أثارت عملية اغتيال سليماني تساؤلات عدة من بينها هل هي بداية لتحول جوهري في التعامل الأمريكي مع أوضاع المنطقة؟ أم أنه لا تخرج عن كونها نتاج دوافع انتخابية، لا سيما وإن موعد إعادة الانتخابات الرئاسية الأمريكية يقترب (نوفمبر القادم).
ومع اقتناعنا بأن الدوافع الانتخابية كانت في المقدمة، إلا أننا أمام نمط استراتيجي أمريكي متواصل ومازال يعمل على إعادة صياغة وتشكيل دول المنطقة العربية، وليس الانسحاب منها، فمصالح الولايات المتحدة فيها مازالت في منظور السياسة الدولية أنها هي منطقة استثمار أمريكي خالص، حتى إيران تدخل ضمن هذه الخريطة الاستثمارية الأمريكية.
وانطلاقا مما تقدم فإن عملية اغتيال سليماني سبقها عملية اغتيالات أخرى، كاغتيال أبوبكر البغدادي زعيم داعش. ولتعثر تحقيق الرئيس الأمريكي ترامب لإنجاز داخلي خلال هذا العام الانتخابي، فقد وجه اهتمامه إلى الصعيد الخارجي فاتجه إلى القطاع الذي يلقى اهتماما شعبيا واسعا وهو الأنشطة الإيرانية([1])، بمعنى – كما يرى البعض- أنها تحولات طرفية، ولن تؤسس لمرحلة ودور أمريكي جديد. وجاء الموقف الأمريكي من تغول تركيا في الجغرافيا السورية (فبراير 2020) وامتداد تواجدها السياسي والعسكري في ليبيا ومنطقة شرق المتوسط، وتغاضت إدارة ترامب عن هذا الحدث، فهل سبب ذلك وجود تناغم بين التحرك التركي والأهداف الأمريكية في المنطقة؟
أولاً: خلفيات عملية اغتيال قاسم سليماني وتداعياتها
إن تعمد ترامب أن يعلن بنفسه عن عملية الاغتيال وأنها تمت بأوامره، يرجح أنها تمت لاعتبارات شخصية وداخلية بالدرجة الأولى، وإن ظل البعد الخارجي متواجدا وإن كان متواريا. وكان في مقدمة أهداف هذه العملية:
- إظهار الرئيس الأمريكي ترامب بمظهر الرئيس القوي القادر على اتخاذ القرارات الصعبة وتنفيذها على أرض الواقع. ألم يسبق ذلك عملية اغتيال أبوبكر البغدادي، زعيم داعش في بغداد!!.
- أن هذه العملية جاءت بعد عدة هجمات قادها “الحشد الشعبي” العراقي على السفارة الأمريكية في بغداد، وبالمقابل تمت عمليات أمريكية / إسرائيلية، استهدفت بدورها عناصر الحشد الشعبي (العراقي) ومعسكراته.
- أن إقدام إدارة ترامب على عملية اغتيال سليماني غير من قواعد الاشتباك التي كانت سائدة بين الجانبين الأمريكي والإيراني، حتى ما قبل عملية الاغتيال، والذي كان مقتصرا على أسلوب الردع وممارسة أسلوب استخدام القوة المحدودة المتحكم فيه.
- أن عملية الاغتيال بالطريقة التي تمت بها، كان خلفها تصور أمريكي، بأنها ستقود القيادة السياسية الإيرانية إلى مائدة المفاوضات. فعنف عملية الاغتيال والتي أدت إلى تناثر جثمان سليماني ورفاقه، بدرجة تعذر معها التمييز بين أشلاء الضحايا، وهو أمر أشعر القيادة الإيرانية بحجم العنف المخزون لدى الإدارة الأمريكية، وأحدث هزة في أوساط القيادة الإيرانية.
- أن عملية الاغتيال أظهرت إهمال الأجهزة الإيرانية في اتخاذ إجراءات تأمين القادة الميدانيين بالقدر الكافي، فأصبح سليماني هدفا سهلاً للقوى المعادية، وأدى اغتيال قائد شعبي بهذا الحجم، والذي تزامن مع إسقاط طائرة ركاب مدنية أوكرانية، الأمر الذي زاد من الغضب الشعبي على سوء الإدارة الإيرانية، وانقلب الحزن على سليماني، إلى حالة من السخط الواضح على النظام الإيراني، وتفجر الغضب المكتوم في المظاهرات التي حدثت بعد ذلك وواجهتها الأجهزة الأمنية بأسلوب القمع الأمني المعتاد والذي تضاعف حجمه.
- وتشير بعض المصادر أن روحاني هدد بالاستقالة إذا لم يعترف “الحرس الثوري” الذي يشكل دولة داخل الدولة، بمسئولية عناصره عن إسقاط الطائرة الأوكرانية بالخطأ، وأن القادة الكبار اعترفوا بذلك، ودون أخطار روحاني بذلك، في الوقت الذي كانت السلطات الإيرانية المختصة تنفي علنا ضلوع أطراف إيرانية في هذه الحادثة. وهذه الواقعة تشير إلى ضعف التنسيق بين الأجهزة الإيرانية، وأظهرت هذه الواقعة شرخا على المستوى القيادي، ربما كان متواريا، فيما يتعلق بالاختصاصات والصلاحيات، وظهر للعلن بعد واقعة الاغتيال.
- وجدير بالملاحظة أن الكونجرس الأمريكي أبدى بعض أعضائه عدم اقتناعهم بالمبررات التي عرضتها إدارة ترامب في تبريرها لعملية الاغتيال، فتم التصويت على مشروع قرار يقيد صلاحيات الرئيس الأمريكي ترامب في شن ضربات عسكرية ضد إيران مستقبلاً، دون الحصول على موافقة الكونجرس. وإذا كان من المعروف أن للرئيس الأمريكي حق نقض مثل هذا القرار، لكنه على أية حال فإن لصدوره رمزيته الهامة، حتى في حالة نقضه.
ثانياً: دلالات رد الفعل الإيراني على اغتيال سليماني
انتظر المجتمع الدولي رد الفعل الإيراني على اغتيال قائد إيراني يصنف كبطل قومي، وتباينت التوقعات في هذا الشأن. فقد أعلن النظام الإيراني على لسان روحاني أن الرد على عملية الاغتيال سيشكل صفعة للجانب الأمريكي. ولكن المفاجأة الإيرانية تمثلت في حرص الجانب الإيراني على التحكم في رد الفعل تمثل ذلك في إحاطة الطرف الأمريكي – عبر أطراف عربية وأوروبية – بالهدف المقصود وساعة التنفيذ حتى يتم تجنب أي خسائر في الأرواح الأمريكية المتواجدين بالقاعدة العراقية (عين الأسد) وجاءت ضربة رد الفعل الإيرانية محسوبة جيدا، لدرجة دفعت الرئيس الأمريكي وقتها إلى الثناء غير المباشر عليها، وأنها لم تحقق أي خسائر في أرواح الجنود الأمريكيين بها. ودلالة ذلك خشية النظام الإيراني من أن يكون رد الفعل الأمريكي متجاوزا. وتفسير هذا السلوك الإيراني غير المتوقع يعود لعدد من الأسباب في مقدمتها:
- إن حدث الاغتيال أظهر ضعف القوة الإيرانية، وأنها ليست بالمستوى الذي توحي به. فبعد أن كان هناك ميل للتباهي بقائد إيراني قريب من إذن المرشد الأعلى ويعتمد عليه في أداء العديد من المهام الصعبة لاسيما في الجهات الخارجية، فإن التصفية المفاجئة والطريقة التي تمت بها، أحدثت ارتباكا واضحا داخل دوائر وأجهزة السلطة الإيرانية، وربما جعلها أكثر واقعية، وقد يدفعها لإعادة تقييم مواقفها.
- كشف الأسلوب الأمريكية الذي استخدم في عملية الاغتيال، وأن ما خفي كان أعظم وأكثر دمارا، وكان بمثابة رسالة مقصودة لجعل الإدارة الإيرانية تفكر في كيفية الوصول إلى صفقة الضمان المتكاملة للخروج من المأزق الراهن، وقد انعكس ذلك في رد الفعل الإيراني على عملية الاغتيال، فسعت السلطة السياسية الإيرانية إلى التنديد بها، وفي نفس الوقت كانت حريصة ألا تذهب بعيدا في ردة فعلها على هذه العملية.
- حرص الجانب الإيراني على الاستمرار في بناء قدراته الاستراتيجية الشاملة عسكريا ومدنيا، بالرغم من وعيه بأن الدخول في حرب معناه عرقلة أو إجهاض تحقيق هذا الهدف، لما تملكه الولايات المتحدة من قدرات مدمرة طاغية، ظهرت مؤشراتها في آليات اغتيال القاسمي.
- إضافة للشعور بوجود ضعف نسبي في القدرات المتاحة سواء لإيران أو لحلفائها، مما سيجعل أي حرب تهديدا مباشرا لقدراتها لاسيما وأن علاقات القوى بين الجانبين مازالت وستظل لفترة طويلة قادمة تميل لصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
وفي الواقع كانت عملية الاغتيال أشبه بالزلزال السياسي، وأظهر الجانب الإيراني بمظهر الضعف. وتداول الجانبان منولوج، يؤكد فيه الجانب الإيراني أنه لا يريد الحرب، ولا يقبل بالشروط المفروضة لبدء عملية المفاوضات، فيما كان الجانب الأمريكي يردد منولوج، أنه مستعد لكليهما. وأصبح الجانبان أمام مشهد “الحرب المستحيلة والمفاوضات المتعذرة”، فهل سيتحول المنولوج الراهن مع الأيام، حالة من الديالوج (الحوار) بين الجانبين، للخروج من هذه المعضلة؟
ثالثاً: أحد تحولات الدور الأمريكي: السعي لجعل أوراق إيران الإقليمية عبئاً عليها
خلال العقود الثلاثة الماضية، توسع النشاط الإيراني في المنطقة بشكل لم يسبق له مثيل، اعتمادا على مليشيات موالية لإيران؛ ففي العراق أصبح لها نفوذ غير عادي (الحشد الشعبي)، كما تأسس قبل ذلك حزب الله اللبناني، الذي أعلن أمينه العام ولاءه للمرشد الأعلى الإيراني، فضلاً عن علاقة الحوثيين بإيران. وفي سوريا قامت المليشيات التابعة لإيران بدور أساسي في دعم النظام السوري الذي يجمعه مع إيران “تحالف المصير المشترك”.
وتمكنت إيران بذلك طوال العقود الماضية من الاستفادة من شبكة وكلائها ومليشياتها، والدخول في صراعات مع أعدائها، دون الحاجة لتدخل المؤسسة العسكرية الإيرانية بشكل مباشر، وشن وكلاؤها هجمات على مواقع مختلفة نيابة عنها، فيما اصطلح على تسميته حروب بالوكالة، وتمكنت إيران من التدخل – على هذا النحو- في صراعات إقليمية محدودة بدرجة عالية من القابلية للانكسار([2]).
وتجدر الإشارة إلى أن توسع إيران في دول الجوار لا يستند لمجرد أهميتها الاستراتيجية في المدرك الإجرائي على أساس أنها تشكل خطوط جبهة قتال متقدمة لإيران فحسب، بل لغلبة سمتين رئيسيتين على هذه السياسة والنابعتين من شعور إيراني بتفوق حضاري وقومي على دول الجوار العربية، والنزوع إلى التمدد “الإمبراطوري” فيها، لا سيما وأنها ترى أمامها فراغا عربيا فيها فسعت لملئه. وضمن هذه التصور جاء إبراز وتقديم الجنرال قاسم سليماني ليس فقط كقائد للحرس الثوري الإيراني، بل وأيضا كبطل قومي على نمط القادة الفرس العسكريين القدماء الذين حاربوا أعداء إيران([3]). ومن هنا كان التفاخر العلني بقدرة طهران في التأثير على عملية صنع القرار في أربع عواصم عربية (دمشق، بيروت، بغداد وصنعاء). وساعد إيران في عملية التغلغل في المنطقة العربية على هذا النحو، ما أصاب النظام الإقليمي العربي من تمزق وخلافات، وتغييب أي محاولة لإحياء قيادته، وعرقلة تشكيل قوات عربية مشتركة.
واستمرت إيران في سياسة تحريك شبكة وكلائها من وراء ستار. وبالمقابل غيرت واشنطن مؤخرا من تكتيكها إزاء ذلك. فقد تصدت – جزئيا- لعمليات الحشد الشعبي العراقي، بضربات جوية إسرائيلية استهدفت بعض معسكراته، ومثل اغتيال الجنرال قاسم سليماني أحد أبرز عمليات تحميل الوكيل بمسؤولياتها. ويبدو أن ترامب يريد أن يجعل من العراق جزءا من استراتيجيته لخنق إيران اقتصاديا وتحجيم نفوذها إقليميا، فالعراق يعد بمثابة “رئة اقتصادية” لإيران([4]).
وقد أدى وقوع حادثة الاغتيال على الأراضي العراقية وقتل فيها نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، إلى ردود فعل شعبية معادية للوجود الأمريكي في العراق، والذي لم يحترم السيادة العراقية، وأدى إلى مطالبة عدة فصائل عراقية بانسحاب الولايات المتحدة من العراق، ورفضها تحويله إلى “إيران ثانية”. ومن هنا جاء تحذير البعض كريتشارد ن.هاس، من الدخول في صراع مفتوح مع طهران تكون ساحته العراق، وضرورة ابتعاد إدارة ترامب عن تهديد العراق بعقوبات بل والتوجه إلى إصلاح العلاقات معها، وعدم تناسي دور العراق الأساسي في احتواء إيران.
وفي لبنان ظهرت عمليات مواجهة وإن كانت محدودة بين بعض فئات الشعب اللبناني ضد عناصر حزب الله، وتشير بعض المصادر إلى أن هناك دعما لهذا التوجه من بعض الأطراف الخارجية في وقت تسود فيه أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، ومثل هذه الأجواء لا توفر لعناصر حزب الله الحركة السياسية بالدرجة التي تعودت عليها والتي كانت سائدة من قبل. كما نشطت وحدات الأسطول الأمريكي في تمشيط مياه الخليج، لمتابعة عمليات تهريب السلاح من طهران إلى الحوثيين، وتم مؤخرا ضبط سفينتين محملتين بصواريخ إيرانية، وذهب بومبيو إلى حد المطالبة بتحرك دولي لتجديد حظر الأسلحة المفروض على إيران. ولم تتوقف الهجمات الجوية الإسرائيلية عن استهداف القواعد الإيرانية في سوريا وتقوم أحيانا بضربات استباقية لمحاصرة النفوذ الإيراني في سوريا.
وبطبيعة الحال يصعب تصور أن تقبل إيران طواعية بالتجرد من أوراق قوتها الإقليمية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان دون مقابل، كما أنه من المستبعد على الأقل في بداية أي عملية تفاوضية، أن تتخلى طهران عن برنامجها الصاروخي، التي ترى فيه الدرع الواقي لها، في مواجهة أي هجوم إسرائيلي أو أمريكي. والسؤال هو هل ستكسب واشنطن رهانا على إضعاف وكلاء إيران في الأشهر القادمة؟ وحدها الفترة القادمة هي التي تملك الإجابة على هذا التساؤل وغيره.
رابعاً: ارتباط الأدوار بالأهداف: أطماع يصعب إخفاؤها
رغم الحديث عن تراجع أهمية نفط منطقة الخليج في الاستراتيجية الأمريكية، فإننا في الواقع ما زلنا أمام نمط استراتيجي أمريكي يتمسك بالبقاء في هذه المنطقة، ويحاول إعادة صياغتها، لإحكام السيطرة عليه. فمصالح الولايات المتحدة باقية فيها في أكثر من موقع، وليست في طور التخلي عنها وتركها لخصومها، فهذه المنطقة تعتبر من المنظور الأمريكي هي منطقة استثمار أمريكي خالص، بل إن إيران نفسها تدخل ضمن هذه الخريطة الاستثمارية، وتسعى واشنطن لاستعادتها، وإخضاعها باعتبارها القوى الإقليمية شبه الوحيدة المناوئة لنفوذها وسياستها.
ووفق هذا التصور تركز إدارة ترامب على أقلمة النزاعات في المنطقة، وللمفارقة فإن هذا كان الأسلوب الأساسي الذي اتبعته إدارة باراك أوباما (القيادة من الخلف)، وزادت إدارة ترامب عليه بالمطالبة العلنية بدفع ثمن الحماية الأمريكية لدول هذه المنطقة مقدما بل ومضاعفا.
وعلى الرغم من افتقار إدارة ترامب لرؤية واضحة ومتكاملة في السياسة الخارجية، فإن تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية الأولى دارت حول ثلاثة محاور في العراق مثلا: هي النفط العراقي، الحد من النفوذ الإيراني وهزيمة داعش وقول ترامب في مقابلة وقتها مع محطة “إيه سي سي”، “كان يجب أن لا نترك العراق، فقد شكلنا هناك فراغا كبيرا، وقد قامت إيران بملء هذا الفراغ”.
وفيما يتعلق بالنفط العراقي، لم يتردد ترامب عن القول إنه كان على بلاده أن تستولي على نفط العراق في 2003، باعتباره مكافأة شرعية بعد إسقاط النظام الحاكم في العراق، وأن الغنائم تعود للمنتصر على حد قوله، وهو ما أثار استياء رئيس الوزراء العراقي – وقتئذ – بقوله “إن نفط العراق للعراقيين”([5]).
ولعلنا نتذكر الدور الذي قامت به الولايات المتحدة في العراق بعد احتلالها له عام 2003، من تدمير ممنهج للعراق وتفكيك مؤسساته، وفرض بول بريمر نظام المحاصصة الطائفية، واغتيال العلماء ومخطط اجتثاث المؤسسات العلمية والتكنولوجية، وما تم من عمليات واسعة لنهب ثروات العراق وباختصار لقد ترك الاحتلال الأمريكي عراقا منهكا ومدمرا، وإعادة إعماره سيتطلب جهدا كبيرا ووقتا طويلاً حتى يتعافى كاملاً. ويتناسى ترامب كل هذا الماضي المأساوي([6]).
ويلاحظ هنا “عودة ترامب من جديد إلى ترديد الادعاء بأنه من حق بلاده السيطرة والتصرف الكامل في النفط السوري، مما يجعل من السيطرة العسكرية – في تقدير البعض – صيغة فجة من صنيع النهب الاستعماري الممجوج([7])“.
وتجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي تبنت فيه واشنطن موقفا متشددا تجاه الأنشطة الإيرانية نجدها بالمقابل تغض النظر عن التغول الأمريكي العسكري في الجغرافيا السياسية، والمتمثل في عرقلة التوصل إلى حل لمدينة إدلب السورية، فضلاً عن التواجد التركي في ليبيا، السياسي والعسكري وقيامها بعمليات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط وهو ما سنتناوله في الجزء التالي.
خامساً: ما وراء تغاضي الموقف الأمريكي عن تغول الجانب التركي في الشمال السوري وليبيا وشرق المتوسط
أدى الفشل العسكري والسياسي الأمريكي في تجربتي أفغانستان والعراق إلى سعيها إلى مشاركة بعض حلفائها في استعادة الهيمنة الأمريكية، وكان الدور التركي هو الأكثر حضورا وتجاوبا في المنطقة. وقد أكدت الأزمة السورية على مسارها الطويل، استمرار تركيا كأحد أذرع تنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة، والتي تتناقض مع ملفات وقضايا مع المصالح الروسية. وواصلت واشنطن جهودها في جذب تركيا من تحالفها المتصاعد مع روسيا.
فسعت واشنطن للقيام بجهد واضح لاحتواء التوتر الذي ساد مرحليا العلاقات مع أنقرة فهي لا ترغب في التضحية بحليف هام ومؤثر في أحداث المنطقة، وبالمقابل لا ترغب أنقرة في التضحية بالعلاقات الاستراتيجية التي تربطها مع الولايات المتحدة، فضلاً عن عضوية تركيا في حلف الأطلنطي.
وقد تبنت واشنطن الموقف الصامت تجاه عملية الانتشار العسكري التركي واسع النطاق في المنطقة، في محاولة أمريكية لإنقاذ التحالف التركي وللحيلولة دون مزيد من التقارب الروسي التركي ولأسباب أخرى.
والتوغل التركي في شمال شرق سوريا الذي تتابع في شهر فبراير 2020 هدفه إنشاء منطقة آمنة تسمح بعودة أكثر من مليوني لاجئ سوري من تركيا، لاستيعابهم في هذه المنطقة الحدودية، مما يحول في الواقع أكرادها إلى أقليات فيها. ويبدو أن أنقرة تلقت ضوء أخضر أمريكيا للبدء في ذلك، وفق ترتيبات مشتركة غير معلنة.
وفي ليبيا تمثل المنطقة الغربية فيها منطقة جغرافية قريبة من قبرص، وبالتالي تسعى تركيا لاستثمار دعمها السياسي والعسكري لحكومة الوفاق (فايز السراج). وتجلى سعي تركيا لتوطين نفوذها المتصاعد في هذه المنطقة، من أجل امتلاك أوراق ضغط في قضية الطاقة (الغاز) في شرق المتوسط، استنادا لاتفاق عقد بين الجانبين التركي وحكومة الوفاق يتعلق أحدها بالسيادة في المناطق البحرية واتفاق آخر يتعلق بالتعاون الأمني والعسكري وقعا في أسطنبول في 27/11/2019([8]).
وتراهن أنقرة على أنها ستصبح شريكا في ثروات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، على أمل أن يُخرج تركيا من أزمة الطاقة. وإجمالاً يعتقد القادة الأتراك أن التمدد في منطقة الشرق الأوسط يمثل بوابة تركيا الإقليمية للتحول إلى قوة عظمى في هذه المنطقة، ودون إدراك كاف لخطورة سياسة التمدد العسكري في منطقة جغرافية شاسعة (الأراضي السورية، وليبيا، وقطر، السودان، وأخيرا شرق المتوسط)، فهذا التمدد قد يؤدي إلى استيعاب القدرات التركية في مستنقع هذه المنطقة.
ويذكرنا هذا الموقف بمقولة المؤرخ البريطاني أرنولد تونبي في وصفه لتركيا الحديثة بقوله إنها ” مثل الغراب الأسود الذي طلى نفسه باللون الأبيض إعجابا ببياض طائر اللقلق- النورس، فما أصبح لقلقا، وما عاد شبه الغربان”.
والسؤال المطروح هو ما سر إعطاء واشنطن الضوء الأخضر لمشروع أردوغان؛ يعود ذلك لعدد من الأسباب يأتي في مقدمتها:
- أن التمدد التركي في الأراضي السورية مع بقاء الوضع في إدلب دون تغيير، يعرقل سيطرة النظام السوري على باقي التراب الوطني، كما قد تؤدي تطورات الأحداث، إلى مواجهة ساخنة بين قوات النظام السوري والقوات التركية الغازية، وهو أمر لو تحقق، سيدق إسفينا في العلاقة بين تركيا وروسيا. فروسيا كانت قد اقتربت من قطف ثمار تدخلها العسكري المكثف في الساحة السورية، والتحرك التركي يعيد الأزمة السورية إلى المربع رقم 1.
- كما أن الوجود العسكري التركي في غرب ليبيا لدعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، في الوقت الذي تساند فيه روسيا حكومة حفتر، يضيف سببا آخر لمزيد من الخلافات بين روسيا وتركيا، فطرابلس – في المنظور الأمريكي- خطا أحمر، ينبغي أن تكون نقطة من المحظور تجاوزها.
- أن ما تقوم به القوات التركية في شمال غرب سوريا، يستهدف الجيش السوري، ويضعف من سيطرة النظام السوري داخليا، وهي أمور تصب في خانة إسرائيل، فضلاً عن إشغال الجانب العربي المنغمس في همومه ومشاكله ، ودخول العامل التركي على الخط من شأنه إشغال العرب عن مخططات التوسع الإسرائيلية، والتدخل التركي سيزيد من تمزيق المنطقة العربية وإغراقها في متاهات الطموحات الإقليمية سواء كانت إيرانية أو تركية أو إسرائيلية.
- وقد وسعت تركيا من دوائر حركتها الخارجية ولاقت تشجيعا غير معلن من واشنطن لأن ذلك من شأنه أن يحقق للولايات المتحدة مزايا عديدة ليس أقلها توازن استراتيجي بين تركيا وإيران في الشرق الأوسط، فإذا كانت إيران قد استغلت حالة الفراغ التي خلفها سقوط النظام العراقي السابق، نتيجة انهيار معادلة التوازن في المنطقة لمصلحتها، فإن أنقرة حاولت استغلال العداء الأمريكي الإسرائيلي لإيران وبعض الدول العربية، كي تمدد قدميها في فنائها الخلفي وإلى أبعد مدى.
- إن الوجود التركي الفاعل في المنطقة يخلق نوعا من التوازن مع الوجود الإيراني فيها، بعد أن وجدت تركيا نفسها تنجذب نحو محور موسكو / طهران، بعيدا عن علاقاتها التاريخية بواشنطن والناتو، وتأمل واشنطن في استعادة أنقرة وإبعادها عن روسيا وعن إيران، وهذا الجهد يتمثل بشكل خاص في التأييد الأمريكي لطلب تركيا تدخل الناتو لحماية الحدود المشتركة التركية السورية باستخدام منظومة صواريخ باترويت.
وللمفارقة فإن الحروب التي كانت تهدف إعادة السيطرة الأمريكية في المنطقة قد أطلقت انحدار النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وغذت اتجاه القوى الإقليمية لتأكيد ذاتها خاصة تركيا وإيران، وزيادة تطلعاتها للتوسع في مناطقها([9]).
وتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط لا يعني أن الولايات المتحدة سوف تفك ارتباطها بالمنطقة وتتوقف عن ممارسة النفوذ فيها لاسيما في منطقة الخليج التي شهدت أوسع تجمع للقواعد العسكرية خارج الولايات المتحدة وستظل تتمتع فيها بنفوذ يفوق نفوذ أية قوة خارجية أخرى في المنطقة- لكن نفوذها أصبح أقل بكثير مما كان عليه.([10])
ملاحظات ختامية
- مع تعاظم كلفة السياسة الأمريكية المتغطرسة وما آلت إليه في الفترة السابقة، أصبحت الولايات المتحدة أكثر ميلاً لمشاركة آخرين في تكلفة استعادة هيمنتها، أو لترميم بنيات هيمنتها على العالم.
وتحولات الدور الأمريكي في منطقتنا أحد أهدافه تجديد الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وهو هدف لم ينقطع مع الإدارات الأمريكية السابقة، ولم يتوقف متابعة تحقيق ذلك في عهد إدارة الرئيس ترامب ويبدو ذلك واضحا في دعوته خلال حملته الانتخابية الأولى برفع شعار “جعل الولايات المتحدة عظيمة من جديد”.
- ورغم أن تركيا تخرج أحيانا عن الخطوط المتفق عليها مع واشنطن، فإن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من النظر لتركيا كحليف استراتيجي مهم يجب عدم التفريط به مهما وصلت درجة الخلاف معه وتسعى إدارة ترامب إلى تغيير المواقف التركية تجاه إيران.
وقد أظهرت الفترة الماضية أن تركيا لا تريد أن تكون خصما لإيران أو عدوا لها، ولكن التمدد التركي في سوريا، يزعج إيران، وقد يتطور إلى صدام محتمل بينهما، وهو هدف تتطلع إليه واشنطن في الفترة القادمة. وسياسة تمدد تركيا الواسعة في المنطقة سيجعلها إن عاجلاً أو آجلاً أمام احتمالات الصدام مع روسيا، وهو ما تأمله واشنطن.
واستمرار احتمالات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، والموقف الأمريكي تجاه تغول القوات العسكرية لتركيا في عدة مناطق من شأنها زيادة تفاقم المشاكل وتعقيدها في منطقتنا ويجعلها مفتوحة أمام كافة الاحتمالات.
([1]) يرى عمرو عبد العاطي في مقاله المعنون “العلاقات الأمريكية التركية.. من التحالف الاستراتيجي إلى التأزيم” مجلة السياسة الدولية – القاهرة العدد 219 – يناير 2020، يرى أن حتي فما حدث بين تطور في هذه العلاقات
([2]) Matthew Levitt, “inside Hezbollah`s American Sleeper Cells: Waiting for Iran`s Signal to Strike U.S and Israeli Targets”. Op. Cit. – Alan Lis,”Yemen is a Battleground in Iran`s Proxy War against the U.S. and Saudi Arabia”, Global Security Review, October 2.2019, accessible at: https://bit.ly/2pm6D64
وردت في مقال د. صدفة محمد محمود، “التصعيد بالوكالة” : اتجاهات هجومية للمليشيات في الشرق الأوسط، مجلة اتجاهات الأحداث، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي، العدد 31 – خريف 2019، ص 101.
([3]) عمار عكاشى، “عند تصاعد الخطاب القومي في إيران”، جريدة الحياة بتاريخ 19/1/2018 وأيضا مقال مالك عوني “المعضلة الإمبراطورية”: خيوط إيران الصعبة غداة اتفاق لم يكتمل، تحولات استراتيجية ، مجلة السياسة الدولية، العدد 199 –يناير 2015 ص 3.
([4]) د.نيفين مسعد، “الصراع على العراق”، مختارات إيرانية مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد رقم 209- مايو/ يوليو 2019 ص 8-9,
([5]) لمزيد من التفاصيل انظر:
نور علي صكب “السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العراق في عهد ترامب” في: مجموعة من المؤلفين، الشرق الأوسط في ظل أجندات السياسة الخارجية الأمريكية: “دراسة تحليلية للفترة الانتقالية بين حكم أوباما وترامب ص 279 و 288-287.
([6]) انظر في هذا الشأن بعض ما ورد في دراسة أشرف البيومي المعنونة “حصار العراق: الوجه الإجرامي لحرب الخنق” في مجلة المستقبل العربي،‘ مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، العدد 492 – فبراير 2020 ص 17 وما بعدها.
([7]) د. حسين أبو طالب، “مستقبل سوريا .. بين متغيرات معقدة وأفق مسدود” مجلة السياسة الدولية، القاهرة العدد 219 – يناير 2020، ص 206 وما بعدها.
([8]) للمزيد من المعلومات في هذا الشأن انظر :
د.خالد حنفي علي، الحسابات المتداخلة للانخراط التركي في النزاع الليبي، مجلة السياسة الدولية – القاهرة، العدد رقم219 – يناير 2020ص143.
([9]) د.السيد أمين شلبي، الجدل حول مستقبل القوة الأمريكية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، الهيئة العامة للكتاب 2014.
([10]) Richard N. Haass, The Age of Non – Polarity, What will follow US dominance? (Foreign Affairs, May/June ,2008.