2022العدد 189ملف ثقافي

البطولة العربية لكرة القدم محاولات تطويرها وأهمية استمراراها

تحتاج الأحلام الكبيرة لانتظار وقت طويل لتكتمل وتتحقق، ومنذ 75 عامًا بالضبط، بدأ العرب يحلمون بألعاب تزيل حدود وتختصر مسافات وتزيد من تقارب شعوبهم، وظل العرب طَوَال هذه السنين يحاولون تحقيق الحلم الذي بدأ في بعض الأوقات حلمًا يسهل ويمكن تحقيقه وبدأ في أوقات أخرى وَهْمًا وسرابًا يمكن مطاردته لكن يستحيل اللحاق به. وبين الممكن والمستحيل، جاءت أوقات تحوَّل فيها الحلم إلى كابوس مزعج ومخيف، تحولت فيه الألعاب إلى حروب عربية يموت فيها الحمام وتذبل أشجار الزيتون، ورغم ذلك لم ييأس العرب ولم يتنازلوا عن حلمهم القديم حتى كانت خطوتان يفصل بينهما شهر واحد وبهما تحقق الحلم واكتمل أخيرًا.

 الخطوة الأولى كانت بطولة كأس العرب لكرة القدم التي انتهت في ديسمبر 2021، وكانت الخطوة الثانية بطولة أمم إفريقيا لكرة القدم التي بدأت في يناير 2022 .

ففي كأس العرب استضافت قطر البطولة وشارك فيها مختلف الدول العربية تأهل منها 16 بلدًا للنهائيات في ملاعب الدوحة ومع خلافات سياسية عربية حادة دامت لسنوات قبل هذه البطولة من سواحل الخليج في الشرق إلى سواحل البحر والمحيط في الغرب ومع الانفلات العربي الجماعي عبر السوشيال ميديا والإعلام الذي جعل من السهل والممكن إشعال أي نار وتهويل وتضخيم أي صدام أو نزاع عربي_ تخيل كثيرون أن كرة القدم في هذه البطولة ستكون هي قنبلة الكراهية التي ستنفجر في وجه الجميع،  وأن الجماهير العربية في مدرجات البطولة ستستغل مبارياتها إما لاستكمال حروب قديمة أو بدء أخرى جديدة؛ فكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد هي نجاح كرة القدم في إنهاء كثير من الحروب، وأن اللعبة التي تخيلها كثيرون قنبلة تنفجر في ملاعب الدوحة هي نفسها التي نزعت فتيل كل القنابل الأخرى، ورسمت الجماهير العربية في المدرجات أجمل مشاهد البطولة وأهمها على الإطلاق (لا توتر أو هتافات عدائية متبادلة أو صرخات ولافتات تتضمن أي تجريح وإهانات)، وكان هذا المشهد كافيًا لأن يُعرب السيد/أحمد أبو الغيط عن سعادته كأمين عام لجامعة الدول العربية بصورة العرب في هذه البطولة، وعبر تهنئته لقطر على نجاحها في استضافة البطولة، وللجزائر التي فازت بها، أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية “أنها لم تكن مجرد بطولة إنما كانت أشبه بمهرجان عربي فاض بالبهجة والحب والسلام والوفاق”.

أما الخطوة الثانية التي اكتمل بها هذا الحلم العربي القديم، فكانت مباريات العرب في بطولة أمم إفريقيا التي استضافتها الكاميرون، سواء المباريات التي كان طرفاها من العرب مثل (مصر أمام السودان، وتونس أمام موريتانيا، والمغرب أمام جزر القمر، ومصر أمام المغرب في دور الثمانية)، أو المباريات التي واجه فيها منتخب عربي أي منتخب أفريقي آخر، فلا المباريات التي كان طرفاها عربيين شهدت أي توتر وحساسية. والأجمل كان تشجيع الإعلام والجماهير العربية لأي منتخب عربي يلعب، ومثلما كان الهدوء والصفاء والسلام واحترام الآخر هو الخطوة الأولى في قطر، كان تشجيع الآخر هو الخطوة الثانية التي بها اكتمل الحلم؛ لتصبح الألعاب أخيرًا دعوة للحب والسلام والترابط، ومثلما كان المنتخبان (المصري والجزائري) هما صاحبا أكبر وأقسى وأعنف أزمة سياسية وإعلامية بسبب كرة القدم، لكنهما في الدوحة كانا شقيقين يلعبان كرة قدم فيها فائز أو مهزوم لكنها لا تحذف تاريخًا طويلًا وجميلًا من الصداقة والتفاهم والتعاون لدرجة المشاركة في حمل السلاح، ويصبح الجمهور الجزائري مشجعًا للمنتخب المصري في البطولة الإفريقية بعد خروج المنتخب الجزائري منها، وهكذا أصبح الآن ممكنًا استرجاع أهم خطوات تحقيق هذا الحلم العربي الذي بدأ من 75 عامًا، وبعدها محاولة البحث عن تفسير لهذا التغيُّر الذي حدث وما هي الأسباب التي أدت لتحقيق حلم كان مستحيلًا منذ سنوات قليلة فقط؟

فالحكاية بدأت بتولي عبد الرحمن عزام منصبه كأول أمين عام لجامعة الدول العربية في مارس 1945، حيث احتاج الدبلوماسي الكبير عامين كاملين؛ ليعلن في مارس 1947 رغبته في استثمار الرياضة كأداة ووسيلة للتقارب بين الشعوب العربية، وسبق عبد الرحمن عزام بذلك معظم السياسيين والدبلوماسيين الذين انتبهوا بعد سنين كثيرة لقيمة الرياضة وضرورتها حتى اختارت الأمم المتحدة 2005 عامًا دوليًّا للرياضة والسلام، وكان عزام بخبراته الهائلة سياسيًّا وديبلوماسيًّا واجتماعيًّا( مصريًّا وعربيًّا)، قد أدرك أن الرياضة بإمكانها الإسهام في جمع العرب كهدف أول للجامعة التي تأسست بطموحات هائلة شديدة النبل والرقي، وكما يقال دائمًا وأنه ليس هنا أقوى من فكرة جاء أوانها وليس هناك أسوأ من فكرة يحين وقتها فلا ينتبه لها أصحابها بالشكل الكافي، فلم يهتم مجلس الجامعة بدعوة عزام وفكرته.

وحين جاء محمد عبد الخالق حسونة كأمين جديد للجامعة العربية 1952، وبعد عام واحد فقط، عادت الفكرة القديمة من جديد واقتنعت بها الجامعة العربية هذه المرة بفضل نجاح حكاية وإصرار رجل؛ الحكاية كانت إقامة الدورة الأولى لألعاب البحر المتوسط في الإسكندرية 1951 بعد استجابة الكثيرين لدعوة “محمد طاهر باشا” رئيس اللجنة الأوليمبية المصرية، وشاركت في هذه الدورة ثلاثة بلدان عربية (مصر وسوريا ولبنان) وكان التساؤل وقتها هو طالما بإمكان بلدان عربية المشاركة في دورات أوليمبية وبطولات عالمية وأخيرًا ألعاب إقليمية مثل دورة البحر المتوسط فلماذا لا تشارك البلدان العربية في دورة عربية؟

 أما الرجل فكان أحمد الدمرداش توني، الذي تبنَّى فكرة الدورة العربية وما أن نال الموافقة المبدئية من مجلس الجامعة العربية في 1953 حتى قام بجولة لإقناع الدول العربية بالمشاركة في أول دورة ألعاب عربية، ونجح بالفعل في إقناع سبع دول عربية (سوريا ولبنان والعراق وليبيا والأردن وفلسطين والكويت) بالإضافة إلى مصر التي استضافت الدورة،  ورغم مقر الجامعة العربية في القاهرة إلا أنها وافقت على إقامة الدورة العربية الأولى في الإسكندرية لسببين:

 الأول، هو الاستفادة من المنشآت الرياضية التي امتلكتها المدينة لاستضافة أول دورة ألعاب متوسطية.

 والثاني، احترامًا لمدينة كانت مقرًا للجنة الأوليمبية المصرية كأول لجنة أوليمبية عربية.

 وبالفعل أُقيمت الدورة العربية الأولى في الإسكندرية من 26 يوليو حتى 10 أغسطس 1953، وكانت تلك الدورة هي أول تجمع رياضي عربي شارك فيها 650 عربيًّا بين (لاعب ومدرب وحكم وإداري) وشهدت منافسات عشر ألعاب، ووفقًا لجدول الميداليات فازت مصر تليها لبنان ثم سوريا ثم فلسطين ثم العراق ثم الأردن ثم ليبيا ثم الكويت، وظلت الدورة العربية تقام بانتظام حتى 2011 باستثناء فترتين توقفت فيهما هذه الدورة كثيرًا (11 عامًا بعد دورة القاهرة 1965، و9 أعوام بعد دورة سوريا 1976)، واستضافت 7 بلدان عربية هذه الدورات، استضافتها مصر ثلاث مرات، وكل من (لبنان وسوريا والمغرب) مرتين، ومرة واحدة في كل من (الأردن الجزائر وقطر)، وشهدت هذه الدورات بعض الخلافات السياسية وتخلف دول كثيرة عن المشاركة في بعضها لأسباب مختلفة، لكن بقى معظم هذه الخلافات وأهمها أيضًا داخل الغرف المغلقة وحتى الخلافات التي تسللت من خلف أسوار القصور إلى عموم الناس بقت خافتة الصوت قليلة التأثير في الشارع والإعلام كأن بقية الألعاب العربية قررت الاكتفاء بكونها مجرد ألعاب تاركة المشهد السياسي الرياضي كله للعبة وحيدة هي كرة القدم، بل إن أهم وأشهر الخلافات التي شهدتها الدورات العربية كانت في الأصل خلافات كروية حيث اعتاد كل العرب قبول الخسارة الرياضية أمام فريق عربي آخر في أي لعبة إلا كرة القدم، وأصبح الاعتقاد العربي الجماعي هو أن كرة القدم وحدها تختصر الكبرياء القومي لأي بلد عربي لا يمكن التفريط فيه أو قبول خسارته والتنازل عنه.

وهناك أسباب كثيرة لذلك الربط العربي القديم والدائم بين كرة القدم والكبرياء القومي قد يكون أقدمها هو أن كرة القدم كانت أحد النشاطات القليلة المسموح بها في معظم البلدان العربية قبل استقلالها، وفي أوقات كثيرة وطويلة ارتبطت كرة القدم بالهُوية الوطنية في وجه المستعمر أو كانت أحد أشكال المقاومة ورفض الاستسلام للاحتلال ودام هذا الارتباط الوثيق حتى بعد الاستقلال، ولم تعد الشعوب العربية تمارس هويتها واعتزازها القومي فقط بكرة القدم، صحيح أنه أصبح ارتباطًا أقل حدة وحساسية لكنه بقى في وجدان وصدور عرب كثيرين خامدًا يمكن أن تعيده أي نتيجة أو عبارة أو تعليق، وبالتالي تصبح الهزيمة الكروية أكثر إيلامًا منها في أي لعبة أخرى، فَحِين ترتبط كرة القدم بعلم بلد وهويته تصبح خسارة مباراة بمثابة خسارة للبلد وأهله تمامًا مثلما يعنى الفوز بمباراة انتصار يسعد أي بلد وأهله ومسؤوليه، وقد يكون ذلك أحد أهم الفوارق بين الرؤية العربية لكرة القدم والرؤية الأوروبية، فعلى الرغم من حروب كثيرة دامية نشبت على مدار التاريخ بين بلدان أوروبا وسالت فيها دماء كثيرة وراح ضحيتها ملايين الأوروبيين_ إلا أن ذلك لم يمنح المباريات الأوروبية نفس الحساسية والتوتر المصاحبين للمباريات العربية، فأوروبا لم تضطر يومًا لاستخدام كرة القدم كبديل للاعتزاز الوطني وبالتالي بقيت كرة القدم مجرد لعبة فيها فائز ومهزوم بعكس الحال في البلدان العربية.

وهنا لابد من التوقف لطرح سؤال مهم هو لماذا لا تقوم كرة القدم العربية بهذا الدور الوطني إلا حين يلعب العرب أمام العرب؟ ولماذا يختفي ذلك ويتقبل العرب الهزيمة الكروية بسهولة أمام أي غرباء أو أجانب؟، وقد قيلت إجابات كثيرة ثم ثبت أنها ليست صحيحة أو واقعية، فقد قيل مثل أن سر عدم القبول العربي لهزيمة كروية أمام فريق عربي هو أن العرب يبحثون عن البطولة فيما بينهم وبالتالي لا يَعنيهم أن يخسروا أمام عرب مثلهم باعتبار أن البطولة العربية والفوز على العرب الآخرين هو الانتصار الذي ينشده ويتمناه أي جمهور عربي، والدليل على أن هذا الكلام غير صحيح هو أن العرب في إفريقيا فازوا كثيرًا ببطولات قارتهم سواء للمنتخبات أو الأندية، وكذلك فاز العرب في آسيا ببطولات قارية للمنتخبات والأندية، وبالتالي لا يحتاج عرب كثيرون لبطولة عربية يستمدُّون منها وبها كبرياءهم الكروي. وقيل أيضًا أن التغطية الإعلامية الكثيفة لأي مباريات عربية تجعل الانتصار أو الهزيمة حدثًا ضخمًا يحظى باهتمام ومتابعة الكثيرين ويزيد ذلك من حساسية المباريات العربية؛ لأن التغطية تكون من الجانبين بعكس الحال حين يلعب منتخب عربي مع آخر أوروبي أو أفريقي أو آسيوي فيكون هناك تعليقات وأخرى مضادات وأراء هنا وردود عليها هناك، وهذا أيضًا مردود عليه بأن وسائل الاتصال التي تغيرت والحدود التي تلاشت لم يعد معها هناك أي فارق بين مواجهة عربية أو غير عربية.

وبعيدًا عن كرة القدم -كرمز للهوية الوطنية – لم تكن هناك أي لعبة عربية أخرى تحظى بما امتلكته كرة القدم من شهرة وشعبية ورواج ؛ فمعظم الشعوب العربية لا يعرف كثيرون منها أسماء وانتصارات أبطالهم في الألعاب الأخرى بعكس كرة القدم، وبالتالي فإن الهزيمة في أي لعبة أخرى قد لا يدرى بها إلا القريبون من هذه اللعبة بعكس الحال عند الهزيمة الكروية، وكل من يتابع الخلافات الرياضية العربية سيظن أن العرب لا يلعبون إلا كرة القدم، ورغم الانتصارات والبطولات الدولية والقارية والميداليات الأوليمبية العربية ونجاحات في الألعاب الأخرى لم يحققها أو يقترب منها العرب في كرة القدم_ إلا أن كرة القدم تبقى هي اللعبة الأولى دائمًا والوحيدة غالبًا التي يهتم بها العرب، وبالتالي أصبحت هي سبب أي خلاف رياضي عربي، وقد كانت أزمة مباراة المغرب ومصر في دورة الألعاب العربية في المغرب 1961_ هي أولى أزمات الدورات العربية وكرة القدم العربية أيضًا، فقد انسحبت مصر ولم تكمل المباراة أمام المغرب بعد احتساب الحكم ضربة جزاء للمغاربة رآها المصريون غير صحيحة وانسحب المصريون بعدما أصر الحكم على احتسابها ليبدأ زمن الخلافات وأحيانًا الحروب الكروية العربية.

وبعد عامين فقط عقب تلك الأزمة الأولى نظم العرب في 1963 أول بطولة عربية لكرة القدم استضافها لبنان وفازت بها تونس، بطولة شاركت فيها أربع دول فقط هي (لبنان وتونس وسوريا والكويت)، وغابت واعتذرت دول كثيرة مثل (مصر والعراق وليبيا والمغرب والجزائر والسعودية والسودان )، لكن يمكن تجاوز ذلك بأنها كانت مجرد خطوة أولى . وبعد عام واحد فقط ، أسس العرب في 1964 أول اتحاد عربي لكرة القدم وكان المؤسس هو الليبي عبد اللطيف بوكر، وهنا ينبغي التوقف أمام عدة حقائق : أولها أن ليبيا التي لم تشارك في البطولة العربية الأولى لكرة القدم هي التي أسست في العام التالي أول اتحاد كروي عربي وأصبحت طرابلس مقرًا لهذا الاتحاد، وفي ظل الاتحاد الجديد أقيمت البطولة الثانية 1964 في الكويت وشاركت فيها (ليبيا والعراق والكويت ولبنان)، وأقيمت البطولة الثالثة 1966 في العراق وشاركت فيها (ليبيا والعراق ولبنان وسوريا)،  ثم توقفت البطولة نتيجة لحرب 1967 وتصاعدت نبرة الخلافات السياسية العربية التي معها لم يعد ممكنًا إقامة أي بطولة عربية كروية، ولم تعُد البطولة إلا بعد 19 عامًا حين أقيمت البطولة الرابعة في السعودية 1985، ورغم تغيير قادة عرب وفلسفة وأنظمة حكم عربية_ إلا أن الدورة الرابعة لم تشهد أيضًا مشاركة أكثر من أربع دول فقط العراق من الدول التي شاركت في البطولات الأولى وثلاث دول جديدة هي (السعودية والبحرين وقطر)، وبقت مصر غائبة والمغرب أيضًا ودول أخرى، وكان واضحًا أن البطولة الكروية العربية هي بطولة سياسية بالمقام الأول تتحكم فيها العلاقات العربية والخلافات في الرؤى والمواقف والقرارات السياسية، حتى أنه يمكن باستعراض مختلف دورات هذه البطولة تحليل دقيق لطبيعة العلاقات السياسية العربية من خلال معرفة الدول التي شاركت والأخرى التي اعتذرت حسب العلاقة مع الدولة المنظمة أو تضامنًا مع دول أخرى قررت مقاطعة الدورة، وبعدما أقيمت الدورة التاسعة 2012 في السعودية وفازت بها المغرب توقفت البطولة 9 أعوام كاملة لتعود في قطر 2021 بمشاركة مختلف البلدان العربية.

ولم تشهد البطولة العربية الكروية وحدها مثل هذه الخلافات إنما كان أي لقاء كروي عربي بمثابة مواجهة سياسية وإعلامية وشعبية بين وكل أي بلدين سواء كانت مباراة رسمية أو ودية، مباراة في تصفيات كأس عالم أو تصفيات ونهائيات أمم إفريقيا أو آسيا أو حتى مباريات أندية عربية أيضًا. وفي بطولات إقليمية ضيقة لم يخلُ الأمر أيضًا من توترات وخلافات، فعلى سبيل المثال شهدت دورات بطولة كأس الخليج كثيرًا من تلك الخلافات رغم أنه من المفترض أن البلدان الخليجية لديها توافق سياسي وإعلامي وشعبي يتناقض مع مثل هذه الخلافات، فصدام حسين قرر انسحاب العراق من الدورة الخليجية السادسة في أبو ظبى دون إعلان أسباب، ولم تفلح محاولات الشيخ زايد بن سلطان في إثناء صدام حسين عن قراره، واتّهمت الإمارات البحرين في دورة 1984 في عمان بالتلاعب بالنتائج لمصلحة السعودية، وانسحبت السعودية من دورة 1990 في الكويت؛ بسبب شعار عبارة عن فرس وحصان رأته السعودية غير لائق سياسيًّا وتاريخيًّا، ولم يكن انسحاب السعودية هو الأول من نوعه في تاريخ بطولة كأس الخليج الكروية؛ ففي النسخة الثانية من البطولة انسحبت البحرين احتجاجًا على عدم عدالة التحكيم في مباراتها أمام السعودية، وفي 1976، أعلنت الكويت انسحابها من كل دورات البطولة مؤكدة أنها ابتعدت تمامًا عن الأهداف التي انطلقت من أجلها، واحتاج الأمر لاجتماعات متتالية لملوك وأمراء لا علاقة مباشرة لهم بكرة القدم حتى تتراجع الكويت عن قرارها، واضطر الراحل الشيخ زايد بن سلطان للتدخل لإلغاء قرار الإمارات بالانسحاب من إحدى الدورات احتجاجًا على التحكيم في مباراة لها أمام قطر، وأوشكت (السعودية والبحرين والإمارات) على الانسحاب من الدورة الخامسة عشر احتجاجًا على السياسة الخارجية لقطر في الشؤون العربية، وفي اللحظات الأخيرة تم احتواء الأزمة وعودة الثلاث بلدان للمشاركة.

وكانت أزمة “أم درمان” في 18 نوفمبر 2009، هي أكبر وأعنف أزمة كروية عربية على الإطلاق، فبعد فوز الجزائر على مصر في الجزائر في مباراة ذهاب المرحلة الأخيرة لتصفيات كأس العالم في جنوب إفريقيا 2010، وفوز مصر على الجزائر في القاهرة في مباراة الإياب، قرر الاتحاد الإفريقي إقامة مباراة فاصلة بين البلدين في “أم درمان” في السودان، وسبقت هذه المباراة الفاصلة أيام فاضت بالشحن الإعلامي في البلدين بشكلٍ تجاوز كل الحدود وتضمن تبادل الإساءة سواء لمصر أو الجزائر، وقرر كل بلد أن يحشد جماهيره ليسافروا إلى السودان بشكلٍ بات أقرب إلى حرب وليست مباراة لكرة القدم حتى لو كانت مباراة حاسمة وفاصلة، وذهب المصريون والجزائريون إلى السودان تسبق كل منهم كراهية الآخر رغم تاريخ الوفاق الطويل بين البلدين منذ حرب استقلال الجزائر لحرب أكتوبر مرورًا بعلاقات سياسية وثقافية وفنية عميقة ورائعة وصافية، وانتهت المباراة بفوز الجزائر وتأهلها لكأس العالم، ووقعت بعض الاشتباكات حول الاستاد في “أم درمان”، وأحال الإعلام المصري هذه الاشتباكات إلى ما يشبه حرب شوارع تعرض لها المصريون في “أم درمان”، وكان هناك الكثير جدًا من المبالغة والتهويل واختراع القصص والحكايات، كان أحد دوافع ذلك هو الرد على تهويل الإعلام الجزائري لحادثة إلقاء حجر على أوتوبيس المنتخب الجزائري وهو في طريقه لدخول استاد القاهرة، أما الدافع الأقوى للإعلام المصري فكان تبرير الهزيمة الكروية واختلاق أزمة أكبر ينشغل بها الناس في مصر لينسوا هزيمة الملعب وعدم التأهل للمونديال، وبدورة لم يرفض الإعلام الجزائري خوض نفس هذه الحرب بنفس القدر من التهويل والمبالغة واختلاق الحكايات والشائعات ونثر الاتهامات، وتحولت الحرب من كرة القدم إلى السياسة، وبات الجزائريون مغضوبًا عليهم في مصر وأصبح المصريون غير مرحب بهم في الجزائر.

ودام هذا التوتر المصري الجزائري سنوات كان خلالها يقل التوتر سنة بعد أخرى حتى عام 2019 حين استضافت مصر نهائيات أمم إفريقيا، وكانت الجزائر إحدى البلدان التي شاركت في هذه النهائيات، وخرج المنتخب المصري من البطولة بعد هزيمته أمام منتخب جنوب إفريقيا ليتحول الجمهور المصري لتشجيع المنتخب الجزائري الذي واصل مشوار تألقه وانتصارات حتى فاز ببطولة أمم إفريقيا، وكان ذلك هو أحد أهم وأجمل وأكبر مفاجآت البطولة ليس من الناحية الكروية إنما من الناحية السياسية والاجتماعية والإعلامية أيضًا، وبعد فوز الجزائر بالبطولة كانت مظاهرات الفرحة في شوارع القاهرة التي ضمت جزائريين جاؤوا من بلدهم أو جزائريين مقيمين في مصر إلى جانب مصريين كانوا سعداء بفوز منتخب عربي بالبطولة، وكانت هناك أيضًا أفراح عربية في قلب القاهرة احتفالًا بفوز الجزائر، وفي تلك الليلة سقطت نهائيًّا كل بقايا الأزمة القديمة بين (مصر والجزائر)، وسقط معها إعلام كان يشعل نيران الغضب المتبادل بين بلدين شقيقين لمجرد لفت انتباه أو زيادة نسبة مشاهدة ومتابعة ونجاح زائف.

وإذا كانت بطولة أمم إفريقيا 2019 في مصر قد شهدت نهاية الأزمة الكروية السياسية بين (الجزائر ومصر)، فإن بطولة العرب 2021 في قطر قد شهدت أملًا جديدًا باقتراب نهاية الأزمة الكروية بين (الجزائر والمغرب)، فكُرة القدم بين البلدين كانت دائمة واجهة لأي توتر أو خلاف سياسي، وأحيانًا كانت كرة القدم هي التي تصنع الأزمات والتوتر بينهما وليست تعكسه فقط، وبالمصادفة أدت نتائج البطولة العربية إلى لقاء بالغ الحساسية بين المنتخبين (الجزائري والمغربي) في دور الثمانية للبطولة، وتوجه المنتخبان إلى الملعب لأداء المباراة يسبقهما تاريخ كروي حافل بالصراع والأزمات وحكايات الغضب بالإضافة لنزاع سياسي أدى إلى قطع العلاقات الديبلوماسية بين الجزائر والمغرب مع اتهام جزائري للمغرب بالتخلي عن الالتزام بالقواعد التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين البلدين.

ولم تكن المفاجأة هي فوز الجزائر وخروج المغرب من البطولة، إنما كانت سلوك الجماهير الجزائرية والمغربية أثناء المباراة وبعدها، فقد فوجئ الجميع بجماهير البلدين ترفع شعارًا واحدًا (خاوة خاوة محرز مغربي وبن عطية جزائري) أي أن الشعبين إخوة إخوة، وأن المغاربة يعتبرون النجم الجزائري الكبير “رياض محرز” لاعب نادي مانشستر سيتي كأنه نجم مغربي ينتمي إليهم ويحبونه ويشجعونه، وأن الجزائريين يعتبرون النجم المغربي الكبير المعتزل “المهدي بن عطية” كأنه جزائري يحبه ويحترمه الجزائريون، ولم يكن اختيار هذين النجمين بالمصادفة، فوالدة أم اللاعب الجزائري “رياض محرز” مغربية بينما والدة اللاعب المغربي “بن عطية” جزائرية، وبعيدًا عن البطولة في قطر، كانت هناك احتفالات جزائرية وسط ترحيب وسماح مغربي عبر الحدود الفاصلة بين البلدين والمغلقة منذ 1994 .

وإذا كانت أزمة كرة القدم الكبرى بين (مصر والجزائر) قد تحولت بسرعة إلى أزمة سياسية احتاج البلدان لوقت طويل لتجاوزها ونسيانها، فإن كرة القدم كانت هي وسيلة التهدئة والبحث عن وفاق وحلول للأزمات السياسية الدائمة بين (المغرب والجزائر)، فرغم خلافات سياسية حادة بين البلدين إلا أن الجزائر كانت من أوائل البلدان التي ساندت الملف المغربي لاستضافة كأس العالم 2026، وكانت المغرب قد اختارت النجم الجزائري الشهير “الأخضر بلومي” سفيرًا للملف المغربي.

وكان ذوبان الأزمة الكروية بين (الجزائر والمغرب)، ونهاية الأزمة الكروية بين (الجزائر ومصر)، واختفاء الأزمات الكروية في ألعاب ودورات الخليج_ بمثابة نهاية لعقود عربية كانت فيها كرة القدم قنبلة للتوتر السياسي والخلاف الإعلامي وتبادل الاتهامات والكراهية، ولم يحدث ذلك فجأة أو بمحض المصادفة، إنما كانت هناك مقدمات كثيرة وأسباب يمكن التوقف أمامها، فما مر به العرب منذ حرب الخليج الأولى حتى سنوات وعواصف الخريف العربي لم تعد تسمح بمزيد من الشقاق؛ حيث اكتفى معظم العرب بما هو حاصل بالفعل ولم يعودوا في حاجة لابتكار خلافات ومعارك جديدة بسبب كرة القدم، وتبدلت أيضًا رؤية القادة العرب لكرة القدم بعد انفجار طاغٍ في شعبيتها ومكانتها فلم يعد يتعامل معها القادة باعتبارها مجرد أداة سياسية صالحة للاستخدام في أي حسابات معلنة أو غير معلنة، وأدى عصر السماوات المفتوحة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة إلى سهولة المشاهدة الدائمة للكرة العالمية، وكان من نتيجة ذلك أن أدرك عرب كثيرون ضآلة كرتهم أحيانًا بحيث لا تستحق كل هذه الحروب أو أنهم بدأوا يتعلمون أن كرة القدم تصلح للمتعة والفرحة بعد أن سجنها العرب كثيرًا وطويلًا في زنازين الغيرة والكراهية.

وكان من أهم أسباب خفوت التوتر الكروي في البلدان الخليجية تحديدًا هو تخلي الأمراء والشيوخ تدريجيًّا عن علاقتهم المباشرة بأندية كرة القدم، فعادت أندية خليجية كثيرة لتصبح أندية عادية يمكنها أن تفوز وأن تخسر دون توتر واضطراب أو استخدام نفوذ سياسي وإعلامي في مباريات وبطولات كروية، وأيضًا باتت هناك ظاهرة أخرى تمثلت في إقبال الخليجيين على امتلاك أندية كرة أوروبية، فالإمارات امتلكت (مانشستر سيتي الإنجليزي وخيتافي الإسباني)، وامتلكت قطر (باريس سان جيرمان الفرنسي ومالاجا الإسباني)، واشترت السعودية مؤخرًا (نيوكاسل الإنجليزي)، وأندية أوروبية أخرى كثيرة بات العرب يملكونها، وانضم إلى عرب الخليج عرب آخرون من (مصر والأردن) امتلكوا بدورهم أندية أوروبية أيضًا.

وبالإضافة إلى ذلك، فوجئ القادة والسياسيون العرب بفكرة أو رؤية شديدة البساطة والعمق في آنٍ واحد، فقد قال “كوفي عنان” السكرتير العام السابق للأمم المتحدة وهو يفتتح العام الدولي للرياضة 2005:” أن العالم استنفد طرقًا كثيرة ومتعددة لحل مشكلاته أو حتى لمواجهتها، ولكنه لم يجرب الرياضة من قبل، وقد كان هذا خطأً فادحًا لابد الآن من إصلاحه”. ورأى العرب أنه ليس هناك ما يمنع من تطبيق هذه الفكرة العالمية في بلادهم أيضًا، وهناك سبب آخر وأخير هو اعتراف الاتحاد الدولي لكرة القدم بالبطولة العربية التي أقيمت في قطر بعد تعذر إقامة بطولة كأس القارات كما هو متبع في البلدان التي تستضيف نهائيات كأس العالم لتقام بطولة كأس القارات في هذه البلد وقبل عام واحد من عام النهائيات؛ وذلك لتجربة حقيقية للتنظيم والإدارة والملاعب، فرأى الفيفا أن بطولة عربية دولية تصلح أن تكون بديلًا مناسبًا لبطولة القارات، وكانت المرة الأولى التي يلعب فيها العرب بطولة عربية تحت راية الفيفا، وأدرك وقتها العرب أنهم يلعبون في بطولة دولية حقيقية لا مكان فيها لأي أهواء أو حسابات ومصالح خاصة لا علاقة لها بكرة القدم، ولا يليق بهم أن يراهم العالم يفسدون البطولة لأي أسباب ومهما كانت نتائجها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى