2021العدد 186دراسات

أيديولوجيا مرنة أم منظومة قيم سياسية؟

إذا كان فناء الأيديولوجيا أو انقضاء مفعولها أمرًا غير واقعي، وكانت الحاجة إليها ضرورة، فإن من الطبيعي أن نبحث عنها ونتمسك بها، لكن علينا أن نعرف جيدًا ما إذا كان ما نحن قابضون عليه ليس فيه ما يضرنا ويشدنا إلى الوراء، فالأيديولوجيات طالما مارست عنفًا رمزيًّا، وأدت إلى وقوع قهر مادي وكثيرًا ما بررت أخطاء الأنظمة الحاكمة، ولعبت دورًا في تزييف الحقائق وتخريب الوعي، وكانت بمثابة “دوجمائية” جامدة وسجال خطابي وطرح أسطوري، لا يصلح حال و لا ينهض بواقع، واستبعدت رؤى الآخر؛ لتحجر على التفاعل الفكري والاجتماعي الطبيعي الذي يرقى بالأوضاع.

ومن ثَمَّ فإن التسليم التام للأيديولوجيا وقبول وجودها بوجهٍ عام، لا يجب أن يعمينا عن أخطائها الكبيرة، ومشكلاتها بالغة التعقيد، وتجاربها المريرة. ولا يمكن التفكير في بناء “أيديولوجية جديدة” أو إعادة النظر في اقتناعنا الفكري من أجل صياغة رؤية أنجح بالقفز على الحقائق المرتبطة بممارسات الأنظمة التي قامت على أساس أيديولوجي صارم، أو دون الاستفادة  من التراكم التاريخي للتجارب الإنسانية مع مختلف الأيديولوجيات.

 لقد حدت قراءة الأخطاء التي ترتبت على التطبيق الحرفي المنغلق للأيديولوجيا بالعديد من المفكرين في شتى أنحاء العالم إلى تقريظ “نهاية الأيديولوجيا”. وفي عالمنا العربي نجد مفكر مثل محمد عزيز الحبابي ينادي بالبحث عن عالم أفضل “يتحقق بتعاون الجميع ومن أجل الجميع أو لا يتحقق إطلاقًا”([1]) لا يرتبط بإطار فكري محدد وثابت، وذلك من خلال رؤية فلسفية أطلق عليها اسم “الغدية” التي هي في نظره “فلسفة جديدة تستسيغ مكتسبات الفكر المعاصر وتتفتح على المستقبل – لا تخضع لأي نسق مسبق – وتعتمد على الشك المنهجي الذي يجعلنا نضرب بالوثوقية عرض الحائط سواءً كانت في العلوم الإنسانية أم الطبيعية”([2]).

وهذه الرؤية إن كانت تريد صياغة الواقع على أسس فكرية جديدة، فإنها في الوقت ذاته، لا ترضى بوجود “مسبقات” أو “ثوابت”، وهي مسألة تبدو غير واقعية وليست مفيدة، فإنسان بلا ثوابت، حتى لو كانت من صنع ذاته أو من واقع تجربته الضيقة، هو إنسان لم يولد بعد. فالأفضل يبدو هو تحديد مبادئ جوهرية وقيم عامة، متسعة الرؤية ومرنة للغاية فيما يرتبط بالأساليب التي يمكن اتباعها من أجل تحقيق الأهداف التي يصبو إليها المجتمع.

إن رؤية فيليب برو التي تقوم في بعض جوانبها على “أيديولوجية مرنة” تبدو أكثر واقعية من طرح الحبابي، الذي يجافي الوثوقية، حتى في العلوم الطبيعية_ فالأول يريد للصلب من الأيديولوجيا أن يلين، وأن يوجد قاسم أيديولوجي مشترك “حتى وإن ترك عند الحدود للأيديولوجيات المنشقة أو المتطرفة فرصة التعبير عن نفسها من أجل الحفاظ على مظاهر التعددية”([3]).

أما الثاني فلا يروق له وجود إطار فكري متكامل للحياة من الأساس، إذ يقول: “إن انقطاع الفلسفة عن التأمل النظري المحض، واكتفاءها بنظرة مجزأة عن الأحداث والأشياء سيجعلها تطأ الأرض، وتتعلم من جديد المشي على الأرجل، حينذاك ستفتح عينيها جيدًا على مجموع واقع الإنسان- الكل، ولن تهمل العلوم الجديدة ولا الحياة الروحيـة في علاقاتها مع الحكمـة والتقدم”([4]).

ويقدم سالم يفوت قراءة تبدو مختلفة للغدية، إذ يرى أنها “فلسفة تستوعب مكتسبات التفكير الحديث، كما تنفتح على المستقبل دون أن تنكر الهوية الوطنية أي فلسفة توجه المستقبل في دروب أخرى غير تلك التي سلكتها الحضارة الغربية حتى اليوم”([5]). وهذا قد يعني أن الحبابي لم يستطع أن يتجاوز وجود خصوصيات لدى الشعوب والحضارات، لا يمكن إهمالها أو القفز عليها، حين نعكف على بناء مشروع فكري، أو فلسفة تدير حياتنا بشكلٍ أفضل مما هي عليه في الوقت الراهن.                                                  

لكن ما سبق يبين أن هناك نزعة نحو “الطروحات المحدودة” التي تعالج كل مشكلة على حدة، وتلبي ما يطلبه المجتمع خطوة خطوة في صيغة عملية سريعة، وهذا يعني القطيعة مع الأيديولوجيا بتصوراتها المعهودة؛ تمهيدًا لما يسميه ألفن توفلر “أيديولوجيات المستقبل الجديدة والكاملة”، ومن ثم يدعو إلى دراسة ميكروسكوبية للمسلمات التي نتمسك بها بصرامة شديدة، فربما نكتشف يومًا أنها لم تعد ملائمة للواقع الذي هو في طور الولادة. وتلك الدعوة تعني ضرورة وجود جدل لا يتوقف مع الواقع بحيث يتم تطوير ما ينهض به بشكلٍ مستمر، الأمر الذي يفرض التحرر من التزامات أيديولوجية بعينها. وهنا يقول توفلر:

“سواءً كان انحيازنا لمبادئ حرية السوق الرأسمالية أو للماركسية، كما رأينا تطبيقها حتى الآن، أو درسنا الليبرالية ودولة العناية الإلهية، أو العقائد التقليدية الرامية إلى تطوير العالم الثالث، فإن كل هذه العقائد تبدو لنا أكثر فأكثر غير واقعيـة بقدر ما تتجاوز الأحداث صياغتنا النظرية بسرعـة”([6]).

وإذا كانت الأيديولوجيات في نظر توفلر “غير واقعية”؛ لأن الأحداث تتجاوزها، ولا يمكن لتصوراتها النظرية أن تلاحق ما يجري فإن تشوارز ينادي بـ”أيديولوجيات حديثة”، تتطور بشكلٍ مستمر، وتكون أكثر مرونة لتتماشى مع التغيرات المتلاحقة في عالمنا المعاصر،([7]) في حين يقترح سمير أمين “أيديولوجية عالمية الطابع”، خلقت الرأسمالية حاجة ماسة إليها.

ويرى توفلر أن لهذه الحاجة وجهين، الأول: يرتبط بمستوى التحليل العلمي للمجتمع، من أجل كشف القوانين العامة التي تحكم تطورات المجتمعات البشرية، والثاني: يتعلق بمستوى المشروع الاجتماعي المطلوب، الذي ينبغي أن يكون موجهًا إلى شعوب العالم كافة، ويتجاوز الحدود التاريخية للرأسمالية، حيث تناقض الأوضاع وتضارب المصالح بين دول المركز ودول الأطراف.([8])

وتجاوز البعض هذه الهواجس بالحديث عن “إنسان عالمي” و”حكومة عالمية”، باعتبارهم أن الأول: هو “مواطن متحرر من الشوفينية ومساوئها، مؤمن بإنسانيته التي تسبق أي إيمان آخر، ولا يجد تناقضًا بين ولائه للإنسانية وانتمائه إلى جماعة قومية أو دينية أو إثنية ، يؤمن بالسلام والتسامح والمسالمة على اختلاف أشكالها، يرفض مقولة الحرب العادلة، ويؤمن بأن الإنسان مخلوق مرن”([9]). وأنه إذا آمن الإنسان بالقيم والأفكار السابقة سيكون الطريق أمام وجود المواطن العالمي ممهدًا.

أما الثانية: فتتمثل في “سلطة دولية فاعلة تحول دون تطور النزاعات إلى حروب، وتفض الخلافات قبل استفحالها”([10])، “وتسمح بقيام عالم بلا حدود”.([11]) وهذا التصور إن كان لا يزال ضربًا من الطوباوية، فإنه يريد إزاحة الأيديولوجيات المتصارعة أو المتنافسة لحساب “أيديولوجية عالمية” تقف على ساقين، الأول هو مواطن يستمد هويته من العالم برمته، والثاني إدارة تسير دفة الأمور في الأرض بأسرها.

لكن هذا التصور متسع إلى درجة “الخيالية” وتحقيقه على الأرض يبدو صعب المنال، إن لم يكن مستحيلًا في ظل حديث عن “تصادم حضاري” أو علاقات دولية قائمة على منطق “المصلحة” دون غيرها، وقانون دولي مغيب أو يعمل في صالح القوى الكبرى، وتعددية واسعة في اللغات والأديان والأعراق والثقافات والطبائع.

وبدلًا من ذلك أو ترشيدًا لهذا الطرح، يقدم طارق البشري مفهومه للإنسانية؛ ليعطي هذا التصور طابعًا عمليًا وواقعيًا، فيقول:

“الإنسانية المنشودة هي إنسانية المساواة بين المواطنين في كل أمة وبين الأمم كافة، وهي إنسانية الإحياء الحضاري لذوي الحضارات في العالم أجمع ، وإنسانية الاستقلال والسيطرة على الذات، فإذا ضربت علينا ألوان من الإنسانية تنبني على حساب وجودنا كجماعة حضارية وسياسية مستقلة ومتميزة، فلن نكون إنسانيين بهذا المعنى، وإذا كان التطور يرفضني كجماعة، فلست من أنصار التطور، وإذا كان التقدم ينفيني ويسحقني كجماعة، فإني لمن الرجعيين”([12]).

وهذه الرؤية تؤكد على الخصوصية المتفاعلة مع العطاء الحضاري للآخر، ترفض التذويب باسم “إنسانية جامعة”، وفي الوقت ذاته لا ترضى بما يطرحه “الإنعزاليون” الذين يبنون تصوراتهم على خصومة هذا الآخر أو اتهامه بأنه يحيك المؤامرة تلو الأخرى علينا ليمنعنا من أن نتقدم.                                            

إن من الواضح أنه إذا كان من الصعب دفن الأيديولوجيا، وإذا كانت الأيديولوجيات التي عرفها العالم حتى الآن لم تنجح في إسعاد البشرية ورفاهتها، فإن الوصول إلى “أيديولوجيا حديثة”، يرتضيها الجميع وتحقق هذه السعادة وتلك الرفاهية كما يدعي البعض، أمر غير يسير، بل غير مطلوب في نظر الكثيرين.

فالتمسك بالخصوصية النابع من إحساس قوي بالهوية لا يزال يلزم مجتمعات عديدة، فحتى في أكثر هذه المجتمعات تلمسًّا لطريق الحداثة، نجد القريحة الشعبية لا تزال حريصة على إنتاج فلكلورها، ووضعه في وجه أي تيار يريد أن يجرف هذه المواريث والتقاليد.

كما أن لفظ أيديولوجيا نفسه يستعمله البعض في هذه الآونة للحديث عن “شيء كريه”، يفسد ولا يصلح، ويشد إلى الخلف ولا يدفع إلى الأمام، ويقود إلى ممارسة سلوك عنيف وعدواني.([13]) لكن حتى أولئك الذين يكرهون الأيديولوجيا، فإن كراهيتهم هذه حين تنتظم في أفكار محددة، ينتمون إليها، ويدافعون عن اعتناقها، ويبررون بها الظواهر والوقائع والسلوكيات، فإنهم يقعون تحت طائلة أيديولوجية حتى لو كانوا لا يشعرون بذلك_ ليس هذا فحسب، بل إن إيديولوجيتهم هذه تبدو ممقوتة بالنسبة لأعدائهم تمامًا كما هم يمقتون الأيديولوجيات التي تدفع إلى الصراع ضدهم، أو العمل على عكس ما تقتضي مصالحهم.

وإذا كان الفرار من الأيديولوجيا صعب، فإن البديل هو تفكيك أبنيتها، بحيث ننزع عنها بعض الأوهام، مثل الحديث عن ارتباطها بالطبيعة البشرية، والادعاء بعلميتها التامة، واستخدامها في  تبرير حتى أكثر الأخطاء فداحة، وجمودها عند نقاط محددة لا تفارقها بدعوى التمسك بالجوهر. عند هذا الحد ستنجلي “الأيديولوجيا” وتتخلص من شوائبها العديدة، لتؤول في النهاية إلى “منظومة” من القيم السياسية، تختلف من أيديولوجية إلى أخرى.

ويبدو أن هذا الاتجاه سيتعزز، بثقة وتمهل، خلال العقود القادمة بعد أن عجزت الأيديولوجيات والنظريات عن تفسير العديد من الأحداث الكبرى التي شهدها العالم، مثل (تفكك إمبراطورية بحجم الاتحاد السوفيتي، وانتشار التطلعات القومية، والحركات الانفصالية، وصعود حركة الإحياء الديني، ليس في الإسلام فحسب، بل في كثير من الأديان، وتمسك البعض بذاتهم الثقافية في مواجهة العولمة، وانتقال أنظمة سياسية عديدة من التسلطية إلى الديمقراطية).([14])

فأولئك الموزعون بين التمسك بمبادئ تحكم سير حياتهم والاعتراف بما في الأيديولوجيا من مثالب سيجدون ضالتهم في الالتحاف بنسق من القيم، يتكئون عليه في سيرهم، ويستمدون منه تحديد أهدافهم ونسج آمالهم، وهم يضمنون أنهم لا يتخبطون.

إن هناك “ثورة قيمية” تبدو واضحة المعالم، حيث الانتقال من القيم المادية إلى القيم المعنوية، وهو ما يتجلى في الانشغال بموضوع البيئة، ونوعية الحياة التي نعيشها إلى جانب حركتي الإحياء القومي والديني، وأخيًرا الثورة الفكرية التي يمكن لمسها في الانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة.([15])

فعلى سبيل المثال،لا الحصر، بعد أكثر من قرن من تراجع مكانة الدين في المجتمعات الصناعية المتقدمة وزوال دور الفلسفة في حياة البشر في تلك المجتمعات، عادت الأصولية المسيحية الكاثوليكية على يد البابا يوحنا الثالث والعشرين؛ لتفرض وجودها على المجتمع الأوروبي، واكبتها صحوة أصولية مسيحية بروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً في عهد الرئيس رونالد ريجان في حين ظلت الأصولية اليهودية حاضرة. كما عادت الفلسفة إلى طرح تساؤلاتها الأولى عن الإنسان والعالم والحياة والزمان والوجود والتاريخ.([16])

 أما الشرق فقد استمر في تمسكه بالقيم الروحية، بل اعتبر أن ذلك مصدر تميزه، وعوّل على هذه المسألة في أن تساعده في استعادة نهضته، ومن ثم ريادته الحضارية.

وتزامنت هذه الثورة القيمية مع ثورة في مناهج البحث العلمي بالإنسانيات، رصدت صعود  القيم بشكلٍ عام في سلم بعض الرؤى الإنسانية؛ لتصل إلى درجة المثال وتصبح ضابطًا قويًّا يحكم الكثيرين من سلوك البشر، ويحدد تصرفاتهم في مختلف المواقف، ويعين اتجاهاتهم حيال القضايا المطروحة في واقعهم المعاش.

ولأن العلم لا يقف مكتوف الأيدي أمام الظواهر خضعت القيم للدراسة العلمية التي تسعى لقياسها في ضوء الممارسات الحياتية للناسK وقد قطع علماء النفس والتربية والاجتماع، على وجه الخصوص، شوطًا بالغًا على هذا الدرب، وحددوا عدة طرق لقياس القيم، هي:

  1. استخدام الاتجاهات والاهتمامات للدلالة على قيم معينة، وذلك من منطلق أن استجابة الفرد للمواقف تعكس ما يتمثله من قيم.
  2. استخدام الأنشطة والسلوك، على اعتبار أن القيم التي يتبناها الأفراد تظهر في سلوكهم واختياراتهم.
  3. دمج هذان المؤشران معًا للحصول على أقصى فاعلية ممكنة في قياس القيم.
  4. قياس القيم من خلال التصريح المباشر بها، أي ظهورها دون مواربة في حديث الأفراد.([17]) ولم يقتصر تأثير العلم على “القيم” في مجال فحصه

دراسيًّا فقط، بل أمدنا العلم بقيم حياتية جديدة، بات التمسك بها ضرورة لبعث ما هو متاح من قدراتنا الكامنة.

كما أمدتنا فلسفة العلوم بإمكانية بناء “منظومة قيم” بوصفها مجموعة من العناصر (القيم) المترابطة، التي يعد التوافق بينها ضروريًّا لإعادة إنتاج المجموع (نسق قيمي). وقد يسر التداخل بين القيم هذه المهمة، فعلى سبيل المثال نجد أن قيمة الحرية تتقاطع مع نسيج قيم أخرى، فمن العسير أن نفصل بين الحرية والمساواة “وأي محاولة للسير في هذا الاتجاه تقود إلى المجهول، إذ أن هاتين القيمتين يجب أن يرتبطا ويتعايشا جنبًا إلى جنب .. وفي الحقيقة فإن الحرية يجب أن تتضافر مع المساواة، وكذلك العدالة؛ لتشكل هذه القيم الدعامة الأساسية للنظام الديمقراطي”.([18]) والفصل بين هذه القيم هو في الحقيقة فعل متعسف للانتصار لأيديولوجيا بعينها، وليس للعمل من أجل مصلحة المجتمع. فالاشتراكيون رفعوا من منزلة “المساواة” لتعلو لديهم على الحرية والعدل القانوني والسياسي، والليبراليون انتصروا لـ” الحرية” على حساب المساواة والعدل، والإسلاميون يؤكدون أن “العدالة” هي جوهر الدين الخاتم، وبذلك تتقدم عندهم على الحرية والمساواة.

لكن التجربة الإنسانية أثبتت أن التركيز على قيمة واحدة وإهمال بقية هذه القيم المحورية (العدالة – الحرية – المساواة) يؤدي إلى التدهور الاجتماعي. فحين جعلت الاشتراكية الخبز قبل الحرية، واختزلت الحرية في جانبها المادي فقط، انتهى الحال بالأنظمة التي طبقتها في تعسف إلى السقوط، وبات على المتمسكين بها أن يعيدوا النظر في موقفهم من الحرية والعدل السياسي والقانوني. أما الليبرالية، وكما سبق الذكر، فلم تهمل المساواة والعدل تمامًا، فقننت “الضمان الاجتماعي” وأعلت من شأن القضاء، وطبقت مبادئ العدل السياسي مع مواطنيها، وكفلت حدًا ما من تكافؤ الفرص.

ويقود استعراض مفهوم هذه القيم إلى اكتشاف ما بينها من علاقات خفية وظاهرة، وارتباطات في الفكر والممارسة، بحيث يصعب الاعتماد على واحدة فقط في تسيير المجتمعات الإنسانية. فالحرية “مفهوم سياسي واقتصادي وفلسفي وأخلاقي عام ومجرد، ذو مدلولات متعددة ومتشعبة، كل مدلول منها يحتاج إلى مستوى معين من التحديد والتعريف”([19])، ومن ثم فإن هذا المفهوم مفتوح على مصراعيه أمام العدالة والمساواة. فإذا كانت “الحرية السلبية” لا تتعدى غياب القيود وانتفاء الإكراه المادي والمعنوي، فإن “الحرية الإيجابية” تعني حصول الفرد على حقوقه وامتيازاته، وهذا لن يتم إلا في ظل العدل القانوني بشتى صوره.

 وحتى يكون الإنسان حرًا فلا بد من توافر شروط معينة مثل التعليم والثقافة،([20]) إذ أن الجاهل، لا يستطيع أن يتخذ قرارات مستقلة، خاصةً في البلدان التي يمارس فيها الإعلام الرسمي كذبًا منظمًا، كما أن الشخص الذي يعاني من العوز المادي لا يمكن أن يكون حرًا؛ لأنه أيضًا لا يستطيع أن يتخذ قراره بمحض إرادته، ولذا تتطلب الحرية حدًا معينًا من الكفاية المادية، بل إن هناك علاقة طردية بين قيمتي “الحرية” و”الكفاية”، حيث أن “حرية الفرد تزداد حين تزيد فرص إشباع حاجاته”.([21])

وقد كان الإسلام  واضحًا في هذه النقطة تمامًا حين أقام مبدأ الحرية على دعامتين أساسيتين: أولها، تأمين الإنسان من الجوع وثانيها، تأمينه من الخوف.([22]) وهنا نجد أنفسنا، مرة أخرى، وجهًا لوجه أمام قيمتي العدالة الاجتماعية والمساواة.

أما العدالة، فإنها تقوم في شقها التبادلي على المساواة المطلقة، بشكلها الرياضي البحت، في حين تقوم في شقها التوزيعي مبدأ الاستحقاق والجدارة، أي أن يحصل كل فرد على ما يستحقه وفق إمكاناته واستعداداته وظروفه.([23]) وهذا لن يتحقق إلا في ظل المساواة في تكافؤ الفرص، والحرية في أن يختار الإنسان المسلك الذي يريده في الحياة، وإلا يصعب التعامل السليم مع إمكاناته لتوظيفها في المكان المناسب.

وإذا كانت العدالة من الناحية التطبيقية لها معنى قانوني، يدور حول نزاهة القضاء، فإنها أخذت في الوقت ذاته معنى اجتماعي يتماشى مع المساواة في مبدأ تكافؤ الفرص، ويمتد إلى منع التظالم البشري، الذي يحول دون وجود توازن اجتماعي، أو توفير احتياجات الإنسان الضرورية من (غذاء وإيواء ودواء ..إلخ)، وحق الإنسان في التأمين ضد مختلف الأخطار التي تهدد حياته، وضد العجز والشيخوخة والبطالة أي حقه في العيش الكريم اللائق بإنسانيته.

  ويرتبط العدل السياسي بوجود الحرية، فهو يقتضي وجود ترتيب اجتماعي تقره السلطة الحاكمة يعترف لكل ذي حق بحقه، ويتيح له أن يتمتع به، وأن يقوم بالواجب المصاحب له([24])، أي أنه يقوم على نزاهة “العقد الاجتماعي” بين الحكام والمحكومين، والذي يفرض وضع المسؤولين في خدمة الشعب، وخضوع الجميع لسلطان القانون_ شريطة أن يكون هذا القانون معبرًّا عن مصلحة المجتمع الحقيقية، وليس مفصلًا حسب مقاس طبقة أو فئة اجتماعية معينة، كما هو الحال في العديد من القوانين التي تنظم الحياة الاجتماعية، خاصةً المتعلقة بالسلطة في الكثير من دول العالم الثالث.

ومن الضروري أن تكون هناك حرية حتى نضمن استمرار هذا الترتيب، فهي تمكننا من التصدي لأي محاولة للانقضاض عليه، سواءً من خلال الانتقاد العلني المرتبط بحرية التعبير إلى التضاغط المؤسسي المتعلق بحرية تشكيل الأحزاب السياسية والهيئات والجمعيات الثقافية والاجتماعية، أو حتى العمل الاحتجاجي المتمثل في حرية تنظيم المظاهرات_ بل أكثر من ذلك فإن الدعوة إلى أن يسود العدل ساحات الحرب، الأمر الذي تجسد في مفهوم “الحرب العادلة”، التي تنبع من “القانون الدولي الإنساني” الهادف إلى حماية المتضررين من النزاعات المسلحة،([25]) تنبع في جزء منها من الإيمان بضرورة عدم الاعتداء على حرية الشعوب، الأمر الذي يتجلى في جانب منه في مفهوم سيادة الدول.

والمساواة قيمة مهمة في حياة النظام الديمقراطي، ومن ثَمَّ تتقاطع مع قيمة الحرية “ففي حال انحدار مبدأ المساواة بشكلٍ طبيعي من الإيمان بالكرامة الإنسانية، وحين يكون حصيلة للاحترام المطلق للاستحقاق الإنساني، يصبح أمرًا كافيًا لإيجاد الديمقراطية”([26]).

 كما تتشابك المساواة مع العدالة بجانبيها القانوني والاجتماعي. فالقانوني نجده في أن المساواة تتطلب وجود حالة من التماثل بين أفراد المجتمع أمام القانون، بغض النظر عن الميلاد أو الطبقة الاجتماعية أو العقيدة الدينية أو الثروة أو الجنس أو المهنة. فالتساوي بين الناس يجب أن يكون في الحقوق والواجبات الإنسانية أمام القانون الذي يضبط حركة المجتمع، ويقوم على التوازن أو التراضي بين كافة أعضاء الجماعة، ويخلص لتحقيق مصلحتهم دون تمييز.

والاجتماعي يرتبط بالمساواة المادية، حيث يرى البعض أن تحقيق المساواة بشكلٍ مطلق، أو طريقة رياضية بحتة، يضر بقيم الحرية والعدالة والإنجاز، ويتعارض مع مبدأ التدرج،([27]) الذي يبدو أنه يُشكّل قانونًا طبيعيًّا لحياة البشر، إذ ليس من العدل أن يتساوى الناس في العائد أو المكافأة المادية، رغم تفاوت جهودهم وعطائهم الناجم عن اختلاف قدراتهم واستعداداتهم الطبيعية، كالصحة والذكاء والاتزان العاطفي. وفي المقابل يرى البعض أن عدم تساوي البشر في الخصائص الطبيعية، قد يكون مجرد نتيجة لعدم توافر المساواة الاجتماعية، “فالصحة المعتلة مثلًا تنشأ عن سوء التغذية، ويكون الذكاء المتدني مجرد انعكاس لأمية أسرة فقيرة”([28]).                                          

 وهذا التداخل، أو وجود نقاط الإلتقاء،بين القيم الثلاثة الأساسية (العدالة والحرية والمساواة)، يجعل من الممكن أن نتحدث عن “منظومة قيم”، تاركين وراء ظهورنا الجدل العقيم حول وجود تناقض بين هذه القيم الثلاثة- على وجه الخصوص- فالقول بالتناقض راجع، كما سبق الذكر، إلى صراع الأيديولوجيات وتنافس الحضارات أكثر من كونه حقيقة واقعية. وإذا كانت الممارسة قد زكت في كثير من الأحيان الإدعاء بالتناقض التام، أو التصادم الحتمي عند التطبيق، فإن هذا كان لخدمة الأنظمة الحاكمة، وليس لمصلحة الجماهير.

ومما يساعد على تصور هذه المنظومة أن مفاهيم (الحرية والعدالة والمساواة)، وإن كانت ذات معنى ومضمون تاريخي متغير، الأمر الذي يجعلها مفاهيم نسبية، فإنها في ذاتها دائمة الحضور في التاريخ البشري، رغم تغير هذا المضمون، مما يجعلها تكتسب صفة الإطلاقية.([29]) وهنا تنازعت مدرستان حول “القيمة” الأولى للبراجماتيين والوضعيين والوضعيين المناطقة، والثانية للمثاليين العقليين، وقابلت الأولى بين مفهومي القيمة والحقيقة على أساس أن الحقيقة هي أمر يقره العقل، أما القيمة فهي صفة يخلعها العقل على الأقوال والأفعال والأهداف والغايات والتوجهات، الأمر الذي لا يجعلها ثابتة وراسخة كما هو الحال بالنسبة للحقيقة، بل تختلف باختلاف من يصدر الحكم، وتفاوت الظروف والملابسات التي يصدر فيها.

أما أتباع المدرسة الثانية فقد عارضوا هذه النظرة للقيمة؛ لأنها تجعلها ذات طابع شخصي خال من الموضوعية، وأكدوا، على النقيض من ذلك، أن القيمة صفة عينية كامنة في طبيعة الأقوال (المعرفة)، والأفعال (الأخلاق)، والأشياء (الفنون).([30])

 لكن التشكيك في موضوعية القيم ورسوخها ستترتب عليه عواقب وخيمة بالنسبة للمجتمعات، الأمر الذي جعل بعض المفكرين ورغم أنهم يؤمنون بعدم ثبات القيم، ومن ثَمَّ عدم قدرتها على إطلاق أحكام موضوعية، فإنهم يطالبون بأن تكون القيم ملزمة للجميع من أجل حياة محترمة.([31]) كما أن صفة الثبات نفسها قد تكون سلبية حين تتحول إلى جمود، وهي الآفة التي أصيبت بها العديد من الأيديولوجيات فتنحت جانبًا في معترك التاريخ.

 كما أن تغير القيم نجد فيه “مرونة” تفتقدها الأيديولوجيات، وفي الوقت نفسه فإن هذه المرونة، مهما كانت درجتها، لا تمنع من التفكير في نسج منظمة قيم، قد تختلف من مجتمع إلى آخر، حسب أوضاعه وظروفه وإرثه الثقافي، لكن وجودها يبقى مهمًا له كإطار يحكم حركته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

فطبقا لمدرسة “الجواهر الأصلية” أو “المدرسة الكنهية”، التي تصبو إلى ربط الظواهر الاجتماعية المشتتة، كما يقول عليها سمير أمين، نستطيع “ربط مجموعة قيم يمكن أن نسميها مرجعية باقتراحات تخص المؤسسات والآليات المجتمعية التي تلائمها. وقد تكون هذه القيم المرجعية مستنتجة من نظريات أنثروبولوجية، أو مستدرجة من تحليل واقع منظومة تاريخية معينة (وهي فرضية ماركسية)، أو ناتج تأويل معين لعقيدة دينية. وقد تكون هذه القيم أبدية الطابع في بعض النظريات، أو قابلة للتطوير، أي مطلوبة في عصر ولو لم تكن مطلوبة في العصور السابقة”([32]).


(*) روائي وخبير في علم الاجتماع السياسي – مصر
([1]) د. محمد عزيز الحبابي، “عالم الغد: العالم الثالث يتهم ـ مدخل إلى الغدية”، ترجمة: د. فاطمة الجامعي الحبابي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة العربية الأولى، 1991، ص: 22.

([2]) المرجع السابق، ص: 205.

([3]) فيليب برو، علم الاجتماع السياسي”، ترجمة د. محمد عرب صاصيلا، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، ، ص: 212.

([4]) الحبابي، مرجع سابق، ص: 205.

([5]) د. سالم يفوت، “الهاجس الثالثي في فلسفة محمد عزيز الحبابي”، في مجموعة باحثين، “الفلسفة في الوطن العربي المعاصر: بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول الذي نظمته الجامعة الأردنية” ، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الثانية، 1987، ص: 289.

([6]) ألفن توفلر، “وعود المستقبل”، ترجمة: فارس عصوب، (بيروت: دار المروج)، 1986، ص: 91.

([7]) John Schwarz Mantel, Ibid, p: 187.

([8]) د. سمير أمين، “بعض قضايا المستقبل: تأملات حول تحديات العالم المعاصر”، (بيروت: دار الفارابي)، الطبعة الأولى، 1990″، ص: 155.

([9]) فضيل أبو النصر، “الإنسان العالمي: الهولمة والعالمية والنظام العالمي”، (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام)، الطبعة الأولى، 2001، ص: 133/134.

([10]) المرجع السابق، ص: 135.

([11]) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة، أنظر:

– L . Ali Khan, The Extinction of Nation- States: A World Without Borders, The Hague/ London/ Boston, Kluwer Law International, 1996.

([12]) طارق البشري، “تعقيب على بحث لجوزيف مغيزل بعنوان: الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية”، في “القومية العربية والإسلام”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الثالثة، 1988، ص: 393.

([13]) يمكن أن نضرب مثالًا على ذلك بالخطاب الذي أدلى به الرئيس الأمريكي، جورج بوش (الابن) عقب التفجيرات التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من شهر سبتمبر عام 2001، حيث استعمل لفظ الأيديولوجيا ليشير إلى أمر  ممقوت بالنسبة للعقلية الأمريكية، وحيث حين أطلق على الأفكار التي يتبناها أسامة بن لادن بأنه “أيديولوجيا دموية”، مسترجعًا صراع الولايات المتحدة مع الأيديولوجيات الأخرى، مثل الشيوعية والفاشية والنازية. أنظر في هذا الصدد:

– Washington  Post, What to Fight For, 23/ 9/ 2001.

([14]) السيد يس (محرر)، “نحو تأسيس نظام عربي جديد”، (عمان: منتدى الفكر العربي)، الطبعة الأولى، 1992، ص: 62.

([15]) المرجع السابق، ص: 63.

([16]) د. أنور عبد الملك، “تغيير العالم”، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة (عالم المعرفة)، العدد رقم (95)، نوفمبر 1985، ص: 135/ 145.

([17]) د. ضياء زاهر، “القيم في العملية التربوية”، (القاهرة: مؤسسة الخليج العربي)، 1988، ص: 17/ 21.

([18]) Anthony Quinton, Editor, Political Philosophy, Oxford, Oxford Press, 10th Edition, 1991.p: 127.

([19]) د. عبد الوهاب الكيالي (مشرفًا)، “موسوعة السياسة”، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، الطبعة الأولى، 1981، الجزء الثاني، ص: 242.

([20]) المرجع السابق، ص: 244.

([21]) د. كريم يوسف أحمد كشاكش، “الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة”، (الإسكندرية: منشأة المعارف)، 1987، ص: 32.

([22]) د. أحمد جلال حماد، “حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية: بحث مقارن في الديمقراطية الغربية والإسلام”، الطبعة الأولي، 1987، ص: 92/93.

([23]) جون ستيورات ميل، “أسس الليبرالية السياسية”، ترجمة: د. إمام عبد الفتاح إمام، د. ميشيل متياس، (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 1996، ص: 19.

([24]) د. ناصيف نصار، “منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر”، (بيروت: دار أمواج)، الطبعة الأولى، 1995، ص: 237/ 238.

([25]) أنظر في هذا الشأن:

ـ عامر الزمالي، “مدخل إلى القانون الدولي الإنساني”، (تونس: المعهد العربي لحقوق الإنسان/ اللجنة الدولية للصليب الأحمر)، الطبعة الثانية، 1997.

([26]) Dorothy Lee, Freedom and Culture, U.S.A, Prentice – Hall, INC, 1959, p: 39.

([27]) د. نوال سليمان رمضان، “التنشئة الاجتماعية والقيم السياسية لدى الطفل المصري”، (القاهرة: دار النهضة العربية للطبع والنشر والتوزيع)، 1992، ص: 66.

([28]) جلين تيندر، “الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية”، ترجمة: محمد مصطفى غنيم، (القاهرة: الجمعية المصرية لنشر المعرفة العالمية)، الطبعة العربية الأولى، 1993، ص: 85.

([29]) د. تركي الحمد، “عن الإنسان أتحدث: تأملات في الفعل الحضاري”، (بيروت: دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، 1997، ص: 125.

([30]) د. محمد محمود ربيع، ود. إسماعيل صبري عبد الله، “موسوعة العلوم السياسية”، مرجع سابق، ص: 302.

([31]) المرجع السابق، ص: 303.

([32] ) د. سمير أمين، “في مواجهة أزمة عصرنا”،(القاهرة: سينا للنشر ـ بيروت: الانتشار العربي)، الطبعة الأولى، 1997، ص: 174.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى