تحيرت كثيرًا حينما قررت أن أكتب عن الثورة السورية، قل الأزمة السورية، أعتذر بل قل الكارثة أو المأساة السورية. بعد تلك الحيرة التي استمرت طويلاً، كان المؤثر الرئيسي في تلك الهداية، هو حنيني وقناعتي، وميلي الفطري للتاريخ، الذي أعتبره مدخلاً صحيحًا، بل وواجبًا ملزمًا، أن أبدأ من أمجاد غابرة، يعتبرها البعض، حنينًا عاطفيًا، أقرب للهلوسات، التي لن تجدي نفعًا في واقع مرير، بل يرونها أضغاث أحلام، كأن يرى العطشان، نهر ماء زلال، إلا أنه السراب بعينه، لكنني رغم أن الكثير يراه سرابًا، فإنني مصر على أنه الماء العذب.
لذا قررت أن أبدأ كلامي من سوريا الكبرى، وهو مصطلح جيوسياسي، سوريا الطبيعية، سوريا التاريخية، سوريا المجد، رغم أن الكثير يسمونها اليوم، سوريا الممزقة، سوريا التي كانت، سوريا التي لن تعود سوريا التي عرفناها نحن جيل الوسط على الأقل.
فسوريا التاريخية أو سوريا الطبيعية، كانت تشمل بجانب سوريا التقليدية، كلًا من لبنان، الأردن، فلسطين، جنوب تركيا، الذي يضم أضنة، مرسين، عنتاب، مرعش، لواء الإسكندرونة، وصولاً إلى ديار بكر، وأورفة، وماردين. ولقد خسرت سوريا الكبرى مناطق وولايات تعادل مساحتها الحالية بضعفين، منذ انتهاء عهد الدولة العثمانية، ودخول منطقة الشرق الأوسط، مرحلة الانتداب البريطاني والفرنسي.
بدأت الأحداث في سوريا باعتقال خمسة عشر طفلاً في 27 فبراير 2011 كانوا قد كتبوا عبارات مناهضة للنظام، والتي كانوا فيها متأثرين بالاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي بخاصة في كل من تونس ومصر، وقد تم تعذيب هؤلاء الأطفال. وفي الخامس عشر (15) من مارس سنة 2011، تدافعت المظاهرات وكانت عبارة عن تظاهرات جماهيرية، بأعداد متوسطة، ضد فساد النظام القائم، نظام البعث في آخر طبعاته، وضد كبت الحريات، الذي يمارسه النظام وأجهزته الأمنية المتغولة في كافة مناحي الحياة، وفيها سقط بعض القتلى.
استمرت المظاهرات حتى جاء يوم الجمعة الأول من أبريل، لتتحول المظاهرات إلى حشود كبيرة في معظم أنحاء سوريا، وكان الشعار الأثير لدى المتظاهرين (جمعة الشهداء) وكانت البداية مدينة درعا، ومن هنا قفزت جماعة الإخوان المسلمين على تظاهرات الشباب والشعب الطامح للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية كما حدث في كل من تونس ومصر.
تصاعدت الاحتجاجات إلى أن وصلت إلى النزاع المسلح بين الحكومة أو النظام السوري وحلفائه، حزب الله وإيران وروسيا والصين من جانب، ومن الجانب الآخر تحالف فضفاض للجماعات المسلحة المعارضة للنظام والتي تبدأ بالجيش السوري الحر، وقوات سوريا الديمقراطية والتي تتكون من أغلبية كردية، وجماعات سلفية جهادية، من جبهة النصرة، حتى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، مع تورط عدد من البلدان في المنطقة وخارجها، إما مشاركة مباشرة أو تقديم الدعم إلى فصيل مسلح أو أكثر، وأهمها كل من تركيا وقطر.
وبالتالي شكلت هذه الجماعات تحالفات فيما بينها، حتى تمكنت من احتلال والسيطرة على أجزاء كبيرة جدًا من أراضي الدولة السورية.
وهكذا تخطت الأيام الثماني سنوات، ولا يوجد في سوريا سوى القتل، وسفك الدماء، ولم يعد الأمر يقتصر فقط على النظام السوري والمعارضين له داخل سوريا، بل أصبح يتنافس على سوريا أربعة جيوش نظامية تتواجد داخل سوريا فعليًا، بداية من إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى العدو القديم الجاثم على هضبة الجولان من عام 1967 (إسرائيل).
وبالنظرة البسيطة نجد أن تركيا من مصلحتها، السيطرة على الشمال السوري، وهي مناطق الأكراد، حتى لا تسمح بإقامة كيان كردي معادٍ لتركيا في هذه المناطق، ونجد أن صالح روسيا الاتحادية يتلخص في أهمية وجود قواعد لها سواء بحرية في المياه الدافئة على البحر الأبيض المتوسط في طرسوس، أو قواعد جوية كما في حميميم، ناهيك عن الأطماع في الغاز والبترول التي تزخر بها هذه المنطقة (سوريا)، وبالنظر إلى المصالح الإيرانية وحلمها الفارسي، للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، واكتمال هلالها الشيعي ليمتد من العراق، وسوريا، ولبنان، وتتبقى الولايات المتحدة الأمريكية، فهي لا تريد أن تخرج خالية الوفاض من البلاد، فهناك آبار بترول في الشرق والشمال السوري، تريد أن تضع يدها عليها، عبر تحالفها مع الجماعات الكردية، وهو ما يقلق تركيا، من زيادة نفوذ الأكراد، فتتدخل عن طريق جيشها بتحالف معلن مع جماعات متطرفة، وإرهابية، تريد أن تتخلص منها، فتستخدمها في قتل الأكراد في الشمال السوري.
كل ذلك بخلاف الجاثم الأكبر على الجولان (إسرائيل) والذي من صالحه ألا تستقر الأمور في سوريا.
هكذا تحولت سوريا من خلال ما أطلق عليه الثورة السورية إلى أن أصبحت يطلق عليها بحق “سوريا المفيدة”، سوريا المفيدة لكل من يعمل أو يخرب على أرضها، سوريا المفيدة لإيران، سوريا المفيدة لحزب الله، سوريا المفيدة لروسيا الاتحادية، سوريا المفيدة لتركيا، سوريا المفيدة للولايات المتحدة الأمريكية، سوريا المفيدة لكل الجماعات والمليشيات الإرهابية العاملة على أرضها، وبالتالي أصبح المضار الوحيد وسط كل المستفيدين من سوريا، هو الشعب السوري الذي أصبح ما بين لاجئ ومهجر سواء مهجرًا خارج سوريا أو داخلها.
ويرى الدكتور أحمد يوسف أحمد أحد أهم عمد العلوم السياسية، أن المصطلح الحقيقي المفروض إطلاقه على الأزمة السورية هو (سوريا الكاشفة) على أساس أن تبلور الأوضاع في سوريا على النحو الذي نراه أصبح كاشفًا لكل ما يجري على الأرض العربية من تفاعلات محلية وعربية وإقليمية، وعالمية، وأصبحت سوريا نموذجًا مصغرًا بالغ الدلالة على “لعبة الأمم” وهي لعبة بغيضة لا تعرف إلا لغة المصالح ولا يمكن لأحد أن يشارك فيها دون أن يملك أدوات اللعب التي لا تعرف إلا لغة القوة، ولتذهب الاعتبارات القانونية والإنسانية إلى الجحيم، ولأن لعبة الأمم بدت خطيرة في هذه المرحلة، فلا مانع من إخراج يتيح للجميع الحفاظ على ماء الوجه.
دور الجماعات الإسلامية التكفيرية منها وغير التكفيرية في الأزمة السورية
أطلق الغرب وبعض الأنظمة العربية مصطلح المعارضة السورية على كثير من الجماعات المسلحة منها وغير المسلحة، إلا أن الجماعات الإسلامية اتسع دورها وزادت هيمنتها على كافة تشكيلات المعارضة، وتحولت كلها إلى جماعات حاملة للسلاح تقاتل النظام وحلفاءه، وأيضًا تقاتل بعضها البعض على أسس أيديولوجية، وانشق الكثير منها على بعضهم، ومن هذه التنظيمات الجيش السوري الحر، جبهة النصرة، الجبهة الإسلامية، القيادة العسكرية العليا، جبهة ثوار سورية، جيش الإسلام، جيش المجاهدين، أحرار الشام، جبهة فتح الشام، المعتبرة امتدادًا للقاعدة، وكما ذكرنا هي في معظمها جماعات تكفيرية، الهدف من إنشائها إسقاط النظام، لقيام الخلافة الإسلامية، وبجانب كل هذا تنظيم الإخوان المسلمين، الذي يقوم بجانب القتال، بعمل الدعاية والتحدث باسم المعارضة في كافة أنحاء العالم، من خلال أجهزة الإعلام والمؤتمرات، والندوات، وبث الدعايات الكاذبة منها والصحيحة، بغرض تشويه النظام السوري، وتشكيل أكبر جبهة معارضة عالمية، ضد النظام، وقد وجدت هذه المعارضة، بجناحيها المسلح وغير المسلح أكبر العون من تركيا، وبعض الأنظمة العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض دول الغرب، من التمويل سواء بالأموال والسلاح، حتى الإمداد بالرجال، وكذلك تسهيل دخول ومرور المقاتلين إلى الأراضي السورية.
الدور التركي في أزمة سوريا
يمكن القول إن الدور التركي، بالإضافة إلى بعض الدول الإقليمية، كان من أول وأهم وأخطر الأدوار عند بداية الأزمة السورية، وأكثرها تأثيرًا، فلا يخفى على أحد، جنون وهوس القيادة التركية وعلى رأسها أردوغان بفكرة عودة الدور الإمبراطوري لتركيا عطفًا على الخلافة والمجد العثماني، فالفكرة المسيطرة على تفكير أردوغان، وهي أن المجال الحيوي والطبيعي لنفوذ تركيا هو التاريخ العثماني، من هنا كانت تركيا هي أول المبادرين في الدخول إلى حلبة الصراع السوري، وبالتالي لعبت تركيا دورًا هامًا في الأزمة السورية، دورًا أجج النزاع، دورًا زاد من حدة النزاع، دورًا حول الأزمة السورية إلى حرب مفتوحة على الشعب السوري، عبر تسهيل ظهور التنظيمات الإرهابية، والسماح بتزايد أعدادها، وقوتها، مع ادعاء الحكومة التركية في الوقت نفسه بوقوفها مع الشعب السوري في محنته، محاولةً إخفاء مطامعها في المنطقة، والسعي وراء تحقيق الحلم الإمبراطوري العثماني، المسيطر على رأس أردوغان وقيادات حزبه.
إذًا فقد انغمست تركيا ومنذ اللحظة الأولى في الأزمة السورية، عن طريق خلق ودعم التنظيمات الإرهابية، بالإمداد بالسلاح وتسهيل مرور المقاتلين وكل أنواع الدعم، فقد كانت خطة أردوغان بالنسبة للأزمة التركية ومنذ اللحظة الأولى هي أولاً إسقاط النظام، انتصارًا لمطالب الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، حسب زعم أردوغان، ثانيًا التحرك العسكري المنفرد في المجال السوري، لمناصرة ما ادعته تركيا بأنه ثورة للشعب السوري للتخلص من الاستبداد والدكتاتورية لنظام حزب البعث وبشار الأسد، ثالثًا والأهم على الإطلاق هو السيطرة على حركة الأكراد السوريين، ولكن وبالرغم من كل التدخلات التركية العسكرية في الشأن السوري والهيمنة على الائتلاف السوري المعارض، فلم تنجح تركيا في منع أكراد سوريا، ولاسيما حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره – تركيا – مجرد امتداد لحزب العمال الكردستاني من التحول إلى قوة عسكرية ذات شأن وقدرة على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والتنظيمات المسلحة المدعومة تركيًا ومن بعض الدول الإقليمية الأخرى، بل والسيطرة التامة على كافة المدن والقرى الكردية السورية، خاصة بعد تحرير مدينة عين العرب “كوباني” من مسلحي تنظيم الدولة (داعش) وكان ذلك بدعم كبير قدمته الولايات المتحدة الأمريكية، لما عرف وقتها وحتى الآن بقوات سوريا الديمقراطية، المعبرة عن أكراد سوريا، ومنذ تلك اللحظة وبدلاً من وقف طموح أكراد سوريا حسب رغبة أردوغان والنظام التركي، تبلور إقليم كردي سوري، قادر على إدارة شئونه بنفسه، وقادر على توفير الأمن لسكان الإقليم، على عكس ما سعت تركيا.
دور إيران و حزب الله في الأزمة السورية
سوريا وإيران تربطهما علاقات وثيقة منذ وقت طويل، علاقات اقتصادية، وعسكرية، فقد جمعهما حلف واحد تحت راية جبهة الممانعة، بل وكانت سوريا هي الممر الآمن، لنقل كافة أنواع الأسلحة والصواريخ إلى حزب الله اللبناني لقتال إسرائيل، فقد توطدت هذه العلاقة منذ نشأة حزب الله في عام 1982. فلما لاحت في الأفق بوادر سقوط النظام في سوريا عام 2012 بدأت إيران بإرسال المليشيات الشيعية، لدعم النظام حتى بلغ عدد هذه المليشيات والتي يحمل أفرادها جنسيات إيرانية وأفغانية وعراقية وباكستانية ولبنانية أكثر من 18 ألف مقاتل، وقد لعبت سياسة إيران التحريضية حيال وجوب حماية الأماكن المقدسة بالنسبة للشيعة، دورًا كبيرًا في جمع المليشيات الشيعية لإرسالها إلى سوريا، لاسيما وأن دمشق تحتضن أضرحة السيدة زينب والسيدة سكينة وأماكن أخرى تعد مقدسة بالنسبة لمنتسبي المذهب الشيعي، وهي ما يطلق عليها المراقد الشريفة، ولقد عززت إيران هذه المليشيات، بفرق من قوات الحرس الثوري، والقوات الخاصة الإيرانية، بهدف إعادة توازن القوى المتحاربة على الأرض السورية، ومن ثم ترجيح الكفة لصالح النظام السوري في مرحلة لاحقة.
انتشرت المليشيات الإيرانية، وقام النظام السوري بتفويض تلك المليشيات، ببعض سلطاته الهامة، وعهد إليها بالحفاظ على الأمن وتمثيل النظام، والتعامل مع الشؤون اليومية للمجتمعات المحلية، مما أدى إلى سيطرة هذه الميليشيات على مساحات كبيرة من الأرض، التي لا يستطيع النظام ضبط الأمن فيها ومواجهة العنف الذي تمارسه الجماعات التكفيرية، وبالتالي احتفظت المليشيات الشيعية، باحتكار الخدمات الرئيسية، من المستشفيات العامة، والنقل، إلى الطاقة ومياه الشرب.
ويمكن تقسيم هذه المليشيات إلى مجموعتين رئيستين، الأولى ميليشيات شيعية أجنبية تقاتل إلى جانب النظام، مثل حزب الله اللبناني، وكتائب الفاطميون الأفغانية، ولواء زينبيون الباكستاني، والمجموعة الثانية وتتكون من مئات المليشيات المحلية، التي عهد إليها بالحفاظ على الأمن، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وأهمها وأكبرها قوات الدفاع الوطني. وأما فيما يختص بحزب الله اللبناني، وهو المعتبر أداة إيران الرئيسية في المنطقة العربية، وبشكل خاص في كل من لبنان وسوريا، فيمكن رصد بدايات تدخله المباشر والعلني كالآتي:
بدأت إرهاصات استدعاء حزب الله إلى سوريا، يوم أن خرجت المظاهرات الشعبية في سوريا، ترفع شعارات معادية لحزب الله ومعادية لإيران، وقام بعضها بحرق شعارات الحزب وإيران وصور كل من حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، وخامنئي مرشد الثورة الإيرانية، عن طريق الدفع بعناصر من حزب الله، إلا أن قياداته كانت تنفي وجود أية عناصر للحزب، حتى أعلن حسن نصر الله أن المرقد الزينبي (مقام وقبر السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب) في دمشق مهدد من قبل الجماعات الإرهابية التكفيرية، ولابد من التدخل لحماية المراقد الشريفة لآل البيت، ولكن كانت بداية التدخل الحقيقي لحزب الله في سوريا، هو المشاركة في معركة القصير في إبريل 2013. وخلاصة القول فيما يخص الدور الإيراني في الأزمة السورية، فإن الهدف الإيراني، هو الحفاظ على النظام السوري، عن طريق تشكيل ودعم وتمويل طائفة واسعة من الميليشيات الأجنبية المحلية الموالية للنظام.
الدور الإسرائيلي في المشكلة السورية
طالما سعت إسرائيل في الشرق الأوسط للظهور على أنها لا تلعب أي دور في الصراع السوري المدمر منذ سنوات، حيث تتورط عسكريًا وسياسيًا قوى دولية أساسية وتحرز نقاطًا بالدم السوري، إلا أن إسرائيل كانت تلعب ومنذ بداية الأزمة السورية، على أن تكون سوريا في حالة، “اللا استقرار المستقر” على حد تعبير المعلق الإسرائيلي “آموس هاريل”.
ولمعرفة الموقف الفعلي والحقيقي لإسرائيل من الأزمة السورية، لنقرأ تحليل صحيفة معاريف التي ترى أن إسرائيل محظور عليها التورط في المستنقع السوري، لأنه ليس لديها مصلحة في دخول ذلك الصراع الدائر في شمال البلاد، ولأنها لن تستفيد من الدخول في سلسلة من الصراعات الإثنية والطائفية التي يشهدها الشرق الأوسط، ويجب أن تنأى بنفسها عن أي طرف من أطراف الصراع في المنطقة، وأن تستفيد من دروس الماضي، في إشارة إلى التدخل الإسرائيلي في الحرب الأهلية اللبنانية. من ذلك نخلص إلى أن الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه ما يحدث في سوريا تتلخص في “ألا تشكل سوريا – بصرف النظر عما ستؤول إليه الأوضاع، أي خطر حالي أو محتمل على إسرائيل، وبصفة خاصة على الأوضاع القائمة في هضبة الجولان، لاسيما بالنسبة لمنع إيران وحزب الله اللبناني من أن يكونا قوة مؤثرة في جنوب سوريا وشمال إسرائيل (هضبة الجولان)، وبما أن ما يحدث في سوريا – من وجهة نظر إسرائيل – عبر كل السنوات الماضية يحقق ذلك الهدف، فيصبح من المنطقي ألا تتدخل إسرائيل بشكل مباشر وخشن باستخدام القوة المسلحة، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك (حدث ذلك أكثر من مرة)، وإن كان هذا لا يمنع بل يفرض على إسرائيل متابعة تطورات الموقف على الأرض وتوجيه الضربات لأهداف استراتيجية، تخدم الهدف الإسرائيلي من آن لآخر، إضافة إلى محاولة تثبيت الأمر الواقع القائم في الجولان، وبناءً عليه ترى إسرائيل ضرورة ترك الملف السوري، للولايات المتحدة الأمريكية والقوى الكبرى المتصارعة، أو المتنافسة، المتخوفة من تنامي الدور الروسي في الشرق الأوسط بصفة عامة وفي الأزمة السورية بصفة خاصة، فضلاً عن اعتبارات استراتيجية أخرى تمنع إسرائيل من التدخل في الأزمة السورية، لعل أهمها كما يؤكد البروفيسور “يهودا بلانغا” الباحث في جامعة تل أبيب (احتمال أن يستغل الحلف الثلاثي المكون من روسيا وإيران وحزب الله، التدخل الإسرائيلي، لإشعال جبهتها الشمالية).
وإذا كان من المبكر معرفة ماهية التغيرات التي ستطال السياسة الإسرائيلية تجاه الأزمة السورية، فإنه لابد من التأكيد على أن التغيرات التي من المؤكد أنها ستطال الموقف الإسرائيلي من الملف السوري ستتم بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب، الذي يبدو حتى الآن مع خيار التسوية السياسية للأزمة السورية، ولكن موقفه من كل من روسيا وإيران، سيتحدد بناءً على التطورات المستقبلية، والخلاصة وفي كل الأحوال أن إسرائيل ستسعى إلى الإبقاء على وضعها من الأزمة السورية كمستفيد مجاني إلى أطول فترة ممكنة.
دور قوات سوريا الديمقراطية في الأزمة السورية
قوات سوريا الديمقراطية والتي يشار إليها اختصارًا بـ ( قسد) ، هي تحالف متعدد الأعراق والأديان للمليشيات التي يغلب عليها الطابع الكردي، وهو تحالف تم تكوينه في أكتوبر 2015 بمحافظة الحسكة، وقد تم تشكيل هذه القوات بطلب من واشنطن، بهدف محاربة وطرد تنظيم (داعش) من الأراضي السورية، والشريط الحدودي التركي السوري، كما تهدف هذه القوات للمساهمة في إنشاء دولة سورية ديمقراطية يتمتع جميع أهلها ومواطنيها بالعدل، وكامل الحقوق، (حسب زعمهم وزعم الولايات المتحدة الأمريكية)، وقد نجحت هذه القوات في طرد تنظيم (داعش) من قرى وبلدات ريف حلب الشمالي، بعد الدعم العسكري الكبير الذي تلقته من الولايات المتحدة الأمريكية، عبر إلقاء الأسلحة عليها جوًا، مما جعل واشنطن تشيد بأداء هذه القوات في معاركها ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
وتتألف هذه القوات من عدة مليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمينية وتركمانية، ويتراوح عدد قوات سوريا الديمقراطية ما بين 30 ألف إلى 40 ألف مقاتل ومقاتلة (لاحظ أنها القوات الوحيدة العاملة على الأرض السورية في هذه الأزمة التي تضم بين صفوف مقاتليها – مقاتلات – ولقد شهد العالم على قدرتهن وصلابتهن، بل وذعر بعض مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” منهن).
وكان المجال الحيوي لعمل قوات سوريا الديمقراطية يشمل شمال سوريا وبالتحديد محافظات حلب والحسكة والرقة ودير الزور.
دور روسيا الاتحادية في الأزمة السورية
في بدايات الأزمة السورية وحين تم ضرب الدولة السورية في مقتل، بواسطة الجماعات الإرهابية، وبمساندة ودعم وتمويل تركيا وبعض دول المنطقة، وبمساندة حرب إعلامية شرسة تبثها أجهزة إعلام عربية وغربية، خرج فلاديمير بوتين الرئيس الروسي بتصريح قطعي الدلالة، وكاشف لحقيقة الأهداف من وراء ما يتم في سوريا من تخريب ودمار، تصريح يحدد اللاعب الرئيسي في هذه الحرب، والمستفيد الأول والمباشر منها بعد أن تضع أوزارها، وبعد أن يتم تخريب سوريا، وانهيار نظامها.
فقد نص تصريح فلاديمير بوتين (خط الغاز القطري لن يمر من سوريا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا ولو بعد ثلاثة ألاف سنة)، وبعد أن اشتد ساعد هذه الجماعات الإرهابية، وسيطرت على معظم أجزاء سوريا، حتى قيل وقتها، إن النظام السوري يسيطر فقط على حوالي من 18% إلى 20% من المساحة الكلية لأراضى سوريا. وبناءً على المعطيات على أرض المعركة طلب الرئيس السوري بشار الأسد من القيادة الروسية في موسكو، دعم موسكو العسكري للدولة والنظام السوري، وذلك للمساعدة في كبح جماح المليشيات والجماعات المسلحة، تلك الجماعات الإرهابية المدعومة والممولة والمسلحة من قبل تركيا وبعض الأنظمة العربية، وكان هذا الطلب قد لاقى هوى روسيا من حيث تحقيق طموحها القديم في التواجد على ضفاف المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى الرغبة في كسر الاحتكار الغربي في هذه المنطقة التي خرجت منها روسيا تقريبًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، هذا بالإضافة لكون روسيا تعتبر سوريا من حيث المبدأ من الدول المناهضة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمتحالفة مع إيران، الحليف الأقوى لروسيا.
فبدأت على الفور القوات الجوية الروسية، اعتبارًا من 30 سبتمبر 2015 بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية وعلى أهداف محددة ومتفق عليها مع جيش النظام السوري، وبالتالي نشرت روسيا طائرات هجوم أرضي، ومقاتلات اعتراضية، وقاذفات متوسطة، وقاذفات متعددة الأدوار، بالإضافة إلى المروحيات.
يضاف أو يسبق ذلك الغواصات والطرادات وكافة السفن الحربية كأسطول بحري ضخم ومتعدد الأغراض، حتى صار الآن للاتحاد الروسي قاعدتان كبيرتان على الأراضي السورية، القاعدة الأولى قاعدة بحرية في طرسوس، والثانية جوية في حميميم.
لذا فإن روسيا عملت ومنذ اللحظة الأولى لتدخلها في الأزمة السورية، على الحفاظ على الدولة السورية، ودعمها عن طريق جيشها النظامي، الذي تجسده القوات المسلحة.
دور الولايات المتحدة الأمريكية في الأزمة السورية
مبدئيًا تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية، سوريا من دول الممانعة، ودولة متحالفة مع كل من إيران وحزب الله، وبالتالي يشكل هذا الحلف الإيراني السوري وحزب الله، محورًا معاديًا لإسرائيل وبالتالي للسياسة الأمريكية، فكان لابد لها – الولايات المتحدة الأمريكية – من التدخل أولاً استمرارًا لفرض هيمنتها في المنطقة، وثانيًا حماية لإسرائيل خاصة بعد التغول الإيراني، وتغول حزب الله في سوريا.
فقامت الولايات المتحدة بنشر أول دفعة من جنود القوات الخاصة الأمريكية، بواقع خمسين جنديًا من القوات الخاصة في سوريا، في دور استشاري، غير قتالي، اعتبارًا من أكتوبر 2015. واستمرت الولايات المتحدة ، في تعزيز تواجدها العسكري على الأراضي السورية، بشكل متواصل لقتال تنظيم (داعش) إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، حتى بلغ عددهم نحو 500 جندي في نهاية عام 2016.
ومع تقلد الرئيس دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض، أوعز للبنتاجون بإعداد خطة هجومية بقدر أكبر لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وبالتالي فقد دخلت قوات الولايات المتحدة بشكل مباشر في ساحة الصراع، عندما نشرت جنودًا في منطقة منبج إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على المدينة لردع أي تحركات للقوات الروسية، أو قوات النظام السوري (الجيش العربي السوري) أو القوات التركية أو الفصائل المتحالفة معها.
إلا أن الرئيس الأمريكي عاد في نهايات عام 2017 وبدايات عام 2018 ليقول إن الولايات المتحدة ستقوم بسحب قواتها العاملة في سوريا، والمفروض أن تقوم قوات عربية بهذه المهام، ومن ثم عاد ليقول إذا قامت القوات الأمريكية بأية مهام في سوريا أو في المنطقة العربية، فلابد لهذه الدول من دفع تكلفة هذه العمليات أو بالأصح تكلفة هذه الحماية. وهكذا يتراوح دور الولايات المتحدة وموقفها بين التهديد بعدم البقاء وبين طلب الأموال مقابل الحماية.
وهنا يمكن الوصول إلى أن معظم القوى المتصارعة على الأرض السورية، عملت على تهجير الكثير من سكان بعض المناطق بغرض فرض التغيير الديموجرافي في سوريا، وهي ظاهرة، من أخطر الظواهر التي تتعرض لها المنطقة، فتأثير هذه الظاهرة، يؤدي إلى إفساد النسيج الاجتماعي البشري في بقاع متعددة من سوريا، وذلك لأن ثمة جهودًا كثيرة تحاول استغلال التغيرات الديموجرافية، في غير صالح السوريين، فمن المعروف أن كلاً من النظام السوري والقوى الخارجية وعلى رأسها إيران، دفعوا نحو الاستقطاب الطائفي كوسيلة في محاربة الحراك الثوري بعد أحداث عام 2011، فالمشهد السوري بعد الأحداث، يشير إلى وجود هويتين متأزمتين على الأرض السورية، هما الهوية الكردية، والهوية العلوية، وإلى جانب هاتين الهويتين، هناك ما يظهر وكأنه هوية سنية خاصة بالسكان العرب السوريين، بالإضافة إلى الطوائف المسيحية المتعددة، والهوية التركمانية، فلكل من هذه الهويات فالهوية الكردية، لديها الإحساس بالغبن التاريخي، وأيضًا المظالم التاريخية، ويخاف أصحاب الهوية العلوية، من الانتقام الذي قد تمارسه الهويات الأخرى عليها، نتيجة لأساليب الحكام العلويين التي مارسوها لفترات كثيرة على بقية الهويات، كما أن أصحاب الهوية السنية العربية، يرفضون التشرذم، وأيضًا كل من الهويتين المسيحية والتركمانية، لم يتبلور يومًا على شكل نقيض للهوية السورية العامة، وليس فيهما رفض للهوية العربية.
فالواقع الديموجرافي لسوريا قبل أحداث عام 2011 تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، بواسطة القوى الدولية، على أساس ووفقًا لمصالح هذه القوى، على تكوين كيانات هشة لا يتطابق فيها البعد الجغرافي مع البعد الديموجرافي، وكذلك عملت على إيجاد تناقضات بين المكونات المجتمعية، من خلال استقطاب طوائف محددة ومنحها امتيازات على حساب بقية المكونات، الأمر الذي أحدث تناقضًا في المصالح والتوجهات والتعريف الهوياتي، ما بين هذه المكونات.
إلا أنه وبعد الأحداث التي ألمت بسوريا من عام 2011 وما بعدها، خاصة الأنشطة الإيرانية، الرامية لإحداث تحول في نسيج المجتمع السوري، عبر نشر التشيع، وهو ما أدى إلى زيادة ملحوظة في أعداد الشيعة، وكذلك موجات النزوح والهجرات التي استهدفت المنطقة الشرقية بالدرجة الأولى، أدت إلى انخفاض الوجود المسيحي في تلك المنطقة، وأيضًا هجرات الكرد باتجاه مراكز من الداخل، مع تزايد عدد السكان لاسيما في محافظات درعا، وإدلب، وريف دمشق.
وتشير دراسات الأمم المتحدة إلى انخفاض عدد سكان سورية، وانخفاض معدلات الولادة، وارتفاع معدل الوفيات، وتغيير نمط وهوية السكان في مناطق متعددة من أراضي الدولة السورية.