استقطب تمرد شركة “فاغنر”، شبه العسكرية الخاصة في روسيا، والذي لم يستغرق سوى 36 ساعة بعد إنهائه بوساطة من الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” في 24 يونيو 2023_ اهتمام العالم؛ حيث حظي بردود فعل دولية ومجموعة مذهلة من التفسيرات والتحليلات المتباينة وتغطية إعلامية واسعة لم تخفت حتى الآن. ومما ساهم في ذلك، حقيقة أن التمرد جاء في توقيت يبحث فيه الغرب عن طرق وأساليب جديدة للضغط على روسيا، في ظل شواهد توحي بتعثر الهجوم الأوكراني المضاد، والذي بدأ بالفعل بعد نحو أسبوعين من التمرد، وتحديدًا في 9 يوليو 2023، حسبما كشف الرئيس بوتين في ذلك التاريخ، واعترف به الرئيس زيلنسكي في اليوم التالي. ومعلوم أن الولايات المتحدة وحلفاءها يعلقون آمالًا كبيرة على هذا الهجوم في إلحاق خسائر فادحة بالجانب الروسي، بما قد يجبره على وقف الحرب والقبول بالتفاوض على تسوية سياسية.
في السياق عاليه، يمكن فهم التقييم الغربي لدلالات التمرد، وهو تقييم اختلطت فيه التمنيات بالحقائق؛ فقد بدت بعض التحليلات محبَطةً من فشل التمرد واحتوائه، بينما بدت تحليلات أخرى مقتنعة بأنه حوَّل روسيا بالفعل إلى دولة غير مستقرة تضربها الفوضى، وأن الرئيس بوتين يفقد سلطته بالفعل، وراحت تقديرات ثالثة تتحدث عن الترسانة النووية الروسية كتحدٍ خطير يواجه الغرب والعالم بأسره، في ضوء ما كشف عنه التمرد – وَفقًا لهذه التحليلات – من تصدع داخلي في أركان الحكم، قد يقود إلى وقوع الترسانة النووية في أيدي جماعات متمردة مثل: (فاغنر).
وعندما قُتل زعيم فاغنر إثر تحطم طائرته الخاصة، والتي كان على متنها 10 أشخاص من كبار قيادات المجموعة، في منطقة “تفير” شمال العاصمة الروسية موسكو، في رحلة داخلية بين موسكو وسان بطرسبرج مساء الأربعاء 23 أغسطس 2023، أشارت أصابع الاتهامات والكثير من أجهزة الاستخبارات الغربية إلى نظام الرئيس بوتين، وأنهم كانوا يتوقعون مثل هذه النهاية لبريغوجين، استنادًا إلى قول الرئيس الروسي أنه “لا يتسامح مع الخيانة”، كما سبق له وصف التمرد الفاشل بأنه “طعنة في الظهر”. ومع ذلك، يصعب التسليم بأن يكون هذا هو السيناريو الوحيد لسقوط طائرة بريغوجين.
ويتناول هذا المقال الدلالات الداخلية لهذا التمرد الفاشل (أولًا)، واحتمالات استثماره خارجيًّا (ثانيًا)، وخلاصة.
أولًا: الدلالات الداخلية:
ثمة توافق عام بين الخبراء (الروس، والغربيين) على السواء، على أن تمرد مجموعة فاغنر كان أزمة داخلية، ليس للغرب أيُّ دور فيها، نتيجة لحقيقة أنه لم يعد له تأثير يُذكر في السياسة الداخلية في روسيا، منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين الحكم عام 2000. وجاءت ردود الفعل الدولية الرسمية على نحو عكس هذا الاقتناع، حيث رأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التمرد “شأنًا داخليًّا”، وكذلك فعلت الصين، وذلك بغض النظر عما استخلصته هذه القوى – باستثناء بكين – من استنتاجات حول أسباب التمرد ودلالاته؛ كونه يكشف عن وجود “تصدعات حقيقية في سلطة الرئيس الروسي” (مثلما ذكر وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”)، أو تعليق الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بأن: “ما جرى يظهر الانقسامات داخل المعسكر الروسي، كما يظهر هشاشة الجيش الروسي والقوات الرديفة له مثل مجموعة فاغنر”.
وعلى مستوى التحليل، تباينت التفسيرات، وإن اتجه معظمها – من منظور الداخل الروسي – إلى أن ما حدث في 24 يونيو الماضي يعكس انقسام النخبة، وأزمة في إدارة النظام السياسي للبلاد، وهنا ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن هذه الأزمة هي بداية النهاية لحكم الرئيس بوتين، بينما قدّر آخرون أنه يمكنه توظيفها لتعزيز سلطته، وذهب تقدير ثالث إلى أن موسكو قد تشهد في المستقبل حالة من الاقتتال الداخلي بين النخب في البلاد وربما صراعًا على السلطة. وفضلًا عن ذلك، وقبل تسوية الأزمة، بل وحتى بعد ذلك، سارع العديد من المحللين الغربيين إلى تأكيد أنها كانت بمثابة ضربة قاضية لنظام بوتين. واللافت أن معظم تلك التحليلات – أو كلها تقريبًا – لم تقدم دلائل منطقية يمكن أن تقود إلى استنتاجاتها.
ولإيضاح تداعيات التمرد على الداخل الروسي، من المهم تناول النقاط التالية بصفة خاصة:
- أزمة شخصيات وليس مؤسسات:
يمكن القول إن، أزمة تمرد فاغنر كانت داخل النخبة العسكرية الروسية، ما بين مؤسسة غير نظامية هي فاغنر، والمؤسسات النظامية العسكرية والأمنية، وقد كان التوتر بين الجانبين بين أشخاص، وليس بالضرورة مؤسسيًّا، وأنه لسنوات عديدة عملت شركات “يفغيني بريغوجين” كمورد رئيسٍ للجيش الروسي في العديد من المجالات، ولاسيما الغذاء. كما استهدف التوتر أشخاصًا بعينهم من الرتب العليا من الجيش الروسي، وكان وزير الدفاع “سيرغي شويغو”، ورئيس الأركان العامة “فاليري غيراسيموف” هما الهدفين الرئيسين لبريغوجين؛ حيث طلب الأخير إقالتهما كسبب رئيسٍ لتمرده. وفي هذا السياق، كانت التقارير الاستخباراتية الأمريكية، المُسربة في أبريل الماضي، أشارت إلى أن الولايات المتحدة اعترضت اتصالات بين كبار القادة العسكريين الروس ناقشوا خلالها كيفية التعامل مع مطالب بريغوجين المستمرة للحصول على مزيد من الذخيرة والعتاد، خاصة وأن الجيش الروسي نفسه كان يعاني أيضًا من نقص الذخيرة.
ووفقًا لتقديرات الخبراء- ومنهم روس- فإن تعيين رئيس الأركان “غيراسيموف” قائدًا عامًا للحملة العسكرية في أوكرانيا في يناير 2023، بدلًا من الجنرال “سيرجي سوروفكين” – الذي يعرف بريغوجين، وخدم كلاهما في سوريا في الفترة من (2017 – 2019)، حيث لا يُخفي الأخير إعجابه بمهارات الأول – كان بطلب من عناصر بارزة في هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع؛ لإقناع بوتين بضرورة استعادة المؤسسة العسكرية النظامية سيطرتها الكاملة على الحرب في أوكرانيا على حساب فاغنر، وتزامن ذلك مع فقدان بريغوجين القدرة على مواصلة تجنيد السجناء. ومنذ صيف عام 2022، استخدمت فاغنر عناصر غير كفؤة من هؤلاء، مُسنِدةً إليهم مهام ما يُسمى بـ “عَلف المدافع” أي الدفع بهم لاقتحام الأهداف الأوكرانية دون غطاء ناري من أجل كشفها. وتم توثيق بعض الحالات التي أُستخدم فيها هؤلاء السجناء بقسوة، وحالات إعدام لهم لرفضهم إطاعة الأوامر أو ترك مواقعهم أو محاولة الاستسلام للأوكرانيين، وصارت عمليات الإعدام الوحشية بمطرقة ثقيلة أحد رموز المجموعة؛ لبث الخوف في صفوف هؤلاء السجناء.
وقد علق بريغوجين على انتقادات بعض منظمات حقوق الإنسان الغربية لممارسات مجموعته في أوكرانيا بالقول بأنه، سوف يرسل “المطرقة الثقيلة” إلى البرلمان الأوروبي في بروكسل.
وكان واضحًا أن قادة المؤسسة العسكرية النظامية في روسيا غير راضين عن حقيقة تمتع مقاتلي مجموعة فاغنر باستقلال عملياتي كبير على الأرض، بالرغم من اعتمادهم الكامل على الدعم اللوجيستي من هيئة الأركان العامة، والدعم السياسي من الرئيس بوتين نفسه. وفي هذا السياق، أبرمت المجموعة عدة صفقات لتبادل الأسرى مباشرة مع أوكرانيا، على الرغم من أن مقاتل فاغنر ليس له وضع المقاتل المعترف به من الناحية القانونية.
- طموحات بريغوجين السياسية:
منذ بدايات العام الماضي، وبجانب ولعه بالظهور في وسائل الإعلام واستفادته القصوى من الموارد الإعلامية المُتاحة له، واستخدامه سلسلة من وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية وقنوات تليغرام تمتلكها فاغنر_ أظهر بريغوجين طموحًا سياسيًّا واضحًا. ومن خلال وسائل الإعلام هذه، سعى بريغوجين إلى تأكيد أن مجموعته قادرة على القيام بمهام تتجاوز القتال بكثير، وأنه يمكنها تعزيز مصالح روسيا حول العالم بوسائل أخرى، شريطة أن يزودها الكرملين بالصلاحيات والموارد الكافية. وتفيد بعض المعلومات الواردة من موسكو مؤخرًا، بأنه يجري الآن تفكيك هذه الموارد والمنافذ التي استخدمها بريغوجين في الإدلاء بتصريحاته الشعبوية لعامة الناس وللشباب بصفة خاصة. ووفقًا لدراسة حديثة أعدَّها “مجلس الأطلسي” الأمريكي في 19 يوليو 2023، بدأ الكرملين بالفعل في الاستحواذ على الشركات التي تملكها المجموعة، كما صادرت سلطات إنفاذ القانون الروسية أجهزة الحاسوب، والمعدات الأخرى من الشركات ذات الصلة بالمجموعة.
علاوة على ذلك، يضيف البعض إلى ما سبّبه بريغوجين من توترات، بُعدًا اجتماعيًّا سياسيًّا، تجسد في سعيه إلى تقديم نفسه على أنه شخصية سياسية مناهضة للمؤسسة، وخارج التسلسل الهرمي الحاكم. غير أن ما لم يفهمه – وفقًا لهذا الرأي – أن نظام الرئيس بوتين يسيطر بشكلٍ كامل على الجهات الفاعلة في البلاد كافة، خاصة تلك التي تتمتع بالنفوذ السياسي العام، وأن “أي شخص يصير مستقلًا تمامًا يكون في خطر جدي، إما أن يبتلعه النظام أو يتم تحييده”. وفي هذا السياق، تم تفسير تحطم طائرة بريغوجين ومقتله في 23 أغسطس 2023، من قبل محللين ومسؤولين غربيين كُثر بدعوى “أن سيد الكرملين يرسل رسالة واضحة وقوية للجميع بأن هناك خيارًا واحدًا وهو الولاء الكامل أو الموت بأبشع الطرق”.
ومع ذلك، لم يستبعد بعض الخبراء الغربيين أن يكون قد تم تفجير الطائرة بواسطة المضادات الأرضية لصواريخ على الطائرات المسيرة الأوكرانية، التي تنشط منذ شهور في سماء موسكو، وأن أحد هذه الصواريخ هو الذي أصاب الطائرة المدنية بالخطأ.
- افتقاد التمرد إلى أي دعم:
من المهم الإشارة إلى أن تمرد فاغنر، الذي رأى بعض المحللين الغربيين أنه لم يكن لينجح مطلقًا، وكان بمثابة محاولة يائسة من بريغوجين لإنقاذ مشروعه وفرض نقاش حول شروط استمراره في ميدان المعركة ودور مجموعته المستقبلي_ لم يلق أيَ تعاطف أو دعم يُذكر، سواءٌ من القوات النظامية أو من حكام الأقاليم أو المقاطعات أو أي من المسؤولين الروس. وصحيح أن بريغوجين وقواته لم يواجهوا أي مقاومة عندما استولوا على قاعدة روستوف، لكن بوتين انحاز في النهاية للجيش النظامي واستبعده تمامًا من الصفقة التي توسط فيها الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” بما في ذلك إدخال تغييرات في القيادة، وذلك عندما وقّع مرسومًا يقضي بضرورة انخراط جميع الجماعات العسكرية غير النظامية في صفوف القوات المسلحة، وهو ما انصاع له الجميع (نحو 35 جماعة)، عدا فاغنر. ومن ثم، فقد ترك بوتين لعناصر المجموعة خيارًا وحيدًا هو الانتقال إلى بيلاروس والعمل هناك، بموافقة السلطات البيلاروسية ووفقًا لقوانينها ولوائحها.
ووفقًا لتقارير غربية، كان الجيش الروسي قد خطط لاستخدام القوة ضد فاغنر واعتقال قائدها بعد رفض انضواء قواته تحت مظلة الجيش النظامي، بعد معركة “باخموت” في مايو الماضي، وذلك عندما حدث احتكاك بين الجانبين، بما في ذلك حالة أَسر فيها مقاتلو فاغنر ضابطًا نظاميًّا برتبة مقدم، وضربوه وأجبروه على تسجيل اعتذار، بزعم أن جنوده حاولوا مهاجمة قوات فاغنر. وتصنيف بعض التقديرات الغربية أن بريغوجين لم يكن متأكدًا من المكان الذي ستأخذه إليه هذه المغامرة، وأن خطته ربما ذهبت إلى أبعد مما كان يتوقع، وبمجرد أن هدده بوتين، لم يكن أمامه من خيار سوى استخدام قواته العسكرية لحماية نفسه والسعي لفرض صفقة مع الكرملين. وتبدو مشكلة بريغوجين الأساسية في الافتقار الكامل للدعم الجماهيري، كما لم يحصل على أي دعم عسكري، من أي نوع، يمكن أن يمنح الشرعية لسلوكه هذا، فالجيش الروسي منخرط في مواجهة عسكرية في أوكرانيا، وبالتالي هو غير قادر على المشاركة في صراع سياسي بالداخل، وحتى بفرض موافقة قادة وجنود روس بريغوجين في انتقاداته للجيش واتهامه بعدم الكفاءة، فإن كل هؤلاء لم يكونوا في وضع يسمح لهم بفعل الكثير لدعم تمرده. وفضلًا عن ذلك، لم تكن مطالب بريغوجين نفسه، خاصة طلبه إقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان، واقعية.
ويلاحظ بعض المحللين الغربين أنه في الوقت الذي كانت فيه وفاة بريغوجين على رأس الأخبار بالنسبة لوسائل الإعلام العالمية، لم تُثر هذه الوفاة الكثير من الاهتمام العام أو الغضب دخل روسيا. ويفسر ذلك بنظرة معظم الروس العاديين إلى الرجل على أنه “وطني متطرف” لديه طموح شخصي، وأنه لم يكن بطلًا شعبيًّا بالنسبة لهم، إلا أنهم انجذبوا إلى المقاطع المنشورة على الإنترنت، والتي تضمنت “تصريحاته البذيئة”، وانتقاداته للمؤسسة العسكرية، لمعرفة ما يحدث عن جبهة القتال في أوكرانيا.
- موقف الرئيس بوتين:
يثير تمرد فاغنر التساؤلات حول أسباب تسامح الرئيس بوتين مع بريغوجين ومقاتليه مع تزايد نفوذ المجموعة وقوتها إلى حد التمرد، والظهور بمظهر المتحدي للرئيس، الذي وفر له دعمًّا ماديًّا وسياسيًّا لا يُستهان به منذ عام 2014.
وللإجابة عن مثل هذه التساؤلات، من المهم تأكيد أن بريغوجين متمرد من داخل النظام الحاكم نفسه، وكان وما يزال جزءًا من هذا النظام، ولم يكن، في أي وقت، من معارضيه. وتظل فاغنر جزءًا من المنظومة العسكرية التي تخضع للقيادة العليا للقوات المسلحة، كما تراقب أنشطتها الأجهزة الأمنية المعنية، مثلها مثل عشرات الشركات العسكرية الخاصة الأخرى في البلاد. ويبرر بعض الخبراء المستقلين صبر الرئيس بوتين على سلوك بريغوجين بتعقيدات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الشاملة المؤثرة، في روسيا بصفة عامة والقوات المسلحة النظامية بشكل خاص، ففي تقدير القيادة الروسية يتعلق الأمر بقوة غير نظامية قد تكون مفيدة في هذه المعركة، بفضل استخدامها أساليب ومعايير تتسم بالمرونة على خلاف تلك الخاصة بالجيش النظامي. وفضلًا عن ذلك، تشير دراسة مجلس الأطلسي السابق الإشارة إليها، إلى أن فاغنر ما تزال تؤدي خدمات كبيرة للدولة الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا، وأنه بالرغم من العقوبات الغربية المفروضة عليها، إلا أنها نجحت في الالتفاف على هذه العقوبات وتحقيق خمسة مليارات دولار منذ عام 2017، وفقًا لتقييم فوربس، من (التعدين، وتجارة الذهب، وأعمال الغابات في إفريقيا).
في السياق عاليه، يمكن فهم إبقاء بوتين الباب مفتوحًا لعناصر فاغنر للاندماج في صفوف الجيش الروسي، أو القبول بإعادة نشر ما تبقى من عناصرها في بيلاروس متى رغبت حكومتها في ذلك، بما يخدم معركته الشاملة مع الغرب. ففي خطاب متلفز يوم 26 يونيو الماضي، ذكر الرئيس الروسي أن “مقاتلي فاغنر لديهم فرصة لمواصلة خدمة روسيا من خلال إبرام عقد مع وزارة الدفاع أو غيرها من وكالات إنفاذ القانون، أو العودة إلى عائلاتهم وأصدقائهم، وكل من يريد الذهاب إلى بيلاروس يمكنه ذلك”.
وبعد تصريحات للرئيس البيلاروسي في 27 يونيو 2023، أشار فيها إلى أن بريغوجين موجود في موسكو وليس بيلاروس على نحو ما تداولته وسائل إعلام روسية وغربية، كشف المتحدث باسم الكرملين “دمتري بيسكوف” في 10 يوليو 2023، عن أن الرئيس بوتين التقى مع قائد فاغنر في الكرملين في 29 يونيو الماضي (بعد 5 أيام من التمرد)، مشيرًا إلى أن اللقاء استغرق 3 ساعات وحضره قادة شركات عسكرية خاصة، بلغ عددهم 35 قائدًا. وذكر بيسكوف أن الرئيس “قدم تقييمه لما حدث، وعرض خيارات التوظيف على ممثلي الشركات العسكرية الخاصة”، وتابع المتحدث أن “قادة فاغنر قدموا روايتهم للأحداث لبوتين، وأكدوا أنهم من أشد المؤيدين للرئيس الروسي”.
وهكذا بدا تمرد عناصر فاغنر بالفعل وكأنه “شأن عائلي” بامتياز، أو خلاف بين أفراد أسرة واحدة وإن خرج بعضهم عن الخطوط الحمراء. ووفقًا لتحليلات غربية، لم يكن تمرد فاغنر لينجح مطلقًا، حيث يتعلق الأمر بنظام سياسي مصمم ضد الانقلابات، خاصة في ظل وجود العديد من الوكالات الأمنية التي تراقب، وتعارض بعضها البعض أحيانًا، فضلًا عن مرابطة وحدات عسكرية نخبوية عديدة على تخوم العاصمة موسكو. وهنا يُنظر إلى صعود فاغنر على أنه، تطور في سياق تاريخ طويل من الاعتماد السوفيتي والروسي على القوات غير النظامية.
ثانيًا: احتمالات استثمار التمرد الفاشل خارجيًّا:
يُستفاد من التطورات التي تلت إنهاء التمرد، وما تم تداوله من تقارير وتصريحات رسمية وغير رسمية حتى الآن، أن القيادة الروسية قررت الإبقاء على عناصر مجموعة فاغنر المنتشرة في الشرق الأوسط وإفريقيا، أما بالنسبة للعناصر التي قررت اللجوء إلى بيلاروس والعمل هناك فمن الواضح أن لدى القيادتين (الروسية، والبيلاروسية) خططًا لاستخدامها هناك كأداة من أدوات المواجهة الشاملة مع الغرب، وذلك على التفصيل الآتي:
- الإبقاء على عناصر المجموعة في الشرق الأوسط وإفريقيا:
اتساقًا مع تصريحات لبريغوجين بعد انتهاء التمرد، وعد رجاله فيها بتركيز أوسع على العمليات الإفريقية، أكد وزير الخارجية “لافروف”، في مقابلة مع قناة روسيا اليوم 26 يونيو 2023، “إن المدربين والمتعاقدين وغيرهم من الشركات العسكرية الروسية الخاصة باقون في البلدان الإفريقية بناء على طلب هذه البلدان”، مضيفًا إنه لم يلاحظ أي تغيير في مواقف هذه البلدان تجاه تلك الشركات بعد التمرد.
وتتسق تلك التصريحات مع تقديرات العديد من مراكز الفكر الغربية المتخصصة، والتي تؤكد أن فاغنر ستظل واحدة من الأدوات المهمة التي تسعى روسيا من خلالها، إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا، بجانب أدوات أخرى (اقتصادية، وعسكرية). وتضيف التقديرات إلى أن روسيا ستعيد هيكلة مجموعة فاغنر، وربما إعادة تسميتها، المأخوذة من اسم الموسيقار الألماني الشهير “ريتشارد فاغنر”، الموسيقار المفضل لهتلر، وترجح تلك التقديرات أن يتم الإبقاء على العقود الأمنية الحالية بين المجموعة والسلطات في البلدان الإفريقية التي تتواجد فيها عناصر المجموعة مثل (إفريقيا الوسطي، ومالي، وبوركينا فاسو،… وغيرها).
ووفقًا لدراسة “مجلس الأطلسي” السابق الإشارة إليها، “سافر مسؤولون حكوميون روس إلى إفريقيا والشرق الأوسط في الأسابيع الأخيرة لطمأنه الأنظمة هناك بأن مجموعة فاغنر ستكون قادرة على تلبية متطلبات عقودها الحالية تحت قيادة وسيطرة جديدة”. وتضيف الدراسة أنه في زيارة إلى دمشق في 26 يونيو الماضي، أكد نائب وزير الخارجية الروسي “سيرجي فيرشينين” للرئيس السوري “بشار الأسد” أن “قوات فاغنر ستواصل عملياتها تحت سيطرة الكرملين”. وفي جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، قدم وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” تأكيدات مماثلة.
وقد بثت قناة BBC البريطانية، في 27/28 يوليو الماضي، مقاطع فيديو تظهر قائد فاغنر وهو يصافح أحد كبار المسؤولين في جمهورية إفريقيا الوسطى، بمدينة سان بطرسبرج، حيث عقدت قمة (روسيا، وإفريقيا) في ذات التوقيت، ونشرت الصورة عبر فيسبوك على حساب “ديمتري سيتي”، الذي يُقال إنه يدير عمليات قوات فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى، وأكدت وحدة التحقق في الــــ BBC أن لقاء بريغوجين ومسؤول إفريقيا الوسطى كان في فندق “تريزيني بالاس” في سان بطرسبرج.
ومن المهم الإشارة إلى أنه في الوقت الذي نفت فيه كل من (الولايات المتحدة، وفرنسا)، رسميًّا، تورط فاغنر في الانقلاب الذي وقع مؤخرًا في النيجر، أوردت وكالة “أسوشيتدبرس”، نقلًا عن مسؤول عسكري غربي ومصادر مالية، في 4 أغسطس 2023، “طلب قادة الانقلاب في النيجر المساعدة من مرتزقة فاغنر بعد أن هددت الدول المجاورة (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا – إيكواس) بالتدخل العسكري إذا لم تتم استعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم بحلول الأحد 6 أغسطس 2023”. وأضافت الوكالة أن الجنرال “ساليفو مودي”- أحد الضباط الذين قادوا الانقلاب- قدم الطلب خلال زيارة إلى مالي المجاورة. ومن جانبها، حذرت مالي وبوركينا فاسو، حيث توجد عناصر فاغنر، من أن أي تدخل إقليمي سيكون بمثابة “إعلان حرب” ضدهما. وقد تجمع آلاف النيجريين في 4 أغسطس في الشوارع احتفالًا بالانقلاب في ذكرى استقلال البلاد، حيث لوح بعضهم بالأعلام الروسية مرددين شعارات مناهضة لفرنسا. وارتباطًا بذلك، قال محمد بازوم في أول تصريح علني له، أن الساحل “قد يسقط في يد النفوذ الروسي”.
والخلاصة هنا، هي أنه من الطبيعي أن تسعى روسيا إلى الاستفادة من المشاعر المعادية لفرنسا في غرب إفريقيا؛ لترسيخ نفوذها ومصالحها في المنطقة، مستخدمة في ذلك عناصر مجموعة فاغنر المنتشرين هناك.
- الدور المحتمل للمجموعة في بيلاروس:
يُنظر إلى وساطة الرئيس لوكاشنكو في إنهاء تمرد فاغنر القصير الأمد، على أنها واحدة من أغرب التحولات في هذا التمرد، بجانب استضافة الوسيط لهذه المجموعة في بيلاروس. ولعل النقطة الأهم هنا، هي أن دخول لوكاشينكو على خط الوساطة لإنهاء التمرد كان ممكنًا فقط بعد أن قرر الرئيس (بوتين، وبريغوجين) أنهما يريدان تهدئة الأمور بدلًا من التصعيد. وتشير المعلومات المتاحة إلى قيام بيلاروس بتهيئة قاعدة عسكرية مهجورة في شرق البلاد لاستخدامها كمركز تدريب لمقاتلي فاغنر، وتتسق هذه المعلومات مع ما سبق أن صرح به أحد قادة المجموعة، على قناة بريغوجين على تليغرام، من أنه “جاري إعداد القواعد وساحات التدريب والتنسيق مع وكالات إنفاذ القانون في بيلاروس، وإنشاء خدمات الإمداد والتموين”.
وقد استقبلت بولندا – الصوت الأعلى الأكثر عداءً لروسيا داخل الناتو والاتحاد الأوروبي – هذه التطورات بقلق كبير، خاصة بعد تصريحات علنية لرئيس بيلاروس، خلال اجتماعه بنظيره الروسي في 23 يوليو 2023، في سان بطرسبرغ، قال فيها إن قوات فاغنر المتواجدة في بلاده “كانت تريد الذهاب غربًا صوب وارسو ورزيسزو” في بولندا. وقد علق مراقبون بأن تخويف بولندا ربما كانت الرسالة التي حملتها هذه التصريحات، وجاء رد الفعل السياسي والإعلامي البولندي سريعًا عندما أشار رئيس الوزراء “ماتيوش مورافيتسكي” إلى احتمالية أن يكون مرتزقة فاغنر في طريقهم صوب الحدود البولندية مستندًا في ذلك إلى معلومات تفيد أن أكثر من 100 من مقاتلي المجموعة كانوا يتقدمون صوب ممر سوفالكي (على بعد نحو 15كم من الحدود مع بولندا وليثوانيا). وحذر مورافيتسكي خلال زيارة لمصنع أسلحة في جنوبي بولندا من أن هذا يجعل الوضع على الحدود “أشد خطورة من أي قبل”، مشيرًا إلى تسجيل 16 ألف محاولة لعبور المهاجرين للحدود من بيلاروس خلال العام الجاري، وأشارت تقارير إعلامية إلى أنه من غير المستبعد تسلل مرتزقة فاغنر إلى بولندا متنكرين في هيئة مهاجرين.
وتشير تحليلات ألمانية إلى أن ما ذكره رئيس الوزراء البولندي، هي ادعاءات لا تستند إلى حقائق، وأنها مجرد تخمينات في سياق مساعي حزب “القانون والعدالة” اليميني الحاكم إلى جذب الانتباه عن طريق سرديات مناهضة للمهاجرين. في المقابل، يقول خبراء أوربيون أن “تهديدات روسيا وبيلاروس ضد بولندا تستهدف تقليل دعم وارسو لكييف”، وهو ما يلتقي مع أصوات قوى سياسية داخلية في بولندا ترى أن دور بولندا في الحرب خاطئ.
على أية حال، انعكس قلق بولندا هذا في نص البيان الختامي الصادر عن قمة الناتو في فيلينوس في 11 يوليو الماضي؛ حيث أشارت الفقرة (15) من البيان إلى “أن تعميق التكامل العسكري الروسي مع بيلاروس، بما في ذلك نشر القدرات العسكرية والأفراد العسكريين الروس الموجودين في بيلاروس، له تداعيات على الاستقرار الإقليمي والدفاع عن الحلف، وسيظل الناتو يقظًا وسيراقب التطورات عن كثب، لا سيما النشر المحتمل لما يسمى بالشركات العسكرية الخاصة في بيلاروس، ندعو بيلاروس إلى وقف أنشطتها الخبيثة ضد جيرانها..”.
وبخلاف دور بولندا في الحرب وقيامها بتسليح أوكرانيا والإلحاح على ضمها للناتو وللاتحاد الأوروبي، وهو ما يبرر توظيف ورقة فاغنر ضدها من قبل روسيا وبيلاروس على ما يبدو، يستفاد من تحليلات عديدة (روسية، وغربية) على السواء ، بعض المؤشرات التي توضح أدوارًا إضافية مستقبلية لفاغنر وما تبقى من عناصرها في بيلاروس، والمقدرة بحوالي 3500 عنصر قد تزيد مستقبلًا إلى 10.000، أبرزها:
- إمكانية استخدام مقاتلي فاغنر كمدربين للجيش البيلاروسي، نظرًا لخبرتهم القتالية الواسعة، وهو ما تحدث عنه لوكاشينكو نفسه.
- تحدثت بعض التقارير البيلاروسية عن إمكانية توظيف عناصر فاغنر في شركات بيلاروسية تعمل في بعض البلدان الإفريقية، حيث تتمتع فاغنر بحضور واسع.
وكان بريغوجين قد أكد أن الرئيس البيلاروسي عرض عليه إطارًا قانونيًّا يسمح بتسجيل مجموعته كشركة عسكرية خاصة في بيلاروس، ويشار هنا إلى صداقة الرجلين التي امتدت لأكثر من 20 عامًا حسبما كشفت أزمة التمرد.
- إمكانية دمج بعض مقاتلي فاغنر في جهاز الأمن البيلاروسي.
وختامًا: تعكس التطورات الأخيرة تقدير القيادة الروسية بأن فاغنر، بالرغم من تمردها القصير في 24 يونيو الماضي، ماتزال أداةً مهمة في معركة موسكو المتواصلة ضد الغرب، ولا يجب استبعاد إمكانية استخدامها في بيلاروس، حليف روسيا في هذه المعركة، وذلك بجانب استمرار عمل هذه الشركات في الشرق الأوسط وإفريقيا كأداة من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية. ومما لا شك فيه أن شعارات “تسقط فرنسا”، و “تحيا روسيا”، التي رفعها مؤخرًا المتظاهرون في النيجر، هي دليل على ما تحظى به موسكو من قبولية وحافز للقيادة السياسية الروسية لمواصلة الاستثمار في فاغنر في إفريقيا، كذلك فإن فشل التمرد يخدم شعبية الرئيس بوتين، الذي يُنظر إليه الآن على أنه لم يكتفِ بالنجاح في القضاء على التمرد، وإنما سعى إلى توظيف هذه الأزمة ضد خصوم روسيا في الخارج.