لاتخلو معالجات القضايا والظواهر الموصولة بالاجتماع السياسي من تصدير مصطلح بعينه وتعويمه وتجليته؛ تحقيقًا لأهداف معينة معلنة أو مضمرة, وفقًا لهذه الفرضية تبدو المصطلحات والتعبيرات والمفاهيم محشوة ومغلَّفة بالدلالات والإيحاءات التي يراد بها تخليق انطباعات أو تكريس معانٍ أو صناعة صور وتصورات في وجدان المتلقين أو المعنيين عمومًا، وتهيئتهم للتعامل معها بشكلٍ تلقائي.
من أبرز نماذج التوظيف والتوجيه المعيب(غير البريء) للمصطلحات في إطار ثقافة الصراع الصهيوني العربي والقضية الفلسطينية، تداول مصطلحي “الشتات اليهودي ” و” الجاليات اليهودية ” في مشارق الأرض ومغاربها، ومؤخرًا أضيف إليهما تعبير ” اللاجئون اليهود من الدول العربية “، والمدهش أن هذا الاستعمال قد تَسلَّل فيما يشبه العدوى تقريبًا إلى الجانب العربي والفلسطيني، حتى شاع الحديث عن “الشتات الفلسطيني” و ” الجاليات الفلسطينية “، اللذين باتا يزاحمان مفهوم “اللاجئين الفلسطينيين” الأكثر تقليدية وصدقًا وثباتًا – آيةُ العيب في هذا السياق- أن يهود العالم ليسوا بالمعاني (الاجتماعية والقانونية الحقوقية والسياسية) في حالة شتات، كما أن صفة اللجوء لاتنطبق على واحدٍ منهم .. فمبلغ علمنا أنَّه لايوجد يهودي واحد على ظهر الأرض محروم من الانتماء إلى كيان “دولتي”، يسبغ عليه حقوق المواطنة ويُمكّنه الخروج منه والعودة إليه بلا عوائق.
ويلحق بهذه الموضوعة أن اليهود في مواطنهم لا يُشكّلون جاليات وإنما هم مواطنون أقحاح، شأنهم في ذلك شأن مواطنيهم الآخرين.
كأن المراد بمفهومي الشتات والجالية في نطاق اليهود، يتعلق بالتمييز الديني أو التعريف الديني للهوية والانتماء فقط لاغير، والأصل أن الفقه الحقوقي والسياسي في العالم المعاصر لايسوغ تعريف الشعوب و الأمم وتعيين الدول وهوياتها السياسية – بناء على هذا التعريف وحده- لاسيما عند التفيؤ بظلال نظرية ” دولة كل مواطنيها”، هذا وإلَّا كنا بصدد كيانات دولتية، أو مطالبات بإنشاء كيانات دولية، بعدد أتباع الديانات السماوية الثلاث، مضافًا إليها مئات وربما آلاف المطالبات المماثلة، التي تخص جماعات لاحصر لها من أصحاب الأيديولوجيات والمذاهب والملل والنحل الوضعية ذوات السمت الديني. وفي حالة كهذه، نمسي بصدد عالم تقوم دِوله وكياناته السياسية بقضها وقضيضها على فكرة الشتات الديني.
أين ذلك من الحالة الفلسطينية ؟! الأمر هنا مختلف تمامًا، فالفلسطينيون المنتشرون خارج فلسطين في مختلف أنحاء المعمورة، يقعون تحت وطأة إخراج من وطنهم فرض عليهم كرهًا وبالقوة العارية، ولايمكنهم تحت ديمومة هذه الوطأة العودة إلى هذا الوطن بإرادتهم الحرة، ودون كثير من التفيقه، تُعرف هذه الوضعية -طبقًا للمنطق الإنساني البحت وطبقًا للقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة- بـ “اللجوء”، ويُعرف الخاضعون لها بـ “اللاجئين ” .
الشتات الفلسطيني: والحال كذلك مجرد توصيف صحيح من حيث الشكل، لكنه ناقص وغير سوي وينطوي موضوعيًّا على رسائل وجدانية سلبية، ربما كانت ضارة بالحقوق المتعينة لللاجئين الفلسطينيين، من كان منهم في فلسطين التاريخية أو كان خارجها في المخيمات وبقية المواطن.
مؤدى هذا أن التعامل مع مفهوم الشتات الفلسطيني وإطلاقه بكثافة في الفضاء الفكري (الثقافي والسياسي الإقليمي والدولي)، دون ردفه بالوعي المطلوب حول سيرة الصراع الدامي الذي فرضته الغزوة الصهيونية الاستيطانية على أرض فلسطين ومحيطها ونشوء قضية اللاجئين، يُعدُّ تناولًا غير محايد، وتصدق هذه الملاحظة على مفهوم الاغتراب الفلسطيني والمغتربين الفلسطينيين. فهذا الاغتراب بدوره وفى شِقه الأعظم، لم ينجم عن خيارات أو قرارات حرة، وإنما هو قرين تطورات الصراع ومرادات الغزاة ورغباتهم ومخططاتهم وسياساتهم الرامية؛ لتشريد أبناء الشعب الفلسطيني واستيطان بلادهم.
القصد، أن استخدام مصطلحات من قبيل (الشتات والاغتراب والمغتربين) بين يدي هذا الجهد، هو أقرب للعمل الإجرائي، الذي يدور في فلك هذه المحاذير والتعميمات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأروقة الفكرية والمؤسسات المنسوبة إلى أوساط ” المغتربين ” الفلسطينيين وممثلي “جالياتهم” يخوضون في جدل وتناظر مع بعض الدوائر المعنية بمخاطبتهم لأجل التأكيد على أنهم لاجئون وليسوا مجرد مغتربين، وهم حريصون على منع الالتباس بين أوضاعهم و بين حالات الشتات والاغتراب الأخرى التي لم تنشأ عن- أو تعاني من- تجربة التهجير واللجوء القسري .
في يوليو 2020 أعلن جهاز الإحصاء الفلسطيني أنَّ عدد الفلسطينيين في العالم يبلغ نحو 13.5 مليون نسمة، يعيش نحو 6.7 ملايين منهم داخل فلسطين التاريخية، ويتوزع الباقون بين الدول العربية المجاورة لفلسطين (الأردن وسوريا ولبنان) بصفة أساسية وبين قارات العالم..
من العدد الكلي الفلسطيني الخارج، تشرف وكالة الغوث الأممية “أونروا” على نحو خمسة ملايين، يقيمون داخل وخارج مخيمات خاصة بهم في خمسة أماكن هي (الضفة الفلسطينية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان)، وهم مصنفون لديها، وبالتداعي لدى الأمم المتحدة التي تتبعها الوكالة “كلاجئين”. هذا يعني أن أكثر من1,5 مليون نسمة من شريحة فلسطيني الخارج وذراريهم المنتشرين في (الأمريكتين وأوروبا وآسيا واستراليا وبعض الرحاب العربية)، لا يحظون بأيّة رعاية إقليمية أو دولية توفر لهم أسباب الحماية، التي تكفلها قوانين اللجوء والهجرة والمؤسسات الساهرة عليها .
اللافت أن البيانات والإحصاءات الخاصة بهذه الشريحة تدور في فلك التقريب والتقدير بأكثر مما تقدم مادة أو بنية تحتية معلوماتية متماسكة.
جانب كبير من هذه النقيصة يعود إلى أنَّ معظم الدول المستقبلة للفلسطينيين- خارج المحيط العربي بالذات- لاتفرد لهم أضابير أو ملفات مستقلة ضمن فعالياتها الإحصائية وشؤونها القنصلية، وإنما تدرجهم تحت المسجلين من بلدان الشرق الأوسط أو الأجانب بصفة عامة، وقد تضعهم في خانات أبناء الدول المصدرة لوثائق سفرهم، وتتجلى الحاجة إلى مزيد من توثيق المعلومات حول حجم “الاغتراب والمغتربين الفلسطينيين” في حديث للدكتور نبيل شعت- غداة تسلمه رئاسة دائرة شؤون المغتربين بمنظمة التحرير الفلسطينة عام 2018- أكد فيه “عكوف الدائرة على مشروع لتوثيق المغتربين في المناطق غير التابعة لولاية الأونروا “.. الأمر الذي يفترض أنَّه تعزز بصدور مرسوم رئاسي فلسطيني في يناير 2019، قضى بتشكيل لجنة عليا لإحصاء المغتربين على نحو يشمل بيانات شخصية عن أسمائهم ومتى غادروا؟ وأين يقيمون بالتحديد؟ وأحوالهم الأسرية وخبراتهم العلمية والعملية، وصلاتهم بالوطن … ونحو ذلك مما يساعد على الوصول إليهم في كل مكان، ومعرفة حدود نفوذهم السياسي وكيفية الاستعانة بعطائهم أو تقديم يد العون لهم .
المؤكد في كل حال أنَّ زهاء نصف أبناء الشعب الفلسطيني محرومون خارج وطنهم التاريخي من ممارسة حقوق الجنسية والمواطنة، وقطاع كبير منهم محروم أيضًا من الحماية التي توفرها وتسهر عليها أطر دولية كالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ورُبَّ قائل هنا بأنَّ “الأنروا” توفر هذه الحماية للاجئين الخاضعين لولايتها، فيما ينال “المغتربون” حماية الدول المقيمين فيها، لكن الحقائق تشير بغير ذلك؛ فحال “أونروا” وأزماتها المالية والإدارية والبيئات العاصفة من حولها، والضغوط الهادفة لتجفيفها وبخاصة من الجانبين (الأمريكي والإسرائيلي)، تُغني عن سؤالها بخصوص قدر الخدمات المحدود الذي تضطلع به _ علاوة على أنها ليست معنية بالمطلق بمعاني الحماية السياسية والحقوقية، التي لايمكن توفيرها بمعزل عن قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ومعالجة حق عودة اللاجئين طبقًا للقرار الأممي الشهير رقم 194 وتوابعه.
أمَّا خارج حيز هذه الوكالة، فيعيش ” المغتربون واللاجئون ” شتاتهم القسري في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية وحقوقية وسياسية (حياتية) بصفة عامة- تتفاوت سقوفها وفقًا لثقافات الدول المضيفة والمستقبلة، علاوة على اختلاف حظوظهم في الحصول على جنسيات هذه الدول ودرجات الاندماج في صلب شؤونها ومؤسساتها الداخلية وليس لدينا راهن مرجعية بيانية تفصيلية بهذا الشأن على نحو الإحصاء الذي تحدثت دائرة شؤون المغتربين عن إعداده ، بل وليس ثمة معلومات عمَّا إذا كان هذا الإحصاء قد تحقق أو كان قيد الإنجاز، لكن المتوفر من المقاربات يفيد بأنَّ انخراط ” الجاليات الفلسطينية ” في عوالم الآخرين يراوح بين الاندماج شبه الكامل، كما هو الحال مثلًا في كندا ( نحو 25 ألف نسمة )، وفرنسا ( نحو 1200 )، والبرازيل ( نحو 70 ألفًا )، وبريطانيا، ( نحو 15 ألفًا )، وتشيلي ( نحو 400 ألفٍ )، والسلفادور (نحو 100 ألفٍ )، وفنزويلا ( نحو 80 ألفًا )، والاندماج المحدود نسبيًّا كما هو الحال مثلًا في هولندا ( نحو 7 آلاف )، وإيطاليا (نحو 4 آلاف )، والسويد ( نحو 50 ألفًا )، وألمانيا (أكثر من 100 ألف ) . ويكاد الإجماع ينعقد على أنَّ اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، وحواجز اللغة، وزمن الوصول والهجرة، ومدى شيوع الزيجات المختلطة من عدمها، ومستوى توفر الحوافز الداعمة أو المعيقة في البلدان المضيفة إلى جانب رؤية أبناء هذه البلدان الأصليين للأجانب من مهاجرين ومغتربين قدامى و جدد ومستويات التعصب القومي، أو حتى العنصري تجاههم، تعد محددات شديدة الأهمية في التأثير على مستويات اندماج “المغتربين واللاجئين ” في هذه الأصقاع .
وقد أفردت أدبيات “الاغتراب الفلسطيني”- بطبيعته الخاصة المعطوفة على تطورات القضية الفلسطينية- مساحة معتبرة لفحص العلاقة بين مستويات اندماج “المغتربين” واستشعارهم لهويتهم الوطنية الأُم من جهة، وبين نوازعهم وأحانينهم تجاه أبعاد هذه القضية وصلتهم بها وأدوارهم في دعمها وتعزيز مكانتها وتواصلهم مع الوطن من جهة أخرى. ومن بين ما يفهم في هذا الإطار، وجود فوارق وتمايزات واضحة المعالم بين حركة المغتربين وشواغلهم وهمومهم وحراكاتهم في الشتاتين (العربي وغير العربي) . وإن وضعنا أصابعنا على موضع الداء في هذه الفوارق بلامواربة، فإنه يصح تعليلها بالاختلافات الجوهرية بين البيئتين لجهة معطيات عديدة في طليعتها البنى الثقافية بكل تجلياتها وهوامش الحركة والتنظيم المتاحة فيهما بصفةٍ عامة.
فعلى الصعيد العربي، الأصل أنَّ الفلسطينيين لا يعانون من المحددات السلبية المانعة أو المعيقة تلقائيًّا للتواصل والانغماس أو الاندماج في تضاعيف الحياة بكل تفصيلاتها. البنية أو الأرومة القومية الواحدة بكل مقوماتها، كان من المفترض أن تسبغ على “اللاجئين والمغتربين الفلسطينيين ” الحماية الكفيلة بتوفير الحقوق الأساسية اللازمة للعيش الكريم، وتسمح لهم بطلاقة الفعل النضالي دون المساس بهويتهم الوطنية ، ومما يتردد ويقال بهذا الخصوص أنَّ عدم السماح لهم باكتساب جنسيات الدول العربية ومواطناتها ناجم عن الحرص على صيانة هذه الهوية ومنع تذويبها، ويُلاحظ أنَّ إعادة إحياء الكيانية السياسية عبر نشوء منظمة التحرير والفصائل التي انضوت تحت لوائها، جرى أساسًا في بيئة اللجوء والاغتراب العربي، إلَّا أنَّ الواقع العربي لم يعدم حدوث مشاحنات جرى التعامل معها وتطويقها مع هذه الأطر.
ليس هنا موضع الاستطراد إلى التفصيلات بشأن هذه التعميمات. ما يعنينا أكثر أنَّ أحد كلمات السر في تحول القطاعات الفلسطينية شطر دول المهجر (الأوروبي والأمريكي… وغيرهما) وراء أعالي البحار- تتصل بالآمال في توفر مساحات لاستغلال الملكات ووجود حوافز علمية واقتصادية، صعودًا إلى الاعتقاد في اتساع فرص انتقاد السياسات والتوجهات الدولية (الغربية الحكومية والشعبية) بخاصة إزاء القضية الفلسطينية. وعلى ذلك يصح التصور بأنَّ الفلسطينيين قد شاركوا قطاعات عربية أخرى في البحث عن مثل هذه الفرص، لكنَّ خصوصية الحالة الفلسطينية في هذا السياق أنَّها تثير الحساسية لجهة تأثير “الاغتراب والشتات” على صيانة الهوية الوطنية، وهنا لا مبالغة في الاعتقاد بأنَّ سيرورة حياة الفلسطينيين في المغتربات غير العربية، تؤكد غياب التناقض بين صيانة الهوية الوطنية الأُم وبين الاندماج في مجتمعات الدول المستقبلة، بل ولعل الاندماج إلى مرتبة الحصول على جنسيات هذه الدول ومواطناتها، تمثل خشبة قفز ضرورية لاستمرار الاشتباك مع الرواية الصهيونية، وشرح الرواية الفلسطينية بكل أبعادها التاريخية والثقافية والحقوقية السياسية.
بصيغةٍ أخرى, فإنَّه خلافًا للمزاعم الرائجة لدى بعض المرجفين بشأن احتمال أن يؤدي توسيع دائرة الحقوق الأساسية للاجئين والمغتربين الفلسطينيين لاضمحلال هويتهم وأفول قضيتهم الوطنية- بات يُنظر إلى اكتساب جنسيات ” دول المهجر” مع الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية على أنَّه مكسب لفعاليتهم في هذه الدول، ويتضاعف هذا المكسب إذا ما تم تعظيم وعي الأجيال الشابة منهم بتفصيلات سيرة الوطن الأُم، والظلمة التي حلَّت به وبهم وبآبائهم وأجدادهم، ومازالت معالمها ماثلة .. فهذه الأجيال لديها القدرة على القيادة وتفهم ثقافات الدول المقيمين فيها ولغاتها وعاداتها، كما تتوفر لهم فسحة الانخراط في حياتها السياسية والمدنية، والاحتكاك المباشر مع الرأي العام ورموز صناعة السياسة والقرار، ومن وجهة نظر فقهية تثير الانتباه، فإنَّ غياب الدولة المستقلة ليس شرطًا لأفول الهوية .. وإذا كانت الرواية الصهيونية تدَّعي بوجود هوية جامعة لـ “الشعب اليهودي” فيما يحظى كل يهود المعمورة بجنسيات ومواطنات كاملة المواصفات منذ مئات السنين، ويتمتعون في بعض الدول بمكانات وإمكانيات تفوق تلك المتوفرة لبقية مواطنيهم من غير اليهود، فكيف الحال بالفلسطينيين المجبرين على تجرع مرارات الحياة، وإن كانت بمعدلات متفاوتة في كل أماكن وجودهم ؟!. نحن في النموذج الصهيوني اليهودي بصدد “هوية مصنوعة” أو يراد تصنيعها عنوةً وتلفيقًا، بينما يعرض النموذج الفلسطيني لهوية مطبوعة .. بيد أنَّ عملية صيانة الهوية القومية والوطنية تحت واقع الاغتراب ومعطياته لا تجري جدلًا بوتيرة طبيعية، وإنما تقتضي بذل جهد متعمد وإعداد مقصود يحف بالمغتربين في بيئاتهم البعيدة ..
يؤشر إلى أحوال الفلسطينيين في الشتات غير العربي- بغض النظر عن مسمياتهم لاجئين أو مهاجرين كانوا أم مغتربين وجاليات- إنَّ هذه الرحاب هي التي شهدت نشوء وتبلور الشق الأعظم من الأطر المدنية / الشعبية ؛ التي تتوخى تنظيمهم ورعاية شؤونهم والحفاظ على هويتهم وتحديد أدوارهم وتفعيلها، سواءً كان ذلك لتحسين أحوالهم الذاتية أو كان للدفاع عن قضيتهم الوطنية الأُم والإدلاء برؤاهم وآرائهم ومواقفهم تجاهها.. يشار في ذلك على سبيل الأمثلة إلى أنَّ المؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج، ومؤتمر فلسطيني أوروبا، ومركز العودة الفلسطيني، واتحاد الجاليات والمؤسسات الفلسطينية في أوروبا، والمنتدى العربي الأمريكي، ومؤسسة العدالة لفلسطين، وتحالف حق العودة في الولايات المتحدة، ورابطة الجالية الفلسطينية في الدول الاسكندنافية، وعشرات الملتقيات والنوادي الاجتماعية والثقافية والرياضية والجمعيات والروابط ذات الطابع الفلسطيني في دول أمريكا الجنوبية وقارة استراليا، تنشط جميعها وتعقد فعاليات لافتة ويؤبه لها في التعريف بأبعاد القضية الفلسطينية خارج العالم العربي، وأغلب الظن أنَّ نشوء هذه الأطر والمؤسسات وارتقائها والحرص على تشغيل دواليب أعمالها وأدوار انعقادها وطرح برامجها خارج العواصم والمدن العربية، لم يأتِ عفو الخاطر ، فهذه الحقيقة تتعلق بالوعي بأهمية العامل الدولي في نشوء هذه القضية منذ بواكيرها الأولى، وتأثيره الممتد في تطوراتها إلى وقتنا الراهن .
بالتوازي مع الأطر التي أبدعها ” المغتربون”، وفقًا لما ينسجم ويتوافق مع السياقات الاجتماعية والقانونية والسياسية للبيئات المحيطة بهم، هناك الدوائر التي شكَّلتها منظمة التحرير الفلسطينية منذ وقت مبكر(وأبرزها دائرة شؤون اللاجئين )، ثم الأطر التي نشأت لاحقًا في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية ( وأبرزها دائرة شؤون المغتربين )، التي تعني عمومًا باللاجئين والمغتربين والجاليات الفلسطينية في الشتات.
وللوهلة الأولى يصعب الحديث عن فوارق وتمايزات كبيرة بين الأنشطة والفعاليات والأدوار والأهداف، التي تضطلع بها مؤسسات المغتربين والجاليات من جهة، وتلك التي تتابعها دوائر المنظمة والسلطة من جهة أخرى، حقًا تتواجد مؤسسات “المغتربين” في قلب الميدان، ولديها فرصًا عريضة للعمل مباشرة و توجيه خطابها عن كثب داخل تضاعيف المجتمعات المستقبلة، فيما تقع الدوائر الرسمية على مسافة من ساحات العمل، إلَّا أنَّ الجميع يتقاطعون عند كثيرٍ من النقاط، ففي حيز الأهداف يتلاقى هؤلاء وهؤلاء مثلًا على ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية _لاسيما بالنسبة للأجيال الشابة، وتطوير أواصر الصلة بين المغتربين وبعضهم البعض وصولًا إلى توحيد أطرهم التمثيلية وتثبيت صلتهم بالوطن واطلاعهم على أحواله والتعرف عليه، ومواجهة الرواية الصهيونية الإسرائيلية وتعريتها أمام الرأيين (العام والرسمي) في بلدان “الشتات”، وجلب الأنصار للقضية الوطنية، وتعزيز عمليات مقاطعة إسرائيل على كافة الصُّعد، وتلمُّس سبل فرض عقوبات عليها بوصفها كيانًا يحتل الديار الفلسطينية ويمارس الفصل العنصري وسياسة “الأبارتيد” بحق شعبها الأصلي، وتقوية العلاقة بالمجتمعات المضيفة واستقطاب قواها الفاعلة سياسيًّا ومدنيًّا حول الحقوق الفلسطينية، وبيان استحقاق الشعب الفلسطيني للتحرر والاستقلال والعودة إلى وطنه الذي طُرد منه بالقوة، والتعريف بأثر الوفاء بذلك كله ونحوه على استتباب السلم والأمن الدوليين ..
أمَّا لجهة الوسائل وأدوات الحركة، فإنَّ النهج الأكثر تداولًا بين الجميع هو عقد المؤتمرات والندوات وورش العمل والحراكات الموسمية، التي تتدرج من النطاقات الضيقة على مستوى المدن والمقاطعات وتتصاعد اتساعًا حتى تبلغ المستويين القاري كالمؤتمر السنوي لفلسطيني أوروبا، والعالمي كالمؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج ، وخلال هذه الفعاليات يجرى تحديد الاتجاهات والمواقف والمهام والبحث في كثير من التفصيلات الرامية إلى تحقيق الأهداف، مثل تشجيع المغتربين المندمجين من أصحاب حق الترشح والاقتراع على خوض الانتخابات المحلية والبلدية والنيابية، والمنافسة على مواقع حزبية وتنفيذية متقدمة بما يرتقي بنفوذهم ويعلي أصواتهم لصالح الحقوق الفلسطينية، وتكثيف التواصل مع الأطر المحلية المدنية العاطفة على قضايا حقوق الإنسان والشعوب، ومطالبتها بالضغط على حكوماتها لمقاطعة إسرائيل، وإعداد قوائم بالشركات والمؤسسات لسحب استثماراتها في إسرائيل ومستوطناتها في الأرض المحتلة، والدفع باتجاه استصدار قوانين تسمح بملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، واستحثاث الموسرين ورجال المال والأعمال من المغتربين، على الاستثمار في الوطن ومد يد العون والخبرة لأجل تنميته، وفتح مجالات لمواجهة البطالة بين أبنائه عوضًا عن سوق العمل الإسرائيلي وسوءاته ..
اتساع نطاقات العمل والتنسيق المشترك والتقاطع لجهتي الوسائل والأهداف_ ولاسيما في ضوء التوافق على انتهاج أنماط المقاومة الشعبية المدنية غير العنفية لاينفي وجود نقاط خلافية وبؤر توتر لا يمكن نكران تداعياتها السلبية وماينجم عنها من مشاكسات ومماحكات، تبلغ أحيانًا حد التلاسن بين مؤسسات المغتربين وممثليهم وبين أطر منظمة التحرير والسلطة الوطنية، يصل المتابع لهذا الاستنتاج عند ملاحظة الخلاف الأولي بشأن تعريف المغتربين واللاجئين لدى كل من الطرفين، فمنظمة التحرير تعتبر “دائرة شؤون المغتربين ” الهيئة الرسمية المعنية بقضايا الجاليات الفلسطينية في المهجر وبلاد الاغتراب، وهي مرجعية الجاليات بكل أطرها، وقناة الاتصال الرئيسة بينها وبين الوطن ومؤسساته. وعلى ذلك، تبدو هذه الدائرة وقد احتكرت لذاتها كل ما يخص عمل الجاليات، وتبوأت مقعد المركز الذي يتصل به ويتحرك من خلاله المغتربون ويدورون في فلكه ويرتبطون به بإحكام .
هذا التعريف لايروق لكثير من المغتربين، وذلك على اعتبار ” أنَّ فكرة الدائرة تتعاطى مع التجمعات الفلسطينية في الشتات كمغتربين، هذا في حين أنَّ أبناء شعبنا لاجئون وليسوا مغتربين، والجدير بالتفعيل هو مؤسسات منظمة التحرير وليس دور الجاليات المفعل منذ وقتٍ بعيد”.
في كل حال، يتبنى قطاع واسع من ممثلي المغتربين والجاليات موقفًا يميل إلى نقد كل من المنظمة والسلطة والرغبة في تحسين أدائهما، معللين ذلك بأنهما يهمشانهم ويغيبان مواقفهم السياسية، ولايملكان سياسات واضحة تجاههم، ويبقيانهم خارج دينامية صناعة القرار الفلسطيني ، ومن التصورات التي يطرحونها لإزالة هذا القصور الرسمي، أن يجرى إدراجهم في الهيئة التشريعية للمنظمة (المجلس الوطني)، وبخاصة في المواطن التي يمكن إجراء الانتخابات بها .
من جهتها لاتأنس أطر المنظمة والسلطة لهذه النظرة، ويصل بها التحسب أحيانًا إلى طور التعبير الصريح عن مكنوناتها تجاه جانب من أعمال المغتربين وأنشطتهم، التنظيمية والمؤسسية بخاصة. ومن ذلك الإعلان عن رفضها لانعقاد بعض مؤتمراتهم، التي يبادرون بالدعوة إليها وحدهم ورميها بأنها محاولة “للتشتيت والتفريق وزيادة الانقسام التي تجرى لحسابات حزبية ضيقة، وتتوخى إيجاد بديل لمنظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”. حدث هذا بالضبط، مثلًا حين تمت الدعوة لمؤتمر الشتات الفلسطيني بمدينة اسطنبول يومي (25 -26) فبراير2017 .
و الحق أن التوكيد على وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني وقضيته، يمثل القاسم المشترك الأوضح، ولعله الهاجس الأكثر إلحاحًا، عند مقاربة أطر المنظمة ومسؤوليها لأعمال المغتربين ومبادراتهم _ وربما تعزز هذا الإلحاح أكثر فأكثر، باستحضار السيرة التاريخية للمنظمة؛ وكيف أنها هي ذاتها وفصائلها وقيادات العمل العسكري المقاوم، نشأوا جميعًا بين عامي (1948 -1993) بفعل إرادة الخارج الفلسطيني، وتوحي الوقائع بأن تكرارية الاعتراف بالمنظمة في صلب أعمال المغتربين وخطاباتهم، وأن مطلوباتهم إزائها لاتعدو طموح التفعيل والإصلاح وتجديد الهيكلة، وإعادة الاعتبار لثوابتها ومواثيقها التاريخية، وإحياء مؤسساتها التشريعية والقيادية وضرورة نبذ الانقسامات بين فصائلها، ولم لا تساهم كثيرًا في طمأنة المجادلين والمشككين في نياتهم.
إذا كانت أنشطة المغتربين وحراكاتهم تواجه بالحساسيات الواردة من البيئة الفلسطينية على خلفية تخوف مؤسسات التمثيل السياسي التقليدية الراسخة من نشوء مظلة منافسة لها أو أكثر، فإنها تواجه في الوقت ذاته حالة من العداء المستحكم من جانب القوى الصهيونية والإسرائيلية ومحازبيها في مجتمعات الاغتراب. يقول ماجد الزير (رئيس مؤتمر فلسطيني أوروبا): “أننا نجابه حملة مزدوجة من جانب إسرائيل، التي تتهمنا بمعاداة السامية والتصدي للإرهاب والتطرف والكراهية “.
وللإنصاف، ليس من المنطق السديد المساواة بين أوضاع المغتربين الفلسطينيين وامكاناتهم، وبين أوضاع القوى الصهيونية والإسرائيلية وحلفائها في ساحات الاغتراب والشتات. نحن إزاء قياس لمصادر القوة والنفوذ والتغلغل تميل كفته كثيرًا لغير صالح الجانب الفلسطيني، نطرح هذا التقدير وفي الخاطر أن القوى الصهيونية هى الأكبر عددًا والأقدم وجودًا وانتشارًا والأكثر مؤسسة وتنظيمًا والأوفر حظًا من الموارد والطاقات. تتجلى صدقية هذه الحقائق بصفةٍ استثنائية في الساحتين (الأوروبية والأمريكية) على جانبي الأطلسي . الوجود الصهيوني في هذا السياق (الجغرافي والسكاني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي…) ليس وجودًا طارئًا ولاهو مستحدث أو “مستورد” إنه جزءٌ أصيل من البيئة المحيطة وقيمها، ويتمتع بأفضلية التعامل معها بالألسنة والخطابات ومنظومة القيم التي يمكن تفهمها بيسر، ودون كثير من العوائق والمثبطات المحتملة بالنسبة لحركة الاغتراب الفلسطيني .
مع ذلك، وعلى الرغم من هذه المعادلة المواتية بالنسبة لهم، لايستهين الصهاينة والإسرائيليون بديناميات المغتربين الفلسطينيين وجالياتهم، ويجتهدون في مواجهتها وإدارة اشتباكات ممنهجة معها ومنعها من بلوغ أطوار” اللوبيات” المؤثرة، فهم يبادرون إلى مواجهة حملات المقاطعة وينشئون مجموعات لمناهضة منتقدي إسرائيل، ولا يقصرون في تشويه سمعتهم وعزلهم اجتماعيًّا وفكريًّا وسياسيًّا ونعتهم بالوصفة المعلبة الشهيرة بـ ” اللاسامية وكراهية اليهود”. ثم أنهم قبل ذلك وبعده يروجون للرواية الصهيونية بكل محتوياتها تجاه فلسطين (الأرض والتاريخ والثقافة والانتماء القومي) باعتبارها “أرض الميعاد وميراث اليهود”. ويتوسلون في ذلك بشراء ذمم وسائل الإعلام و تهديد المتعاطفين مع فلسطين، ويحاولون إخراجهم ومؤسسات الاغتراب الفلسطيني من دائرة القانون؛ وبذلك، يعملون على شطب رواية الفلسطينيين وظلامتهم من الأجندتين الرسمية والشعبية في مختلف بلدان الشتات. هذا كله ومثله، يرفع كلفة التضامن مع فلسطين، بمثل ما يحتاج إلى جهدٍ فائق من أطر ” الشتات الفلسطيني” الساهرة على تعزيز هذا التضامن وبيان الجرائم الإسرائيلية .
نحت المغتربون الفلسطينيون ومازالوا ينحتون الصخر، كي يعيدوا بناء ذواتهم ويكيفوا مسارات حيواتهم ويحققوا قدرًا من الاستقرار والفعالية، في عوالم بعيدة عن الوطن ؛ عوالم يبدو بعضها مغايرًا ومعاكسًا لثقافتهم ومُثلهم وتراثهم بشكلٍ نسبيّ أو كليّ، وفي بعض مواطن اللجوء والاغتراب واجهوا بيئة مفعمة بأسباب التربص والشكوك- حتى لانقول العداء- في أحايين كثيرة ، وكان عليهم وهم يبحرون في هذه الرحلة الإجبارية الشاقة وسياقاتها أن يُثبتوا أركان وجودهم ويُؤطروا أنفسهم، وأن يُسمعوا صوتهم ويُفعلوا أنشطتهم، خدمة للارتقاء بأوضاعهم الخاصة من جهة، وحفاظًا على هويتهم الأُم من جهة ثانية، و دفاعًا عن حقوق قضيتهم الوطنية وشعبهم المعذب في الوطن من جهة ثالثة، وهذه مهام صعبة الإتيان ولا يتولى كبرها في ظروف الاغتراب إلَّا أولو العزم من البشر.
مع ذلك، فإنه قياسًا ببداياتهم وخطوات انطلاقاتهم الأولى، بعد صدمة التشتت والاغتراب والاقتلاع والرحيل- تعد أحوال جماعات المغتربين مطمئنة لجهة إنجاز الكثير من هذه المهام، وعلى من أراد استكناه آفاق هذه الأحوال واستطلاع المستقبل، أن لا تساوره الظنون في كون هذه الجماعات بحاجة استراتيجية فائقة لإعادة بناء الذات والهوية الوطنية، وبلورتهما تحت لواء دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة. لا يقوم هذا التصور على منطلقات دعائية أو شعاراتية، وبحسبنا هنا التنويه إلى ما تحمله وتنذر به بعض التحولات في عوالم الشتات، من قبيل فوران هوجات أو موجات الشوفينية الشعبوية القومية في أوروبا، و نظيرتها المنحازة للجنس الأبيض المؤسس في الولايات المتحدة، وما يرتبط بذلك من مشاعر ونوازع النفور أو التأفف من “الآخرين”، كالمهاجرين القدامى والجدد_ لاسيما من عوالم الجنوب، الذين يقع الفلسطينيون في زمرتهم .
هناك لحظات تاريخية اجتماعية سياسية تطفوا في غضونها لدى البشر أحاسيس التمايز والارتداد إلى الهويات الأصلية والجذور الأولى، ولاينجوا من سطوة هذه الفرضية أكثر المجتمعات انصياعًا للمثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، حدث هذا مثلًا قبل عشرين عامًا في أحشاء المجتمع الأمريكي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حين أصبح العرب والمسلمون موضوعًا للتسافل والاتهام من جانب قطاعات اجتماعية من البيض البروتستانت والصهاينة، ثم أن هذا الأمر تفاقم؛ ليطال معظم “الأقليات” ذات الأصول الشرقية والجنوبية في عهد الجمهوريين بزعامة الرئيس دونالد ترامب . وقل مثل ذلك عن السياق الأوروبي، الذي راح يشهد خلال العقدين الأخيرين تنمرًا وحماقات شعبوية, تتنامى بإطراد ضد المهاجرين واللاجئين الشرعيين وغير الشرعيين.
مؤدى ذلك بإيجاز أن الكيان الدولتي الفلسطيني، هو السياج المرجعي والملاذ الأكثر أمنًا للكل الفلسطيني دون استثناء شريحة المغتربين وجالياتهم في هذا الكون الفسيح.