2021العدد 186ملف خاص

مأزق التنوير العربي وسؤال الهُوية

على عكس التنوير الأوروبي الذي تبلور فى تجارب منجزة بالفعل، وتشكَّلت تياراته فى سياق الجدل بين الدين والعلم، والإجابة على سؤال المعرفة_ لم يتبلور التنوير العربي أصلًا في تجارب منجزة بقدر ما استمر مشروعًا إشكاليًّا يمكن استشفاف اتجاهاته وتياراته من الأعمال الفكرية لرواد النهضة العربية ومن محاولات الاستنارة المتعثرة لبعض مجتمعاتن، ولم يتشكل في سياق الجدل مع مفهوم الحقيقة، ولا للإجابة على سؤال المعرفة، بل عبر التفكير في قضية الهوية وإشكالية العلاقة مع الغرب، فعلى عكس النهضة العربية الأولى ،حيث كانت الثقافة الإسلامية حيةً ورائدة، والعلاقة مباشرة بينها ومفهوم الحقيقة، تطرح على نفسها مشكلات عالمها وواقعها، باتت الثقافة العربية في ظل النهضة الثانية ،التالية على الاحتلال العثماني فالمملوكي والأوروبي، تنظر إلى مفهوم الحقيقة باعتبارها موقفًا من الحداثة الأوروبية، فتحول الجدل مع الحقيقة إلى جدل حول الهوية، وبات الموقف من الحقيقة هو عينه الموقف من الغرب، فأن تكون تنويريًّا راديكاليًّا يعنى إنك تُحابي الغرب إلى درجة الذوبان فيه، تقبل بحضوره الطاغي دون شروط (تغريبيًّا). وأن تكون تنويريًّا معتدلًا يعنى أن تقبل بالجدل معه، أن تقبله بشروط بُغية التوفيق بين حداثته وأصالتك. أمَّا رفض الغرب كليًّا فيعني أنَّك سلفيٌّ رجعيّ تتخلى عن الحداثة مقابل الحفاظ على الأصالة.

احتلَّت الهوية إذن موقع المعرفة، واحتل الغرب موقع العقل في الجدل الثقافي العربي، وبدلًا من أن يكون لدينا تيار تنويري راديكالي، وآخر نقدي، وثالث مثالي، حسب نمط العقلانية السائد، بات لدينا تيار تغريبي، وآخر توفيقي وثالث سلفي. المفترض أن يتوازى التيار السلفي العربي مع التيار المثالي في الفكر الأوروبي كونهما الأكثر تصالحًا مع الإيمان الديني(الإسلامي هنا والمسيحي هناك). لكنَّ التيار المثالي الأوروبي اُعتبر رافدًا للتنوير؛ لأنه كان عقلانيًّا ولو في صورة مثالية تنطلق من افتراض وجود الإله نعم لكنها تدرك الواقع فلسفيًّا وليس من خلال الكتاب المقدس. أمَّا التيار السلفي العربي فلا صلة له بالعقلانية، رغم ميلاده من رحم الفكر النهضوي العربي مطلع القرن العشرين، لأنه لم يكتفِ بالتجذر في الوحي ولا في الإيمان الروحي وإنَّما في الموروث الديني كله، بل في أكثر قواعده محافظةً والتزامًا بما يُعتبر منهج أهل السنة والجماعة. صحيح أنَّه بدأ بالتعبير عن نفسه في صورة “سلفية محدثة” تسعى إلى التوفيق بين أصالة القيم الدينية وبعض القيم الحديثة لدى رواد من قبيل (رشيد رضا، وشكيب أرسلان، ومحمد فريد وجدي، وخصوصًا مالك بن نبي)، أولئك الذين حاولوا العودة إلى “إسلام الفطرة” وإلى الاجتهاد ابتعادًا عن إسلام  التقليد. غير أنَّ الاجتهاد هنا لم يكن يعني الانطلاق من معطيات مجتمع قد تغيّر يتوجب إعادة تأسيسه بناءً على أوضاعه الجديدة، كما لا يعني حرية المبادرة إلى مواقف جديدة تناسب تلك الأوضاع، بل يعني رفض “التقليد” الذي فسد من سوء الاستعمال والعودة إلى الأصل (النص)، أمَّا طريق العودة فهو قياس الشاهد على الغائب، بحيث يُفهَم الحاضر عبر الماضي من خلال العلاقة بين النص ووسيط سلفي أكثر قدمًا وليس بين النص والعقل، فليس للعقل أن يجتهد بالرأي كي لا يُحدث شيئًا في دين الله، والإحداث هو البدعة الكبرى والخصم الأقصى للسلفية. ومن ثم يخرج هذا التيار كليةً عن إطار التنوير العربي، الذي يتبقى لديه تياران آخران(التغريبي والتوفيقي).

التيار التغريبي والنزعة المادية:    

نشأ هذا التيار في الربع الأول من القرن العشرين مولودًا من رحم الفكر النهضوي العربي الذي سطع رموزه في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ،خصوصًا في (القاهرة وتونس وبيروت وبغداد ودمشق)، ويمكننا النظر إلى ملامحه معكوسة في مرآة التنوير الراديكالي الأوروبي، فكما رأى الراديكاليون الأوروبيون أنَّ بين الدين والعلم مباراة صفرية يقتضي انتصار العلم فيها _سحق الدين مستدلين على ذلك بتراثٍ طويل من معاندة اللاهوت للتطورات الكبرى في العلوم الطبيعية من قبيل الصراع حول نظرية مركزية الأرض، أو نظرية التطور، وبمصائر رجال من قبيل (برونو وكبلر وجاليليو)، رأى التغريبيون العرب أن لا طريق للنهضة سوى الالتصاق بالغرب بل الذوبان فيه كونه القبلة الوحيدة للحضارة والحداثة والعقلانية. لقد وقع هؤلاء في أسر المركزية الأوروبية، حيث كان المركز الغربي هو المتحكم سياسيًّا في شؤون العالم وتنظيمه المركزي (عصبة الأمم)، واقتصاديًّا كانت أوروبا أنجزت الثورة الصناعية الأولى، والولايات المتحدة تلامس الثورة الصناعية الثانية بريادتها للصناعات الكيماوية والهندسية والكهربائية وصولًا إلى التكنولوجيا النووية بعد الحرب الثانية مباشرةً. وعسكريًّا كان الغرب يسيطر على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. وفي المقابل لم تكن هناك قوة فكرية أو سياسية في العالم تستطيع التصدي له. وحتى عندما كان مفكرون من خارج الغرب يعارضون المركزية الأوروبية، فإنهم لم يذهبوا إلى نفي تفوق الغرب وإن حاولوا تفسيره بدوافع تاريخية تتعلق بقدرته على توظيف واغتنام التراكم الحضاري الإنساني وليس بدوافع عنصرية تميزه كالعرق والدين واللغة.

وإذا كان الراديكاليون الأوروبيون لم يترددوا في ممارسة “النقد الرفيع” للكتاب المقدس والحديث عن نهاية الدين أو موت الإله، فإنَّ التغريبيين العرب لم يتوقفوا عند نقد المدونة التراثية المعروفة التي نُظر إليها باعتبارها النقيض الكامل لثقافة العصر، بل ذهبت بعض رموزهم إلى الربط بين التخلف العربي والدين الإسلامي الذي اعتبره فرح أنطون:” كبقية الأديان مدعاة إلى التفرقة الاجتماعية والوطنية -لا لزوم لها- داعيًّا إلى وحدة الحضارة الإنسانية”. فيما دعا شبلي شميل إلى “إحلال العلم محل الدين قاعدة للأخلاق، وإلى أولوية نظرية التطور في تفسير الخلق على التفسير الديني، وتبني النظرة المادية إلى الكون حيث النظام الطبيعي هو أساس الخلق الصحيح”. وعلى منوالهما نسج آخرون مقاربون لهم أمثال (يعقوب صروف، وإسماعيل مظهر وفارس نمر).

أمَّا سلامة موسى فكان العَلم الأبرز على هذا التيار، ليس فقط لغزارة إنتاجه الفكري (45 كتابًا)؛ بل لاتساع نشاطه الصحفي وعمق التشابك بين أفكاره وحياته، وقدرته على نقل الخطاب التغريبي إلى ساحة الجدل الثقافي العام، ولصراحته في الدعوة إلى إحلال النموذج الغربي بديلًا للإسلامي من العلوم والتكنولوجيا مرورًا بالسياسة والاقتصاد وصولًا إلى الفكر والسلوك والأخلاق، بل وحتى طريقة المأكل والملبس والمشرب، خصوصًا وقد أصدر الرجل حكمًا شموليًّا هو: “إنَّ الحضارة الأوروبية تتغلب وتسود أينما وجدت في هذا العالم، ولا يمكن لأمة أن تحيا إذا خالفتها”. ومن ثَمَّ لا يعترف موسى بهوية عربية خالصة، مزايدًا على الشاعر الإنجليزي “ريتشارد كبلنج” صاحب البيت الشعري (الشرق شرق والغرب غرب ،لا يلتقيان)، مؤكدًا على أنَّنَا يجب ألَّا ننساق لرؤية الشاعر عن خصوصيتنا، بل يتعين علينا تجاوزها والالتصاق بالغرب ولو كان مستعمرًا حتى نتقدم مثله؛ ولأنَّ نظرية التطور تقع في قلب النظرة المادية للعالم، انتصب داعية لها، مبررًا ذلك بأنَّها تَرُدّ الاعتبار لموقع الإنسان في الكون، والذي تهدد على إثر إثبات جاليليو “أن الأرض ليست مركزًا للكون”. فداروين هو من رفع الإنسان إلى هذه العلياء من جديد، وأثبت أنَّه “لم يكن عاليًا فسقط، وإنَّما هو كان ساقطًا يعيش على فتات الطبيعة، حيوانًا كسائر الحيوانات والحشرات، ثم ارتفع”. وطالما أنَّه يؤمن بالحضارة الغربية إلى هذه الدرجة التي تكاد تبلغ حد الاعتقاد، فكان ضروريًّا أن يسلّم بمنطلقاتها المؤسسة، وخصوصًا جذرها اليوناني، الذي اعتبرته المركزية الأوروبية أصل كل فلسفة وجذر صيرورة العقلنة في التاريخ، بتأثير فضيلتين أساسيتين:

الأولى: أنَّ اليونانيين لم يؤمنوا بإلهٍ واحدٍ قادر على كل شيء بل كانت آلهتهم عديدة، وذات صفاتٍ إنسانية تنتصر وتُهزم وتَعجز عن تحقيق أغراضها ولذا لم يكن لها السلطان القاهر الذي كان للإله اليهودي مثلًا على اليهود، ومن ثَمَّ لم يجد العلم حرجًا من أن يفتئت أحيانًا على حقوق الآلهة وإن كان قد ناله شيء من الاضطهاد.

وثانيهما: هو أنَّ ديانة الإغريق لم تصبح في وقت ما شريعة؛ لأن الدين إذا صار شريعة بات قانونًا والتحم بالحكومة والقضاء إلى الحد الذي يدمغهما بالجمود ويَحول دون حرية الفكر ودون تطور الأمة المدني لأن التطور هو التبدل والتحول والدين هو التقاليد التي لا تتبدل ولا تتحول.

على قاعدة هذا التسليم الثقافي، لا يتصور هؤلاء الرواد وجود أي عداء مع الغرب يتطلب حذرًا منه، بل يتجلى لديهم مثاليًّا إلى درجة تُحتّم أن يكون ملهمًا لنا، فيتم تقويم واقعنا بمعاييره وقيمه التي صار يُنظر إليها نظرة تقديسية تعمل خارج إطار الشروط التاريخية، بل إنَّه يتبدى أحيانًا لدى أصوات سياسية نافلة ، ليس فقط مرجعية ثقافية بل آلية تصحيح عملية، لأوضاعنا المختلة يتم خطابه ليُقدّم نصائحه قبل الشروع في الفعل، واستقدامه لتصحيح ما شرعنا فيه بالفعل على منوال الغزو الأمريكي للعراق، والذي اعتبره هؤلاء حلَّا سحريًّا لتحقيق الديمقراطية ولو جاءت في ركاب احتلال تَبدَّى وكأنه الموت الرحيم خلاصًا من ألم الاستبداد. ومن ثَمَّ يفتقد هذا التيار، في اعتقادنا، الشروط الموضوعية لأي حوار ثقافي وعلى رأسها الشعور بالثقة والنديّة، حيث أفقده الشعور بالدونية أمام الغرب القدرة على ممارسة النقد الضروري له. نعم يتمتع التنوير الأوربي بجاذبية كبيرة وإنجازات هائلة، لكن جاذبيته غير مطلقة، وإنجازاته غير مقدسة بل إنَّه انطوى في تجاويفه الداخلية على العقد الثقافية التي غذت المركزية الأوروبية. كما وقع المثقفون الذين شيَّدوا صرحه في تناقضات تنال من صورهم الرائجة. فالمثالي الألماني “ليبينتز” كان أول من دعى العرش الفرنسي إلى احتلال مصر في سياق المشروع الأوروبي لتأكيد الذات والهيمنة على العالم. كما كشف المثالي الأبرز “هيجل” في “فلسفة التاريخ” عن مواقف عنصرية فاضحة ضد المسلمين والأفارقة، وهو عين ما سيتورط فيه “أرنست رينان”. أمَّا فولتير أحد أنبياء الحرية، الذي تعرَّض للسجن بضعة أشهر، وللنفي عدة سنوات دفاعًا عن معتقداته، ولا تزال استعارتنا النمطية له نردد مقولته الشهيرة عن استعداده لدفع حياته ثمنًا لحرية مخالفه في إبداء رأيه، هو نفسه صاحب كتاب “الملك الشمس” الذي يمدح فيه ملك فرنسا “لويس الرابع عشر”، أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوربي الحديث وصاحب المقولة الأشهر “أنا الدولة”، على نحو يذكرنا بمديح الشاعر العربي “أبي الطيب المتنبي” لـــ “سيف الدولة الحمداني”.

بلغ هذا التيار ذروة امتداده منتصف القرن العشرين وبرحيل رواده الكبار، احتل مواقعهم باحثون متخصصون في التاريخ والأنثروبولوجيا، توسلوا مناهج تفكيكية ناوشوا من خلالها المقدس الإسلامي وأولوا المعتقدات الأساسية عن الإلوهية والبعث بما يخرج عن مألوف النص القرآني على رأس هؤلاء يأتي”صادق جلال العظم”، الذي نظر إلى قصة إبليس- مثلًا- على أنَّها تشبه مأساة إغريقية لا علاقة لها بواقع معين، بل تشير للغبن الذي حاق بإبليس واضطره للاختيار بين الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية، فوقع ضحية التعسف الذي وصفه النص القرآني بـ “مكر الله”. ومنهم الباحث السوري “بوعلي ياسين” الذي استشف من تأمله لأصول الأسماء الحسنى وجود علاقة بين (عبادة الله وإيل الكنعاني). فيما اعتبرت “ثريا منقوش” الباحثة اليمنية- التي ادَّعت النبوة النسائية واعتبرت محمد خاتم الأنبياء الرجال فقط وليس بالمطلق- أنَّ أخبار إبراهيم وهود وصالح … وغيرهم المنسوبة إلى أنبياء ذات أصول عبرية وسومرية وبابلية، مجرد توظيف أدبي لخدمة المشروع السياسي (المحمدي). أمَّا سيد القمني فربط بين هذا المشروع وبين ما ذهب إليه طه حسين من انتساب العرب إلى إسماعيل؛ لأسباب سياسية، ليوظفه في التدليل على أنَّ الدين الإسلامي لم يكن إلَّا منصة سياسية لبنى هاشم في تحالفهم مع أهل يثرب ضد حزب بني عبد الدار، مؤكدًا على ارتباط إله القمر في العبادة السامية بـ “إيل”، وصلة عبادة الزهرة باسم العزيز أو المنعم، وأصول هذه العبادة بطقوس التضحية بالتيوس. كما أُرجعت بلقيس وسليمان إلى إلهة أنثى (شمسية)، وإله ذكر (قمري) كانا المناسبة لطقوس عبادة جنسية كانت لها مقابلات في طقوس جنسية جاهلية قامت بها النسوة حول الكعبة، ووجد في الهلال والنجمة المتوسطة علاقة على تحول إيل إلى الله، واستمرار الزهرة في الحفاظ على معيته. ناهيك بالطبع عما يمارسه المؤرخان البارزان (اللبناني كمال الصليبي، والعراقي فاضل الربيعي) من تفكيك لوقائع مستقرة وأمكنة مقدسة في التاريخ الإسلامي، وربما لهذا ظلت أعمالهم شبه محجوبة عن الفضاء الثقافي العام. 

التيار التوفيقي والنزعة النقدية

ولد التيار التوفيقي في قلب الفكر العربي بين عشرينات وأربعينات القرن العشرين قبل أن يصل إلى ذروته في الستينات، وذلك من رحم تطورين أساسيين: التطور الأول يمكن اعتباره بمثابة الجذر المؤسس له، ويتمثل في عملية الفرز الطبيعي داخل أطياف الفكر النهضوي الذي كان شغل القرن التاسع عشر، واستوعب تيارات فكرية شتى غير متجانسة من بينها من يحمل بذورًا تغريبية، ومن يحمل بذورًا سلفية، لكن جمعيها التحمت فقط حول حلم النهضة العربية. ولكنها أخذت تتبلور مطلع القرن العشرين- خصوصًا بعد رحيل الإمام محمد عبده، الذي كان بمثابة النواة الجامعة لها. سبق التيار التغريبي إلى التبلور وفي مواجهته تبلور التيار السلفي، فيما بقيت أصوات فكرية يصعب وصفها بالسلفية أو التغريبية، كالشيخ على عبد الرازق ومنهجه التاريخي النقدي الذي ضمنه كتاب “الإسلام وأصول الحكم” عام (1926)م، نافيًا عن الخلافة أي مشروعية دينية، ومؤكدًا على تاريخيتها كأحد أشكال الحكم المتعاقبة في عالم الإسلام، ما كان يؤسس لمفهوم الدولة المدنية ولعلمانية سياسية معتدلة، وإن لم يستطع الرجل أن يُصرح بها. وأيضًا أحمد لطفي السيد برفضه لفكرة الجامعة الإسلامية، ودعوته إلى الحرية السياسية من أرضية الوطنية المصرية. وعلى الرغم من أنَّ بعض كبار مؤرخي الفكر العربي- خصوصًا- عبدالله العروي يضعون لطفي السيد ضمن التيار “الليبرالي” الذي يعني لديهم التغريبي، فإنني لا أرى لطفي السيد تغريبيًّا بل توفيقيًّا؛ لأنَّه وإن دعى إلى موقف ليبرالي على الصعيد السياسي، فإنَّه لا يتبنى الرؤية المادية للوجود التي ترفض الإيمان الديني مثل الراديكاليين الأوروبيين. ثم جاء مفكرون كالعقاد بنزوعه إلى استلهام العبقرية الإسلامية والبطولة الفردية لإحياء الشخصية العربية المسلمة، ومصطفي عبد الرازق بدعوته لتجديد الفلسفة الإسلامية، وتوفيق الحكيم بمحاولة اكتشاف القيم البارزة في شخصيتنا الحضارية، ومقارعتها بنظيرتها في الثقافية الغربية، لصياغة مذهب تعادلي يوفق بين الثنائيات المألوفة كـ(العقل والوجدان، الدين والعلم، التراث والحداثة).

أمَّا التطور الثاني فيمكن اعتباره الرافد المكمل، ويتمثل في تحول بعض أنصار التيار التغريبي إلى التيار التوفيقي والالتحاق بما يمكن أن نسميه “العقلانية العربية الإسلامية” وذلك ضمن موجة التحرر القومي من السيطرة الغربية أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تراجعت سطوة المركزية الأوروبية، وبدا ممكنًا لهؤلاء المفكرين العرب وأمثالهم في ثقافات أخرى تجاوز نرجسية الغرب الثقافية، وإحالته إلى موضوع قابل للدراسة والتحليل، أي للنقد بديلًا عن الانبهار به والتسليم الخاضع له، وعلى رأس هؤلاء يأتي طه حسين ومحمد حسين هيكل ومنصور فهمي.

دعى طه حسين في المرحلة التغريبية إلى تطبيق المنهج الشكي في الدراسات الأدبية (في الشعر الجاهلي) 1925م، وإلى التأكيد على الجذور الأوروبية / المتوسطية للعقل المصري “مستقبل الثقافة في مصر” 1938 م، معتقدًا أنَّ مستقبل مصر “مرهون بالتزامها بالفضائل المدنية والديمقراطية التي مثَّلها الغرب الحديث” و”أنَّ ما يربطها بالشرق من مصالح اقتصادية وسياسية _هو عابرٌ وسطحيّ”، أما الوحدة الدينية فـ “تظل قاصرة عن أن تكون أساسًا لأسرة اجتماعية – سياسية”. كما يرى “أنَّ تاريخ مصر قد تحقق دومًا مع اليونان من خلال الصلات العضوية الجوهرية بالمدنيات الغربية”. أمَّا تطورها الحديث فـلابد أن يتم داخل مدنية الغرب الحديث نفسه، ولكنه بعد سنوات قليلة مع انتصاف الأربعينات، سوف يقدم بحوث في السيرة النبوية والتراث الإسلامي تشي بالتراجع عن موقفه التغريبي هذا، واندراجه في إطار موقف توفيقي يسعى إلى الجمع بين العقل والإيمان، وبين الدين والعلم، وبين تراث الشرق الروحي وحضارة الغرب العلمية والتكنولوجية.

أمَّا محمد حسين هيكل الذي بدأ حياته راديكاليًّا، متطلعًا إلى الفكر الغربي وحده، فأخذ يعدل من موقفه بدءًا من كتابه “الشرق الجديد” مبررًا ذلك بأنَّ : “كل حضارة يُرجى تجديدها لا يمكن أن تُجدد بمجرد النقل عن حضارة أخرى، كما لا يُستطاع بعثها بالوقوف عند الأساليب القديمة التي بُلِيَت وأصبحت لا تحتمل مطالب الجماعة الجديدة”.  وهنا يرفض هيكل طرح الفكر التغريبي القائل بأنَّ” تحضير الشرق وبعثه يقتضي ضرورة نقل الحضارة الغربية؛ لأنَّ كل حضارة لا تتفق وطبائع العمران في الناحية التي تقوم فيها مقضي عليها بالفشل لا محالة، فكل حضارة يراد توطيدها يجب أن تتصل بالماضي اتصالًا وثيقًا، وأن يكون الجديد الذي يُضم إليها قابلًا لأن يظهر ويُثْمر فيها”. أما وسيلة معرفة هذه الطبائع فهي الإصغاء إلى الذات العربية، أي تحرير الأفكار سلفًا قبل البحث والنظر فيما أمامها؛ لأن تلك الطبائع  ليست غريبة عنَّا- بل هي طبائعنا- وهي التي شكَّلت صبانا، والكشف عنها واحترامها سوف يضيع فرصة استغلالها على الذين يحتمون وراء أطلال الماضي، يبغون استعادتها.

لدى هذا التيار برافديه، بات ممكنًا التعاطي مع الغرب من موقف الندية والثقة، خصوصًا مع نظيره (النقدي) في الفكر الأوروبي. رأى النقديون الأوروبيون أنَّ ازدهار الإنسان الغربي ممكن دون نفي الإله، ولكن أيضًا دون التعويل علي وجوده، بل عبر الاستقلال عنه. وأنَّ المعرفة العقلية ممكنة عبر مناهج البحث والتجريب في مواجهة العالم الطبيعي من دون مرور بحائط الدين أو اصطدام حتمي بالنصوص المقدسة التي تفسر ما بعد الطبيعة. أمَّا التوفيقيون العرب فرأوا أنَّ ازدهار الإنسان العربي ممكن دون الذوبان في الغرب، وأيضًا دون تناقض حتمي معه، طموحًا منهم إلى السير على طريق الحداثة الأوروبية التي أتت إلينا بالمطبعة ولكن من دون التسليم بادّعاءات تفوقها العرقي والديني واللغوي التي دفعت أربابها لاقتحام أراضينا بالمدفع. ورغم إدراك الرواد التوفيقيين لاختلاف الثقافتين العربية والغربية على مستوى الرؤية الوجودية فإنهم يؤمنون بإمكانية التوفيق بين الحضارتين على الأصعدة العملية كأنماط الإنتاج الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي والممارسة السياسية، وهكذا يقبلون بالغرب كأحد روافد إلهامنا الثقافي لكنهم لا يقبلون به مرجعية وحيدة، يعطونها حق الرقابة على ممارساتنا السياسية كما ذهب التيار التغريبى. ولا يعتبرونه- في المقابل- عدوًّا وجوديًّا كالتيار السلفي الذي أخرجناه من حيز التنوير العربي، إنَّه فقط المنافس الاستراتيجي على امتلاك زمام الحضارة الإنسانية. ورغم أن التفوق الحضاري الراهن الذي حققه الغرب ربما كان أوسع مدى وأكثر عمقًا من تفوقنا التاريخي السابق، إلَّا أنَّ هذا الفارق لا يعدو أن يكون معادلًا لتسارع حركة التقدم عبر التاريخ، ولا يجب أن يحرمنا من الثقة في أنفسنا، وفي إمكانية النهوض من جديد. ومن ثَمَّ يصوغ التيار التوفيقي للغرب صورة ثقافية متوازنة لا تنحرف به إلى الملائكية أو الشيطانية وإنَّما تحتفظ له بطبيعته الإنسانية (العادية).

اتسع التيار التوفيقي حتى هيمن على الفكر العربي، وبات يُعبر عن نفسه على شتى الأصعدة الفنية والأدبية والفكرية والقانونية. فعلى الصعيد الفني عَبَّر عنه مبدعون مثل زكريا أحمد ومحمد القصبجي، وبالأخص رياض السنباطي الذي دشن مع عبد الوهاب حداثتنا الموسيقية التي استوعبت الأدوات والوسائل الموسيقية الغربية مع الأدوات الموروثة في تكامل فني مثير أكَّد على الروح العربية من جانب، وتجاوب مع إيقاع العصر من جانب آخر. وعلى الصعيد القانوني وبالدرجة نفسها كانت إسهامات د. عبد الرازق السنهوري في صوغ الدستور المدني الذي يجمع بين المبادئ العليا للشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية الحديثة سواءً في مصر أو بعض الدول العربية. وعلى الصعيد الأدبي، جسَّدته الكتابات الأساسية لنجيب محفوظ ويحيى حقي ومحمد عبد الحليم عبد الله، ناهيك عن عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس، فضلًا عن الفتوحات الكبيرة لصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي الذي بلغ تألقه آنذاك في إنجاز حداثتنا الشعرية. أمَّا على الصعيد الفكري فثمة كتابات حسين مؤنس وشفيق غربال التي أتمَّها جمال حمدان التي بلورت الوعي النظري بالشخصية الوطنية المصرية، وجذورها العربية الإسلامية. وفي القلب من ذلك تأتى الصياغة الحديثة لسردية “الفكر العربي”، فحتى مطلع القرن العشرين كان يُعرف تاريخينا الثقافي من مصدرين: أولهما الكتب التراثية التي تلتزم البنية السلفية وتقوم على “العنعنة”. وثانيهما الكتب الاستشراقية التي قدَّم أصحابها- وهم يدرسون الثقافة العربية- سردًا لمراحلها حتى جاء أحمد أمين بعد ألبرت حوراني؛ ليقدما سردية تاريخية كاملة للفكر العربي تتجاوز البنائين (السلفي والاستشراقي) على صعيد المضمون والقضايا وطريقة العرض، قبل أن يقوم زكي نجيب محمود بفحصها من منظور الحداثة الغربية، واضعًا الأسس الفلسفية للنزعة التوفيقية التي صار علمًا عليها، مثلما كان سلامة موسى علمًا على النزعة التغريبية.

استوعبت النزعة التوفيقية في لحظة ذروتها بين أربعينات وستينات القرن العشرين، تجارب عدة تبدو متناقضة سياسيًّا على منوال التجربة الناصرية في مصر والبعثية في العراق وفي سوريا وأغلب الدول العربية التي كافحت ضد الاستعمار الغربي، وأخذت تُشيّد دولها الوطنية بعد رحيله، كما كان الأمر في الجزائر والسودان، وجل الدول التي اعتبرت نفسها دولًا تقدمية كـ(ليبيا وتونس واليمن)، بل وكانت هي الصيغة التي اعتمدتها بعض الدول التي وصفت بين خمسينات القرن العشرين وسبعيناته بالمحافظة أو الرجعية- وخصوصًا (المغرب والأردن)؛ لأن وصف هذه الدول بالمحافظة أو الرجعية ربما انطبق على الموقف السياسي، ولا يمكن فهمه إلَّا في ضوء الصراع الدولي والتنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي ضمن منظومة الحرب الباردة، ولكنه لا ينطبق على المرجعية الفكرية لهذه التجارب الوطنية المختلفة سياسيًّا / ظاهريًّا، والمتشابهة بنيويًّا في نزوعها إلى تمثل الحداثة الغربية بمكونيها الأساسيين: حيث النمط التحديثي العلمي الاشتراكي الشمولي من جهة، والتحديث العلمي الرأسمالي الديمقراطي من جهة أخرى، ولكن من داخل مرجعية قيمية وأخلاقية ظلَّت إسلامية تصالحت حولها المجتمعات العربية نسبيًّا، ونصت عليها دساتير جل هذه الدول، صراحةً أو ضمنًّا.

غير أنَّ خمسة عقود مرَّت على ذروة المشروع التوفيقي من دون أن ينجز المهمة التي أنيطت به، وهي إخراجنا من كهف الصراع بين ثنائيات متناقضة وساكنة تتعارك فيما بينها من خلف خطوط قتال محصَّنة، والدفع بنا إلى فضاء الجدل بين الأفكار والوقائع، وبين المفاهيم والظواهر بشكلٍ مباشر- كان المفترض أن يقترب الموقف التوفيقي تدريجيًّا من الموقف النقدي، بعد كل ما استهلكه من مشروعات فكرية قيمة نهض بها مفكرون كبار من طراز زكي نجيب محمود، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون وعبدالله العروي، وحسن حنفي ونصر أبو زيد وعبد الإله بلقزيز وناصيف نصار وجابر عصفور وجابر الأنصاري وغيرهم. غير أنَّ ذلك لم يحدث، بل انحرفت الصيغة التوفيقية عند الممارسة العملية إلى مظاهر “تلفيقية” حيث وجدت دومًا فجوة واسعة بين طبيعة السلطة العربية التقليدية حتى النخاع رغم الشكل الحداثي الذي تمت استعارته، أو بين الخطاب الإيديولوجي الذي أطلقته حول التنمية والديمقراطية والعدالة، وبين المسارات العملية التي سلكتها نحو الاستبداد والظلم- اللهم فيما ندر-  إنها الفجوة التي نبعت منها ظاهرة المراوغة بين الأبنية ووظائفها العملية، بين المؤسسات وأدوارها الحقيقية، حيث كان هناك البرلمان لكنه لا يشرَّع، وهناك المركز البحثي الذي لا ينتج علمًا بالطبيعة أو معرفة بالمجتمع.. الخ.

بل إنَّ النزعة التوفيقية هذه سرعان ما أخذت في التراجع أمام الوعي السلفي الذي أخذ يتصاعد منذ هزيمة 1967 م، ثم الثورة الإيرانية التي غدت شيعية سياسية زادت من وطأة السنية السياسية، التي تمددت على أرضية الرجعية الثقافية، وهنا أخذ الجدل الفكري- الذي دار طوال القرن العشرين بين التيارات الثلاثة الأساسية (العلموي، والتوفيقي، والسلفي)، واحتل فيه التيار التوفيقي الموقع المركزي- يشهد تحولًا واضحًا في اتجاهات ثلاثة أساسية:

في الاتجاه الأول: جرى نفي التيار التغريبي كإطار ثقافي عريض يساهم في الجدل العام، حتى لو استمر يعبّر عن نفسه من خلال بعض الكتابات النافلة، المقموعة في كهف مظلم، أو بعض ظواهر الإلحاد الموصوفة بالسوقية والمراهقة. أو حتى بعض الحركيين المرتبطين بمراكز بحثية غربية تجذبهم لكنهم لا ينغرسون عميقًا في الثقافة القومية ولا يجسدون حقيقتها.

وفي الاتجاه الثاني: تَبَلْور تيار جهادي لم يكن موجودًا أصلًا، وتمركزه على يمين التيار السلفي أخذ يمارس العنف؛ ليفرض على التيارات الأخرى رؤيته حول جل القضايا الإشكالية خاصةً على صعيد السلطة السياسية والهوية الحضارية بدءًا من جماعات التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية بمصر في سبعينات القرن العشرين، مرورًا بالقاعدة في التسعينات ووصولًا إلى النصرة وداعش في الألفية الثالثة.

وفي الاتجاه الثالث: أخذ التيار السلفي بكل تعبيراته الفكرية والسياسية يتمركز في قلب الثقافة العربية بديلًا للتيار التوفيقي، فبدلًا من الجدل الفكري بين التيارات الثلاث: (التغريبي -التوفيقي- السلفي)، نجدنا أمام جدل: (التوفيقي- السلفي -الجهادي) ما يعني رِدة ثقافية لمشروع التنوير العربي.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى