كانت الحروب الدينية وعلى رأسها حرب الثلاثين عامًا (1618م ـ 1648م) بمثابة نتيجة سلبية لحركة (الإصلاح البروتستانتي)، أُريق في سياقها الكثير من الدماء، وخصوصًا من رعايا دول “كفرنسا وألمانيا وهولندا”، وطوائف مثل “الأناباتيست” و”الهوجونت” و”الجزويت”، إلاّ أنّها انتهت بعقد معاهدة “وستفاليا” التي فتحت الطريق إلى بناء الدولة القومية ورسوخ العلمانية السياسية على قاعدة التسامح الديني، بعد أن باتت فكرة الوحدة السياسية والفكرية للعالم المسيحي الكاثوليكي من الماضي البعيد الذي صار يطلق عليه منذ ذلك الوقت لقب “العصور المظلمة”، بينما باتت وحدة التراب والأرض هي الأساس، وجرى الاعتراف لكل دولة بأنّها صاحبة سيادة علي أراضيها؛ ليصبح أي تدخل في شؤونها الداخلية خرقًا للقانون الدولي، ومن ثم حدثت النقلة الكبرى في أوروبا على صعيد علاقة الإنسان بالأرض, والأرض بالسلطة والسلطة بالدولة، والتي أفضت إليها نظريات العقد الاجتماعي التي سعت جميعها إلى إعادة تأسيس الشرعية السياسية، باعتبارها قضية دنيوية تنبُت من أرض المصلحة البشرية، ولا تنزل من السماء باسم حق إلهي مقدس.
بل إنّ الدولة الوطنية نفسها، بما تملكها من حقوق السيادة على أرضها ومواطنيها، باتت دينًا للحداثة، فالمجتمعات الحديثة تقدّس أوطانها مثلما كانت المجتمعات التقليدية تقدس آلهتها، خاصةً في تلك اللحظات الخطرة من أعمارها، والتي تثير مشاعر الخوف عليها عند الحروب والثورات والكوارث على نحو تبدو معه مقولة الشيخ العربي الجاهلي “عبد المطلب بن عبد مناف” جد النبي الكريم محمد (ص) في مواجهة جيش “أبرهة الحبشي” نبوءة حداثية بامتياز، فقد بادر الرجل إلى حماية داره وإبله التي هو ربها دون اكتراث بالكعبة التي لها رب سواه أولى منه وأقدر على حمايتها، حيث حمى الله الكعبة ونجّاها من شر الغزاة. هذا الفهم الذي جسّده “عبد المطلب” بحكمة تقليدية ،وهو ما توصل إليه” كارل شميدت”، عالم الأنثروبولوجيا الدينية الكبير في أطروحته المعاصرة (اللاهوت السياسي) عندما أكّد على أنّ جل المفاهيم السياسية ذات الأهمية كانت في الأصل مصطلحاتٍ لاهوتيةً جرت علمانيتها، حيث احتلّ مفهوم سيادة دولة مكان الله في اللاهوت، وباتت المصطلحات (اللاهوتية ) التي تتوسط العلاقة مع الله هي نفسها التي تتوسط العلاقة مع الدولة، وعند الرومانسيين ينزع الشعب إلى احتلال المكان الذي كان مخصصًا فيما مضى لله، أما الزعيم السياسي فيستقي قوته من أنّه يجسّد سيادة الدولة المطلقة التي تتعالى على أفرادها بالطبع ، يبقى الله هو المطلق الذي يقاس إليه ولا يقاس إلى سواه، ولكن يبقى الوطن حاملًا ؛لقبس من ذلك المطلق مجسدًا لبعض المثل العليا التي يعنيها الله، فالأوطان نقطة يجري عندها السنة الإلهية، والتقديس الدنيوي، ولو عبر التلميح لا التصريح.
يلهمنا الإيمان بالوطن عشقًا للأرض والناس، كما يلهمنا الإيمان بالله شوقًا إلى السماء والغيب. بالطبع ثمة شروط للوطن الذي يستحق التضحية لأجله على رأسها الحرية والعدالة، مثلما توجد شروط للإله الذي يستحق الشهادة في سبيله، على رأسها الوحدانية والرحمة، فالإله الواحد المنزه عن كل نقصٍ( العادل والرحيم) يحتضن العبد المؤمن ويمنحه رعايته، مثلما يصبر على الفاسق وقد يمنحه الهداية أو الغفران، لا يفرق بين عباده، ولا يجعل من أيّهم وصيًا على الآخر، والدولة الحرة العادلة الخالية من العنصرية والظلم، تحتضن جميع مواطنيها لا تميز بينهم، تمنح للموهوب القادر على المبادرة حريته، وللفرد العادي فرصته، وتمد على الضعيف حمايتها، وكما فرض الله علينا الزكاة والصدقات وتركها رهنًا لضمائرنا، وكفالةً للفقراء والمحتاجين، فغالبًا ما تفرض علينا الدولة رسومًا وضرائب بقوة القوانين، و كفالةً للمرضى والمعوذين.
تضع الأوطان دساتيرها بتوافق جموع مواطنيها، واستلهامًا لمقومات روحها؛ ليصبح دستور الوطن بمثابة كتابه المقدس “إنجيله أو قرآنه” يستلهمه في صنع قوانينه، ويحتكم إليه في حل خلافاته، والويل لكل من أهدره فالخروج عليه هتك لروح الجماعة وعدوان على ضميرها، والهرطقة السياسية تشبه الهرطقة الدينية، الأولى إنكار للوطن والأخرى إلحاد بالله، وكلتاهما ترتب أشكالًا مختلفةً من الحرمان “روحي أو جسدي”، “قدسي أو دنيوي”. كما صارت أعلام الدول مثل مآذن حديثة، تشبه وتوازى وأحيانًا تتفوق على نظيرتها في المعابد والكنائس والمساجد، ترتفع فوق كل الشرفات وعلى كل المؤسسات طوال الأيام، ويتم التلويح بها في الأعياد الوطنية وفي ذكرى الانتصارات العسكرية وأحيانًا الرياضية، مثلما تُنكس في أيام الهزيمة والانكسار تعبيرًا عن الحزن والحداد، وفضلًا عن ذلك تصنع الأوطان أناشيدها التي تتغنى بها، وتضع لها موسيقى تشبه الترانيم الكنيسية، والتراتيل القرآنية، كي تشنف الآذان وتثير الخشوع في جموع المواطنين، وتهتز أبدانهم وقد تطفر دموعهم مع عزف السلام الوطني، مثلما تتساقط دموع المؤمنين عند سماع الآيات المقدسة، وعلى هذا صارت الأمم تبجّل مفكريها الكبار الذين يرسمون معالم شخصيتها، ويصوغون السرديات الطويلة عن تاريخها، كما تُخلد فنانيها المبدعين الذين ينشدون عنها ملاحم تحكي أمجادها القديمة، وتتغنى بحضاراتها العتيقة حتى باتت الأوطان أقرب إلى أساطير تحمل أبعادًا خياليةً وعاطفيةً، بقدر ما تنطوي على حقائق عقلية وتاريخية، ينصاع الجميع لها احترامًا للدماء المراقة على مذبحها، والتضحيات المبذولة؛ لحفظ بقائها وضمان استمرارها، من أقدم العصور إلى أحدث الأزمنة، فيصير الأبطال القدماء جدًا، كالمحدثين جدًا مثل حبات لؤلؤ تنتظم في عقدٍ واحدٍ، يزين رقاب أبنائها ويثير الفخر لدى شبابها، فأولئك الرجال الكبار هم من يحملون البوصلة، ويمنحون المعنى، ويؤكدون الهوية في زمن التيه أو لحظات الخطر. وحتى الأبطال الذين يموتون من دون أن تشتهر أسماؤهم، صار قبر الجندي المجهول معلمًا عليهم، يحُج إليه الناس في المناسبات المختلفة، امتنانًا لهم وتقديرًا لتضحياتهم.
بعد أن صارت الوطنية دينًا للحداثة، كان محتمًا أن تُقدس حدود الأوطان؛ لتضع فاصلًا بينها وبين جيرانها، أصدقاء كانوا أم أعداء، فالحدود علامات كأبواب البيوت، الحدود تفتح على التراب المقدس لدى جموع الناس، والأبواب تفتح على الحرمات الخاصة بأهل البيت؛ ولهذا صارت حدود الأوطان مثل جلد الإنسان أو جلد الكتاب المقدس، (الإنجيل أو القرآن)، فجميعها يفتح على باطن الإنسان وعوالم الإيمان، فصار التفريط فيها عارًا لا تبرره الحاجة ولا يمحوه الزمان، حيث ينطوي مفهوم السيادة الوطنية، بما يعنيه من كلية الأرض وعلو الإرادة، على قيمة رمزية ومعنوية، تطرح نفسها في طقوس جمعية تشبه العبادات الدينية، وتعمل مثل الصمغ اللاصق الذي يترابط به الجموع، ويتماسك بفضله الكيان الجامع، حيث يبنى جموع المواطنين تضامنهم المشترك بحسب قدرتهم على تمثل ما في الدين من قدرة على تكتيل إرادة جموع المؤمنين، فمشاعر الأخوة في الله تشبه مشاعر الثائرين للوطن، يتجمع هؤلاء تحت راية الله، ويتضامن أولئك تحت راية الوطن والوطنيون ؛ لإعادة بناء بلدهم بالصورة التي يحلمون بها بعد أن أرهقه المتسلطون عليه والمؤمنون ؛ للدفاع عن دينهم الذي يعاديه الملحدون، أو يفسده المنافقون. أما الطقوس الثورية في الحشد والتعبئة فتعبر أفضل تعبير عن ذلك الرابط الخفي بين الشعور الوطني كـ (دين مدني) وبين الدين كـ (وطن روحي)، فالحماس الوطني هو مشاعر دينية في الصميم، لكنها أخذت طابعًا دنيويًا؛ إذ بدلًا من انتظار المؤمنين الأبرار (الخجول) للحياة الفاضلة في الملكوت السماوي المؤجل، يسعى المواطنون الأحرار إلى تجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن، على هذه الأرض، بل إنّ المواطنين يستعيرون رغبتهم في التضحية على مذبح أوطانهم ضد الأعداء من روحانية الجهاد ضد الكفار، فالشهداء في سبيل الوطن كالشهداء في سبيل الله، بل كل شهيد لأجل الوطن هو قطعًا شهيد في سبيل الله، فالوطن لا يكون وطنًا إلاّ إذا صار بوتقة صهر لمعنى يتجاوز الأفراد مثلما يسمو الله على الوجود، فالله هو خالق (الكون والإنسان والوطن )،وهو رب أبنائه في كل زمان ومكان، ولهذا تُستفز له النخوة، وتصبح التضحية في سبيله أمرًا طبيعيًا وممكنًا في كل آنٍ.
ولكن يبقى تحذير واجب وضروري من أنّ تقديس الوطن لا يعنى الإقصاء باسمه أو الاستعلاء على غيره وصولًا إلى التطرف القومي، كما أنّ تقديس العقيدة لا يعنى الوصاية باسمها، أو العداء لغيرها كما يفعل المتطرف الديني، يقود التطرف في الوطنية إلى استبداد سياسي، مثلما يقود التطرف في الدين إلى عنف أصولي، يسعى كلاهما إلى التحكم في الطبيعة الإنسانية، سواء باسم مذهب ديني محافظ أو نزعة وطنية شمولية. يدعي المتدين المتطرف معرفته بالطريق الوحيد الذي يكفل للجماعة الدينية تحقيق أهدافها الكبرى وغاياتها القصوى، وكأن الله قد اصطفاه دونًا عن خلقه أو بث فيه سرًا لم يبثه لنبيه، ولا يجب مراجعته فيه، وهنا يصير المؤمنون الآخرون، أحرار العقل والضمير، الذين ينشدون الله عبر طريق لا يمر بوصايته، مجرد زنادقة يستحقون التكفير، وفي المقابل يتصور الوطني المتعصب أنّ الاعتراف بالأهداف والغايات الكبرى لوطنه، المحكومة باعتبارات سيادية لا يجب معارضتها، وكأنّ الوطن قد تجسد فيه وأسر له بما لم يبح به لسواه، وهنا يصبح المواطنون الأحرار، ذوو العقل والإرادة، الرافضون لروح القطيع المرتع بوطنية زاعقة وشمولية بائسة، مجرد متمردين يستحقون التخوين.
وإذ يدعي المتدين المتطرف سمو عقيدته على جميع الأديان والمذاهب والطوائف، فإنّه لا يتوانى عما يعتبره جهاد ، وتبريرًا لرؤيته يستدعى أكثر تأويلات طبقات تراثه غرابة، ومن ثم تنمو ظاهرة الجهاديين، الذين لا يحاربون كفارًا بالضرورة، ولا ينشرون دينًا بالقطع بل يقتلون ذويهم ويدمرون بلدانهم، ويصارعون حكامهم طمعًا في غنيمة وطلبًا لغلبة وسعيًا إلى سلطة، فالإيمان لا يفرضه الإرهاب، والأديان لا ينشرها سيف، وإذ كان الجهاد فكرة ممكنة في زمن البداوة وعصر الإقطاع ؛ فلأن الحرب وليس السلام كانت هي أساس العلاقة بين الجماعات البشرية، فحق الفتح كان مكفولًا، والحرب كرًا وفرًا تشبه حركات الشهيق والزفير الطبيعيتين، فمن لم يكن يغزو كان لابد وأن يُغزَ، تُحرق أرضه ويُسلب ماله، وتُسبى نساؤه، ليس باسم الدين حتمًا بل باسم شيخ القبيلة وسلطان الإمارة وحاكم الإمبراطورية، حيث كان القرار يؤخذ بليل بهيم تلبيةً لنزوة قاصرة أو توسع مقيت، قبل ميلاد الحداثة السياسية، وتجريم الحرب العدوانية باتفاقات قانونية تضمنها مؤسسات دولية.
وفي المقابل، إذ يدعى الوطني المتعصب سمو وطنه على البلدان الأخرى، فإنّه غالبًا ما يصطنع له خصوصية عرقية أو لغوية، مستدعيًا رؤى فلاسفته ومؤرخيه الأكثر عنصرية، وتأويلاتهم بالغة الاستعلائية، محاولًا فرض إرادته علي ما سواه من بلدان، ولو عبر القتال، متجاهلًا أن الحرب قرار خطير يقتضي التضحية بالرجال والشباب، يفرض على صانعه أن يكون حصيفًا، لا يدخل معارك عبثية، تشبع نرجسيته أكثر مما تحمى بلده، تلبى جنون عظمته وليس حقوق ومصالح شعبه، فللحرب أصول ومقتضيات، أهمها أن تكون ضرورية وعادلة، دفاعًا عن أرض وحدود أو عن كرامة قومية، يتأكد منها الشعب عبر ممثليه، وإلاّ صارت عبثية تهدد مستقبل الوطن، الذي هو ثمرة كفاح الأجيال عبر مختلف العصور على طريق التحرر الإنساني والتقدم التاريخي.
العلمانية السياسية والعقد الاجتماعي:
أفضت العلمانية إلى تبديل النظر إلى أصول ظاهرة السلطة من الحق الإلهي المقدس مثلما كان الأمر في جل العصور التقليدية إلى الإرادة البشرية والمصالح الدنيوية للجماعات السياسية داخل فضاء الدولة القومية، وهنا انتهت العصور الوسطى جوهريًا وأخذ الفكر السياسي في الارتقاء إلي أفق الحداثة السياسية، وبرزت النظريات الليبرالية على أساس من الحرية الاقتصادية والديمقراطية السياسية التي توازن بين الحقوق والواجبات، وبين الحاكم والمحكوم ،والتي عبّرت عنها نظريات العقد الاجتماعي التي تصورت جميعها عقدًا مكتوبًا بين محكومين أرادوا الخروج من حالة الطبيعة _حيث العنف العاري_ وقوانين الغاب إلى أفق التحضر حيث الأسس المدنية والشرائع القانونية للدول والمجتمعات، وإن اختلفت أشكال هذا العقد الاجتماعي بين مفكر وآخر، بين صيغة وأخرى، مراوحة بين الاستبداد والديمقراطية، انطلاقًا من تقييمها الأول لحالة الطبيعة السابقة على العقد الاجتماعي.
فمثلًا، رأى “توماس هوبز” أن حالة الطبيعة الأولى كانت فوضوية ووحشية، وأن الناس بحاجة إلى سلطة قوية فاعلة ؛ لتضبط سلوكهم لأنّهم أنانيين وغلاظ وقساة بالفطرة، وكي تكون السلطة فاعلة يجب أن تكون مطلقة، يمنحها الناس إلى الحاكم ثم يتوقفون عن مسائلته، لأنهم لم يفوضوها إليه بل تنازلوا عنها لأجل أن يمنحهم الأمن، ومن ثم دافع “هوبز” عن الدولة القوية مثل تنّين أو وحش قادر على هضم مفرداته، أو حاكم مطلق و ملك مستبد يستطيع فرض إرادته وسلطته والسير بالشعب إلى حيث يريد، طالما استطاع تحقيق الاستقرار، وبلا شك_ ينتمي هذا التصور جوهريًا إلى روحانية العصور الوسطى السياسية على صعيد الحرية، وكأن “هوبز” هو المنظر السياسي للخليفة الأموي “معاوية بن أبى سفيان”، والحقيقة أن “هوبز” أراد في تبريره للحكم المطلق أن يبرر ويؤيد السلطة المطلقة “لآل ستيوارت ” في إنجلترا ، حيث كان ربيبًا ومؤيدًا لها بقدر ما كان تعبيرًا أمينًا عن مثقف الدولة التنّين (الحديثة المستبدة)، نعم هي دنيوية وعلمانية، تتجذر في الإرادة الإنسانية، ولكنها لم تصبح بعد ديمقراطية ليبرالية، حيث الحداثة لا تزال في بدايتها، وكذلك مثلها السياسية.
من جانبه اعتقد “جان جاك روسو” في أنّ الإنسان خير بطبعه، وأنّ حالة الطبيعة شهدت تعاون وتكافل الأفراد ؛ لتدعيم قوة الجماعة، ولكن هذه الحالة المثالية أفسدتها نزعة التملك الأنانية منذ قام أول رجل ببناء سور حول قطعة من الأرض وقال للآخرين: “هذه لي، حيث نشأ التفاوت بين البشر، ومن ثم غرائز الأنانية في الصراع والحروب بينهم”. وهكذا أنتجت الملكية الخاصة مجتمعًا فوضويًا عنيفًا، يحتاج إلى التنظيم كي يستعيد حالة الطبيعة الأولى (الفطرة) من قبضة الطبيعة الفوضوية التي خلقتها الرغبة في التملك، ومن ثم يبدو العقد الاجتماعي لدى روسو شرًا لابد منه. إنّه تنازل عن جميع أفراد الجماعة البشرية، ولكن ليس لملك كما تصور “هوبز” بل لصالح الإرادة العامة التي احتلت موقع السيادة العليا، وإنّ ممارسة الحاكم لتلك السيادة نيابة عن الإرادة العامة، ذلك مقابل التزامه بأمرين: أولهما :أن يتكفل بوضع وضمان استقرار الدستور، فلا تسعى إلي تبديله إلا بموافقة ممثلي الإرادة العامة، وكذلك القوانين الأساسية الملزمة للجميع ومن بينها القانون الذي يرتب طريقة اختيار الحكام من بعده. وثانيهما :أن لا يمارس سلطته الموكلة له إلا وفقًا لمقصد موكليه، وأن يجعله يفضّل في كل مناسبة المصلحة العامة علي المصلحة الشخصية.
أما “جون لوك ” فرأى أن العقد لم ينشأ عن تنازل أصلًا، بل تم بين طرفين هما الهيئة الحاكمة والشعب، وأن الأفراد قد تنازلوا بموجب هذا العقد عن بعض حقوقهم وليس كلها، وأن الحقوق التي تنازلوا عنها هي بالقدر اللازم ؛ لإقامة السلطة العامة في المجتمع. وأنّهم احتفظوا لأنفسهم بالجزء الباقي من حقوقهم، ولا يحق لأي سلطة المساس بهذا الجزء الذي احتفظوا به، وأن على السلطة أن تحترم الحقوق الأساسية العليا التي بقيت في أيدي الأفراد حتى بعد إبرامهم العقد الاجتماعي الذي رتب التزامات متبادلة بين الحاكم والأفراد، فسلطته إذًا مفوضة ومقيدة، تستند إلى رضاهم وإرادتهم الحرة، وإذا ما أخل بالتزاماته المقررة في العقد، محاولًا الانفراد بالسلطة المطلقة جاز لهم فسخ العقد. يمثل “لوك “هنا قطيعة مفهومه مع التصور” الهوبزي “عن العقد الاجتماعي، إذ يقيمه على قاعدة التوازن والمسئولية الديمقراطيتين، فالشعب وحده هو مصدر السلطات، ولذا فقد نادي بجعل السلطة التشريعية في يد الشعب، وأصر علي أن تكون هي السلطة العليا في الدولة، وفصلها عن بقية السلطات الأخرى؛ لأنها إن لم تنفصل فستنقلب الحكومة إلي نوع من الطغيان.
عرضنا هنا لطبيعة العقد الاجتماعي لدى” روسو” قبل” لوك” رغم أنّه يعقبه زمانيًا، وأنّه قد عاش إلى ذروة عصر التنوير وحتى مشارف الثورة الفرنسية، ربما لأن فكره يعكس خلطًا وتشويشًا. فمن ناحية نجد حديثه عن الإرادة العامة هائمًا وغير محدد، يدور في فلك النزعة الرومانسية التي بدت ردًا على عقلانية التنوير الصارمة، والتي كان هو أحد أقطابها في النصف الثاني للقرن الثامن عشر. ومن ناحية أخرى نجد تصوراته عن أشكال الحكومة رجعية إلى حدٍ بعيدٍ يكاد يشبه الفكر اليوناني خصوصًا لدى “أفلاطون”، فهو لا يثق في جموع الناس الذين يشكلون الإرادة العامة، ومن ثم يبدى شكوكًا عميقة إزاء الديمقراطية، بل وفي الفرد العادي، مع أن تلك الثقة هي روح التنوير التي كان هو نفسه قد عبر عنها في مفهومه عن قابلية الإنسان للكمال، ومن ثم يمكن القول:” بأنّ مفهوم العقد لدى “روسو” يمثل ردًا عنه لدى “لوك”، وأنّ الديمقراطية التمثيلية كما هي اليوم إنّما تدين بالفضل أكثر إلى “جون لوك”، الذي انتقل بالعقد الاجتماعي نقلة كبيرة للأمام، كرست دنياه مثل “هوبز” من قبله و”روسو” من بعده، ولكنه زاد أيضًا من ديمقراطيته، بحيث يمكن اعتباره الأب الأول للنظام التمثيلي، مثلما كان هو الأب لمفهوم التسامح السياسي في معناه الحديث.
غير أن العقد الاجتماعي الذي بدأ تحريره لدى” روسو”، مؤسسًا على الفصل بين السلطات مع “مونتسكيو”، مع علو السلطة التشريعية كمصدر للسيادة لدى “جون لوك”، عاد ؛ليتحول إلى عقد اجتماعي شمولي وإن ظل دنيويًا، لدى الفيلسوف الألماني “هيجل” الذي بلغ به تمجيد الدولة إلى حد عبادتها، الأمر الذي سيفرز بعد قليل واحدة من الأزمات ذات الطابع البنيوي في مواجهة مسيرة الديمقراطية، لقد اعتبر “هيجل” أن هدف “نيل الاعتراف والتقدير” محركًا أساسيًا للتطور التاريخي فأضاف محقًا هدفًا معنوًيا يعطى للفكر الإنساني شموليته، على عكس” ماركس” الذي سيختزله بعده بقليل في البعد المادي- الجدلي على نحو يفقره، لكن مشكلة “هيجل” الناجمة عن طبيعة نسقه الفلسفي الغائي والشامل، والمفعم في الوقت ذاته بثغرات تسمح بتقديم تأويلات متناقضة له. على سبيل المثال، لم يقصر “هيجل” هذا الهدف على الأفراد بل انصرف به إلى الدولة، فغاية التاريخ هي الحرية، ولكن الحرية الأصلية_ العقلية لدى الفرد تعوقها الحواس والرغبات الأنانية، ولذا يتعين على الدولة ضبط هذه الغرائز، حتى تنبلج الحرية الإنسانية ناصعة. ومن ثم عوَّل “هيجل” على مركزية الدولة ورأى في حريتها ضمانه لتحرر مواطنيها، ومن ثم ولدت القومية العضوية، ومن ثم الشمولية الخطرة، فالحرية لديه ليست ليبرالية تُعوِّل على الذات الفردية وتثق بها، بل شمولية تعلي الكيان الكلي على الجزئي،( الدولة على الفرد).
هذا الفهم سرعان ما توسع فيه الفيلسوف “فيخته” معتبرًا أن القومية الألمانية هي الرابطة الوحيدة التي يمكن اعتبارها رابطة قومية حقيقية، بينما قام “نيتشه ” بابتذاله مفهوم القومية تمامًا باعتباره مجرد انعكاس لعرقٍ خاص هو العرق الآري المتميز على كل الأعراق والشعوب الأخرى، خصوصًا بعد أن اعتبر العالم الألماني “ماكس مولر” أن كلمة (آري) مشتقة من اللغة السنسكريتية ومعناها (سيد)، فالجنس الآري هو الجنس السيد ولغته هي أصل اللغات الهندو-أوروبية ابتداءً بالهندو-ستانية وانتهاء بالإنجليزية. بل سرعان ما جسده بسمارك في توحيد الأقاليم الجرمانية المبعثرة حول روسيا و ألمانيا عبر القوة العسكرية، أعقاب حروب كبرى أهمها مع فرنسا، ليكون دولة قومية، سرعان ما تشهد نزعات ثقافية تمجد الحيوية العرقية، وتذهب بتطرفها القومي إلى حربين كبيرين: الأولى في سياق الصراع على حيازة المستعمرات مع الإمبراطوريات الأوروبية، والثانية في سياق رد الفعل التاريخي على هزيمة النرجسية الجرمانية، والاستجابة السيكولوجية للفكرة النازية كأسوأ تعبير عن قومية عنصرية استبعادية.
لقد سارت النازية على طريق إهدار قيمة الفرد، ولو عبر طريق التفافي، يمر بتضخيم ذات الفرد حتى ينفجر من داخله، وذلك بالنفخ في روح الأمة الألمانية ذاتها، فكما أن تلك الأمة عظيمة منذ البداية، خلقت لرسالة كبيرة تعتلى بها قمة الأعراق، وتسعى من خلالها إلى ريادة الحضارات، فإن الفرد الألماني هو أعظم الذوات الإنسانية بشرط وحيد هو أن يكون لبنة أولى طيعة في عظمة الوطن الآري، ومن ثم يتوجب عليه التضحية باستقراره وأمانه وهناء عيشه؛ ليحارب الأمم الأخرى خارج هذا الوطن، تلك التي تنفي عظمته، وليضطهد الأعراق الأخرى داخله، تلك التي لا تحمل دمائه الصافية وعرقه النقي، حتى كان ما كان من” شوفينية” واستبداد ومعارك دامية لأسباب واهية، أتت على تلك المدنية الكبرى، التي أنتجت سلفًا بعضًا من أعمق الأفكار التنويرية، واحتضنت يومًا التيار النقدي أحد أبرز التيارات الفلسفية، حيث قتل ورثته الفرانكفورتيين أو سجنوا أو هاجر معظمهم إلى الولايات المتحدة، هروبًا من الجنون النازي الذي دمر كل شيء، قبل أن يدمر ما بقي في عقولهم.
القومية العضوية وأزمة الدولة العربية:
في السياق العربي، حيث تأخرت الحداثة الثقافية، لم يتضح الطريق السياسي الحديث قبل منتصف القرن التاسع عشر في أفضل الأحوال، فلم تكن هناك دعوات علمانية واضحة، ولم يتبلور عقد اجتماعي جديد، بل ظلت مجتمعاتنا أسيرة ذلك العقد البدائي المتمثل في نموذج (السلطة الرعوية) الذي يكاد يجسد المعادل العربي للإقطاع الأوروبي وجوهره أن تقوم فئة ما، لها تميزها الخاص بأداء الوظيفة العسكرية في حماية المجتمع والذود عنه، وفي المقابل فإنّها تتحكم في سلطته السياسية وغالبًا في موارده الاقتصادية. بدأ هذا العقد بهيمنة الفرس وتلاعبهم بمقاليد الخلافة العباسية في عصرها الأول، قبل أن تبدأ هيمنة الأتراك، بما هم عليه من عنفوان عسكري وضعف حضاري، على العصر العباسي الثاني، وقد تدعم هذا العقد الرعوي بالاجتياح التتري، فالتتار بدو رحل بالأساس، يتميزون بالقوة والهمجية ولا يملكون ثقافة تذكر، كما أنّهم يفتقدون إلى البناء الاقتصادي الذي يكفل عيشهم واستقرارهم، ولذا فالهجمة التي قاموا بها علي العالم العربي لم تكن سوى ممارسة لنشاطهم المعتاد (اقتصاد الغزو) حيث تكون القوة العسكرية واستخداماتها في السلب والنهب هي الوسيلة المثلى لكسب العيش، ومن ثم مثلوا نموذجًا معياريًا للسلطة الرعوية، استمر على نحو ما في العصر المملوكي ثم العثماني وحتى القرن العشرين دون ممانعة عربية تذكر.
عندما سقطت الخلافة العثمانية 1924م، وزال الاحتلال الأوروبي حوالي منتصف القرن العشرين، بدا وكأن المجتمعات العربية قد أدمنت نموذج السلطة الرعوية كعقد اجتماعي بدائي لم تعد تقاومه بل صار لديها قابلية الخضوع لأي سلطة ترثه، دون القدرة على محاسبتها أو حتى رغبة المشاركة في اختيارها، وبدلًا من الخضوع للنخب العرقية من الفرس والترك، فقد خضعت للنخب العسكرية الصاعدة التي طالبت بالاستقلال أو حصلت عليه، ومن ثم تأسست جل نظمهم على قاعدة الشمولية السياسية وتمدد الجيش في الحياة المدنية، وإجمالًا من خلال الدمج الشديد بين المجتمع القاعدي والوظيفة العسكرية. وهكذا ارتبط الاستبداد السياسي العربي بحكم الجنرالات القامع لكل المفاهيم الليبرالية، فالجنرالات يعشقون نمط الحياة العسكرية، ذا البنية الصارمة، القائم على تراتبية القيادة من القمة إلى القاعدة، أي على انضباط شديد يرتبط لديهم بالقدرة على الإنجاز والحسم وسرعة اتخاذ القرارات. إنّه النمط الذي لم يعرفوا غيره، ولا يستطيعون بسهولة التكيف مع نقيضه المدني، القائم على التعدد والاختلاف، فمفردات( كالخيال والحرية والفردية والتعددية)، تبدو للجنرال نزعات عبثية، حاملة لبذور تفسخ مجتمعي وفوضى سياسية، يتوجب الخلاص منها؛ ليبقى المجتمع متماسكًا غير منقسم بين فرقاء متصارعين، ويظل الوطن أمنًا غير مخترق من أجانب متآمرين، وعلى هذا فلت العالم العربي من قبضة المد الديمقراطي الذي فاض على التاريخ الحديث في موجات عدة، خصوصًا الموجة الثالثة التي أعادت صوغ العديد من نظم الحكم في العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
منتصف القرن العشرين، وبينما كان الألمان يتخلّون عن قوميّتهم العضوية ونزعتهم العسكرية، بل يعيدون بناء دولتهم على أسس ديمقراطية تنسج على المنوال الفرنسي في صوغ الدولة الوطنية على قاعدة العيش الإنساني المشترك والخبرة التاريخية العملية، ومن ثم الاندماج الطوعي ،كان العرب يستعيرون من الألمان مفهومهم القديم والمهجور عن القومية العضوية كجسد سياسي يمتص المواطن( الفرد الحر) ويذيبه في شموليته. وفي الوقت الذي كانت ألمانيا تتطهر من النزعة التوسعية وينسجون ثوب الاتحاد الأوروبي من خيوط الوحدة الطوعية بين دول تقوم أساسًا على المواطنة الدستورية والحرية الفردية، كان بعض العرب يلتمسون النموذج “البسماركي” في ترتيب العلاقة مع بعضهم الآخر، فيغزو “صدام حسين” باسم القومية العربية لدولة الكويت المستقلة باعتبارها المحافظة الشاردة، وفي لحظة هزيمته ويأسه في الخارج يقتحم مناطق الأكراد في الداخل ؛ ليقتل الحياة على أراضيهم بأسلحته الكيماوية؛ لتزداد رغبتهم في الانفصال السياسي بعد أن عز عليهم الاندماج الثقافي، وهو ما تكرر مع الشيعة الذين جرى إقصائهم من مواقع السلطة طويلًا، واغتيال بعض أبرز قادتهم إبان الحكم البعثي باسم القومية العربية ظاهريًا ولصالح الاستبداد السياسي جوهريًا. وهكذا صار هؤلاء وأولئك خصمًا من رصيد الدولة العراقية التي كانت قوية، بل رافعة أساسية للسياسة العربية، فإذا بها اليوم حملًا يصبح عبئًا ثقيلًا عليها. الحال نفسه تكرر مع “الأمازيج والزنوج” في المغرب العربي والسودان، بل إن الزنوج حققوا بالفعل حلمهم الانفصالي، الذي لم يطل بهم الوقت؛ ليكتشفوا أنّه ليس إلا كابوسًا مفزعًا، ولولا أن الله قد حبا مصر بمكون مسيحي نادر في وطنّه لعانت مصر نفسها من التفكك بفعل الإسلام السياسي ونزعاته الإقصائية لشركاء الوطن، وذبول مفهوم الوطن لديه من الأساس.
اليوم، في تلك اللحظة العصيبة من تاريخنا، تشتد النزعات الانفصالية لدى جل المكونات القومية والدينية في اليمن والعراق وليبيا وسوريا ولبنان، التي تقترب من حافة الاشتعال بفعل الهيمنة الطائفية لحزب الله الشيعي على مجمل النظام السياسي اللبناني وإخضاعه لمقتضيات السياسة الإيرانية وتصورات الملالي في “طهران”، بل إن المشهد السياسي التونسي يزداد تعقيدًا بفعل حركة النهضة، ربيبة الأيديولوجية الإخوانية، نعم لا تزال تونس تسير على طريق الديمقراطية والتعددية، ولكن الممانعة التي تمارسها الحركة للتوجهات المدنية والعلمانية سواء في أزمات الداخل التونسي أو على صعيد التحالفات الخارجية، تكاد تشل حركة النظام السياسي، وتربك جميع محاولاته للإصلاح والتنمية بما يفقد الديمقراطية جوهرها، وهكذا يبدو لنا أن الاجتماع السياسي العربي يشرب من الكأس المرير إلى درجة العلقم، تلك التي كان سقى منها جل مكوناته طيلة القرن العشرين، عندما فشل في دمجها واستيعابها، فصارت مع القرن الحادي والعشرين قنابل موقوتة داخله يستغلها الآخرون في تفجيره، خصوصًا تلك الدول الإقليمية الكبرى المحيطة به، والتي تسعى إلى شد أطرافه وتقويض استقلاله، خصوصًا في( اليمن وسوريا ولبنان والعراق)، وهكذا تصبح الدولة الوطنية العربية على المحك، تخوض اليوم ما يشبه معركة وجودية، نرجو لها الانتصار فيها كي تتمكن من إعادة بناء نفسها كعقيدة لحداثتنا السياسية، ولكننا نريدها دولة وطنية دستورية ومدنية تتسع لكل مكوناتها، تحترم الحرية الفردية والحقوق الإنسانية، وليس صنمًا مقدسًا يمتلكه بعض الكهنة، يحكمون باسمه ويطلبون من الآخرين عبادته.