2023العدد 195ملف ثقافي

الاستثمار الرياضي وأحلام العرب وأهدافهم ومخاوفهم

في 1929، سافر النادي الأهلي المصري لأول مرة إلى أوروبا ليلعب هناك أمام أندية (تركيا، وبلغاريا، وألمانيا، وهولندا، وفرنسا)، واهتمت الصحافة المصرية وقتها بهذه الرحلة، وأجرت حوارات كثيرة مع “داود بك راتب” سكرتير عام الأهلي، وفي كل حوار كان داود بك يؤكد أن الغرض الأول لهذه الرحلة هو عمل بروباجاندا رياضية لمصر في الخارج، وأن أي انتصار لفريق رياضي مصري في أوروبا هو أكبر بروباجاندا لمصر، وأظن أن ما قاله سكرتير عام النادي الأهلي كان أول إشارة عربية للاستثمار الرياضي، أو أن الرياضة ليست مجرد ألعاب وبطولات ومسابقات وفائز ومهزوم، إنما لها أدوار أخرى لا تقل أهمية وضرورة عن اللعب نفسه ونتائجه، لكنها بالتأكيد لم تكن الإشارة الأولى من نوعها في العالم، إنما سبقتها ولحقتها إشارات ووقائع أخرى عن نفس الهدف أو الرياضة والبروباجاندا.

ولم تتحول هذه الإشارات إلى واقع عالمي إلا مع بداية الحرب الباردة بين (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي)، وأصبحت الرياضة أحد أهم أسلحة تلك الحرب، ولهذا رفض جوزيف ستالين دعوة الحلفاء (إنجلترا، وفرنسا، والولايات المتحدة)؛ للمشاركة في دورة لندن الأوليمبية 1948، فلم يسبق أن شارك الاتحاد السوفييتي من قبل في أي دورة أوليمبية، ولم يشأ ستالين من باب الوجاهة القومية أن تنتهي مشاركته الأولى بنتائج لا تليق بالكبرياء القومي السوفييتي، وبالفعل انتظر الاتحاد السوفييتي أربع سنوات أخرى أنفق فيها الكثير من المال والجهد وأجاد التخطيط والاختيار استعدادًا للمشاركة في دورة هلسنكي الأوليمبية 1952، وفاجأ السوفييت الجميع بنتائجهم وميدالياتهم التي أوصلتهم للمركز الثاني في الترتيب العام بفارق خمس ميداليات فقط عن الولايات المتحدة.

وكانت دورة هلسنكي الأوليمبية 1952 نقطة تحول أساسية وفاصلة وحاسمة في رؤية العالم للرياضة وقيمتها وأهميتها ووظائفها أيضًا، ومشى العالم بعدها مشوارًا طويلًا حافلًا بالأسرار والحكايات والغرائب بدأته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وخلفها كانت كل بلدان العالم دون استثناء، وباتت كل بلد تنفق على الرياضة قدر استطاعتها سواء للفوز ببطولة أو ميدالية أوليمبية أو لاستضافة بطولة أو دورة رياضية، وأصبح الانتصار الرياضي والفوز بكؤوس وميداليات بطولة أو حتى استضافتها بمثابة حروب معلنة وسرية ومباشرة وغير مباشرة خاضتها بلدان كثيرة جدًا تم فيها استخدام أسلحة (السياسة، والمال، والإعلام)، فالرياضة كما أكد الديبلوماسي الكبير “هنري كسينجر” في أكثر من كتاب ومقال باتت صورة للدولة في عيون العالم لا تقل في ضرورتها وقيمتها وأهميتها عن بقية الصور الأخرى لنفس الدولة، بل قد تكون الرياضة أحيانًا هي الصورة الأهم والأصدق، وأقوى سلاح دعائي وإعلامي لأي دولة.

ولم يكن العرب استثناءً من كل ذلك، فهم أيضًا تغيرت رؤيتهم للرياضة وأعادوا حساباتهم معها وبطولاتها وانتصاراتها ونتائجها، وقبل الحديث عن هذه الرؤية العربية وتطورها حتى الوصول لما يحدث حاليًّا على الساحة الرياضية العربية، لابد من التوقف أولًا أمام عدة ملاحظات أساسية: الأولى، هي أن العرب حين حرصوا على استضافة المونديال الكروي واشتروا أندية أوروبية وتعاقدوا مع نجوم كبار، لم يقوموا في هذا الشأن بشيء جديد لم يشهده العالم من قبل. والثانية، أن العرب حين أرادوا الرياضة وسيلة لتغيير صورتهم في عيون العالم كانوا في الحقيقة يقتدون بما قامت به ولا تزال (الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، واليابان). والثالثة، الإعلام الغربي أحيانًا ينتقد العرب رياضيًّا في أمور يعتبرها أخطاء وجرائم، بينما لا يراها كذلك حين يقوم بها غير العرب. ولا يعني ذلك أنه ليست هناك أخطاء رياضية عربية، إنما يعني فقط أن ما قام به العرب سابقًا وما يقومون به حاليًّا لا يزال يحتاج لرؤية موضوعية تسمح بالحديث عن إيجابيات وسلبيات، ونجاح وإخفاق، وحقائق ومبالغات، فليس كل ما جرى صواب وليس كله خطأ أيضًا.

وبالتأكيد لم يبدأ التاريخ الرياضي العربي في 1952، إنما بدأت الألعاب العربية قبل ذلك بكثير، وسبقت الرياضة في البلدان العربية حتى استقلالها السياسي، وكان للرياضة دورها في تأكيد الانتماء والاعتزاز بالهُوية الوطنية، لكن نهاية دورة هلسنكي الأوليمبية 1952، كانت نقطة فاصلة وحاسمة في تغيير رؤية العالم كله للرياضة، وأيضًا رؤية العرب كجزء من هذا العالم. ومثلما اكتسبت الرياضة في العالم بعد هذا التاريخ مزيدًا من الأهمية (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدعائية)، بدأ العرب أيضًا يرون الرياضة بشكل مختلف تمامًا عن رؤيتهم لها في الماضي، ومنذ 1952، عاش العرب أربع مراحل رياضية كانت لكل مرحلة منها تفاصيلها وحساباتها (السياسية، والاقتصادية، والإعلامية)، واستمرت المرحلة الأولى من 1952 حتى 1987، ثم مرحلة ثانية من 1988 حتى 1996، ومرحلة ثالثة من 1997 حتى 2021، ومرحلة رابعة منذ 2022 ولا تزال قائمة ومستمرة.

وتميزت المرحلة الأولى بالنظر خارج حدود كل دولة عربية وبدءِ البحث عن بطولات امتزجت فيها كرة القدم بالكبرياء الوطني والسياسة، فأسست (مصر، والسودان) الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وفازت مصر بأول بطولة لأمم إفريقيا 1957، ثم البطولة الثانية 1959، وفازت السودان بالبطولة 1970، ومصر 1974، والمغرب 1976، ومصر 1986، والجزائر 1990، وكانت لعرب آسيا معركتهم الكروية مع إسرائيل التي لعبت نهائي أول بطولة لأمم آسيا 1956، وأيضًا نهائي البطولة الثانية 1960، واستضافت البطولة الثالثة 1964 وفازت بها أيضًا، واضُطر العرب للانتظار حتى 1976 حين حققت الكويت أكبر انتصار كروي لعرب آسيا وقتها بالوصول لنهائي أمم آسيا ثم فازت بالبطولة التالية 1980، وفازت السعودية ببطولتي (1984 و1988)، وفي كأس العالم لكرة القدم، نجحت المغرب في تحقيق أول تعادل عربي في مونديال 1970، وحققت تونس أول انتصار عربي في مونديال 1978، وأصبحت المغرب أول دولة عربية تتخطى دور المجموعات في مونديال 1986.

وعلى الصعيد الأوليمبي، فاز العرب بثلاث ميداليات أوليمبية في دورة هلسنكي 1952: ميدالية خامسة عشرة لمصر، وكانت برونزية لعبد العال راشد في المصارعة الرومانية، وأول ميداليتين للبنان كانتا في المصارعة الرومانية (فضية لزكريا شهاب، وبرونزية لخليل طه). وفي دورة روما 1960، فاز المغرب بميداليته الأولى وكانت فضية لراضي عبد السلام في الماراثون، والميدالية الأولى أيضًا للعراق وكانت برونزية لعبد الواحد عزيز في رفع الأثقال. وفي دورة طوكيو الأوليمبية 1964، فازت تونس بأول ميداليتين هما: برونزية سباق جري عشرة آلاف متر لمحمد القمودي، وبرونزية الملاكمة لحبيب قلحية. وفي دورة لوس أنجلوس 1984، فازت سوريا بميداليتها الأولى وكانت فضية في المصارعة الرومانية لجوزيف عطية، وفازت الجزائر بأول ميداليتين وكانتا برونزيتين في الملاكمة لمصطفى موسى ومحمد زاوي، وفي تلك الدورة أيضًا فازت المغربية “نوال المتوكل” بميدالية ذهبية في سباق جري 400 متر موانع؛ لتكون أول ميدالية أوليمبية نسائية مغربية وعربية أيضًا .

وكانت لكل ميدالية قيمتها وفرحتها سواء لصاحبها وحكايته الشخصية أو للبلد الذي فاز بها في النهاية، ومع الميداليات توالت بطولات وانتصارات عربية في مختلف الألعاب، وباتت كل بلد عربية تفتش طول الوقت عن بطولة جديدة وانتصار رياضي تحتاج إليه سياسيًّا وإعلاميًّا. ولم يكن العرب في ذلك استثناءً لما بدأ يحدث في العالم حولهم ، وعلى سبيل المثال، وبالتحديد في 1972، استضافت آيسلندا بطولة العالم للشطرنج بين البطل الأمريكي “بوبي فيشر” والبطل السوفييتي “بوريس سباسكي”، وقبل المباراة كان هناك اتصال تليفوني بين فيشر ووزير الخارجية الأمريكي وقتها “هنري كيسينجر”، وقال كسينجر في تلك المكالمة: “إن الولايات المتحدة بدأت تخسر حربها في فيتنام، واهتزت صورتها في عيون العالم والأهم عيون أبنائها قبل العالم”، وإنه   كدبلوماسي ووزير للخارجية الأمريكية قادر على استثمار بطولة العالم للشطرنج لتصبح صورة جديدة للولايات المتحدة المجروحة والمهزومة (سياسيًّا، وعسكريًّا) في فيتنام وأكثر من ناحية وزاوية في هذا العالم في أوج الحرب الباردة. وقد نجح كيسينجر في ذلك بالفعل حيث فاز بوبي فيشر بالبطولة لتنشط الماكينات الديبلوماسية الأمريكية وتدور معها عجلات الإعلام الأمريكي لتصبح لعبة الشطرنج فجأة أشهر رياضة في العالم وأهم من أي دورة أو ميدالية أوليمبية، وتختصر هذه الحكاية كيف تحولت الرياضة إلى أحد أهم أسلحة دول العالم حتى لو كانت في حروب غير رياضية، ولم تكن الولايات المتحدة مجرد استثناء، إنما كانت ولا تزال رؤية العالم كله ورؤية العرب أيضًا، التي لم تعد البطولة الرياضية بالنسبة لهم مجرد بطولة إنما أهم وأعمق وأجمل من ذلك بكثير.

وهكذا، وبهذا الفكر وتلك الرؤى، انتهت المرحلة العربية الأولى لتبدأ المرحلة الثانية في 1987 بحلم عربي جديد هو استضافة إما المونديال الكروي أو دورة أوليمبية، فلم تعد مجرد المشاركة سقفًا ومنتهى الطموح الرياضي العربي، وكانت البداية حين تقدمت المغرب في 1988 بطلب رسمي لاستضافة نهائيات مونديال 1994، وكانت المنافسة ثلاثية بين (الولايات المتحدة، والبرازيل، والمغرب). وفي اجتماع الفيفا في مدينة زيوريخ في 4 يوليو 1988، فازت الولايات المتحدة باستضافة مونديال 1994، وعلى الرغم من الخسارة كانت هذه المحاولة المغربية الأولى والجادة والحقيقية لاستضافة المونديال أشبه بتكسير قضبان زنزانة الطموح العربي في مجال استضافة البطولات والدورات الرياضية، فالأحلام العربية في هذا المجال لم تكن صعبة فقط إنما كانت مستحيلة أيضًا، ولم يكن العرب يجرؤون حتى على التفكير في استضافة المونديال أو الدورة الأوليمبية، كانوا يكتفون فقط بشرف المشاركة وتحقيق نتائج طيبة في أي مونديال والفوز ببضع ميداليات في أي دورة أوليمبية، وإذا كانت المغرب قد قامت بذلك للمرة الأولى في 1987 كمجرد محاولة لكسر القيود وإعلان التحدي، فقد عادت المغرب لتؤكد ذلك في 1992، حين خاض منافسة حقيقية مع فرنسا لاستضافة مونديال 1998، ورغم فوز فرنسا في اجتماع الفيفا في زيوريخ في 2 يوليو 1992، إلا أن كثيرين توقفوا أمام خمسة أصوات فقط كانت الفارق بين (فرنسا، والمغرب)، وهو ما يعني أن الحكاية تجاوزت حدود المغامرة أو الأحلام وباتت المنافسة حقيقية ومشروعة وممكنة أيضًا، ولم يرتفع سقف الطموح الرياضي العربي وقتها في مجال استضافة بطولات ودورات كبرى فقط، إنما لم يعد الرياضيون العرب بشكل عام قانعين بدور الكومبارس على المسرح الرياضي الدولي.

وبعدما افتتح نادي توتنهام الإنجليزي في 1983، وبعده مانشيستر يونايتد في 1991 مشوار الأندية الكروية مع البورصة وأسهمها وقوانينها وباتت الأندية أخيرًا سلعة قابلة للبيع والشراء، بدأ رجل الأعمال المصري “محمد الفايد” المرحلة الثالثة من حكاية العرب والرياضة، ففي 1997، اشترى محمد الفايد نادي فولهام الإنجليزي الذي كان في الدرجة الثالثة، ورغم نجاحات النادي في أثناء فترة الفايد إلا أن الخسائر المالية الفادحة أجبرت الفايد على بيع النادي لـ”شهيد خان” رجل الأعمال الأمريكي من أصل باكستاني. وفي 2008، اشترى الإماراتي الشيخ “منصور بن زايد” 90% من أسهم نادي مانشيستر سيتي، ثم امتلكه بالكامل في العام التالي، ولم تعد مجموعة سيتي أو مجموعة أبو ظبى المتحدة للاستثمار والتطوير بعد قليل تملك فقط مانشيستر سيتى إنما 9 أندية في (إنجلترا، والولايات المتحدة، وأستراليا، واليابان، وإسبانيا، وبلجيكا، وأوروجواي، والصين، والهند) . وفي 2009، اشترى رجل الأعمال الإماراتي “سليمان الفهيم” نادي بورت سموث الإنجليزي، ثم باعه بعد فترة إلى رجل الأعمال السعودي “على الفراج”. وفي 2010، اشترى رجل الأعمال القطري “عبدالله بن ناصر الأحمد آل خليفة” نادي مالاجا الإسبانى. وفي 2011، اشترت مؤسسة قطر للاستثمارات الرياضية 60% من أسهم نادي باريس سان جيرمان الفرنسي وبعد عام واحد امتلكته المؤسسة القطرية بالكامل. وفي 2011، اشترى رجل الأعمال الأردني “حسن عبدالله إسميك” معظم أسهم نادي ميونيخ 1860 الألماني. وفي 2012، اشترت مؤسسة “أسباير زون القطرية” نادي يوبين البلجيكي. وفي 2012، اشترى رجل الأعمال الكويتي “فواز الحساوي” نادي نوتينجهام فورست الإنجليزي. وفي 2013، اشترى الأمير السعودي “عبدالله بن مساعد” نصف أسهم نادي شيفيلد يونايتد، ثم امتلكه بالكامل بعد ست سنوات. وفي 2018، اشترى رجل الأعمال المصري “ناصف ساويرس” أكثر من نصف أسهم نادي أستون فيلا الإنجليزي. وفي 2019، اشترى المسؤول السعودي “تركي الشيخ” نادي ألميريا الإسباني. وفي 2019، ومن خلال شركة “إينفينيتي كابيتال” اشترى الشيخ “ناصر بن حمد بن عيسى آل خليفة” رئيس المجلس الأعلى للرياضة والشباب البحريني نادي قرطبة الإسباني. وفي 2021، اشترى صندوق الاستثمارات العامة السعودي نادي نيوكاسيل الإنجليزي. ولا تزال تتوالي الاستثمارات العربية الممثلة في شراء أندية كرة القدم سواء في أوروبا والعالم.

ولم تقتصر تلك الاستثمارات العربية فقط على شراء الأندية، بل كانت قمصان أندية أوروبا مجالًا جديدًا للاستثمار العربي، فأصبحت شركة طيران الإمارات موجودة على قمصان تشيلسي وأرسنال، ثم بعدهما باريس سان جيرمان، ثم ريال مدريد مرورًا بأندية (أوليمبياكوس، وبنفيكا، وهامبورج)، وباتت شركة طيران الاتحاد على قميص مانشيستر سيتي، ومؤسسة قطر على قميص برشلونة وشركة طيران القطرية على قميص روما، ثم (باريس سان جيرمان، وبايرن ميونيخ، وبوكا جونيورز)، وغير قمصان لاعبي مختلف الأندية كانت هناك أيضًا ملاعب حملت أسماء عربية، فحمل ملعب مانشيستر سيتي وأكاديمية الناشئين اسم الاتحاد، وحمل ملعب أرسنال اسم الإمارات، وحمل المجمع التدريبي لنادي باريس سان جيرمان اسم شركة الاتصالات القطرية أوريدو، وإلى جانب ذلك كله، كانت الخطوة التي غيرت كثيرًا من المفاهيم وربما كل الحسابات الرياضية هي فوز قطر في ديسمبر 2010، بحق استضافة مونديال 2022.

وشهدت هذه المرحلة الثالثة أيضًا تألق عدد من نجوم الكرة العربية في أندية أوروبا، وعلى الرغم من أن نجوم الكرة العرب سافروا منذ زمن طويل إلى أوروبا وملاعبها، إلا أن تألقهم في هذه السنوات الأخيرة تزامن مع عدة أمور زادت من قيمة وشهرة وتأثير وحجم نجاحات هؤلاء النجوم، فالانفتاح الفضائي جعل هؤلاء النجوم يدخلون معظم البيوت العربية، وإعلام السماوات المفتوحة جعل من السهل والممكن متابعة كافة أخبار ومشاركات هؤلاء النجوم بمنتهى الاعتزاز والاحترام، وامتلاك العرب لكثير من أندية أوروبا، ووضع أسماء عربية لملاعب أوروبية عريقة غير من رؤية الإعلام الرياضي الأوروبي لهؤلاء النجوم العرب، فلم يعد التعامل معهم كفقراء وصعاليك جاؤوا من بلدانهم البعيدة يطرقون أبواب أغنياء أوروبا، إنما نجوم يملكون الموهبة والحلم مثلهم مثل أي نجوم كرة آخرين يأتون لأوروبا من أي مكان في العالم.

ولم تكن كرة القدم وحدها هي الاستثمار الرياضي العربي الأوحد منذ بداية الألفية الثالثة، لكنها فقط كانت الأشهر والأكبر التي لفتت انتباه العالم وإعلامه، وإلى جانب الاستثمار العربي كرويًّا، كان هناك استثمار إماراتي في الفروسية والخيول وباتت شركة “جولدفين” المملوكة للإمارات من أكبر شركات الفروسية في العالم وتقع في سوفولك شمال لندن ويعمل بها 1500 موظف لرعاية 4500 حصان، وبدأت تتوالى بطولات التنس العالمية على شطآن الخليج، وسباقات سيارات الفورمويلا واحد، وبطولات دولية للجولف، إلى جانب بطولات رياضية دولية رسمية بدأت تستضيفها بلدان عربية أخرى في إفريقيا مثل (مصر، والمغرب، وتونس، والجزائر)، واستضافت الإمارات والمغرب كأس العالم لأندية كرة القدم.

وباستضافة قطر لنهائيات كأس العالم في نوفمبر 2022، بدأت المرحلة الرابعة من حكاية العرب مع الاستثمار الرياضي، ومن بين نتائج عديدة لهذه الاستضافة كان هناك ما ينبغي التوقف أمامه وإعادة حسابات ما جرى، فنجاح قطر في استضافة المونديال إلى حد أن يصف كثيرون مونديال 2022 بأنه كان أحد أفضل دورات المونديال منذ انطلاقه 1930، أدى لخفوت أصوات كثيرة كانت لسنوات طويلة تشكك في قدرة القطريين والعرب عمومًا على استضافة حدث بحجم المونديال الكروي، وأنهى نجاح قطر الزعم القديم بأن العرب لا يملكون إلا المال فقط وليس أي شيء آخر، كما اكتشف غرباء كثيرون -جاؤوا إلى قطر أو أقاموا في بلدان الخليج المجاورة- زيف اتهامات أوروبية وأمريكية كثيرة للعرب وتخلفهم وعدم تحضرهم وفوضويتهم، وإلى جانب ذلك، كان مونديال 2022، كأنه آخر عقبة أو آخر قيد كان يمنع العرب من ممارسة أي طموح كروي ورياضي مثل أي دولة أخرى في العالم، وبالتالي كانت البداية الحقيقية والخطوة الأولى لكل ما يحدث حاليًّا على الساحة الرياضية العربية.

وقد تكون السعودية حاليًّا هي صاحبة التجربة الرياضية الأبرز سواء على الساحتين (العربية أو العالمية)، وهي تجربة لا يزال كثيرون يهوون اختصارها في كرة القدم فقط، وأسماء النجوم العالميين الكبار الذين تم التعاقد معهم للدوري السعودي بمختلف أنديته، وليس ذلك صحيحًا لأن التجربة كانت ولا تزال أهم وأكبر من مجرد كرة القدم، فهناك صفقة التعاون مع أكبر كيانين للجولف في العالم، وهناك أيضًا الملاكمة والفورميولا واحد التي أصبحت السعودية ثاني أكبر مستثمر فيها في العالم، وقام دوري كرة السلة الأمريكي بتغيير بعض قوانينه ليسمح بالاستثمار السعودي، وأعلن المجلس الدولي لرياضة الكريكيت عن شراكة جديدة ضخمة مع شركة أرامكو، والتأكيد على أن هذه الشراكة سيتغير بها ومعها شكل اللعبة في العالم، ورغم ذلك، فليست السعودية وحدها التي بدأت السير الجاد والطموح في طريق الاستثمار الرياضي، إنما سارت دول عربية كثيرة تريد وتسعى وراء نفس الأهداف لكن ربما بأموال أقل وحسابات مختلفة، فقد أعاد العرب من جديد قراءة الرياضة كباب للاستثمار، وباتت اللغة العربية الرياضية في أي مجتمع عربي لا تخلو من كلمة استثمار رغم أن بعض العرب لا يزالون يتخيلون الاستثمار الرياضي هو مجرد إقامة مشروعات رياضية تأتي بالربح المالي، وليس ذلك صحيحًا؛ فالاستثمار الرياضي بالتأكيد يهدف جزءٌ منه لربح المال، وجزء آخر ربما أكبر وأهم لتقديم صورة جديدة ومختلفة لأي بلد فينشط فيها الاستثمار في مجالات أخرى بعيدًا عن الرياضة، وقد يكون الهدف الأسمى أحيانًا للاستثمار الرياضي هو تأكيد التماسك الاجتماعي للدولة وتقوية وتعزيز الانتماء لها، ومن الممكن أن يكون القصد من إنفاق المال في المجال الرياضي هو تحقيق مكاسب سياسية وإستراتيجية.

وأحدث تجربة في هذا المجال كانت التجربة الصينية؛ فالصين أنفقت الكثير جدًا من المال من أجل الاستثمار الرياضي الذي كانت له أربعة أهداف صينية: الأول، هو المحافظة على الكبرياء الجماعي الصيني كجزء من مواجهة باردة ودائمة مع الولايات المتحدة، وبالفعل نجحت الصين التي لم تبدأ مشوارها الأوليمبي إلا متأخرًا في منافسة الولايات المتحدة، وتخلفت في الترتيب العام لدورة طوكيو الماضية عن الولايات المتحدة بفارق ميدالية واحدة. والهدف الثاني، كان البحث عن نفوذ صيني في إفريقيا لمنافسة الولايات المتحدة وفرنسا، وبالفعل وبعد مال صيني كثير تم إنفاقه على البنية الرياضية التحتية في مختلف البلدان الإفريقية، نجحت الصين في ذلك وكسرت النفوذ الغربي القديم في إفريقيا. وكان الهدف الثالث، هو الذي لم تنجح فيه الصين رغم الإنفاق الهائل، ولم تصبح الصين قوة كروية عظمى، رغم التعاقد مع نجوم ومدربين كبار لتطوير اللعبة في الصين، أما التجربة الهندية التي سبقت تجربة الصين فكان لها هدفان تحقق أولهما ولا تزال الهند تسعى لتحقيق الهدف الثاني: الأول، كان استغلال لعبة الجولف لتبدأ بها الهند مع العالم ومؤسساته وشركاته الكبرى حوارًا جديدًا ومختلفًا، وكانت ملاعب الجولف في الهند أساسًا لكتاب شهير بعنوان “العالم مسطح” قام بكتابته الصحفي الأمريكي الكبير “توماس فريدمان” شرح فيه كيف نجحت الهند بكرة ومضرب جولف في اقتحام عالم التكنولوجيا لتصبح بعد سنوات قليلة من أهم لاعبيه لدرجة أن يدير الهنود وادي السليكون الأمريكي نفسه. والهدف الثاني، كان استغلال الرياضة لمزيد من الترابط الاجتماعي لدولة متعددة (الثقافات، والأعراق، والأديان، واللغات). وتمضي الهند سريعًا لتحقيق هذا الهدف وأنفقت الكثير من المال وبدأت تستعد للمنافسة على استضافة أول دورة أوليمبية في تاريخها، وهناك في المقابل تجارب مماثلة كثيرة لم تنجح سواء لسوء تخطيط وإدارة أو عدم تحديد أهداف واضحة أو لأسباب سياسية ومحاربة آخرين لم يريدوا النجاح والاستمرار لهذه التجارب

ولا يزال من المبكر إصدار أحكام نهائية بشأن التجارب والحكايات العربية مع الاستثمار الرياضي، فهي أولًا تجارب لم تكتمل بعد للحكم بنجاحها أو فشلها، كما أن أهداف كل دولة عربية من استثماراتها الرياضية ليست بعد معلنة أو واضحة لمعرفة هل تحققت تلك الأهداف أم لا؟ ورغم ذلك يمكن التأكيد على بعض نجاحات تحققت على الأرض، فقد تغيرت جذريًّا ونهائيًّا صورة العرب في عيون العالم، وبدأت تختفي تدريجيًّا شكوك كثيرة فيما يستطيعه ويقدر عليه العرب، وجاءت الاستثمارات الرياضية العربية مؤخرًا بمزيد من استثمارات خارجية سواء (رياضية، أو غير رياضية)، ونشطت السياحة وزاد أعداد الغرباء القادمين من مختلف بلدان العالم ومع هذه النجاحات زادت أيضًا بعض الاتهامات الساخرة من الأموال السعودية على سبيل المثال التي يتم إنفاقها على كرة القدم ونجومها، وبمقارنة بسيطة بين الدوري السعودي والدوريات الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة سنكتشف أن حجم الإنفاق المالي الكروي في السعودية أقل من الإنفاق (الإنجليزي، والإيطالي، والفرنسي، والألماني)، كما أن اتهام العرب باستغلال الرياضة لتحسين صورتهم هو اتهام ساذج؛ لأن العرب يقومون حاليًّا بنفس ما قام به الأوروبيون والأمريكيون سابقًا وبنفس الخطوات ولنفس الأهداف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى