حين- تردد كلمتا “سياسة” و”دبلوماسية” علي أذهان النّاس، تحضر معهما غالبًا ألفاظ من قبيل: (الخطب والبيانات والتصريحات واللقاءات والاجتماعات والمباحثات والمحادثات والمفاوضات والمداولات والمناورات)، ولا يعتقد أحد أن هاتين الكلمتين اللتين تحيط بهما هالة من الجدية والصرامة، وترتبطان بمسائل وقضايا غاية في الأهمية والحيوية، يمكن أن تجد الحكايات إليهما منفذًا أو سبيلًا.
في الحقيقة إنّ الحكاية حاضرة بشدة في أروقة السياسات الرسمية والعلاقات الدبلوماسية، ويتوسل بها الكل في سبيل الاستمالة والإقناع والتزجية والترويح وكسب الوقت، لكنّ المسؤولين الرسميين حريصون على إخفاء هذا، إما لأنّهم لا يريدون الكشف عن إحدى حيلهم الرامية إلى تحقيق أهدافهم_ ولو بطريقة ملتوية_ ، وإما لأنّهم يعتبرون الحكي قد يقلل منهم أمام الرأي العام، الذي يريد ممن يتولون أمر القرار أن يكونوا واضحين جادين مباشرين يتحدثون بلغةٍ قابلةٍ للقياس.
لكنّ الجميع يكتشف أنّ أروقة السياسة والدبلوماسية حافلةٌ بالحكايات، ولا يُستثني من هذا أحد، ولا دولة ذات نظام حكم ديمقراطي كانت أم غير ذلك، فمن يتولون الإدارة العليا في أي بلد هم في النهاية بشر تستهويهم القصص كغيرهم، كما أنّ بعض من حولهم يدركون أنّ امتلاكهم قدرة على الحكي المسلي قد تكون سببًا لبقائهم فترةً أطول في مواقعهم، وبعضهم يتصور أن تقديم التقارير الشفهية التي تصف أحوال الناس يمكن أن تكون أكثر نصاعة إن تدثر بالحكي، وهناك المشاؤون بالنميمة والدسيسة الذين لا بد لهم من امتلاك قدرة على اختلاق الحكايات، وتسويق أكاذيب من خلالها.
ويكتشف الجمهور هذا إن كتب أحد الساسة الكبار مذكراته، فوقتها لا يتوسل فقط بالسرد عمومًا كي يقدم ما قاله وسمعه وأوصى به وفعله وجرى له، إنّما يكون في حاجة إلى أن يقص على القراء بعض القصص من واقع ما حدث، ولا تخلو مذكرات من هذه الخاصية، مهما كان صاحبها يفتقر إلى قدرة على الحكي، إذ إنّ غريزة هذا النوع من الكتابة تدفعه دفعًا إلى السير على هذا الدرب، وعندها يجد النّاس أن الأوقات التي كانوا يعتقدون أنّها قد مضت مغلفة بصرامةٍ شديدةٍ، وتقريريةٍ دقيقةٍ، كانت غارقة في حكايات حتى الأذقان.
والمصدر الثاني لكشف علاقة الممارسة السياسة بالحكاية تتمثل في : الإفادات أو الشهادات، وربما الاعترافات، التي يدلي بها مسؤولون سابقون حين يسألهم أحد في برنامج متلفز أو حوار صحفي أو خلال جلسة خاصة، وقد مرت على الجميع في العقد الأخير ألوان من هذا، فبعد اندلاع الهبات والانتفاضات والثورات وسقوط أركان سلطة هنا وهناك، خرج المتصلون بها، والمتنصلون منها، ليرووا للناس الكثير من الحكايات عما كان يدور خلف في أروقة الحكم ودهاليزه، واستمر الأمر نفسه في المحاكمات التي أجريت، حيث وقف كثيرون في ساحات العدالة يسردون أشياء كانت خافية على الناس.
ورغم هذا فإنّ أغلب النّاس لا يسحبون ما سمعوه عن ماضيهم إلى حاضرهم، فيدركون كثيرًا مما يجري لهم من واقع فهم واستقراء وتحليل ما كان، بل يتعاملون مع ما يقع على أنّه غارق في التقريرية، وأنّ الغموض الذي يكتنف بعض الأشياء لا يمكن أن يكون راجعًا إلى سحر الحكايات أو الفراغات التي تتخللها وتحتاج إلى من يردمها بإتمام ناقصها، وتجلية غامضها، إنّما رجوعه الأساسي، وربما الوحيد هو إلى حجب المعلومات عن النّاس، أو الإفراج عن القليل منها، مما لا يشفي الغليل، ولا يشبع النهيم.
إنّ السياسة والدبلوماسية لا تحلق في فراغ، فهي في خاتمة المطاف من صناعة بشر تجذبهم الحكايات أكثر من غيرها، حتى ولو في أوقات الفراغ، أو بين التجهم وأخيه.
وفي تاريخ الإنسانية تم تصوير الحروب على أنّها ملاحم كبرى، يمكن أن تصاغ شعرًا في آلاف الأبيات التي بوسعها أن تشكل مئات القصائد، أو تكتب نثرًا في حوليات أدبية_ إن صح التعبير_ تحوي آلاف الصفحات، التي تتحدث عن البطولات العظيمة التي خاضها فرسان استثنائيون، ربما لم تعنهم الحياة وقت المعركة في شيء سوى تحقيق الانتصار الكبير، الذي يخلد أسماءهم، أو يجعل بلدانهم تقدرهم خير تقدير على ما قدموه في سبيل الوطن من كفاح وتضحيات.
لكن أيًّا من هذه الملاحم لم يعن كثيرًا بالبطولات الصغيرة التي شكلتها، أو نبتت على ضفافها، وبوسعنا أن نرى كل منها بمنزلة قصة قصيرة أو حكاية فردية، أو لنقُل ذاتية، عن الذين قاتلوا في بسالة وانتصروا، ومن بينهم الذين استشهدوا، أو أولئك الذين أصيبوا، وبقوا على قيد العيش مع الناجين؛ ليحكوا لنا كل ما مروا به وكابدوه، وليس أمامنا نحن الغائبين عن ساحة المعركة سوى الإنصات إليهم، لأنهم وحدهم الذين خاضوا التجربة في أعمق وأدق معانيها وحال وجودها أو حضورها الطاغي.
لكن ليس بوسع أي من هؤلاء أن يحكي لنا كل ما جرى، طولًا وعرضًا، وشرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، إنّما يمكنه أن يسرد، ووقتها نصدق من زاوية وطنية أو إنسانية، ما جرى له كفرد، رأى ما وقع، وهو ينخرط فيه بكل كيانه، وينشغل ذهنه بساحة القتال العريضة بحثًا عن نصر فيها، وتشتعل مشاعره بكل ما يحفظ حياته، ويردي عدوه، وتذهب عيناه إلى الرايات المرفوعة في بلاده، التي تنتظر منه أنه يعود مظفرًا.
إن الملاحم الكبرى تلك ، ما كان لها أن تكون إلاّ إذا كانت هناك حكايات صغيرة أو مفصلة أو ذاتية تخص أولئك الذين كانوا في ميادين القتال، ولم ينتظر أغلبهم شيئًا سوى أن ينتصر لبلاده، دون أن يفصل ما في داخله هذا عن وجوده، لاسيما إن الفهم والتصور والتكنيك العسكري قائم على أساس الحفاظ على حياة المقاتل، أيًّا كان موقعه ومكانه، فله وحده صممت الخطط القتالية، وصنعت أدواتها من المسدس إلى الصاروخ.
بذلك فإنّ ما يسمعه المقاتل ويراه ويلمسه ويشمه ويتذوّقه لا يمكن تجاهله ونحن نؤرخ للحرب، فهي إن كانت رواية طويلة أو ملحمة، فإن صورتها الكلية لا يمكن أن تستقيم إلاّ إذا شارك في صناعتها المقاتلون الأفراد الذين خاضوا المعارك بالفعل، في النجاد أو الوهاد، ثم علينا أن ننصت إلى كل ما قالوه لنا، أو استغرقوا في روايته عما فعلوه وسط النيران والدماء والضجيج الهائل.
إن الحروب، لاسيما الحديثة والمعاصرة، لا تخاض إلاّ في ظل خطة حربية محكمة، ينتظم الأفراد في تنفيذها، ويصبح لكل منهم دور محدد في هذا، يجب عليه ألاّ يتعداه، وإلاّ يكون قد خالف الأوامر، أو تصرف بما لم تحدده القيادة الميدانية، وفي هذا مخاطرة لا يقدر هو آثارها؛ لأنه وهو يؤدي دوره المرسوم المحتوم عسكريًا ، لا تتوافر له كافة المعلومات عن الخطة الكاملة، ولا يعرف كل التفاصيل التي تجري في مسرح العمليات بطوله وعرضه.
لكن مهما كان تحكم القادة وسيطرتهم على الميدان، وهو أمر ضروري في أي معركة، فإن لكل فرد مقاتل حكايته، حتى لو خاض مع رفاقه تجربة واحدة، ومارسوا الفعل نفسه، فهو في النهاية يسمع بأذنيه، ويرى بعينيه، ويعمل بيديه، ويقدر ما يجري وفق تصوره الخاص النابع من خبرته وما في رأسه من معارف، وفي وجدانه من قيم، وما يدركه من تصورات هي بنت خبرته وثقافته، ولذا فإن طلبنا منه بعد أن تضع الحرب أوزارها، أو حتى أثناء دوران المعارك أن يحكي لنا تجربته فسيقصّها على أسماعنا بطريقة تختلف عن رفيق سلاحه.
إنّنا لا نقصد بهذه القصص تلك التي يبدعها أدباء شاركوا في المعارك، مثلما حدث في كتابات أمم كثيرة تحت عنوان عريض اسمه “أدب الحرب”، لكننا نرمي مباشرة إلى الشهادات والإفادات الشفهية التي يدلي بها الجنود والضباط المقاتلون، أو تلك التي يمكن أن يدونوها على هيئة “يوميات” في مذكراتهم الخاصة، وبوسع بعضهم أن يسعى إلى نشرها فيما بعد، إن تهيأت الظروف لهذا.
إن المعارك كلها يمكن التعبير عنها أدبيًا في عمل ملحمي كبير مثلما تناول” ليو تولستوي” الحرب النابليونية ضد روسيا القيصرية في روايته الضخمة “الحرب والسلام”، ويمكن أن تكتب بعيدًا عن الأدب في مذكرات سردية للقادة العسكريين أنفسهم، أو توجد في التقارير والوثائق الميدانية التي تجمع كأرشيف رسمي كامل للحرب، وفي التغطيات المتلاحقة للمراسلين الحربيين، لكننا لا نقصد أيضًا كل ذلك في هذا المقام، إنّما نقصد نثر الحكايات وأشتاتها، التي يعبر عنها المقاتلون سردًا بعد أن تسكت المدافع.
إن كثيرًا من هذه الحكايات تصفو وتنجلي بعد مرور السنين، وعودة الجنود إلى حياتهم الميدانية منغمسين في أعمالهم المدنية وتربية أولادهم وأسفارهم وأوقات فراغهم، ويؤدي انجلاؤها إلى التخلص من تفاصيل كثيرة غارت في الذاكرة؛ لتخلص الحكايات من العوالق والشوائب التي قد تكون بنت الهواجس والمخاوف والرغبات والبطولات والعواطف بما تنطوي عليه من ميول وانحيازات ، وبذا يمكن لصاحبها أن يستعيدها على نحو مكثف أمام سامعيه، أو يكتبها على الورق فيقرأها الناس، وتصير في كل الأحوال جزءًا من التاريخ العسكري الاجتماعي للأمم والدول.
وبالطبع فإنّ الفرد الواحد لا يسرد( حكاية/ قصة ) واحدة، فهو على قدر مدة انخراطه في القتال أو أعمال الإمداد والتموين والاستطلاع، يكون قد سمع ورأى وعمل الكثير من الأفعال، وقابل شخصيات عدة من رفاقه، أو حتى من أعدائه، الذين كانوا يحرصون على قتله بقدر حرصه على قتلهم في الميدان.
ولا يمكن لأحدٍ من هؤلاء أن يستعيد الوقائع والمجريات كما هي، لاسيما بعد مرور زمن طويل على حدوثها، إنّما قد يختلط بها شيء من مخيلته، وربما رغباته وأشواقه في تصوير دوره على نحو معين، وما تجود به المخيلة هنا على الحكاية الأصلية من حمولات يضفي نوعًا من الأدبية على تلك الحكايات، إذ تفارق طابعها التسجيلي، وتخرج مشبعة بقدرة صاحبها على الحكي، وما يعطيه له من أسلوب سرد يمتلكه ومعانٍ وإدراكات ومفاهيم وتقديرات تتسربل بها القصص المحكية.
وكثير من هذه القصص تتدفق إلى الصحافة، كلما جاءت ذكرى الحرب، إذ أنّ الأمم المنتصرة تحرص على إنعاش ذاكرة الشعوب بما جرى، خاصةً إن كانت أسباب العداء أو الصراع أو النزاع لا تزال قائمة، أو بمعنى أدق كان الطرف الذي حاربته دولة ما استمر يشكل عدوًّا في العقيدة القتالية لجيشها. من هنا تنتقل الحكايات من المجال الشفهي إلى الكتابي، وهي ترد بالطبع على ألسنة المقاتلين، أو تنسب إليهم حين تنتقل من راوٍ إلى آخر، ويمكن لهذا الانتقال أن يحدث شفاهيةً أيضًا، فالذين خاضوا المعارك يحكون تجربتهم الصعبة تلك، أو ما تبقى منها في ذاكرتهم، لأولادهم وأحفادهم، وهؤلاء ينقلونها بالطريقة التي تحلو لهم إلى غيرهم.
من أجل هذا تكون الحروب منبعًا لحكايات عديدة، ولأنها ولدت في أوقات استثنائية بالنسبة لكل مقاتل، فإنها تظل محفورة في ذاكرته أكثر من حكايات أخرى صنعتها أفعاله في حياته الاعتيادية المفعمة بالتفاصيل المتتالية والمتناثرة، كما تلقى حكايات الحروب حرصًا أشد على تسجيلها واستعادتها بطرق متعددة؛ لتتدفق في شرايين المجتمعات الإنسانية، وتستقر حيةً في القيعان البعيدة، لتثأر من آن إلى آخر، فتحضر من غياب، وتستيقظ من سبات لا يطول أبدًا.
ليس هذا فحسب، بل إن الإرهاب نفسه قد يكون مجموعة من القصص. فوراء أي إرهابي قصة يسكن فيها كل شيء عنه، فإن جمعناها إلى جانب قصص الذين معه ستكون لدينا الرواية كاملة عن إرهاب تنظيم أو جماعة في مكان وزمان ما، فإن مددنا الخط على اتساعه فقد تولد بين أيدينا الملحمة الدموية كاملة، أو خلاصاتها الأساسية.
وما كل واقعة إرهابية، في (التجنيد والتعبئة أو التحريض ثم التنفيذ المفضي إلى القتل والتدمير)، إلاّ لها قصة أو حكاية ما، يمكن أن يرويها صاحبها لمن معه أو الواردين جديدًا إلى التنظيم أو أمام أجهزة الأمن والتحقيق حين يتم القبض عليه، أو خلف القضبان النحيلة لقفص الاتهام أمام القضاء في ساحات المحاكم، وقبلها وفي ركابها إلى محامي الدفاع عنه.
ودفع هذه القصص في شرايين التحليلات المتدفقة حول التطرف والإرهاب يعطيها كثيرًا من الحيوية، ويقرّبها من الحقيقة، وينقذها من الجفاف والبرود الذي يفصل الفعل عن أشخاصه وكأنّهم آلات قتل مجردة، ويجعلها أكثر مصداقية وإقناعًا، وقد توسلت بعض الدراسات الميدانية، والتحقيقات الصحفية والمتابعات بمثل هذه القصص، التي توزعت بين ما يدلي به إرهابيون من إفادات وشهادات أو ما يقوله شهود عيان عن حوادث إرهابية وقعت هنا أو هناك.
وبعض ما يرويه إرهابيون من حكايات ينطوي على قدر من سمات القصة الأدبية عبر ثلاثة أبواب، الأول : هو( المبالغة)، إذ يحرص هؤلاء على الكذب إما رغبة منهم في تضخيم دورهم ومكانتهم، أو إضفاء طابع أسطوري على حالهم بما يغري آخرين بالانضمام إليهم. والثاني هو: (التوسل) بلغة ذات إيقاع وجرس قوي غارقة في المجازات أحيانًا تماشيًا مع طريقة هؤلاء في التعبير وما تجود به عليهم المعاجم والكتب القديمة التي يلتقطون منها كثيرًا من ألفاظهم. والثالث :هو (استعمال تقنيات الإخفاء والإضمار) بغية المراوغة والغموض الذي يفرضه الوضع الأمني للإرهابيين، وبذا يتركون دومًا فراغات داخل نصوصهم، بما يجعل المسكوت عنه حاضرًا، في ظل عدم الانشغال بالتفاصيل الواسعة التي يهتم بها الروائيون، وتسد فراغات كثيرة_ لاسيما عبر ما يسمى “الراوي العليم”.
إنّ القصص والحكايات مثلما هي طريقة مثلى للوعظ والنصح والإرشاد والهداية، في الأديان كافةً، فإنّ الإرهاب المستند إلى تصورات دينية مغلوطة، يستعمل الوسيلة نفسها في الدعاية لأفكاره، وتثبيت أنصاره، والكيد لخصومه، وبذا فإن كثيرين من أفراد التنظيم يحوزون ملكة الحكي بطريقة أو أخرى، حتى لو كانت حكاياتهم مرعبة أو مخزية.
وبعض هؤلاء المتطرفين والإرهابيين يتقاعدون أو يتراجعون ويسجلون تجربتهم سردًا في عملٍ طويلٍ، لا يتسم، في الغالب الأعم بالتماسك، الذي تتصف به الكتابة الروائية أو السير الذاتية أو السرد الصحفي العميق، إنّما يأتي وكأنّه مجموعة من المشاهد الحكائية أو القصصية المتلاحقة، أو هكذا تبدو إن صفيناها من التبريرات النظرية التي يمكن أن يدسها بين ثنايا سطوره، محاولًا أن يقلل من قبح الدور الذي كان يلعبه في الماضي، أو يصنع لنفسه صورة أخرى تُسوِّقه في المجتمع الذي عاد إليه، طوعًا أو كرهًا.
ومع تواصل موجات الإرهاب، وكل منها يمكن أن تشكل رواية كاملة في أي دولة اصطلت بناره، تتناثر فصولها ومقاطعها وسطورها في المجال العام إثر تتابع الأخبار التي يصنعها الإرهابيون من تهديد ووعيد واغتيال وقتل وتدمير، ويصبح وراء كل خبر قصة قصيرة، لها مكانها وزمانها والشخصيات التي شاركت في سيرها من البداية إلى النهاية، مغلقة كانت أم مفتوحة.
إن هذه الموجات الدموية، وإن كانت قد رمت إلى المجرى الاجتماعي حكايات غارقة في الدم والدموع، فإنّها من الناحية المجردة بعيدًا عن ميولنا الرافضة بالطبع للإرهاب، جعلت المشهد العربي حافلًا بحكايات أخرى؛ نظرًا لأن أغلب أفعال الإرهاب تحدث في أرض عربية.
والأزيد من هذا أن الماضي نفسه_ كتراث وموروث _ يستعاد على هيئة قصص، فحين يتحدث المختصون في دراسة التراث أو يكتبون، فإنّهم يأتون بالماضي على أكف الحاضر في صيغة معارف ونظريات صارت مساقات موزعة على علوم حديثة، بعضها قابل للتداول والاستفادة منه مثل: (الفلسفة ونصوص الأدب والبلاغة وقبلهما بعض الآراء الدينية والتاريخ)، وكثير منها لم يعد إلاّ جزء من تاريخ العلم غير قابل للتطبيق في واقعنا المعيش.
أما غير المختصين، وهم الأغلبية الكاسحة فإنّهم يستعيدون التراث من قصصًا قصيرة، أو حكايات مختزلة، سواء كانت تنحدر من تفسير وتأويل القصص الديني المنصوص عليه في القرآن والحديث النبوي، أو تأتي من باب أولئك الذين يؤدون وظيفة في الوعظ والإرشاد والهداية من العاملين على الدعوة أو دراسة الأديان، أو كانت من الموروث الشعبي، الذي أنتجته القريحة الشعبية الكلية، والنازع في الغالب الأعم إلى الفن والتأريخ والأساطير.
فالفرد العادي حين يتحدث عن شخصية تاريخية، سواء كانت لقائد عسكري أو فقيه ديني أو متصوف ورع أو سياسي ترك بصمة أو حتى بعض العلماء في مختلف ألوان العلم والمعرفة فإنّه لا يتناولها مثلما يفعل المحققون والمؤرخون ومن يكتبون تاريخ العلم أو يستعرضون الأدبيات وينقدونها في مستهل الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية، إنّما يسترجعونها حكايات شفهية أو كتابية، وفي الأولى تختلط اللّهجة العامية بما استقر في الذاكرة من بعض عبارات وردت على ألسنة أبطال الحكايات أو تعبيرات قيلت عنهم من المعاصرين لهم، واللاحقين عليهم، وفي الثانية نكون أمام كتابة تقوم بالأساس على النقل والتحقق.
وهذه القصص لا تُستعاد كما كتبت بالطبع، فضلًا عن أن كتابتها لم تكن أبدًا تصورها كما جرت في الواقع دون حذف أو إضافة، فالتاريخ اختيار، وما تم تدوينه منه هو مجرد جانب أو جزء أو مسار يعكس رغبة أو مصلحة أو فهم وإدراك وميل وانحياز من كتبه، فإن خرج من الصفحات إلى الشفاه، وساح في الأرض كلامًا محكيًا ولغة جسدية، انقطعت بعض صلته بما تم تدوينه وتسجيله في الحوليات والكتب، وقامت صلات جديدة هي بين أصل الوقائع ومقتضيات الحكي، وهي فنية بالدرجة الأساسية، أو خاضعة لشروط الفن، أدرك هذا من حاكوها أو غاب عن أذهانهم.
بهذا ينساب التراث قصصًا قصيرة ويتم تداوله على هذا النحو بين الناس؛ ليتحول عبر الحكي إلى شيء حي، لاسيما أن من يحكونه بأساليب وطرائق مختلفة، يطلقون في شرايينه الكثير مما تجود به مخيلاتهم وقرائحهم؛ ليصبح قابلًا للتداول والاستساغة في زماننا، أو في زمن يأتي.
إن الناس في بلادنا حين يريدون استعادة الماضي فإنّهم يفعلون هذا على طريقة “كان يا ما كان”، لكن ليس بوسعهم في مواقف كهذه، أن يصيغوا ما يودون قوله في سرد طويل أشبه بالرواية، إنّما يأتي بالطبع على هيئة قصص قصيرة، وكذلك يفعل الدعاة المسلمون في قصّهم على الأسماع حكايات الأنبياء والأولياء والصحابة والخلفاء والفقهاء وقادة الجند في زمن الفتوحات، وعلى المنوال ذاته يحكي الوعاظ الكنيسيون قصص (الحواريين والرسل والقديسين والرهبان والاستشهاديين)، وتستعاد كذلك الحكايات غير الدينية من تراث العائلة والعشيرة والقبيلة، حيث يحرص من هم علي قيد الحياة من الأجداد على أن يعرف الأبناء والأحفاد شيئًا عن أمجاد عليتهم وكبارهم، وتأخذ الحكايات ما هو أوسع من هذا حين تلتقط من سياق الحضارات القديمة التي لا ينشغل عموم الناس بعطاءاتها العلمية بقدر انشغالهم بما خلفته من حكايات عن البارزين فيها ،أو تلك التي تغلف الطقوس الموروثة في الأفراح والأتراح، والجد والهزل.