هذا كتاب جاد حقًا، يتناول موضوعات علمية شائكة وقضايا فلسفية معقدة مثل: بداية الخلق والتوحيد وصراع الأجيال، إلا أن الكاتب قد نجح في عرضها بأسلوب سلس وشرح شيِّق بما يجعلها تصل بسرعة إلى مدارك القارئ العادي وغير المتخصص بسهولة ويسر.
الكتاب مكون من عشر رسائل يرويها الكاتب من بداية الكون إلى التوحيد؛ ففي الثلاث رسائل الأولى يتحدث فيهم عن الكوارث المروعة التي تعرضت لها البشرية ومع كل كارثة كانت تنفتح أمامنا نافذة أو فرصة تقربنا أكثر من المسار الذي وصل بنا إلى هذا الزمان، فمنذ 65 مليون سنة اصطدم كويكب عملاق في حجم جبل إفرست بالأرض بسرعة تفوق سرعة الصوت 60 مرة مما أدى إلى حرائق الغابات التي تولد عنهــــا الانفجار الذي جعل الأرض ككتلة لهب، فكأنه مثل التسونامي الهائل الذي اكتسح كل شيء أمامه، النتيجة كانت انقراض 70% من المخلوقات، بما فيها الديناصورات التي عاشت على الأرض أكثر من 150 مليون سنة، أي أطول ألف مرة تقريبًا من وجودنا نحن البشر على الأرض.
أما النوع الذي ننتمي إليه ويُدعى ” الإنسان العاقل “، فقد ظهر في وقت -منذ 300 ألف سنة تقريبًا- أقدم حفرية بشرية للإنسان العاقل عُثر عليها عام 2017 في جبل “إيغود” في المغرب، قبل العثور على هذه الحفرية كان يُعتقد أن نوعنا ظهر للمرة الأولى في شرق إفريقيا منذ 200 ألف سنة .
حيث انطلق أسلافنا من إفريقيا وملؤوا مساحات شاسعة من الكرة الأرضية إلى أن ضربت الكارثة من جديد -منذ 74ألف سنة- انفجارًا هائلًا لبركان ” توبا” قرب سومطرة، خلف وراءه أخدودًا ضخمًا، وأطلق في الجو ملياري طن من حمض الكبريتيك كان هذا وما زال أقوى انفجار شهده الإنسان في تاريخه على الأرض .
ثم ينتقل الكاتب بحديثه بعد ذلك عن الحياة، حيث يقول: “إننا إذا استطعنا فك أسرار الوحدة الأساسية المكونة للحيــاة- وهي الخلية- ربما يصير بإمكاننا أن نفهم طبيعة الحياة ذاتها، بل طبيعة التاريخ البشري كله؛ فالخلايا تكون الأنسجة والأنسجة تكوِّن الأعضاء، والأعضاء تكون أجسادًا بشرية، والبشر ينشِئون مجتمعات يعيشون فيهـــا، والمجتمع الواحد يضم الناس، الوحدة الأولى لكل هذا البناء المركب إذن هي الخلية”.
الخلية وحدة مشتركة بين الكائنات الحية جميعًا من (نبات، وحيوان، وبشر)، ثمة دليل علمي قوي على أن أصل هذا التنوع البيولوجي الذي يملأ عالمنا هو كائن وحيد الخلية كان يعيش في الماء نحو 3,7 مليار نسمة، أي بعد حوالي مليار سنة من تشكيل النظام الشمسي، هذا يعني أن ظاهرة الحياة بدأت مبكرًا على كوكبنا، يرجح العلماء أنها ظهرت عبر تفاعلات كيميائية خاصة جدًا في باطن المحيطات وتحت درجات حرارة عالية جدًا، إلى اليوم ما زال العلماء يجتهدون لفك أسرار هذا الحدث الفريد، لا أحد يعرف بالضبط كيف بدأت الحياة، ما نعرفه هو القصة بعد أن بدأت الحياة، التي اتخذت منعطفات أكثر إثارة .
وعند الانتقال إلى رسالة أخرى يحدثنا الكاتب فيها عن المعلومات والشفرات وهنا يتساءل عن الشركات الأعلى قيمة اليوم في السوق العالمي؟ وتكون الإجابة هي شركة “أرامكو السعودية” هي الشركة الأولى التي تعمل في مجال الطاقة، والشركات التالية لها في الترتيب مباشرة تعمل جميعًا في مجالات أخرى، هذه الشركات هي: (أبل، ومايكروسوفت، وأمازون)، وفي المرتبة الثامنة تأتي شركة ميتا مالكة (فيسبوك، و واتساب، وتليجرام) هذه الشركات تتجاوز قيمتها تريليونات الدولارات، قيمتها الحقيقية ليست في الطوب ولا الحجارة المشيَّدة من مبانيها، ولا الماكينات والأجهزة_ قيمتها الحقيقية في المعلومات، السلعة التي تعيش عليها هذه الشركات وتكسب منها، إنها السلعة الأهم في عالم اليوم، إننا نستخدم فيسبوك مجانًا، فما الذي يحصل عليه في المقابل؟ يحصل على معلومات كاملة عنا وشبكة علاقاتنا وتفضيلاتنا، فالمعلومات مفهوم مجرد، لكنه بالغ الأهمية، ففائدة المعلومات أنها تقلل درجة انعدام اليقين، هي إذن وسيلة مهمة لمواجهة القلق واليقين؛ حيث إن الإنسان وجد نفسه من البداية سجينًا لها، فإذا كنا نعرف مثلًا أن الوحوش تخاف من النار فهذه المعلومة قد تكون هي الفارق بين الحياة والموت بالنسبة لنا، وإذا عرفنا أن بعض الأغذية يمكن حفظها بالتمليح، فيمكن مواجهة أوقات الجفاف… وهكذا .
ثم ينتقل الكاتب بحديثه إلى التكنولوجيا؛ حيث إنها ضرورة حتمية لبقاء أعداد أكبر من البشر على قيد الحياة، من دونها ما كان لكوكبنا أن يتحمل 8 مليارات إنسان على ظهره، ومن حسن الحظ أن التكنولوجيا ليست من الأشياء المادية؛ هي ليست موردًا ناضبًا كالبترول، ولا هي تُستهلك مع زيادة عدد السكان كما يحدث للموارد الأخرى كـ(الغذاء، والمعادن) مثلًا، العكس هو الصحيح، التكنولوجيا لغرابة الأمر، تزدهر وتنمو مع زيادة السكان، كلما كانت أعداد البشر أكبر في مجتمع ما، تعاظمت فرص ظهور المبتكرين الذين يأتون بأفكار جديدة، وتنتشر التكنولوجيا بالنسخ والتقليد، ومن خصائص التكنولوجيا كذلك أنها تتوالد من رحم بعضها، عندما تخترع الخيط مثلًا لحياكة الثياب، فإن أحدهم سوف يكتشف لاحقًا إمكانية استخدامه في صناعة شبكة لصيد السمك، وثالثًا سوف يرى فيه إمكانية لعمل خيمة أو شراع مركب، فكرة واحد تفتح آفاقًا بلا حدود للتكنولوجيا .
وبالنسبة للرسائل من الرابعة إلى السادسة يشير فيهم الكاتب إلى رأى الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبر” (1588-1676) ،حيث تصور أن وضع البشر في حالة الطبيعة الأولى وقبل ظهور المجتمعات سوف ينحدر بالضرورة إلى حالة عنف ” الجميع ضد الجميع ” هو لا يقول إن ذلك راجع لطبيعة عنيفة متأصلة فينا، الموضوع يتلخص ببساطة في الشك، نحن لا نستطيع أن نثق في الآخرين ولا في نواياهم؛ لأننا ببساطة نعرف أنهم قد يفكرون مثلنا .
فهذا الموقف المعقد يتكرر في عالمنا المعاصر بصور مختلفة، على سبيل المثال: فإن السلاح النووي هو دليل ساطع على الحماقة البشرية، التفكير المنطقي لابد أن يدفع الدول للتخلي عن هذا السلاح فضلًا عن آثاره التدميرية، فإنه سلاح مكلف- خاصة أنه على الأغلب لن يستخدم – الأوْلى أن تُنفق الدول الأموال على ما ينفع الناس ويسعدهم، بدلًا من القنابل المكدسة لدمار العالم، أغلب الظن أن هذا التفكير قد ساور قادة القوتين النوويتين الأعظم بعد الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي)، واللتين دخلتا في منافسة ضارية لعدد من السنوات لمراكمة أعداد أكبر من القنابل النووية، واتباع وسائل إيصالها للعدد الأكبر، هو ما يبدو تفكيرًا منطقيًّا تمامًا، سيفكر الأمريكيون مثلًا على هذا النحو، لو أننا تخلينا عن السلاح النووي وتخلى عنه الخصم السوفيتي فهذا وضع جيد، ولكن لو أننا تخلينا عن السلاح ولم يتخل عنه الطرف الآخر فإننا نعرِّض أنفسنا للفناء أو الخضوع لإرادة الآخرين. من ناحية ثالثة لو احتفظنا بالسلاح النووي واحتفظ به الطرف الآخر، يتحقق توازن يردع كلينا عن البدء في الهجوم، ولو احتفظنا بالسلاح وتخلى عنه الطرف الآخر فقد صارت لنا اليد العليا النتيجة المنطقية؛ لأننا نستطيع التيقن من نوايا الآخر فعلينا أن نحتفظ بالسلاح النووي في كل الأحوال .
ثم يقول الكاتب: “إن النظام الوحشي المسمى بالحرب لعب دورًا هائلًا في دفع الابتكار والتكنولوجيا، سباق التسلح ظاهرة مهمة ومحرك رئيس للأحداث في العالم؛ فكثيرًا ما ابتكرت تكنولوجيا معينة للأغراض الحربية، ثم أظهرت لنا تطبيقات أهم كثيرًا في النشاطات الأخرى العادية، الجيل الأول من الكمبيوتر ظهر في الحرب العالمية الثانية من أجل كسر الشفرة الألمانية، بفضل المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أفرزت الحرب الباردة فورة في الابتكار التكنولوجي (الإنترنت، ونظام “الـ GPS”، والهاتف النقال)، كلها تكنولوجيات ذات أصل عسكري تحصلت عليها وكالة الأبحاث المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية وبعد انتهاء الحرب أُفرج عن هذه الابتكارات وتوجهت إلى المجال الاقتصادي المدني، فورة النمو الاقتصادي خلال عقد التسعينيات، وإلى يومنا هذا تعود أصولها إلى هذه الابتكارات” .
أما الرسائل من السابعة إلى التاسعة فيتحدث فيهم الكاتب عن السلطة بشكلٍ عام ويتساءل عن كيف يصير البعض أصحاب سلطة بينما ترضى الأغلبية بدور التابع ؟ والإجابة كانت أن السلطة تتحقق بطريقة توافقية من أسفل لأعلى تمامًا كما يظهر في جميع المجتمعات، فالناس يقبلون السلطة لأنهم يحرزون من ورائها منافع الأمن الشخصي، والحفاظ على الملكية واستقرار المجتمع الذي يعيشون فيه .
أيضًا الأسباب التي دفعت البشر للقبول بسلطة آخرين عليهم في هذا الزمن البعيد هي ذاتها تقريبًا الأسباب التي تحمل البشر على القبول بسلطات الحكومات إلى اليوم، وأصحاب السلطة هم الطرف الرابح في هذه المعادلة، وما أن يستتب الأمر لهؤلاء في مجتمع من المجتمعات حتى يعمدون إلى تعزيز سلطانهم والحصول على مزيد من النفوذ والسيطرة على الناس والموارد .
ثم يضيف: “أن من يريد الحفاظ على السلطة لا مناص أمامه من اللجوء إلى درجة معينة من الإجبار، معنى السلطة ذاته متصل بالإجبار، وأحيانًا بالعنف، من يمارس العنف والإجبار بعض الأفراد الذين يعملون لدى صاحب السلطة ويتحالفون معه، هؤلاء ليس لديهم سلطة فعلية أنهم يستمدون قوتهم من نفوذ صاحب السلطة الأصلي- شيخ القبيلة، أو زعيم القرية،… أو الملك عندما يتوسع حجم المجتمع بالتدريج”.
أما أي نظام للسلطة- مهما كان ظالمًا- يسود قدر من اليقين والقدرة على التنبؤ بمسار الحياة ، أما عندما تسود الفوضى فلا يمكنك التنبؤ بما يحدث .
إلا أن أغلب الثورات عبر التاريخ اندلعت شرارتها بسبب إفراط الحكومات في تحصيل الجباية، الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر أصلها صراع بين الملك والبرلمان حول الضرائب، والثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر اشتعلت بسبب ضرائب فرضها الإنجليز على الشاي مثلًا ، مع ذلك بإمكان الدول تجنب الثورات إن هي استطاعت .
ثم ينتقل الكاتب بحديثه إلى الابتكار في عصرنا، فخلاصة الابتكار في هذا العصر هو حديث عن مدى جدوى الابتكار، فمن يقوم بالابتكار يسعى بالأساس لجني ثمرته، عندما يشعر الناس بأن التغييرات لا تحدث سوى ببطءٍ شديد، فإنهم لا يقدمون الابتكار لأنهم يعرفون أنهم لن يجنوا ثمرة أفكارهم المبدعة في حياتهم، فبطء التغيير مشكلة في ذاته، ولكن المشكلة الأكبر هي أن يُشاع الامتناع بعدم جدوى الابتكار، فهل لزامًا على صاحب فكرة الفيسبوك أن ينتظر خمسين أو مئة عام قبل أن يرى ثمرة اختراعه.
فمن الواضح أن المجتمعات التي أقامها البشر حتى هذا التاريخ ظلت -على تركيبها وتعقيدها- بعيدة عن تجاوز عتبة معينة تسمح بكسر الشفرات التي يعمل على أساسها العالم الطبيعي، ومن ثم توليد مبتكرات جديدة، من دون مبتكرات تكنولوجية، تظل المجتمعات عرضة لدورات متتالية من الازدهار، ثم التفكك والتحلل والتراجع إلى وحدات أبسط، والبساطة هنا تعني أعداد أقل من البشر، وتنوع أقل في الأنشطة التي يقومون بها (الوظائف والحرف)، وأيضًا علاقات أضعف وشبكات أوهى فيما بينهم.
الابتكار هو عملية إبداعية لكسر الشفرات باستخدام المعلومات، فالابتكار يقوم عليه فئة من البشر، وكي يظهر هؤلاء بكثرة في المجتمع يقتضي الأمر توفر عدد كبير من العقول ومن المهم أيضًا أن تعمل هذه العقول معًا بصورة أو بأخرى، أن تكون متصلة ببعضها بعضًا، وأن تتناقل المعلومات فيما بينها بصورة أسرع بحيث تبني أفكار بعضها البعض، وهكذا فقط يتم التغيير الجوهري والحاسم في نمط الحياة، هكذا تحافظ النظم الاجتماعية الكبرى على نفسها، ولا تواجه سقوطًا لأعظم الإمبراطوريات مثل: روما مثلًا.
أما الرسالة العاشرة والأخيرة فهي تثير موضوع خطير وتحدث عنه الكاتب بكل جرأة، وهو موضوع يتعلق بالتوحــــــيد، حيث يقول: “أن هناك ملاحظة واضحة جدًا هي غياب مفهوم مهم عن الأديان الآسيوية (الكونفوشية، والبوذية) من فكرة الإله ! في هذه الأديان لا يوجد إله خالق للعالم، والبوذية أيضًا لا تهتم بقصة خلق العالم، أو من خلقه، حتى في الهندوسية لا يُعد ” براهمان” إلهًا، بل قوة كونية تتغلغل في الوجود كله” .
أما الأديان التوحيدية فشأن مختلف، أنبياؤهم لم ينقلوا للناس أفكارهم هم – كما فعل “كونفوشيوس” و ” بوذا”- وإنما حملوا رسالات من قوة عُليا خارج العالم وتتجاوز قدرتها كل شيء على الأرض؛ لأنها قوة الخالق .
ويختلف الأنبياء عن الفلاسفة في شيء جوهري، هم يتصلون بقوة عليا في السماء للحصول على حقيقة مطلقة وكاملة، ويبشرون بهذه الحقيقة العليا في مجتمعاتهم، هم أيضًا يختلفون عن المنجمين أو العرافين، إذ أن قوة الأنبياء وتأثيرهم مستمدان من إيمانهم بالمصدر السماوي للرسالة، وكذا من تصديق عدد كبير من الناس لهم .
فجوهر الأديان هو التصديق في شيء حتى بدون دليل مادي، فالتيقن من الشيء عندما تراه أمامك أو تلمسه بيدك، الأديان التوحيدية تطالبك بالتيقن مما لا يمكنك رؤيته على الإطلاق، وهو الله، هذا اليقين الذي لا يخامره أي شك، هو الركن الأساسي في الديانة التوحيدية كافة، ويظل الإيمان في الأساس حالة روحية تتعلق بالتصديق، حتى الأحداث والظواهر تبدو منافية للعقل ولقانون الطبيعة كما نعرفه في حياتنا العادية، بل أن يجعل الإيمان الديني مخالفًا عن أي شعور آخر هو ذلك التصديق في تلك الظواهر المستحيلة والخارقة للطبيعة التي لا يخلو دين توحيدي منها، بدرجات متفاوتة والتي تسمى بالمعجزات .
فالأديان ليست محاولة للكشف عن طبيعة العالم مثل: (الفلسفة، أو العلم)، هي نظام روحي وعملي نعيش به وفي كنفه وبإلهامه، ليست مجرد وجهة نظر في الأشياء أو رأي في مسألة من المسائل. الأديان التوحيدية هي تفسير كامل للعالم، وخطة شاملة لكيفية العيش، هي تخاطب الناس في كل الأزمان وليس في وقت محدد، هي لا تعرف الزمان أو المكان؛ لأنها قادمة من خارج الزمان والمكان، وبرغم أنها تستند إلى الإيمان بأحداث وقعت في تاريخ محدد ومكان معين، إلا أنها تدعونا للاسترشاد بهذه الأحداث في الحياة في كل الأزمنة .
فنصوص الأديان التوحيدية جُمعت في كتب مقدسة (ولذلك فالمؤمنون بها أهل كتب)، عالمك الكلمات المكتوبة ليس عالمًا بسيطًا، والنص المقدس يحمل المؤمنين به على التوجس من التغيير، فالنص ثابت، والزمن بطبيعته متغير. من جانب آخر، فإن اعتماد الأديان التوحيدية على النصوص المقدسة المكتوبة شجع على تعلم القراءة والكتابة، لذلك فإن هذه الأديان، ولفترة طويلة جدًا، كانت خاضعة للبحث والتفكير، بل للعلم والفلسفة- التمييز بين العلم والدين هو تطور حديث جدًا حدث من 300 سنة فقط لقرون طويلة ظل العلم والدين شيئًا واحدًا تقريبًا في مختلف الحضارات .
إن الحضارات التي تأسست على هذه الأديان الكبرى فيما بعد، وضعت النص المقدس في القلب من ثقافتها دراسة النص، وأحيانًا حفظه، تبدأ عادة من مرحلة الطفولة، وتشكل اللبنة الأساسية في عقول المتعلمين، الذين يصير بعضهم فيما بعد فلاسفة وعلماء سواء في علوم الدين أو في غيرها، وبعبارة أخرى فالنص المقدس يصير هو”الشفرة الكبرى” التي تفسر العالم ، وتنظم سلم القيم في المجتمع .
ثم يضيف الكاتب: “إن النتيجة الأخرى لبناء الدين على أساس الكلمات هي الاختلاف حول تفسير الكلمات، وتعدد التأملات والأفكار حول تأويلها ودلالاتها، في داخل كل من هذه الأديان الثلاثة هناك تفسيرات متعددة للغاية للنص الواحد، على أن هناك – عادةً – خطًّا فاصلًا بين من يقرؤون من النص بحرفيته، وهؤلاء هم المحافظون أو الأصوليون، ومن يقرؤونه في ضوء الواقع في الزمان الذي يعيشون فيه، وليس في زمن نزول النص نفسه، وهؤلاء هم المجددون أو المصلحون” .
لم يخلُ دين التوحيد من هذين التيارين الكبيرين، وتفرعت من كل تيار فرق وأفكار شتى، الخلاف في داخل الأديان التوحيدية، وبين هذه الأديان وبعضها سيكون قصة رئيسة في تشكيل العالم الذي نعيش فيه اليوم .
وينهي الكاتب حديثه في الخاتمة بقوله: ” لقد بدأ كل شيء من وصلات جديدة في أدمغتنا جعلتنا نرى العالم بصورة تختلف من أي كائن آخر، واليوم نقترب من “اصطناع” آلات تحمل من الوصلات ما يمكنها من رؤية العالم ، ربما بصورة أفضل منا، ويتساءل هل هذا هو مصيرنا ؟ هل الرحلة مقصود منها أن نصل في النهاية إلى وعي إلكتروني يفوق وعينا البشري ؟ هل تكون قصتنا الطويلة على الأرض مجرد بداية وتمهيدًا لقصة أخرى لا تقل إثارة ؟ هل يمكن أن يكون زماننا هو الزمان الأخير للهيمنة البشرية على الكوكب ؟”.
وهكذا يصل بنا هذا الكتاب القيم إلى الاستخلاصات التالية :
- إن الكوارث على مر العصور تركت أثرًا غائرًا لدينا كبشر وغرست بداخلنا شعورًا دائمًا بعدم اليقين والخوف من المجهول، إلا أن الكوارث والتهديدات المستمرة رفعتنا إلى ارتياد طرقًا ومساراتٍ انتهت بنا إلى إبداع الحضارة التي ننعم اليوم بثمارها .
- القلق والخوف هما صانعا الحضارة البشرية الحقيقيان، البشر وجدوا أنفسهم منذ اللحظة الأولى في مواجهة هذا الصديق الثقيل الذي يفرض نفسه علينا وهو القلق فكل ما فعله البشر عبر رحلتهم على الأرض لم يكن سوى محاولات متواصلة لتقليص مساحة انعدام اليقين في حياتهم، فعقولنا تكره انعدام اليقين، فالحل كان السعي للحصول على معلومات تطمئننا، كما نفعل اليوم بتصفح الإنترنت بحثًا عن آثار كورونا على المدى الطويل، تلك كانت البذرة الأولى لكل نشاط بشري من أجل فهم العالم المحيط ، هذا ما نسميه اليوم بالعلم .
- العلم قد أوصلنا إلى اصطناع آلات تمكننا من رؤية العالم بصورة أفضل من رؤيتنا للأشياء، فهل تلك الرحلة التي نحن بصددها المقصود منها أن نصل في النهاية إلى وعي إلكتروني يفوق الوعي البشري؟ هل تكون قصتنا الأولى على الأرض مجرد بداية وتمهيدًا لقصة أخرى لا تقل إثارة ؟ هل يكون زماننا هو الزمان الأخير للهيمنة على الكوكب؟ كيف وصلنا إلى هذه النقطة ؟ وكيف تحول العالم القديم إلى عالمنا الذي نعيش به اليوم ؟ وإلى أين تأخذنا الرحلة ؟