2019العدد 178ملف خاص

الدين والتنوير في التقليد الألماني المثالي

طالما كان الإلحاد موقفا عقليا ونزوعا نفسيا، ولد من رحم صراع ممتد بطول التاريخ تقريبا، عابر لكل الثقافات، حول (الإله) ذلك الكائن القدسي الأسمى، خالق العالم والإنسان، الذي أثار حضوره جميع الأسئلة الكبرى حول معنى الوجود، ومصير الإنسان، وأصل الشر، ومغزى الحياة، وما بعد الموت.. إلخ. إنها الأسئلة الكبرى التي شغلت تاريخ الفلسفة، وعبرت عن انشغال حقيقي بالمصير الإنساني، تحريرا لإرادته من فلك الحتميات التي وضعها الكهنة قيدا على حريته، وراكمها السحرة طبقات ضاغطة على عقله، وأحالها بعض رجال اللاهوت وسائل لإلغاء شخصيته، ومن ثم وقع الاشتباك بين الفلسفة والدين، العقل والإيمان وولد الموقف الإلحادي التقليدي الذي استمر يعبر عن نفسه بشكل مضمر، حتى كان الإلحاد الحديث الذي عرفته الثقافة الأوروبية إبان تحولها الوئيد والصعب من التقليد إلى الحداثة، وتحررها الجذري من الفلسفة المدرسية (التومائية) القائمة على العناق بين اللاهوت المسيحي والمنطق الأرسطي؛ حيث صار الإلحاد فلسفة متكاملة تنتظم في رؤية مادية للوجود، تتغذى على صيرورتي العقلنة والعلمنة. في هذا السياق كان ثمة مفكرون وفلاسفة نظروا إلى الدين تلك النظرة المسطحة ذائعة الصيت، باعتباره مصدرا بدائيا لفهم العالم المحيط والتكيف معه والشعور بالأمن في جنباته، حيث كان الإيمان بإله خالق قوي في تصورهم قرينا للخوف والجهل والاغتراب، فما إن يتحرر الإنسان من ذلك الثالوث بالمنهج العلمي، ويدرك الطبيعة إدراكا عقلانيا حتى يتجاوز مفاهيم الدين والألوهية. هكذا تحدى فيورباخ الإيمان المسيحي، كما تحداه فرويد، وماركس ونيتشه؛ فلدى فويرباخ “اختفت المسيحية منذ وقت طويل، لا من العقل وحسب بل من حياة البشر، فهي مجرد فكرة ثابتة، تتناقض تناقضا صارخا مع شركاتنا للتأمين على الحياة وضد الحريق، وسككنا الحديدية وعرباتنا البخارية ومعارضنا للرسم والنحت ومعاهدنا العسكرية والصناعية ومسارحنا ومتاحفنا”. في مثل هذا العالم، انتهى الدين، وإن ظلت منه  بقايا، غير مرئية لشدة ذاتيتها، وهامشية صلتها بالمجتمع. وفى دراسته (جوهر المسيحية)، التي صارت أثيرة لدى الهيجليين اليساريين، اعتبر فرويد صراحة أن جوهر المسيحية هو البشرية، وأن اللاهوت هو الأنثروبولوجيا، وأن موضوع الدين، أي الله، مجرد تعبير عن جوهر الإنسان، أي مجرد انعكاس له وإسقاط عليه، هكذا لم يعد الدين سوى ذلك “الكشف المهيب عن كنوز الإنسان المخفية، وتجلي أفكاره الحميمة، والبوح الصريح بأسرار عشقه”.

أما ماركس فرأى الدين مجرد “تنهيدة مخلوق خاضع” أو “أفيون الشعوب”، وأن الحاجة لقمع الدولة، وللعزاء الديني، وللوعي الزائف، سوف تستمر مادامت المجتمعات الطبقية قائمة، ومادامت العقيدة الإيديولوجية للحاكم تتحكم برقاب الجميع، تحت سلطان الدين. ولديه، فإن الخلاص يكمن فقط في اكتمال “مهمة التاريخ” بالمضي في سيرورة التطور الرأسمالي، والتي تنتهي حتما إلى قيام المجتمع الاشتراكي العقلاني الذي “ينزع حجاب الدين الحاجز، و يقدم للإنسان، في المقابل، علاقات واضحة تماما وعقلانية مع بني جنسه ومع الطبيعة. ومن ثم فقد رأى ماركس الشاب أن “المسألة لم تعد تتعلق بعد اليوم بصراع الإنسان العلماني مع الكاهن الموجود خارج ذاته، بل بصراعه مع الكاهن الموجود داخل ذاته، أي مع طبيعته الكهنوتية”.

كما أكد فرويد على ضرورة الإقرار بأن الأوهام الدينية تعبر عن رغبات بشرية قوية تتوق للإشباع، وبأن الدين بوصفه “عصابا استحواذيا شاملاً” يقوم على قمع الدوافع الغرائزية وتحويلها، وقد آن الأوان للبشرية كي “تبلغ سن الرشد”، وتتخلى عن نرجسيتها الطفولية، وتقبل مبدأ الواقع، وتتصالح مع الثقافة، وتتجاوز كل الاستياءات الناجمة عن أشكال الحرمان والتحكم بالغرائز التي تتطلبها هذه الثقافة.

أما نيتشه فقد أمات الله صراحا لأجل أن يتحرر الإنسان. لقد فعل الرجل أمرا يضاد كل ما حدث في التاريخ، فبينما شهد التاريخ مرارا موت قتل الإنسان قربانا على مذبح الإله، قام نيشه بقتل الله على مذبح الإنسان، قربانا لحريته، ودليلا على تحرره وانطلاقه من جديد على بساط التاريخ، بعد طول جمود وعجز وموت وركود استمر بطول العهد المسيحي. “فمن أجل إغناء الله، على الإنسان أن يكون فقيرا، ولكي يكون الله كل شيء، على الإنسان أن يكون لا شيء. كان هذا سر القدرة الإلهية المطلقة والعجز الإنساني، وقد آن أوان أن يطالب البشر باسترجاع الجوهر الذاتي الاستلاب الذي أسقطوه على السماوات. وآن الأوان للحد من نكران الملذات، والزهد الديني اللاغي للذات بكل أشكاله”. ولكن من يستطع القيام بتلك المهمة ليس هو الإنسان العادي، الذي أفقده الجمود الطويل حيويته، وغرائزه الطبيعية الفعالة، بل الإنسان المتفوق وحده (السوبرمان)، القادر على تجاوز الأخلاق العادية المضمنة في سياق الخير والشر التقليديين، إلى أخلاقية جديدة تكمن فيما وراءهما معا، من شأنها التغلب على العدمية وتفادي الكوارث الوشيكة التي تتربص بالمجتمعات الحديثة.

نزعم هنا أن تلك الرؤية تظل قاصرة عن تقدير دور الدين في عالمنا، وهو قصور يتبدى على مستويات ثلاثة أساسية:

على المستوى الأول: ثمة إغفال لدور الدين في ترقية الرؤية الإنسانية للعالم؛ فالتقليد الديني وما اشتمل عليه من رؤى معرفية وخيال ثقافي تجاه الطبيعة والمجتمع والإنسان، كان أكثر تطورا بكثير عما سبقه من التقليد السحري بالغ السذاجة؛ حيث يمكن للساحر (الشامان) القيام بأعمال يتحكم من خلالها في حركة العالم وأقدار البشر. أو تقليد أسطوري يرجع حركة الطبيعة إلى خرافات محض، حيث العراك بين الأبطال والجبابرة أنتج الكون، وجعل الطبيعة تأخذ ذلك الشكل. أو تقليد أرواحي رأى في الطبيعة كائنا حيا، وجعل لكل ظاهرة إلها خاصا، يمكن استرضاؤه عبر أفعال وطقوس بذاتها، سعيا إلى توظيفه لصالح الإنسان.. وهكذا.

والبادي لنا أن الوحي التوحيدي، من خلال تصوره لكون مخلوق وطبيعة مسخرة للإنسان، وعن إرادة إله أعلى يتحكم في حركة الكون ضامنا لانتظام سيره، وفى حركة الطبيعة ضامنا لاتساق قوانينها الداخلية، كان أكثر تقدما بكثير عن تلك الرؤى الأسطورية والسحرية والأرواحية القديمة، التي قامت على الفوضى والرغبة واللانظام بالكلية، ومن ثم يمكن اعتبار الدين وما صاغه من تقليد معرفي محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، عندما أزال السحر القديم من قلب ظواهر الطبيعة نفسها، مؤكدا على تجانسها الكلي، وانتظامها الدقيق، وقوانينها الصارمة، وهي العناصر التي كان ممكنا تطويرها إلى رؤية حديثة وتجريبية.

وعلى المستوى الثاني ثمة انحراف بالدور الأساسي للدين، من كونه رؤية شاملة للوجود إلى كونه نسقا معرفيا وظيفته تقديم تحليلات جزئية للعالم الطبيعي. وفي هذا السياق يتبدى الدين كشكل بدائي للعلم، عجز تدريجيا أن يمنح للإنسان صورة موضوعية عن الحقيقة، ومن ثم تعين عليه الانسحاب أمام أشكال العلم الأكثر حداثة، حيث الصرامة المنهجية والروح الشكية هي الأقدر على إعطاء صورة أكثر موضوعية عن الحقيقة. وهنا يصبح مفهوم الألوهية أقرب إلى نظرية فيزيائية بدائية، ومفهوم النبوة مجرد نظرية نفسية متقادمة، ومفهوم الوحي تصور خرافي متهالك أمام النظريات الفلكية الحديثة، وهكذا فما أن يتقدم العلم، ويستنير العقل الإنساني، حتى تسقط تلك المفاهيم: الله، النبوة، الوحي، لأنها ليست سوى أكثر من شموع بالية انتهت صلاحيتها مع سطوع الكهرباء الساحق في ليل الإنسان الداجي. ومن ثم نشأ الفهم الذائع عن وجود علاقة طردية وضرورية بين التنوير والإلحاد، حتى صار رفض الدين معيارا لتقدمية الشخص، الذي يصبح أكثر استنارة بالضرورة كلما صار أقل إيمانا، وأقل استنارة كلما كان أكثر إيمانا؛ بما يرتبه ذلك الإيمان من التزام بتصورات اعتقادية ونظم أخلاقية.

وعلى المستوى الثالث ثمة اختزال جغرافي / حضاري للدين في التجربة المسيحية الأوروبية التي سادت العصر الوسيط، باعتبارها الأكثر تمثيلا لادعاءات الدين في ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس بذاته، أو بحسب التأويلات المتوالية له في عهديه القديم، والجديد، رؤية معرفية للكون تتسم بآفات التحديد الدقيق، والطابع المغلق، ومن ثم كان من الطبيعي أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجديد، والقائمة على النزعة النسبية، خصوصا نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذي أنتج صراعا حديا بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التي تفتقد للإحكام المنهجي ناهيك عن الصدق التاريخي. وأيضا ثمة اختزال آخر لفلسفة التنوير في التيار الفرنسي اليعقوبي، الذي صاغ العلاقة الحدية هذه بين الدين والتنوير، على طريق إما وإما، وهي صيغة ترجع إلى عصر الثورة الفرنسية، رغم وجود تقاليد وتيارات أخرى داخل فلسفة التنوير يأتي على رأسها التقليد الإنجليزي المتصالح مع الدين، إلى درجة أبقت الملكة على رأس الكنيسة الأنجليكانية مثلما بقيت على رأس الدولة البريطانية. وكذلك التقليد الألماني المثالي، الذي يبدي تصالحا عميقا مع التنوير.

وفي هذا السياق نتصور أن المثالية الألمانية، قياسا إلى جل تيارات الفكر الغربي، تقدم نموذجا للعقلانية الدينية نراه الأنجع في إلهام الفكر العربي المعاصر، وفي تجسير الهوة المشهودة بين الإسلام والتنوير، إذ ترى في مسار الألوهية محاولات إنسانية متوالية لخلق أشكال تصور للمقدس، أكثر ملاءمة للحظة المعاشة. فتعدد أنماط تصور الله هو وحده القادر على جعل الدين شعورا متقدا، حتى لا يتحول إلى مجرد مظهر خارجي جامد. هذا التقليد يمثل صيرورة ممتدة، غير أن دفقات خمس تبقى محورية في تياره العام يتوجب الوقوف عندها.

الدفقة الأولى تكمن في “جوتولد ليسنج” (1729- 1781) الذي عبر عن جوهر التنوير الروحي بجلاء وبساطة، مؤكدا على أن متعة الإنسان لا تنحصر في امتلاكه للحقيقة، وإنما في الجهد الذي يبذله من أجل محاولة بلوغها، لأن ملكات الإنسان لا تنمو بامتلاك الحقيقة، بل بالبحث عنها، حيث امتلاك الإنسان للشيء يميل به إلى الركود والتكاسل والغرور، قائلا على نحو مباشر: “لو أن الله وضع الحقائق كلها في يميني، ووضع في يساري شوقنا المستمر إليها- وإن أخطأناها دائما- ثم خيرني، لسارعت إلى اختيار ما في يساره، قائلا له: رحماك يا الله، فإن الحق الخالص لك أنت وحدك!”. 

حاول ليسنج في كتابه (تربية الجنس البشري)، أن يزيل الفهم الشائع عن تناقض ضروري (متوهم) بين العقل والإيمان، مؤكدا على أن قوة التطور التاريخي تترك أثرها في ارتقاء العقل البشري، وفي نمو الاعتقاد التوحيدي معا، إذ نظر إلى الدين كوحي ولكن، أيضا، ككشف متقدم، يزداد العقل تفهما له واستنارة به بمرور الزمان كما يزداد الفرد معرفة بتدرجه في مراحل التعليم، حيث اعتقد لسنج في وجود ثلاث مراحل مرت بها التربية الدينية للجنس البشري. في المرحلة الأولى أي الطفولة ارتفع اليهود إلى تصور وحدانية الله واقتصر هذا عليهم، وكان ما استهواهم في هذه المرحلة هو المعاني الحسية كالعقاب والثواب. ولكن بغير إيمان بحياة أخروية. غير أن المبادئ الأولى لا تناسب غير سن معينة، وعلى هذا فلقد تجاوز البشر هذه المبادئ التي وردت في العهد القديم، وتهيأ الجنس البشري لاستقبال الخطوة الثانية في التعلم. أما الخطوة الثانية هذه فتناظر مرحلة الصبا أو المسيحية التي دعت إلى إله عالمي وإلى نقاء الإنسان من الداخل كإعداد لخلود الشخصية. وفي الخطوة الثالثة يقدر للبشرية أن تنمو أكثر فأكثر فتبلغ مرحلة النضج، فتدرك عقلانيا ما كانت تتقبله كوحي يوما من الأيام، ومن ثم تطور من تصورها لله والسلوك البشري إلى ما هو أرقى.

وهنا نلاحظ مدى إيمان لسنج بالعناية الإلهية للتاريخ، وهو إيمان طالما ميز التنوير الألماني الذي لم يتصف إطلاقا بعدائه للدين كالتنوير الفرنسي. فلديه، كانت حركة التاريخ خاضعة لتوجيه الله من البداية إلى النهاية. ولما كان من العسير تحقيق كل شيء دفعة واحدة، وكما يحدث في نظام تعليم الفرد، حيث تنمو قدرات الإنسان بنظام يبعد عن العشوائية، فقد راعى الله في وحيه اتباع نسق معين ومتدرج في رسالته إلى البشر.

أما الدفقة الثانية في تيار التنوير الألماني فتتمثل في الإضافة الخطيرة التي قدمها إيمانويل كانط، عبر نزعته النقدية التي تجاوزت البحث التقليدي عن الله، أو عن الوجود الحق للأشياء، إلى محاولة فحص (العقل الإنساني) نفسه باعتباره الأداة أو الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، والتأكد من كونه أداة صالحة لها أم لا، قادرة عليها على نحو مطلق أم بشكل نسبي؟. وقد كان من نتيجة هذا التصور أن ارتدّ العقل الإنساني إلى نفسه، يفحصها قبل أن يتورط في فحص الوجود، حيث توصل كانط إلى حقيقة مفادها أن العقل الإنساني قادر على المعرفة، وصالح للنهوض بمسئوليتها، ولكن صلاحيته غير مطلقة، وقدرته ليست كاملة، بل محصورة في نطاق عالم الظواهر والوقائع، فإذا ما تجاوز هذا العالم إلى ما فوقه، والطبيعة إلى ما بعدها، حيث قضايا الألوهية، والخلود، والحرية، كان ذلك أمرا غير مبرر، يتناقض مع قدراته، ويطوح به إلى بحر الظلمات، وكهوف الشك، فما عاد قادرا على بلوغ اليقين الذي يبرر الإيمان.

وهكذا قدم كانط للفكر الغربي إحدى أجل الخدمات في تاريخه حتى اليوم، ربما مع مفهوم الجدل الهيجيلى، فقبل كانط كان الإيمان يحتاج إلى تدليل عقلي على وجود الكائن المستحق للإيمان، أي الله. وطالما لم يكن ممكنا إثبات هذه الحقيقة تجريبيا كان الطريق مفتوحا للشك، معبدا للإلحاد أو اللا أدرية، وكان الاتهام بالتناقض يبدو مبررا بين أن تكون مؤمنا، وأن تكون عقلانيا، وهو التناقض الذي كان ديكارت قد قفز عليه عندما تورط في الادعاء بقدرته على تقديم البرهان على وجود الله بنفس قدرته على تقديم البرهان الخاص بتساوي طرفي معادلة رياضية، يفترض أنهما متعادلان يقينا.

لقد تأسس الادعاء الديكارتي في الحقيقة على الفيزياء الكلاسيكية السابقة على نيوتن، وأيضا على قاعدة المنطق الأرسطي القائل بوحدة الحقيقة، والقائم على مبدأ عدم التناقض، فالصدق أبدي، وكذلك الكذب، ولا مكان لموقف ثالث توفيقي، فكل طرف من طرفي هذه الثنائية هو خبر عن حقيقة أبدية لا تتغير. ولا شك أن كليهما، أي الفيزياء الكلاسيكية، والمنطق الأرسطي، سابقان على التجريبية الحديثة، المنهجية والشكية، المصاحبة لفيزياء نيوتن الحديثة، ولمنطق هيجل الجدلي، ولنتخيل حجم الشكوك التي كان ممكنا إثارتها في مواجهة ادعاء ديكارت خلال تلك القرون التالية على رحيله لو لم يقدم كانط تأسيسه الجديد للعلاقة بين العقل والإيمان، عندما تمكن من قلبها رأسا على عقب، مطالبا الملحد بإثبات عدم وجود الله، بدلا من مطالبة المؤمن بإثبات وجوده، منتصرا في النهاية لفكرة أن الحقيقة الإلهية، لفرط تساميها وليس لفرط ذبولها، غير قابلة سواء للإثبات أو للنفي التجريبيين، فهي حقيقة فوق العقل وليست ضده، حقيقة سامية على عالمنا، ومن ثم متسامية على عقلنا الإنساني الذي لا يمكنه فحصها تجريبيا وتوثيقها تحليليا على المنوال الذي يقوم به إزاء العالم وقضاياه، والطبيعة وقوانينها، والمجتمع وسننه، بل يمكن بلوغها فقط بالوعي الإنساني الشامل والحدس الكلي، بما فيه من عقل يعقل، وضمير يهجس، وحدوس تكشف، وهنا صار ممكنا للعالم أن يكون مؤمنا إذا هداه ضميره وألهمته حدوسه، أو أن يكون عالما ملحدا إذا ما غاب ضميره وانقطعت حدوسه، ومن ثم انحل التناقض الذي تصورته الفلسفة الحديثة مزمنا أو حتميا بين العقل والإيمان، وتجاوز الفكر الغربي مأزقه التاريخي، ولوجا إلى مرحلة أعلى في تطوره لا تزال تحكمه حتى الآن، أو بالأحرى تصوغ التيار الأساسي فيه، من دون إنكار لوجود تيارات أخرى وإن كانت أكثر هامشية، وأقل حضورا، بالقياس إلى النزعة النقدية.

وأما الدفقة الثالثة، فأتت من هيجل الذي قدم إضافة عميقة لما كان قد ذهب إليه ليسنج في نزعته الارتقائية على صعيد إدراك المقدس، فالأمر لدى هيجل لم يعد مجرد عبور خارجي/ شكلي من شريعة إلى أخرى، أو تجاوز تاريخي لمرحلة دخولا في أخرى أحدث، بل تحول إلى نزعة باطنية عميقة صار التجاوز فيها أمرا داخليا، واستحال العبور داخلها هو من طريقة للمعرفة إلى طريقة أخرى، ولذا فقد استبدلت المراحل الثلاث لدى ليسنج بما يمكن تسميته أنساق الحقيقة الكلية الثلاث لدى هيجل (الفن والدين والفلسفة). ولم يعد الأمر محض خطة إلهية لتعليم الجنس البشري، على طريق اكتساب وعيه بالمطلق الإلهي، بل هو نزوع إنساني جواني لإدراك الحقيقة المطلقة أو (الروح المطلق)، فالإنسان لدى هيجل يعيش داخل التاريخ في عملية كشف متوالية لا تتوقف عند وعيه بالله، بل تمتد إلى وعيه بذاته هو، حيث تكتمل عملية إدراك الروح المطلق، مع تمام إدراكه لجوهره الخالص عبر متوالية الفن والدين والفلسفة، التي تتعاضد جميعها في الكشف عن الحقيقة المطلقة (الألوهية)، ولكن ليس بوصفها حقيقة واقعية أو خارجية تماما يكشف عنها العلم تحليليا، أو داخلية صرفة يكفي لإدراكها الفن، أو حتى مفارقة تماما ينقلها إلينا الوحي، ولكن بوصفها حقيقة شاملة باطنية وعقلية وغيبية في آن، تتكامل الملكات الإنسانية مع الوحي الإلهي في كشف كنهها، والعيش بداخلها.

وأما الدفقة الرابعة في تيار التنوير الألماني المثالي، فأتت من عالم الاجتماع الديني الكبير ماكس فيبر  الذي تمكن من إعادة صوغ العلاقة بين المسيحية، كـ (دين مجرد)  غير منشغل بالحياة العملية ولا بتغيير الواقع ولا بالتحكم في صيرورة الحركة التاريخية، وبين الواقع الأوروبي الحديث نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تبدت أوروبا في مركز العالم، سواء فكريا عبر نزعة التمركز حول الذات، أو استراتيجيا عبر النزعة الكولونيالية للسيطرة على العالم.

ولتوضيح أهمية ذلك التحول نقول إن الدين الذي بشر به المسيح وكشفت عنه الأناجيل الأولى، كان دينا بسيطا ومثاليا، يمثل إجابة على سؤال: كيف تحيا في ذاتك وتواجهها، أي تقمع غرائزها ومطالبها، وليس إجابة على سؤال: كيف تعيش في العالم، وتغيره للأفضل؛ إذ تنبذ المسيحية الأولى أي توجه لتغيير العالم الخارجي، وتنظر إليه على أنه نوع من خداع النفس لأن العالم الحقيقي هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقي إليه تاركا خلفه عالمنا الخاوي، الذي لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه!. وقد نهضت الكاثوليكية، أي تأسست ونمت، في ظل علاقة مراوغة مع المفهوم المسيحي عن الإنسان، إذ كان عليها أن تدير موروثا روحانيا يدعي السمو على الأرض من ناحية، فيما تحيا معضلات الواقع من ناحية أخرى. وقد دفع بها هذان الأمران إلى تناقض وجودي بين روحانية نظرية، ودنيوية عملية، كانت كفته تميل باستمرار ضد الروحانية الصرفة، ولصالح الانشغال الدنيوي في قلب الإقطاع الأوروبي.

ولأن الصيغة الوجودية الأكثر إلهاما للسلوك الإنساني هي صيغة “الزاهد النشيط”، كونها تخلق دوافع العمل وتولد الرغبة في الكفاح، من دون أن تحيله إلى نزعة تغلُب تسعى إلى الاكتناز أو التسلط على الآخرين، فقد كان خلق هذه الصيغة بمثابة المهمة الكبرى لحركة الإصلاح الديني، التي شكلت، في صيغتها الكالفينية، نمطا جديدا من الأخلاق البروتستانتية (النشيطة) لا يمكن تقدير أهميته إلا في سياق تطور المسيحية الكاثوليكية، وربما الأديان الهندية (البرهمية والبوذية)، التي طالما عولّت على صناعة المؤمن “الزاهد”، ولم تكترث بخلق المؤمن “النشيط”، على منوال ما كان متصورا قيامه نظريا في اليهودية والإسلام، حيث الحافز الدنيوي للنشاط قائما وموفورا منذ البداية.

وهكذا كانت الكالفينية في جزء منها تناغما مع مطالب عصر جديد يعول كثيرا على النشاط وإن استبقى نوعا من الزهد، عندما جعلت النجاح المادي أمرا، ليس فقط مشروعا طالما كان مؤسسا على الرغبة في تنمية الثروة مع الزهد في الاستمتاع بها، بل ومرغوبا أيضا كطريق للخلاص الأخروي وعلامة على النجاح في تحقيقه. وفى الجزء الآخر منها كانت محاولة لصوغ شرط إنساني جديد، أكثر توازنا، يتصور للإنسان دورا أكبر في السيطرة على المصير، وحفز حركة التاريخ.. إنسان يمكن وصفه بـ “التكاملي”، ينطوي على شعور الإيمان ومشاعر الحب ولكنه دائم التطلع إلى بلوغ المعرفة وتنمية الثروة. إنسان لا يطمح إلى روحانية الزاهد، ولكنه لا ينفلت من جوهر الشرط الأخلاقي والقيمي.

لقد ذهب فيبر بهذه الصيغة إلى مداها الذي عكس تغلغل النظرة التنويرية المتفائلة في الروح المسيحية، وذلك في أطروحته الكلاسيكية “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” التي مزجت بين المسيحية والرأسمالية مزجا خلاقا، وأعادت اكتشاف الطهرانية الكالفينية، باعتبارها الفكرة التي صاغت عقلية الربح والفائدة، كخاصيات أساسية للرأسمالية الحديثة. لقد استخلص فيبر في بداية القرن العشرين فهما جديدا للروح البروتستانتية، جوهره أن على المسيحي المخلص أن يتبع النداء الداخلي بالاستفادة من الفرصة التي منحها الله له، فإذا أراه الله طريقا يستطيع أن يحصل منه قانونيا على أكثر مما يحصل عليه من طريق آخر من دون أن يظلم روحه أو أي روح أخرى، ورفض ذلك واختار الطريق الأقل ربحا، فإنه يعارض واحدا من أهداف عمله ويرفض أن يكون خليفة الله، ويرفض أن يقبل عطاياه ويستخدمها من أجله عندما يطلب ذلك، فقد يكدح ليكون غنيا من أجل الله، وليس من أجل متعة الجسد أو الإثم.

وهنا أكد فيبر على نوع من النفعية الاقتصادية “الحكيمة” كقبول الاقتراض بالفائدة والتأكيد على المقولة الأساسية بشأن “المسيحي النشيط” الخادم لله ولإخوانه بفضل نشاطه، استنادا إلى رفض كالفن الصارم لذلك التصور الأسطوري التقليدي عن دائن واسع الثروة ومدين بائس، وإلى أنه لا يمقت مبدأ البحث عن الربح، طالما ظل ربح هذا الإنسان المسيحي، الموجود بفضل العناية الإلهية، غير مضر للآخرين. فالثروة إذن، وحسب الأخلاق البروتستانتية الجديدة، سيئة فقط لو كانت إغراء بالكسل والتمتع بالحياة الآثمة، واكتسابها سيئ عندما يكون بهدف العيش فيما بعد في اللهو واللامبالاة، ولكنها عندما تكون أداء لواجب في العمل، لا تكون فقط مقبولة أخلاقيا بل مفروضة فعليا. وقد أدى هذا النوع من التفكير إلى عقلنة الحياة الاقتصادية، فاتخذ الزمن أو الوقت دلالة جديدة معادلة للقيمة والمال، ولم يعد التاجر الناجح هو حتما مسيحي ماكر. وهكذا تطور زهد نشيط نابع من فكرة عمل إنساني مستحب من الله، يمثل النجاح فيه تجليا لرضى الله عن هذا الإنسان. ذلك الشعور بات هو الموقف الديني المحبذ لدى البرجوازيين، بديلا عن التأمل القديم، الشارد، في الملكوت الإلهي.

وهكذا قدم فيبر، تعويلا على كالفن، حلا ناجزا للمعضلة الثانية بين الدين والتنوير وهي معضلة الحرية، فلم يعد المؤمن المسيحي زاهدا وعاجزا بالضرورة، بل نشيطا وحرا أيضا بفعل الإيمان نفسه. وذلك بعد أن كان لسنج وكانط قدما حلا ناجعا للمعضلة الأولى، العقلانية، بإزالة التناقض بين كون الإنسان عقلانيا، وكونه مؤمنا، فكان ذلك إيذانا بتلاقي الدين مع العقلانية والحرية، على طريق انبلاج العصر الحديث في التقليد الألماني المثالي، الذي أسهم بقوة في صيرورة تجاوز الفكر الغربي لمأزقه التاريخي، ولوجا إلى مرحلة أعلى في نضوجه وتطوره لا تزال تحكم التيار الأساسي فيه حتى الآن.

أما الدفقة الخامسة والأخيرة فتتمثل في الإسهامات التي لا يزال يقدمها الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس وبالذات بحثه عن “الدين في المجال العام”؛ فالتسامح لديه أساس الثقافة الديمقراطية، ولكنه يتشكل من مسار ذي اتجاهين دائما، فلا ينبغي أن يتسامح المؤمنون فقط إزاء اعتقادات الآخرين وقناعاتهم، بل من واجب العلمانيين والملحدين أن يثمنوا قناعات المتدينين، حتى لا تصبح العلمنة سلطة عليا تضبط الأمور وتحدد لنا ما ينبغي التفكير فيه وما لا ينبغي التفكير فيه؛ بمعنى ألا تتحول إلى أيديولوجيا شمولية مغلقة تطرح نفسها على الجميع في صورة أمر فكري أو سياسي أو أخلاقي، فعندها سوف تتوقف عن محاولة الفهم، وتتحول إلى ما يشبه سلطة الفقهاء المسلمين المتشددين الآن، أو سلطة الأكليروس المسيحي في العصور الوسطى، محض تصور سلفي عن أصل ما، وإن اختلفت منابع الأصولية العلمانية، كسلفية تنسب إلى أصل مرجعي حديث، عن الأصولية الدينية كسلفية تنسب إلى أصل مرجعي قديم.

هكذا يتبدى مفهوم هابرماس الأثير عن المجتمع ما بعد العلماني وكأنه طريق ثالث، قادر على تحقيق مصالحة تاريخية بين الدين والعلمانية، يلتمس استمرارية الجماعات المتدينة في محيط يستمر في ممارسة العلمنة، فحال ما بعد العلمانية بقدر ما هي حال تاريخية فإنها تحيل إلى وضع ينفرد ويتجاوز تاريخه. إنها الحال التي تتجاوز التطرف الديني والعلماني معا، ولا تقر بهيمنة الدين أو اللاديني، بل تدعو إلى تفاعل الجميع على أرضها، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين. الأمر الذي يتيح الشراكة بين المؤمن وغيره في رحاب فضاء تعددي يقبل الدين مشاركًا في صنع التشريع بطريقة علمانية، حيث يمكن للمتدين أن يعيش في إطار العلمانية، فيما العلماني لا يستطيع العيش تحت مظلة الديني، ما يجعل في قبول الدستور العلماني منفعة للمواطن المتدين، إذا ما أراد العيش في إطار أشمل من هويته الضيقة وعالمه المغلق، ينعم فيه بالدولة القانونية والهوية الكونية.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى