكيل الأطراف الإقليمية الحليفة لها مسؤولية الدفاع عن مصالحها، مثل إنشاء “ناتو عربي”، وذلك كانعكاس لحالة التعب الذي بدأت تعاني منه مفاصل الدولة العظمى من تراكم المسؤوليات والالتزامات عليها بعد تحوّلها إلى قوى عظمى وحيدة.

روسيا: القوة الصاعدة على مسرح الحدث العالمي، والمستفيدة بدرجة كبيرة من المساحات الفارغة التي خلفها الانسحاب، أو التعب الأمريكي، وتشتغل روسيا على قاعدة أن كل تراجع أمريكي في المنطقة يزيد من رصيد مطالبتها بنظام دولي جديد متعدد الرؤوس، وقد أعادت روسيا هيكلة لمصالحها في المنطقة العربية، أدت إلى تراجع الأهداف الأيديولوجية في مواجهة الأهداف الاقتصادية، وبعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين للسلطة في روسيا، أولى اهتمامًا جديدًا للشرق الأوسط وحددت روسيا مصالحها في المنطقة.

القوى الإقليمية:

يمتاز تدخل هذه الفئة بثلاث سمات:

  • تدخل موضعي، ضمن مساحات محدّدة، رغم محاولة إيران تحقيق تمدد أوسع، إلا أنه محكوم بالمساحة التي تسمح بها الأطراف الدولية الكبرى.
  • تدخل يحتاج لرعاية قوى دولية، وهو شرط ضروري لنجاح هذا التدخل واستمراره.
  • يحتاج لقوى دولية تضبطه وتضبط مساراته وتمنعه من التصادم.

ورغم وجود تحوّلات ملموسة على صعيد الأدوار الإقليمية في المنطقة إلا أن هذه الأدوار كانت قابلة على الدوام للتطويع ضمن المعادلات الحاكمة “الأكبر” التي تمسك بخيوطها القوى الدولية الكبرى.

من هي القوى الإقليمية:

إيران: وهي قوّة موجودة ضمن المعادلات الإقليمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد شهدت تحولات في طبيعتها، من كونها شرطي المنطقة، بتوكيل أمريكي، في عهد الشاه، إلى قوة تعتمد على المذهبية والطائفية لتعزيز نفوذها الإقليمي، عبر نشر الفوضى وتحطيم سلطة الدولة لخلق فراغات تسمح لها بنشر نفوذها.

تركيا: يمكن التأريخ للحضور التركي في المنطقة، في الزمن المعاصر، منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، في بداية القرن الحالي، وتطمح النخبة التركية الحاكمة إلى إعادة بناء أمجاد الإمبراطورية العثمانية والتحول إلى ممثل للعرب والمسلمين في نادي القوى العالمي.

إسرائيل: وهي القوة الأكثر تجذرًا وحضورًا في المعادلة الإقليمية، ورغم تراجع مطامعها التوسعية، إلا أن لديها طموحات نشطة في صياغة المنطقة بما يتناسب ومصالحها الأمنية، وتستفيد إسرائيل من تصدع العلاقات العربية-الإيرانية، لتغيير المعادلة الحاكمة للعلاقات بين البلدان العربية وإسرائيل لتأخذ مسار التعاون بديلاً عن الصراع الذي كان صبغتها طوال العقود الماضية. 

تطمح القوى الإقليمية المذكورة، رغم الصراع الظاهري بينها، إلى تحقيق توافق دولي حول المنطقة العربية يجري على أساسه توصيفها بـ “منطقة فراغ إستراتيجي” بحيث تتولى هذه القوى ضبط الإيقاع فيها بالتوافق مع القوى الرئيسية الدولية.

القوى الدولية التي تقف خلف المشهد، وتدخل في هذه الفئة الصين، التي تدعم الصعود الروسي وتدخله في قضايا المنطقة، بهدف كسر الأحادية الأمريكية وإضعافها على المستوى العالمي، وتجد في الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط فرصة للتخلص من الزخم الأمريكي بعيدًا عن دائرة نفوذ الصين في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي.

وكذلك الدول الأوروبية، فرنسا، بريطانيا، وألمانيا، وهي تدعم المشروع الأمريكي في المنطقة، رغم الاختلاف في بعض التفاصيل السياسية والتقنية، إلا أنها تنخرط ضمن تحالفات أمريكا العملانية في المنطقة، وخاصة في سورية والعراق، كما أن وضعها كطرف مستقبل للاجئين من مناطق الصراع العربية، بالإضافة إلى تعرضها للإرهاب الداعشي، وكذلك دعوتها للمساهمة في إعادة الإعمار بعد التوصل إلى تسويات نهائية، جعلها طرفًا في المعادلة الإقليمية.

المعادلات الحاكمة لعلاقات هذه القوى

معادلة تقاسم النفوذ:

تقوم هذه المعادلة على قاعدة أن منطقة الشرق الأوسط واسعة على طرف واحد، ذلك أن القوى التي تريد ضم هذه المنطقة إلى خانة مناطق نفوذها، عليها أن تتولى أمر إدارة صراعاتها اللامتناهية وضبط توازناتها الآيلة إلى التفلت على الدوام، وهو ما يرهق أي قوة مهما بلغت قدراتها وإمكانياتها، وهذا ما حصل مع أمريكا التي غرقت في صراعات المنطقة، من الفترة 1990 إلى بداية هذا العقد، وشكّل هذا الواقع محركًا لطلب تيار أمريكي واسع الانسحاب من رمال الشرق الأوسط، التي يصعب على أي قوّة تحقيق الانتصار الناجز فيها، إلى جنوب شرق آسيا حيث الربح الصافي في منطقة مزدهرة وواعدة.

لكن بنفس الوقت، لا تتسع المنطقة لأكثر من طرفين يديرانها ويضبطان صراعاتها، وهذه المعادلة استقرت منذ بداية القرن الماضي، حين تقاسمت بريطانيا وفرنسا النفوذ في المنطقة، وأبعدتا أي نفوذ لألمانيا وإيطاليا، فيما جرى حصر النفوذ الإسباني في زاوية ضيقة في أقصى صحراء المغرب.

ولتجاوز هذه الإشكالية المتمثلة بعدم إمكانية استيعاب أكثر من لاعبين في المنطقة العربية، فقد جرى حل الأزمة عبر لعبة المنظومات، حيث تشكل أمريكا رأس منظومة، فيما تشكل روسيا “أو الاتحاد السوفيتي سابقًا” رأس المجموعة المقابلة، على أن يتم احتساب النفوذ الذي تحققه القوى الفرعية” الإقليمية” في إطار مكاسب المنظومة التي تنتمي لها.

وقد صبغ هذا الوضع، على الدوام، مكاسب الأطراف الإقليمية، بصبغة المؤقت والمتحرك، وليس الثابت والدائم، وذلك لكون استمراره مرهونًا ببقائه تحت مظلة القوى الأساسية من جهة، ولكونه رصيدًا قابلا للتفاوض عليه بين الطرفين الأساسين، أو رهينة لدى الأطراف الإقليمية إلى حين الطلب، وكانت أول تطبيقات هذه الحالة في التسويات التي جرت بين إسرائيل والدول العربية بطلب أمريكي، ونراه اليوم بوضوح في الصراع السوري، حيث فرضت روسيا على إيران الانسحاب من جنوب البلاد تطبيقًا لتفاهمات مع أمريكا، وكذلك اضطرار لتركيا لعقد تفاهمات مع أميركا وروسيا للاعتراف لها بأدوار مؤقتة في شمال سورية.

لم يأت صراع النفوذ بين الأقطاب الدولية، وتوابعها الإقليمية على المنطقة العربية من فراغ، فالمنطقة على الدوام كانت تنطوي على مزايا إستراتيجية واقتصادية حاكمة، بمعنى أن مواردها ذات تأثير فعلي على حركة التطور العالمية، ورمانة الميزان الإستراتيجي الدولي، لموقعها الجغرافي المتحكم بالمعابر الدولية، وثرواتها من النفط والغاز، وهي موارد ضرورية لأي قوة ترغب في التربع على عرش السيادة العالمية، لدرجة أصبح معها مقدار السيطرة والنفوذ في الشرق الأوسط يشكل أحد المعايير الأساسية لوضع دولة ما في خانة الدول العظمى، وتجربة روسيا في هذا الإطار ما زالت حيّة، ذلك أن مكانة روسيا الدولية ما قبل التدخل في سورية غيرها تماما ما بعد التدخل حيث فرضت نفسها لاعبًا دوليًا بجدارة.

معادلة عدم السماح بإنتاج بدائل قوة عربية:

لفترة وجيزة من عمر النظام العربي، شكلت الزعامة الناصرية محاولة جادة لتشكيل أساس لقوة عربية من شأنها كسر ما تعتبره القوى الدولية مسلمة سياسية، أي خضوع المنطقة للمعادلات الدولية والرضوخ لسياساتها، وكان ثمن ذلك تعرض مصر لضغوط هائلة، دفعتها في مرحلة حكم السادات إلى تبني معادلة مغايرة تقوم على التخلي عن عملية بناء نظام إقليمي عربي معاد لإسرائيل وغير خاضع لأمريكا.

وتعرف الخبرة التاريخية العربية هذه المعادلة منذ زمن محمد علي في القرن التاسع عشر، وكيف وقفت القوى الدولية والإقليمية ضد ظهور بديل عربي في المنطقة، لما لذلك من مخاطر على معادلة تقاسم النفوذ التي كانت، وما زالت، أهم المعادلات الحاكمة لعلاقات القوى المؤثرة في المنطقة.

وطالما اعتبر المؤرخون، سبعينيات القرن الماضي بداية انهيار النظام العربي وتصدع المنظومة العربية، فمنذ أن تخلت مصر عن إنتاج البديل العربي بدأت مسيرة التراجع في مكانتها الإقليمية ودورها العربي، وهو ما يعد أمرًا مفهومًا، نظرًا لأن مصر توقَّفت بمقتضاها عن إنتاج رؤيتها الخاصة عن هوية الإقليم وحدوده وعن العمل على إنشاء آليات ومؤسسات إقليمية تعكس وتعزّز هذه الرؤية، وتحوَّلت إلى متلقٍ لأفكار الآخرين.

تميزت جميع محاولات بناء بدائل قوّة عربية، التي أعقبت مرحلة الناصرية، بكونها مجرد محاولات إعلامية وبغرض الاستهلاك السياسي، مسايرة للرأي العام العربي الذي كان يطالب القادة بتحشيد الطاقات العربية باعتبارها وسيلة ناجعة في وجه القوى الدولية والإقليمية الساعية إلى السيطرة على المنطقة العربية.

وبالإضافة إلى الضغوط التي تعرضت لها المنطقة العربية من قبل القوى الدولية والإقليمية بهدف منعها من إنتاج بدائل قوة، فقد اتبعت تلك الأطراف جملة من السياسات المساعدة على تحقيق هذا الهدف:

  • عدم الاعتراف بوجود كتلة سياسية عربية، بل مجموعة كيانات سياسية متنافرة لا رابط يجمع بينها، بما يحرمها تاليًا من توظيف عناصر القوة في أي من مجالات التفاوض مع البيئتين الدولية والإقليمية، سواء كان التفاوض على الأرض المحتلة، أو فيما يخص الحقوق العربية في المياه، أكانت إقليمية بحرية، أو أنهارًا عابرة، أو حتى التفاوض على إستراتيجيات استخراج النفط وطرحه في الأسواق وتحديد قيمته السعرية.
  • عدم الاعتراف بحق الدول العربية في إدارة نزاعاتها البينية، من خلال مؤسسات النظام العربي، أو عبر آليات عربية أخرى، ورغم أن الدول العربية غالبًا ما كانت تلجأ إلى القوى الدولية للمساعدة في حل النزاعات، كما حصل في حرب الخليج الأولى، إلا أن ذلك لم يكن سوى تحصيل حاصل في وضع وجدت الدول العربية نفسها فيه أمام خيارات محدودة.
  • إشعال الخلافات السياسية بين الأطراف العربية وتقسيم العرب إلى طرفين أو أكثر تجاه أي صراع أو خلاف، ودائمًا كان هناك معتدلون ومتشددون، أنصار الربيع العربي، وأعداء الثورات … وهكذا.

وقد أفضى اتباع دول الإقليم العربي لمقاربات متمايزة، حيال الأحداث والتفاعلات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، إلى أنماط أكثر ديناميكية و”تقلبًا” من التحالفات الإقليمية الدولية المتباينة، على حساب تهدئة الأوضاع، وتسوية الصراعات، مما سمح بتغيير طبيعة التوازنات، وباتساع منسوب الاختراق الخارجي داخل ساحتها، الأمر الذي أضاف أزمات مضاعفة في المنطقة.

معادلة رفض تغيير الواقع  والإصرار على الحفاظ عليه للحفاظ على المصالح التي ينتجها هذا الواقع، وقد تمثل ذلك بوضوح في رفض الوقائع التي ترتبت عنها المرحلة من 2011 حتى اللحظة ، إذ بالرغم من التكاليف الكبيرة التي تكبدتها المجتمعات العربية فإن أي تغيير على مستوى النخب أو ممارسة السلطة وآلياتها لم يتحقّق، ورغم أن قيمة الأنظمة السياسية في العالم العربي قد تراجعت إلا أن المكانة الجيوسياسية للمنطقة العربية لم تتراجع.

لقد فرضت القوى الفاعلة معادلة إما بقاء الأنظمة السياسية أو الإسلام السياسي، بطبعته الإخوانية، أو أن تتحمل المجتمعات العربية الفوضى والخراب، ورغم أن المجتمعات العربية أثبتت ميلها إلى واقع سياسي محدث يتساوق مع سعيها إلى تغيير الأوضاع من واقع يسيطر عليه الفساد واللافاعلية، إلى واقع أكثر قدرة على إنتاج مرتكزات جديدة لبداية سياسية مختلفة، إلا أن سياسات القوى الدولية والإقليمية لم تكن عاملاً مساعدًا عبر إصرارها على توصيف الحالة على أنها مجرد حالة صراع على السلطة بين الأنظمة السياسية والإسلام السياسي، دون أي اعتبار لتطلعات شعوب المنطقة.

معادلة استنزاف جميع أطراف اللعبة:

قد تكون هذه معادلة قديمة جرى تحديثها بما يتناسب والتطورات المستجدة، غير أنها باتت إحدى أهم المعادلات الحاكمة لعلاقات الأطراف المؤثرة في القضايا العربية.

تقوم سياسة الاستنزاف على قاعدة الحرب الصفرية بين أطراف اللعبة، فكل خسارة لطرف في اللعبة هي ربح للطرف المقابل، بيد أن هذه السياسة لا تنحصر في إطار حرب المنظومات أو الأطراف المقابلة، وإنما نجدها واضحة ضمن التحالف الواحد، ضمن العلاقات الأمريكية-التركية، التي وصلت إلى شكل الإنهاك بالعقوبات الاقتصادية المتبادلة، وكذلك ضمن العلاقات الروسية–الإيرانية، عبر حرمان إيران من العوائد الاقتصادية المتوقعة من الاستثمار في سورية، بعد الثورة، وقبول روسيا باستمرار استنزافها عسكريًا على جبهات القتال المستمرة.

لقد شكلت معادلة الاستنزاف أحد رهانات القوى المنخرطة في قضايا المنطقة العربية، فجميع أطراف اللعبة بنت تقديراتها للفوز باللعبة بناء على درجة استنزاف اللاعبين الآخرين، وبناء على تقديرات تؤكد قدرتها على تحمّل الاستنزاف الذي يحاول الطرف الآخر جرها إليه، وفيما راهنت أمريكا على استنزاف روسيا ومنظومتها اقتصاديًا وماليًا، راهن الطرف المقابل على عدم قدرة أمريكا ومنظومتها على مواجهة أي استنزاف بشري.

ويفسر هذا إلى حد بعيد ضراوة الحرب التي تخوضها أطراف اللعبة في المنطقة وحجم الدمار والخسائر على مستوى العمران والبشر.

مخرجات هذه المعادلات

ليس صعبًا اكتشاف مدى الضرر الذي تلحقه هذه المعادلات في الواقع العربي، الراهن والمستقبلي، وليست الوقائع المدمرة التي تعيش في ظلها سورية والعراق واليمن وليبيا وفلسطين سوى انعكاس أمين لتطبيق هذه المعادلات، وليس ثمة ما يبشر بإمكانية العدول عن هذه المعادلات، لأنها ببساطة تبدو مناسبة لأطرافها، سواء لجهة جدواها ونتائجها المتحقّقة، أو لانخفاض تكاليفها بالنسبة لتلك الأطراف، والمشكلة أن هذه المعادلات ستبقى صالحة لأزمنة قادمة ما دامت قادرة على تحقيق المنفعة لأطرافها، وما دامت صالحة لإدارة التنافس والصراعات بين تلك الأطراف، وليس مهمًا حجم تأثيرها على المجتمعات العربية، التي دخلت في طور التعفن، رغم ظاهرة الاستقرار الشكلية في أكثر من بلد.

وهذا ما يطرح ضرورة البحث عن سياسة عربية تهدف إلى كسر هذه المعادلات لأن استمرارها يعني حكمًا فقدان قدرة العرب على التحكم بمصائرهم وتحديد شكل مستقبلاتهم، ولكي نكون واقعيين فإن تحقّق مثل هذا الأمر لن يتم بدون إصلاح المجال السياسي العربي وإعادة صياغته بصيغة مختلفة، ومغادرة الحالة الراهنة المتمثلة بإدارة شؤون السياسة والمجتمع في البلاد العربية بأدوات القرن الماضي والعيش جسديًا بالقرن الحالي.

يستدعي ذلك بالتبعية إصلاح النظام العربي والتوافق على صيغة جديدة لإدارة الصراعات وحل النزاعات وصياغة سياسات دفاعية وخارجية موحدة وسياسات مالية مشتركة، أي باختصار ملء الفراغات أو الثغر التي تسمح للأطراف الدولية والإقليمية من النفاذ من خلالها لاختراق المجتمعات العربية وتحطيم ركائز الدولة فيها، وبدون إصلاح السياسات الداخلية والنظام السياسي العربي يغدو من الصعب تغيير الأوضاع الحالية والانتقال إلى أوضاع أفضل، وسيبقى العالم العربي رهين معادلات الخارج، ما لم يصنع معادلاته الخاصة أو يمتلك أسباب القوّة التي تضعه في صلب المعادلات.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى