2023العدد 193عروض كتب

تأثير البيئة الداخلية في تغيير سياسة روسيا تجاه الاتحاد الأوروبي

في أعقاب نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في ديسمبر 1991، حدثت سلسلة من التطورات مسَّت علاقة روسيا الاتحادية (وريثة الاتحاد السوفيتي) مع الغرب بشقيه (الأمريكي، والأوروبي)، كان من شأنها أن نقلت -حسب المحللين والدارسين- هذه العلاقة من مرحلة العداء والصراع الأيديولوجي التي سادت الحرب الباردة إلى مرحلة جديدة قائمة على أساس التفاعلات التعاونية والمشاركة والتنسيق، وقد اختلفت المقاربات والنظريات في تقديم تبريرات وتفسيرات نهائية حول أسباب التقارب والنهاية الفجائية السلمية للحرب الباردة، بل إن هذا الحدث شكل حسب فريق من الدارسين عجز بالنسبة للمقاربات التقليدية التي سادت تلك المرحلة -وخاصة الاقتراب الواقعي والعلاقات الدولية – في تقديم تفسير مقبول حول هذا التحول في سلوكيات الفواعل وخاصة من الجانب الروسي، الذي أبدى تغييرًا وصف بـ”العميق” في توجهات سياسته الخارجية نحو (الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة) .

ويعتبر التحول الذي عرفته روسيا على مستوى سياستها الخارجية من المواضيع التي أثارت نقاشًا واسعًا حول الأسباب والمتغيرات المفسرة لهذا التطور؛ حيث ذهب فريق من المنظرين إلى تفسيره بالتحولات في طبيعة النظام الدولي وهيمنة القيم الغربية الليبرالية مما جعل روسيا طرف مهم  يتبنى هذه القيم المفروضة من البنية الخارجية في حيث يذهب فريق آخر من الدارسين والمنظرين -على غرار النظرية البنائية- للتأكيد على أهمية ودور التحول في أفكار ومعتقدات وقيم النخب الحاكمة في فهم هذا التحول في السلوك الروسي، الذي يأخذ أبعادًا داخلية اشتملت على سلسلة من التحولات والتغيرات كان لها أثر مباشر على توجهات روسيا الخارجية خاصة نحو دول الاتحاد الأوروبي، والذي يحاول الكاتب في مرجعه هذا إلى إلقاء الضوء على قضية تأثير ودور متغيرات البيئة الداخلية الروسية على توجهاتها الخارجية نحو الاتحاد الأوروبي لفترة ما بعد الحرب الباردة .

أما بالنسبة للكتاب فهو مكون من أربعة فصول، الفصل الأول والثاني: يتحدث فيهما الكاتب عن متغيرات البيئة الداخلية التي تؤثر على السلوك الخارجي للدول من خلال عرض لهذه المتغيرات حسب ما تناولتها النماذج النظرية التي قدمت في هذا الصدد، فقد حاولت نظريات السياسة الخارجية باستمرار شرح وتفسير التغييرات في مسار سلوك دول تجاه دول أخرى، محاولة تقديم أُطر نظرية متكاملة ومقبولة لفهم سلوك الدول، لكن المنظرين في هذا الصدد لم يتفقوا على طرح موحد لتحديث المتغيرات المحددة والمفسرة لسلوك الدول، فمعظم المحاولات النظرية تأتي في إطار خلق سباق عمل الفرضيات، يكون ملائمًا لتفسير طبيعة وحدود عمل السياسة الخارجية .

فبالنسبة لمتغيرات البيئة الداخلية المؤثرة على السياسة الخارجية للدول فمثلًا ما كان عليه الأمر في فترة الحرب الباردة، استمر الباحثون في بحث تأثير السياسات الداخلية على السلوك الخارجي للدولة، وقد قام بعض الباحثين بفحص كيفية تأثير جماعات المصالح في خيارات الدولة بحيث تقودها إلى سياسات خارجية غير متوقعـــــــة .

ثم ينتقل للحديث عن موضوع آخر عن أيهما أفضل (النظام البرلماني، أو النظام الرئاسي)، والأفضل بالنسبة لرسم سياسة خارجية متسقة ومترابطة فيختلف الدارسون حولها، حيث يرى بعضهم أن النظام الرئاسي أكثر قدرة على رسم تلك السياسات بسبب انتظام الانتخابات واستمرارية السياسة الخارجية الروسية وفق نمط واحد هو قدرة الرئيس على استغلال طول الفترة الزمنية لرئاسته لفرض توجهاته الخارجية، كذلك رئيس السلطة التنفيذية يضمن بقاءه في منصبه أربع سنوات على الأقل، وهو لا يخشى السلطة التشريعية لأنها لا تستطيع أن تسحب الثقة منه ومع ذلك، فإن هناك عوامل تؤدي إلى استمرار السياسة في النظام البرلماني، ومن هذه العوامل وجود أحزاب سياسية على درجة كبيرة من الانضباط، وبما أن رئيس الوزراء يتمتع بأغلبية برلمانية فإنه يستطيع الاعتماد على التأييد المستمر للسياسات التنفيذية ولا يحتاج إلى تعديلها؛ لأنه يضمن عدم رفضها من البرلمان .

أما عن الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية على مراكز صنع القرار كبيروقراطية مؤثرة إذا اشتركت مع رئيس الدولة في الخلفية العسكرية، بحيث يتعين تحليل العلاقة بين الجهات المدنية والعسكرية في أنظمة الحكم المختلفة الشمولية منها، والديمقراطية، ونجد في هذا السياق الفرضية التي تؤكد بأن هناك علاقة أحيانًا تكون إيجابية بين القوة العسكرية للدول وسياساتها الخارجية النزاعية، ولقد دلت الدراسات بأن الدول الكبرى، ذات القدرات العسكرية والدبلوماسية، كانت أكثر الدول اشتراكًا في الحروب ويزداد أثر المؤسسة العسكرية على مراكز صنع القرار كبيروقراطية مؤثرة إذا اشتركت مع رئيس الدولة في الخلفية العسكرية، بحيث تتوافق المصالح ويجد العسكريون مجالًا للتأثير على قرارات الدول الخارجية بحكم علاقتهم الجيدة مع الرئيس، وقد مثل الاتحاد السوفيتي سابقًا نموذجًا واضحًا لارتباط السياسة الخارجية السوفيتية بتأثير العسكريين داخل الدولة .

وهناك من يتصرفون بطرق تتسق مع المعايير الاجتماعية لكل بلد بشكلٍ شرعي ومقبول في التعامل مع البيئة الدولية، وهذا ما يبرز بين سياسة خارجية لدولة عن أخرى، ويجعلنا نفهم أن كل سياسة خارجية هي متميزة ومنفردة فمثلًا دول مثل: (أمريكا، وفرنسا، وزيمبابوى) تحمل في داخلها تكوينة وتنشئة اجتماعية ما، يفعل فيها الأفراد ما يريدون وفق ما يجب أن يقوموا به، وكما تخبرهم تصوراتهم الاجتماعية، فالدولة -في سلوكها الخارجي من خلال الحكومة- هي تعبير عن أفراد في بناء اجتماعي محدد، وفق مفهوم الوكالة، فالوكلاء من يمثلون الدولة خارجيًّا، بحيث إنهم يفعلون أي شيء من أجل تحقيق أهداف تلبي احتياجات وأمنيات الأفراد، في ظل الظروف المادية القائمة، ولكل مجتمع قواعده التي تملي على الوكلاء الأهداف ذات الأولوية ، وهنا يظهر أثر عمليات التنشئة الاجتماعية التي تبث المعايير والمبادئ الاجتماعية في وكلاء الدول الذين يصنعون قرارات السياسة الخارجية للدول .

ثم يتناول الكاتب بعد ذلك مظاهر التفاعل بين (روسيا الاتحادية، والاتحاد الأوروبي) على الصعيد (الاقتصادي، والأمني، والعسكري) باعتبارهم أهم المجالات في علاقة الطرفين في القيادة الروسية (الرئيس بوتين)، تنطلق من أن هناك شراكة إستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي والغرب عمومًا، بحيث تمثل توجهًا في السياسة الخارجية الروسية  الآن، هذا لا ينفي وجود تناقضات و خلافات بين الطرفين؛ فمجموعة من القضايا المتعددة التي تشمل المجال الاقتصادي وكذلك الأمني العسكري .

وظلت العلاقات بين (روسيا، والاتحاد الأوروبي) منذ عام 1994 قائمة على اتفاقية “الشراكة والتعاون”، والتي وضعت موضع التنفيذ رسميًّا عام1997 ، حيث تم العمل بها بشكلٍ متواصل العشر سنوات ومن ثم باتت تخضع للتجديد السنوي منذ عام 2007 ، ولا تزال الاتفاقية تشكل أساسًا شرعيًّا للعلاقات بين (الاتحاد الأوروبي، وروسيا)، وتتحدث روسيا والاتحاد الأوروبي عن ضرورة اتفاقية جديدة تعكس مستجدات الواقع المعاصر، كما أكدت روسيا أكثر من مرة رغبتها في تطوير الشراكة الإستراتيجية بين جيرانها الأوروبيين، ودعوتها لصياغة معاهدة قاعدية جديدة بينها وبين أوروبا.

تعتمد روسيا على سياسة برجماتية في تحديد مواطن التعاون والمنافسة حسب ما تقتضيه المصلحة الوطنيــة دون الدخول في مواجهة أو صراع مباشر مع الطرف الأوروبي باعتباره شريك مهم لتحقيق أهداف روسيا الداخلية والخارجية، وتبقى علاقات روسيا مع الاتحاد الأوروبي غير مستقرة على وضع دائم، فمن جهة تعتبر روسيا الاتحاد الأوروبي عميل تجاري واقتصادي ضخم لروسيا، ومن جهة أخرى تبرز باستمرار الكثير من الخلافات سواء حول المسائل الروسية الأمنية أو احتمال الاقتصادية .

وعلى كلٍ فالسياسة الروسية تبدو أكثر برجماتية وأكثر تحررًا من القيود الأيديولوجية، ويظهر ذلك مع وضعها معيارًا موضوعيًّا للتعاون مع الاتحاد الأوروبي ألا وهو النافع الاقتصادي من التعاون في أي مجال بما في ذلك المجال العسكري، كما أن زوال التناقض الأيديولوجي الذي كانت تحكمه المبادئ الماركسية بين (روسيا، والاتحاد الأوروبي)، وتحول مسار العلاقة بينها من الصراع والتنافس بمفهومه الصراعي إلى مفهوم الشراكة الإستراتيجية القادرة على احتواء الخلافات وتسويتها على النحو الذي يضمن لروسيا حماية مصالحها وأمنها القومي دون اللجوء للمواجهة العسكرية المباشرة التي قد تهدد استمرار علاقاتها التعاونية مع الطرف الأوروبي، الذي يجب أن يبقى لدى روسيا كشريك إستراتيجي مهم .

فعلى الرغم من تزايد نفوذ روسيا في أسواق الطاقة العالمية، وتحكمها بشكلٍ كبير في أمن الطاقة الأوروبية_ يبقى هذا النفوذ ذا طابع اقتصادي إلى حدٍ كبير، ويتعلق بالتحكم في أسعار النفط على وجه الخصوص باعتباره موردًا مهمًا وإستراتيجيًّا لاقتصادها القومي، ويبقى نطاق استخدامه كأداة للضغط على الطرف الأوروبي محدود في ظل الظروف القائمة التي تحكم علاقة الطرفين، والتي تفرض على روسيا ضرورة الحفاظ على مسار التعاون مع أوروبا لأهميتها بالنسبة لروسيا .

أما الفصلان الثالث والرابع: فيتحدث الكاتب فيهما بداية عن مكونات البيئة الداخلية المؤثرة في صنع السياسة الخارجية الروسية نحو الاتحاد الأوروبي، حيث عرفت السياسة الداخلية الروسية سلسلة من التحولات الجذرية الروسية أعادت على أثرها صياغة سياستها الخارجية في مرحلة جديدة للقدرة على التكيف وعلى وضع أولويات جديدة في توجهاتها وأهداف واقعية تتناسب وظيفة هذه التحولات الجديدة التي مست بنية وهيكل النظام الدولي الجديدة، وقد أثيرت التساؤلات التي طرحت جانبًا كبيرًا من الغموض في أسباب هذا التحول في شكل ومضمون السياسة الخارجية الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، كما لم تعرف تجانسًا وتوافقًا في نفس هذه المرحلة التي تلي الانهيار، بحيث تم ملاحظة تحول كبير في مسار السياسة الخارجية الروسية نحو أوروبا والغرب ما بين الفترة التي تولى فيها الحكم يلتسين، والمرحلة التي تلتها مع حكم بوتين .

فانهيار الاتحاد السوفيتي وأيديولوجيته الماركسية، وظهور روسيا كدولة منفصلة مستقلة وتحديات ما بعد الحرب الباردة، فرضت على روسيا إعادة تعريف مصلحتها الوطنية وإقامة تعديلات جوهرية حول مفهومها للإستراتيجية الدولية، ومن ثم تحديد أولويات سياستها الخارجية من (المنظرين، والخبراء، والممارسين الروس)، والذي تجسد في شكل حوار بين مدارس نظرية تختلف في أسسها المفاهمية ومقاربتها للقضايا الدولية.

ويشير الكاتب بعد ذلك في هذا الإطار إلى أهمية مفهوم النخبة في تفسير السلوك الخارجي الروسي بحيث تمثل النخبة المصدر الأساسي لتجنيد المناصب العليا والحساسة في الدولة، وقد تؤثر في عملية اتخاذ القرار، وبخاصة إذا لاقت هذه الآراء والانتقادات صدى لدى الشارع الروسي، كما أنها تعتبر الإطار العام الذي يشمل مختلف مكونات البيئة الداخلية الروسية بما فيها منصب الرئيس ومعاونيه، وكذلك الأحزاب السياسية، وكذلك معظم مكونات البيئة الداخلية .

أما عن بوتين والتصور الجديد لهوية روسيا، فقد تحرك تحت حكم بوتين تعريف هويتها الجديدة دوليًّا ومحليًّا، لكن في ظل غموض يكتنف تلك المحاولات (غموض انتقالي)، فمن جهة يساعد هذا الغموض في المحافظة على استمرارية عهد يلتسين وما قبل يلتسين، ويلعب دور المسترضي لأولئك الذين يرغبون للعيش في الماضي، وعلى هذا الأساس أصبح عاملًا أساسيًّا للمحافظة على التوازن. أما من جهة أخرى، فهو يمنع روسيا من القيام بعملية تحول أكثر قوة، مع كل من يرافقها من تواترات حتمية .

في الفترة الثانية من رئاسته، بدأ فلاديمير بوتين في تقليص التناقض المتعلق بمسلكه بالذات، وذلك بانتقاله من سياسة تحاكي سياسات الغرب إلى أساليب أكثر سلطوية، وإبداء تشكك أكبر تجاه شركائه الغربيين، وبدأت تظهر ملامح سياسة جديدة هادفة إلى تقوية مكانة روسيا في النظام الدولي واستعادة مجدها الضائع، وشكل هذا مؤشر على عودة الهوية الروسية الخاصة والمتفردة التي تحدد مصالحها في علاقاتها الخارجية .

وقد أحدث بوتين تحولًا داخليًّا في إدراكه لهوية الدولة الروسية، من حيث إنها دولة عظمى، وعلى هذا الأساس يتحدد طبيعة سلوكياتها الخارجية كقوة عظمى وليس مجرد دولة عادية كما أقر بذلك يلتسين من قبله، وفي أحد خطاباته للشعب الروسي تحدث الرئيس بوتين عن انهيار الاتحاد السوفيتي باعتباره كارثة كبرى أدت إلى تراجع روسيا عن دورها والتزاماتها تجاه الدولة السوفيتية السابقة على نحو أتاح الفرصة للغرب والولايات المتحدة الأمريكية للتدخل في الشؤون الداخلية لها، وقال: “إن التغلغل الأمريكي في مناطق نفوذ روسيا يهدد مصالحها وأمنها القومي، وحرصت روسيا على تعزيز وجودها ومكانتها الإقليمية والدولية، ومواجهة التغلغل الأمريكي المتزايد في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز من خلال تدعيم علاقاتها بالعديد من الدول الكبرى المرشحة لكي تكون قوى عظمى على الساحة الدولية مثل: (الصين، والهند، وبعض دول الاتحاد الأوروبي)”.

ثم يسلط الكاتب الضوء بعد ذلك على أهم وأبرز التحولات التي عرفتها السياسة الخارجية الروسية في فترة ما بعد الحرب الباردة، بحيث يبدو جليًّا أن سمات هذه السياسة قد تحولت بشكلٍ كبير عما عرفته خلال الحرب الباردة، كما أن شكلها لم يعرف تجانسًا طيلة الفترة التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي وحتى يومنا الحالي، فقد عرفت السياسة الخارجية في علاقتها مع الغرب العديد من التقلبات، ترجع الأسباب المباشرة في ذلك إلى طبيعة وحجم التسرع الذي عرفته روسيا على مستوى بنية مموناتها الداخلية على كافة الأصعدة -وخاصة على صعيد التحولات الاقتصادية والسياسية، فتحول شكل القيادات والمؤسسات الرئاسية بشكلٍ أكبر، لذا فقد تراوحت توجهات السياسة الخارجية الروسية خلال الفترة الممتدة من ظهور روسيا الاتحادية وحتى المرحلة الحالية بين توجهين رئيسيين هما :التوجه الأوروأطلنطي، وآخر أوراس جديد .

ثم يقدم الكاتب تحليل عن أثر هذه التحولات على مضمون التوجه الروسي الجديد نحو دول الاتحاد الأوروبي ، مبينًا للأثر النسبي للمتغيرات الداخلية مع التركيز على أثر ” الرئيس” نظرًا لما يتمتع به من صلاحيات واسعة النطاق على غرار باقي المكونات الأخرى داخل روسيا في التأثير على صنع وتنفيذ القرارات الخارجية وذلك من خلال الإجابة على السؤال التالي :-

كيف أثرت التحولات الداخلية التي شهدتها روسيا بعد نهاية الحرب الباردة بين عهدي (يلتسين، وبوتين) على أولويات السياسة الخارجية الروسية نحو الاتحاد الأوروبي؟

ويجيب الكاتب من منطلق الفرضيات منها :-

أن عوامل الاستقرار الداخلي التي اتسمت بها مرحلة حكم يلتسين أسفرت عن ظهور التحولات الداخلية ومصادر الاستقرار الاقتصادي والسياسي في مرحلة بوتين إلى بروز سياسة خارجية ضعيفة وتابعة غير مستقرة، بينما أدت ظهور التحولات الداخلية  ومصادر الاستقرار الاقتصادي والسياسي في مرحلة بوتين إلى بروز سياسة خارجية قوية وفعالة تعكس استقلاليتها وفعاليتها في تجسيد المصالح القومية الروسية .

أثرت التحولات الداخلية ومؤشرات الاستقرار والنمو الداخلي في عهد بوتين على طبيعة توجه روسيا نحو الاتحاد الأوروبي من سياسة خارجية متعاونة تعتمد على التطبيع غير المشروط مع الغرب إلى سياسة خارجية تجاوزت هذه العلاقة التعاونية لتدخل مرحلة علاقات إستراتيجية تجمع بين التعاون والشراكة من جهة، والصراع والتنافس واستعادة مكانة روسيا المستقلة عن الكيان الأوروبي من جهة أخرى .

يعتبر الرئيس بانتماءاته الفكرية (أوروأطلنطي، وأوروآسيوي) أبرز وأهم قوة سياسية داخلية مؤثرة على طبيعة العلاقة الخارجية مع الاتحاد الأوروبي مقابل باقي المتغيرات الداخلية الأخرى .

وعلى كل ذلك فيعتبر أهم ملامح ضعف السياسة الخارجية الروسية سياسة التطبيع مع الاتحاد الأوروبي، وتطبيقًا له فقد سعت روسيا إلى طمأنة الغرب على نواياها من خلال تقديم التنازلات من جانب واحد والنزع الأحادي للسلاح، والتعاون العسكري مع الغرب، وتوقيع معاهدة سالت 2، وتعاون روسيا في الأمم المتحدة والامتناع عن استخدام الفيتو، بل إن روسيا -رغم كل روابطها مع الغرب- صوتت لمصلحة العقوبات الاقتصادية ضد يوغوسلافيا حول أزمة البوسنة، كل هذا كان لإثبات أن روسيا نبذت بشكلٍ حاسم مناورات الحرب الباردة، وأنه يمكن الاعتماد عليها في بناء عالم ونظام دولي جديد .

    ملامح ضعف روسيا الداخلية على المستوى الاقتصادي جعلها تسعى للاعتماد على المساعدات الغربيــــــــــة، مما وضعها في موضع ضعف أمام الدول الأوروبية على مستوى الموقع التفاوضي ولم توضح فيها خطط التنمية الذاتية من الداخل كما طبقت في المرحلة القادمة مع بوتين، مما جعل روسيا تُوصف بالدولة التابعة غير المستقلة عن سياسات الاتحاد الأوروبي .

    ضعف روسيا في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي كان ناجمًا عن إدراكها لهويتها أو مكانتها من الداخل لدى صانعي القرار الليبراليين الذين قبلوا فكرة الاندماج غير المشروط مع الغرب، وكذلك القبول بفكرة التفوق الغربي وأن قيمه قد سادت العالم ولابد من التعامل مع هذه التطورات بشكلٍ عقلاني يضمن لروسيا البقاء في عالم متغير، لذلك انطلق هذا الاتجاه من مقولة الاعتراف بأن روسيا أصبحت دولة عادية، أي أنها إحدى القوى الكبرى في النظام العالمي، وليست أحد ركني النظام، ويتطلب ذلك التخلي عن تطلعات العظمة والهيمنة وأن تتبع سياسة تتفق مع هذا الواقع الجديد.

على أساس ما سبق أعلنت روسيا حل حلف “وارسو” الدفاعي عن الجزء الشرقي الأوروبي فكانت نتيجة ذلك أن بادرت دول كانت أعضاء في هذا الحلف بطلب الانضمام إلى حلف الناتو- خاصة مع اتساع الخط الفاصل بين الكتلتين لصالح الغرب مقابل تقلصه على الجانب الروسي .

ومع تولي بوتين الحكم فقد أدت إصلاحاته إلى استقرار سياسي وانتعاش اقتصادي، وكان ذلك واضحًا في تفعيل ملحوظ في سياستها الخارجية، فقد نجح بوتين في استعادة مكانة روسيا في مصاف القوى الكبرى، كما عادت روسيا لتلعب دورًا وتتخذ مواقفًا واضحة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية وخروجها من علاقة التبعية والخضوع للغرب .

وقد اتسمت السياسة الخارجية الروسية لبوتين بالوسطية بين تيارين رئيسين حكما هذه السياسة الأول: هو تيار المواجهة الذي جرى في العهد الروسي، اتخذ صورة الحرب الباردة مع الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة ، والثاني: هو تيار المهادنة الذي تبناه نظام حكم يلتسين عقب انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة .

فكان بوتين يتعامل مع الأمور بوجهين مختلفين، فهو من جهة يعمل على تخفيض حدة التوتر والصراعات الإقليمية والهامشية مع الحكومات الغربية بهدف ضمان دعمها، ومن جهة أخرى يعمل على تثبيت المصالح العليا الروسية -لا تحتمل التنازل- ولكن على الجانب الآخر كان بوتين عازفًا على تأكيد الحكومة الدولية لروسيا، آخذ في الاعتبار محدودية القدرات الوطنية لبلاده، وتجسد هدف بوتين الأساسي في حصول بلاده على مكانة دولية مؤثرة في قضايا الأمن والسلم والترتيبات الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية، بحيث لا تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على الساحة الدولية، مستحوذة على الدور الأكبر في صنع القرارات الحيوية في كافة المجالات .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى