شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة ديناميكيات إقليمية جديدة تمثلت بالأساس في تحول القوى الإقليمية من سياسة التنافس الحاد إلى خفض التصعيد وعقد المصالحات، وذلك في ظل قناعتها بأن سياسات المنافسة الحادة لم تؤدِ إلى انتصار أي من المحاور المتنافسة، بل على العكس قد زادت من تعقيد أزمات المنطقة ولم تنعكس سلبًا على العلاقات بين دول الإقليم فحسب، بل كان لها أيضًا انعكاساتها السلبية على أمن واستقرار المنطقة برمتها. كما ارتأت القوى الإقليمية أن مصالحها الحيوية تقتضي تجاوز الخلافات وتصفير المشاكل البينية ما أمكن، والبحث عن المصالح المشتركة، والعمل على توفير بيئة أمنية مستقرة بهدف التفرغ لمواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة في ظل تفاعلات دولية جديدة تتمثل بالأساس في تراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وتنامي دور كل من (الصين، وروسيا).
العوامل التي ساهمت في الاتجاه نحو المصالحات العربية الإقليمية:
ساهمت العديد من العوامل في الاتجاه نحو التهدئة وخفض التوتر والتصعيد الإقليمي، وعقد المصالحات العربية الإقليمية، والتي تمثلت فيما يلي:
- ارتفاع تكلفة الصراعات:
أدت الصراعات المتفجرة في منطقة الشرق الأوسط إلى وقوع خسائر بشرية ومادية ضخمة، فعلي سبيل المثال: قدرت تقارير عديدة التكلفة الاقتصادية للصراع في سوريا بنحو تريليون و200 مليار دولار، كما حصد الصراع أرواح 600 ألف سوري وتسبب في نزوح ولجوء نحو 12 مليون شخص داخل سوريا أو خارجها. كما أدت التدخلات الإيرانية والتركية في العديد من الأزمات العربية، وخاصة في كلٍ من (سوريا، واليمن، والعراق، ولبنان، وليبيا) إلى تنامي أنشطة التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، والتي شكلت تهديدًا لوحدة وتماسك تلك الدول، كما شكلت أيضًا تهديدًا لأمن واستقرار المنطقة.
- الانسحاب الأمريكي من المنطقة:
يعكس المشهد في منطقة الشرق الأوسط توجهًا أمريكيًّا فعليًّا بالانسحاب، وتراجعًا عن التدخل في شؤون المنطقة وعزوفًا عن الانخراط فيها، الأمر الذي دفع العديد من القوى الإقليمية إلى الاتجاه نحو التهدئة والتخفيف من حدة التوتر الإقليمي، واتخاذ مسارات أمنية متنوعة لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
- مواجهة التحديات الاقتصادية:
في ظل التداعيات الاقتصادية الأخيرة الناجمة عن الحرب الروسية- الأوكرانية، سعت العديد من دول المنطقة إلى الاتجاه نحو التهدئة والعمل على تخفيف حدة التوترات الإقليمية؛ وذلك للتفرغ لمواجهة تحدياتها الاقتصادية بما في ذلك الناجمة عن تلك الحرب. كما يعد تعزيز التعاون الاقتصادي بين دول المنطقة، وتوفير بيئة أمنية مستقرة لتحقيق هذا التعاون أحد العوامل الدافعة إلى الاتجاه نحو التهدئة.
- الحد من النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة:
أدت الأزمات والصراعات في العديد من البلدان العربية إلي تنامي النفوذ والتدخل الإيراني والتركي في تلك الدول، وانعكس ذلك سلبًا على أمن واستقرار المنطقة برمتها. ومن ثم فقد جاء توجه العديد من الدول العربية نحو التهدئة وتصفير المشاكل البينية مع هاتين القوتين الإقليميتين؛ بهدف العمل على احتواء مشاريعهما الإقليمية والحد من نفوذهما في المنطقة وتعزيز الحضور العربي في تلك الدول التي تشهد صراعات، وذلك بما يسهم في دعم وتعزيز أمن النظام الإقليمي العربي.
- التضامن الإنساني في الكوارث الطبيعية:
أدى الزلزال الذي ضرب كلًّا من تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023- وما تمخض عنه من مأساة إنسانية مروعة- إلى دفع العديد من دول المنطقة إلى التضامن الإنساني مع الدولتين المتضررتين؛ حيث أضحت الضرورات الإنسانية تتجاوز المواقف والتباينات السياسية. ومن ثم فقد بادرت العديد من الدول العربية بما في ذلك تلك التي كانت قد قطعت علاقاتها مع أي من الدولتين إلى تقديم المعونات والمساعدات الإنسانية لهما، الأمر الذي مهد الطريق للتوجه نحو التهدئة وعقد المصالحات.
سياقات المصالحات العربية الإقليمية:
أولًا: سياق المصالحات العربية – التركية:
- على صعيد العلاقات الإماراتية – التركية:
بعد سنوات من التنافس الإقليمي والتصريحات العدائية بين (تركيا، والإمارات)، شهدت العلاقات الإماراتية – التركية خلال الفترة الأخيرة عدة تطورات إيجابية ملحوظة، خاصة في ظل مساعي أنقرة لعزل نفسها عن تيارات الإسلام السياسي في المنطقة ومحاولاتها لإعادة ضبط سياستها الخارجية، الأمر الذي أتاح لها فرصًا لإعادة تشكيل علاقاتها بمحيطها العربي. فقد شهدت السنوات الأخيرة عدة اتصالات ولقاءات بين المسؤولين في البلدين، ففي 30 أغسطس 2021 جرى اتصال هاتفي بين الرئيس التركي” رجب طيب أردوغان ” وولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية الشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” تم خلاله بحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية مع إعطاء الأولوية لمجالات التجارة والاستثمار، جاء ذلك في أعقاب استقبال الرئيس التركي وفدًا إماراتيًّا برئاسة الشيخ ” طحنون بن زايد آل نهيان ” مستشار الأمن القومي بدولة الإمارات.
كما شهدت الفترة الأخيرة سلسلة اجتماعات لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين لعل أبرزها لقاء وزير الدولة للتجارة الخارجية الإماراتي خلال شهر أكتوبر 2021 بوفد تجاري تركي وذلك على هامش فعاليات “معرض إكسبو 2020 دبي”، حيث تم بحث خطط تنويع الفرص الاقتصادية وخطوات تنمية التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين. وفي 3 نوفمبر2021، أعلنت دولة الإمارات عن تقديم 36.7مليون درهم (ما يعادل 10 ملايين دولار أمريكي)؛ للمساهمة في دعم مراحل إعادة التأهيل لبعض المناطق في شمال تركيا، والتي تضررت من الفيضانات ومناطق أخرى في جنوب غربها تعرضت لحرائق الغابات.
وفي سياق التحسن الذي طرأ على العلاقات الإماراتية – التركية، قام الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في 24 نوفمبر 2021 بزيارة رسمية إلى أنقرة، وقد مثلت هذه الزيارة نقلة نوعية هامة في مسار العلاقات بين البلدين والانطلاق نحو مرحلة جديدة من الشراكة؛ حيث شهدت توقيع 12 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مختلف المجالات ا(لمالية، والمصرفية، والبيئة، والطاقة، والصحة)، كما أعلنت دولة الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا.
وفي أول زيارة له إلى دولة الإمارات -منذ عقد من الزمان- قام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في 14 فبراير 2022، بزيارة إلى العاصمة أبو ظبي يرافقه وفد وزاري، وقد شكلت هذه الزيارة خطوة هامة على طريق تعزيز الشراكة الإستراتيجية المتنامية بين البلدين؛ حيث تم خلالها التوقيع على 13 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات: الصناعات الدفاعية، والصحة، والتكنولوجيا، والثقافة، والزراعة، والاقتصاد، والنقل،… وغيرها من المجالات. وفي أعقاب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023، سارعت دولة الإمارات بتقديم 100 مليون دولار لإغاثة المتضررين من الزلزال، بالإضافة إلى قيامها بإنشاء مستشفى ميداني، وإرسالها فريقي بحث وإنقاذ وإمدادات إغاثية عاجلة إلى المتأثرين بالزلزال.
- على صعيد العلاقات السعودية – التركية:
في ظل توجه أنقرة نحو إحداث تحولات ملحوظة في سياستها الخارجية خلال العامين الماضيين، من خلال خفض التصعيد الإقليمي وتصفير المشاكل مع دول الجوار، قامت محكمة تركية خلال شهر أبريل 2022 بإيقاف محاكمة سعوديين مشتبه بهم في قضية مقتل الصحفي السعودي ” جمال خاشقجي” ([1]) وإحالتها إلى السعودية. وفي هذا الإطار سعت أنقرة إلى التقارب مع الرياض؛ للتخفيف من حدة الضغوط والأعباء الاقتصادية التي تواجهها بما في ذلك إنهاء الحظر السعودي غير الرسمي للبضائع التركية، بالإضافة إلى مساعي أنقرة لكسر عزلتها الإقليمية المتزايدة. ومن جانبها ارتأت الرياض أن تقاربها مع أنقرة سيكون مفيدًا لها؛ لبناء ثقل إقليمي أو محور موازٍ لإيران بما يسهم في احتواء تمدد نفوذها في المنطقة، كما تبرز أنقرة كشريك أمني للرياض في مجال التعاون الدفاعي؛ حيث ازداد مؤخرًا الاهتمام السعودي بالطائرات المسيرة التركية. وقد جاءت زيارة الرئيس التركي ” رجب طيب أردوغان ” إلى المملكة العربية السعودية خلال يومي (28 و29 أبريل 2022) تتويجًا لمسيرة قرابة عام ونصف تلمَّس خلالها البلدان خطوات استكشافية لبناء الثقة بينهما، ولدى عودته إلى أنقرة أصدر الرئيس التركي أوامره بإغلاق المحطة التلفزيونية “لجماعة الإخوان المسلمين”، وفرض قيودًا على العلاقات العامة للجماعة في رسالة مباشرة إلى الرياض وأنظمة الخليج لطمأنتهم وتهدئة مخاوفهم.
وفي 22 يونيو 2022، قام ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” بزيارة إلى تركيا والتي تعد الأولى منذ 2018، وقد استبقت الرياض الزيارة بقرارها في 20 يونيو 2022 برفع حظر سفر مواطنيها إلى تركيا بعد منع سابق مرتبط بجائحة كورونا. وقد أكد البيان المشترك الصادر عن الجانبين خلال هذه الزيارة عزمهما على تعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات (السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأمنية، والثقافية). وفي أعقاب الزلزال الذي ضرب كلًا من (تركيا، وسوريا) في فبراير 2023، أمرت السعودية بتسيير جسر جوي وتقديم مساعدات لضحايا الزلزال، كما انتقلت فرق الإنقاذ السعودية إلى مواقع الحدث.
- على صعيد العلاقات المصرية – التركية:
بعد قطيعة وجفاء([2]) دام لسنوات طويلة بين كل من (أنقرة، والقاهرة) وفي ضوء التغيير الجذري الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية بالعمل على التهدئة وخفض التصعيد الإقليمي، فقد أعربت الحكومة التركية في سبتمبر 2020 عن تطلعها إلى تحسين وتطوير العلاقات مع مصر وردت القاهرة بالترحيب. وفي ربيع 2021، أعلن عن عودة المحادثات الاستكشافية بين (القاهرة، وأنقرة) باجتماع وزيري خارجية البلدين وذلك في محاولة لتحسين العلاقات بينهما والتي أثمرت عن المصافحة التاريخية التي جرت بين الرئيس التركي ” رجب طيب أردوغان ” ونظيره المصري ” عبد الفتاح السيسي” على هامش افتتاح كأس العالم بدولة قطر في عام 2022. وقد تلت المحادثات الاستكشافية العديد من الاجتماعات بين المسؤولين لدي البلدين، لم تسفر عن اتفاق رسمي بينهما، حيث بدا واضحًا تعاطي القاهرة بحذر مع مسألة المصالحة مع أنقرة.
ومن جانبها اتخذت حكومة أنقرة خلال الفترة الأخيرة خطوات إيجابية تتعلق بوقف أنشطة تنظيم ” الإخوان المسلمين” الإعلامية والسياسية التحريضية في أراضيها، ومنع إعلاميين تابعين للتنظيم من توجيه الانتقادات إلى مصر. وفي أعقاب الزلزال المدمر([3]) الذي ضرب جنوب شرق تركيا، وفي سياق التضامن الإنساني مع الشعب التركي في محنته، قام وزير الخارجية المصري “سامح شكري” في 27 فبراير 2023 بزيارة إلى تركيا – والتي تعد الأولى منذ ما يقرب من عقد من الزمان – والتي عكست وجود تحسن في العلاقات التركية – المصرية، كما سارعت القاهرة بإرسال المساعدات والمعونات الإنسانية إلي أنقرة لدعم المتضررين من الزلزال . وفي 18 مارس 2023، قام وزير الخارجية التركي ” مولود تشاووش أوغلو” بزيارة إلى القاهرة التقى خلالها بنظيره المصري، وقد كشفت تصريحات الوزيرين خلال هذا اللقاء عن رغبة حقيقية مشتركة في تجاوز القضايا الخلافية بين البلدين، ووضع رؤية مشتركة لكيفية التعاطي مع قضايا المنطقة وذلك بما يضمن تسوية للصراعات القائمة. ويأتي التقارب المصري – التركي في إطار مساعي أنقرة للتخفيف من حدة التوترات مع دول الجوار والعمل على تجاوز العزلة الإقليمية التي عانت منها منذ سنوات، بالإضافة إلى مساعيها لتحسين أوضاعها الاقتصادية المتردية. ومن جانبها، تسعى القاهرة أيضًا إلى التقارب مع أنقرة انطلاقًا من رغبتها في تحقيق مصالحها الاقتصادية من خلال ضمان تدفق الاستثمارات التركية الجديدة إلى مصر، بالإضافة إلى أن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين الطرفين سيُعيد إلى مصر مناطق كبيرة كانت قد خسرتها لصالح اليونان وقبرص، ويعزز من مصالحها الاقتصادية في شرق البحر المتوسط.
وجدير بالذكر، أن القاهرة مازالت تتريث في اتخاذ خطوات نحو التطبيع مع أنقرة -خصوصًا أن هناك العديد من الملفات الخلافية لا يمكن إغفالها أو تجاوزها بسهولة لعل أبرزها: الملف الليبي وملف الخلافات في شرق المتوسط، إذ تشكل هذه الملفات عقبة أساسية أمام تطبيع العلاقات بين البلدين. وبجميع الأحوال فإن تطبيع العلاقات بين البلدين يعتمد بالأساس على مدى استعداد الطرفين لتقديم تنازلات بخصوص الملفات الخلافية العالقة بينهما، والتي تؤجل تحقيق مصالحة مصرية – تركية حقيقية كاملة المعالم.
ثانيًا: سياق المصالحات العربية – الإيرانية:
- على صعيد العلاقات الإماراتية- الإيرانية:
بعد سنوات من الجفاء واعتبار المشروع الإيراني ومساعي طهران للهيمنة على المنطقة من أبرز العوامل التي تهدد أمنها القومي، سعت أبو ظبي في الآونة الأخيرة إلى اتخاذ خطوات جادة لتهدئة التوتر مع طهران. وفي سياق تحسين العلاقات بين البلدين، قام وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية “علي باقري كني” بزيارة إلى أبو ظبي في 24 نوفمبر 2021، التقى خلالها بالمستشار الرئاسي الإماراتي “أنور قرقاش” ومسؤولين إماراتيين آخرين. كما تعد زيارة مستشار الأمن القومي لدولة الإمارات ” طحنون بن زايد” لطهران في 6 ديسمبر 2021، الأولى من نوعها لمسؤول إماراتي رفيع المستوى؛ حيث التقى خلالها بعدد من المسؤولين الإيرانيين. وقد جاءت زيارة المسؤول الإماراتي إلى طهران انطلاقًا من حرص أبو ظبي على الاضطلاع بخطوات جادة نحو إعادة بناء الثقة مع دول الجوار الجغرافي – ومن بينها إيران – وتجنب المواجهة أو الصراع الإقليمي الأوسع نطاقًا، كما كشفت هذه الزيارة أيضًا عن جدية واضحة من قبل طهران لتحقيق التقارب مع دول المنطقة.
وفي خطوة جادة نحو تعميق التقارب بين البلدين، قامت أبو ظبي في سبتمبر 2022 بإعادة سفيرها إلى إيران، وبتاريخ 16 مارس 2023 وصل الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن الإيراني “علي شمخاني” إلى دولة الإمارات بهدف إجراء محادثات مع المسؤولين في أبو ظبي، وقد بحث الجانبان خلال الزيارة تطوير التعاون الثنائي بما يخدم المصالح المتبادلة في المجالات (السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والأمنية، والثقافية)، وبما يحقق أمن واستقرار المنطقة.
- على صعيد العلاقات السعودية – الإيرانية:
شهدت العلاقات السعودية – الإيرانية خلال الآونة الأخيرة تطورات إيجابية غير مسبوقة، فبعد قطيعة دبلوماسية منذ عام 2016، أعلنت البلدان في 10مارس 2023 الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح السفارات والبعثات الدبلوماسية خلال شهرين بحد أقصى، وقد تضمن الاتفاق أيضًا تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة في 17 أبريل 2001، وتفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجالات (الاقتصاد، والتجارة، والاستثمار، والتقنية، والعلوم، والثقافة، والرياضة والشباب) الموقعة في 27 مايو 1998. وقد جاء هذا الاتفاق تتويجًا لمباحثات على المستويين (الاستخباراتي، والأمني) استمرت على مدار عامين بوساطة صينية.
وقد حفزت عدة عوامل الطرف السعودي لإنهاء القطيعة الدبلوماسية مع إيران من بينها تطلع الرياض إلي تنويع شراكاتها الإستراتيجية مع القوى الدولية الصاعدة دون استبدال الولايات المتحدة مزودها الرئيس بالأسلحة، إلى جانب مساعيها لترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة، وذلك بما يسمح لها بتنفيذ مشاريعها التنموية الطموحة. كما تتطلع الرياض أيضًا إلى العمل على التوصل إلى حلول سياسية لبعض الصراعات الإقليمية المرتبطة بمصالحها في كل من (اليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان) بما في ذلك العمل على وقف هجمات الحوثيين عبر الحدود على المنشآت المدنية والنفطية السعودية. ومن جانبه، سعى الطرف الإيراني من خلال هذا الاتفاق إلى تخفيف العزلة الإقليمية والدولية، والعمل على الاستفادة من العلاقات الاقتصادية المتجددة مع السعودية، ومن ثم التخفيف من وطأة العقوبات الأمريكية المفروضة على الاقتصاد الإيراني. وعلاوة على ذلك يقوض هذا الاتفاق فكرة تشكيل تحالف أمني شرق أوسطي مناهض لإيران، تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إقامته في المنطقة.
ثالثًا: سياق المصالحات العربية – السورية:
تجددت خلال الفترة الأخيرة الدعوات من قبل دول حيوية بالمنطقة بشأن عودة سوريا إلى محيطها العربي بهدف استعادة الحد الأدنى من تماسك المنظومة العربية في مواجهة التدخلات الخارجية- وبصفة خاصة الإيرانية والتركية- كما أن فقدان دولة بموقع ووزن سوريا الإقليمي ودورها المحوري في شرق المتوسط ينعكس سلبًا على التوازنات القائمة في المنطقة وأيضًا على السياسات الخارجية لدولها، وبصفة خاصة دول الخليج. وتعد دولة الإمارات العربية من أوائل الدول العربية التي أعادت افتتاح سفارتها في دمشق في ديسمبر 2018، ومنذ استئناف وإعادة تطبيع العلاقات بين أبو ظبي ودمشق بدأ الطرفان تبادل الوفود الدبلوماسية والاقتصادية. وفي 20 يونيو 2021، أعلنت السلطات الإماراتية استئناف الرحلات الجوية بين البلاد والعاصمة السورية دمشق عبر مطاري (دبي، والشارقة). وفي وقت لاحق، اتفقت الدولتان على خطط لتعزيز التعاون الاقتصادي، كما زار الرئيس السوري “بشار الأسد ” دولة الإمارات العربية في مارس 2022، ثم زارها مرة أخرى في 19 مارس 2023 التقى خلالهما برئيس الدولة “محمد بن زايد آل نهيان”؛ حيث تم بحث سبل التعاون وتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين بما في ذلك دعم الجهود المبذولة لإيجاد حل سياسي كفيل بإعادة أمن سوريا واستقرارها والمحافظة على وحدتها.
وفي أعقاب الانفراج في ملف العلاقات السعودية الإيرانية وبعد نحو أسبوعين، اتفقت (سوريا، والسعودية) في 23 مارس 2023 على معاودة فتح سفارتيهما وإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وفي 12 أبريل 2023، زار وزير الخارجية السوري ” فيصل المقداد ” جدة في أول زيارة رسمية إلى السعودية بحث خلالها مع نظيره السعودي الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية شاملة للأزمة السورية، كما تم الاتفاق على استئناف العمل القنصلي وعودة رحلات الطيران بين البلدين. وفي 18 أبريل 2023، وصل وزير الخارجية السعودي ” فيصل بن فرحان ” إلى دمشق في أول زيارة رسمية منذ القطيعة واستقبله الرئيس السوري ” بشار الأسد “، و تم خلال اللقاء بحث الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية وذلك بما يسهم في عودة سوريا إلى محيطها العربي واستئناف دورها الطبيعي في المنطقة. وفي تطور جديد للعلاقات العربية مع دمشق، أعلنت سوريا وتونس في بيان مشترك في 12 أبريل 2023 عن عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما والعمل على تعزيز التبادل التجاري والاقتصادي، بالإضافة إلى التنسيق بين البلدين في القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
وفي خطوة هامة نحو إعادة سوريا إلى محيطها العربي، قرر وزراء الخارجية العرب خلال اجتماع طارئ عقد بالقاهرة بتاريخ 7 مايو 2023 استئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها وذلك اعتبارًا من السابع من مايو 2023، كما قرر الوزراء تجديد الالتزام بالحفاظ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها واستقرارها وسلامتها الإقليمية، وتكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على الخروج من أزمتها، والحرص على إطلاق دور عربي قيادي في جهود حل الأزمة السورية. كما أكد القرار أيضًا على مواصلة الخطوات التي تتيح إيصال المساعدات الإنسانية لكل محتاجيها في سوريا وفق الآليات المعتمدة في قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وفي هذا السياق، شارك الرئيس السوري “بشار الأسد” – ولأول مرة بعد غياب 12 عامًا- في أعمال القمة العربية الثانية والثلاثين التي عُقدت في 19 مايو2023 بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية.
الخلاصة:
كشفت ديناميات المصالحات العربية الإقليمية -وبصفة خاصة الاتفاق السعودي الإيراني- ملمحًا لعالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية، والذي لم تعد فيه الولايات المتحدة تهيمن بمفردها على هيكل توزيع القوة داخل النظام الدولي الجديد، بل تصاعدت أدوار قوى دولية جديدة مثل (الصين، وروسيا). كما تشير هذه المصالحات أيضًا إلى توجه القوى والأطراف الإقليمية نحو تهدئة الأوضاع وتخفيف التصعيد الإقليمي، ومن ثم تحقيق الاستقرار والأمن وذلك بما يسهم في تحقيق مصالحها الاقتصادية. ناهيك عن مساعي بعض هذه القوى الإقليمية إلى إدخال تغييرات على توازنات القوى القائمة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في أعقاب الفراغ الإقليمي الذي شهدته المنطقة في السنوات الأخيرة والذي أفرزته تحولات ما بعد الحراك العربي المسمى” بالربيع العربي”، وتراجع دور بعض القوى المحورية التقليدية في المنطقة.
وجدير بالذكر أنه، على الرغم مما يبديه بعض المراقبين السياسيين من تفاؤل بشأن هذه المصالحات العربية الإقليمية باعتبارها خطوة أولى نحو تهدئة التوترات في المنطقة، إلا أنه من الأهمية الأخذ في الاعتبار أن هذه المصالحات لن تنهي بشكلٍ فوري الصراعات والأزمات في المنطقة، ويرجع ذلك بالأساس إلى تعقد هذه الصراعات وانخراط العديد من القوى والأطراف الدولية والإقليمية فيها وتفاقم البُعد المذهبي والاعتبارات القبلية والعشائرية فيها، ناهيك عن تنامي دور التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة المتطرفة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم هذه الصراعات والأزمات وزيادة تعقدها وتعثر المساعي الإقليمية والدولية لإيجاد تسويات سياسية لها.
وزيادة على ذلك، فإنه من المرجح أن توقيع الاتفاق السعودي الإيراني الأخير لن ينهي حالة التنافس الإقليمي بين القوتين الإقليميتين؛ إذ يتعلق الأمر بالأساس بمدى تغير السياسات الإيرانية الإقليمية. والواقع أنه لا توجد مؤشرات تدلل على حدوث تغيير في الأهداف الإستراتيجية لإيران والتي تتمثل في الهيمنة الإقليمية وتوسيع نفوذها في المنطقة، كما أن القائمين على رسم السياسة الخارجية الإيرانية يعتقدون أن أمن إيران لا يتحقق إلا من خلال نشر أيديولوجيتها التوسعية القائمة على نشر الفكر الشيعي والتمدد خارج الحدود وتوظيف الأذرع الخارجية بما يحقق أهداف سياستها الخارجية.
([1]) تم اغتيال الصحفي السعودي ” جمال خاشقجي” في عام 2018 بالقنصلية السعودية في إسطنبول، مما أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين.
([2]) توترت العلاقات بشدة بين البلدين إثر الإطاحة بالرئيس المصري السابق ” محمد مرسي” واحتضان أنقرة لجماعة الإخوان المسلمين على أراضيها.
([3]) عقب الزلزال أجرى الرئيس المصري ” عبد الفتاح السيسي” اتصالًا هاتفيًّا مع نظيره التركي للإعراب عن التضامن مع أنقرة.