2021العدد 187ملف ثقافي

مراجعة كتاب: “آلة الكمان ماضيها وحاضرها”

مقدمة

خمسة وثلاثون عامًا مرّوا على صدور كتاب” آلة الكمان، ماضيها وحاضرها” عن شركة المشرق للطباعة اللبنانية، وبالرغم من أهمية الكتاب وأهمية ما ورد فيه إلا أنني لم أقرأ حتى الآن أيَّ نقد يقدِّمه ويقيِّمه ويضعه في مرتبته بين أدبيات الموسيقى العربية الحديثة النادرة جدًا- إذا ما قيست بأدبيات الموسيقى الأوروبية مثلًا- لذلك وبالرغم من مرور خمسٍ وثلاثين سنة على صدور الكتاب(صدر سنة 1986)، فأنا أرى من الضرورة عرضه؛ وذلك لأهميته في وضع القارئ العربي أمام تاريخ آلة الكمان؛ وذلك لأهميتها في الموسيقى العربية المعاصرة، وعرض أهم مدراس صناعتها وأهم مدراس العزف والتعليم عليها، وأهم المصاعب والمشاكل التي تعترض العازف وذلك بقلم عالم وعارف بأسرار هذه الآلة وتاريخها.

 فمؤلف الكتاب هو الدكتور سليم سعد، وهو موسيقي لبناني من مواليد بلدة عين زحلته (الشوف-لبنان) سنة 1950، أنهى دراسته الموسيقية الجامعية الأولى في المعهد العالي للموسيقى في “يرفان” عاصمة أرمينيا السوفيتية سابقًا- حائزًا على ماجستير في العزف على آلة الفيول (الكمان الكبير)، ودراسته الجامعية العليا في المعهد المذكور حائزًا على لقب دكتور في الموسيقى.

بدأ سليم سعد دراسته الموسيقية في المعهد الموسيقي الوطني اللبناني بعد مرحلة الهواية الموسيقية، وكان يعزف فيها على العود والكمان والطبلة، وكانت مخاوفنا عندما سافر إلى الاتحاد السوفياتي السابق أن تأخذه الموسيقى الأوروبية نهائيًا، فلا تستطيع موسيقانا الاستفادة من موهبته وعلمه- كما هو الحال مع السواد الأعظم من طلاب الموسيقى العرب الدارسين في أوروبا، لكن سليم سعد بدد مخاوفنا عندما عاد إلينا وكله هموم في كيفية تطوير موسيقانا العربية من خلال تطوير العزف بالاستعانة بالمدرسة الأوروبية للعزف وتقنياته وينقسم الكتاب إلى سبعة فصول:-

الفصل الأول

يشكل لمحة سريعة عبر تاريخ الكمان وبدايته كتطور لآلة الرباب العربي، الذي أخذته أوروبا من جزيرة صقلية من خلال إيطاليا، حتى ظهور العائلة الكمانية المؤلفة من: (كمان فيولا -فيولونسيل (تشلّو) وكونترباص).

الفصل الثاني

مدراس صناعة الكمان يتحدث هذا الفصل عن مدارس صناعة الكمان في أوروبا ومعلميها، فيعرفنا المؤلف على أسماء صانعي الكمان الأوائل:

  • “غسبارو بارتولدي داسالو” (1542-1609) الذي أعطى الكمان شكله الأساسي، “داسالو” هو زعيم المدرسة البرشيانية التي تتميز بالصوت القوي للكمان مع قلة في وضوح نبرته وليونة صوته.
  • مدرسة” كريمونا” على رأسها عائلة” آماتي” الشهيرة ومؤسسها “أندريه آماتي” ويمكن اعتباره  أول صانع عبقري للكمان (1535-1611)؛ فكل ما جاء من بعده يُعد تطويرًا لما صنعه أندريه أماتي، ولعل أشهر واحد من هذه العائلة كان “نيقولا”، وشهرته تعود إلى أنه كان أستاذًا لأعظم صانعي الكمان في التاريخ وهو “أنطونيو ستراديفاري” أو(ستراديفاريوس) و”أندريه غوارنيري” أو( غوارنيريوس)، وقد أوصل هذان المعلمان صناعه الكمان  وصوته إلى الكمال المطلق.

أُضيف هنا “أن بعض العلماء في الولايات المتحدة الأمريكية جربوا تقليد صناعة هذين المعلمين بعد أن أخضعوا إحدى كمنجات “غوارنيريوس” للتجارب العلمية الدقيقة، استعملوا فيها آخر ما توصلوا إليه في أمريكا من آلات كومبيوتر وتحليلات كيميائية وفيزيائية بما في ذلك أشعة الليزر، وبعد التوصل العملي النظري إلى جميع أسرار الآلة صنعوا واحدة على غرارها فجاءت النتيجة سلبية( فالآلة لم تعط سرها لأحد).

 وأُضيف أيضًا أن كمنجات “ستراديفاريوس” ظلت تعتبر الوحيدة من الدرجة الأولى، بينما ظلت كمنجات “غوارنيريوس” غير معروفة، حتى بدأ بالعزف عليها عبقري الكمان الإيطالي”باغانيني”، فقفزت شهرتها لتزاحم شهرة “ستراديفاريوس”. أخيرًا يذكر المؤلف المدرسة الفرنسية وعلى رأسها العازف الإيطالي”فيوتي”(1755-1824)، الذي انتقل إلى فرنسا وهو مؤلف موسيقي، أيضًا اشتهر بأعماله التي كتبها للكمان وأهمها( الكونشرتو) للكمان رقم 22 من أصل 29( كونشرتو) كتبها مع أعمال أخرى 21 رباعي وتريِّ، 21 ثلاثي (تريو) وتريِّ و 51 ثنائي(دويتو) لكمانين.

  • ثم المدرسة التيرولية وعلى رأسها شتاينر.

الفصل الثالث

مدارس التعليم الكماني. من الأسماء الكبيرة في العزف على الكمان، يَذكر المؤلف الموسيقيين الإيطاليين الكبار:

  • غابرييلي لوكاتيلي  Gabrieli Locatelli  (1612-1557)، عازف كمان ومؤلف(1695-1764)، وأهم أعماله مجموعة مقطوعات “فن الكمان” ويحتوي على 12 “كونشرتوغروسو” و 24 نزوة لكمانين و فيولا وتشلو وكيبورد(سنة 1733).
  • “كوريليCorelli ” (1653-1713) عازف كمان ومؤلف ويُعتبر مؤسس المدرسة الإيطالية للعزف على الكمان وأهم أعماله : 12 “كونشرتو غروسو” لكمانين وتشلو وأوركسترا وتريّ.
  • ” فيفالدي” Vivaldi (1678-1741) عازف كمان ومؤلف أهم أعماله: 150 كونشرتو للكمان، أكثر من خمسين رباعي وتريّ( 12 تريو ثلاثي) لكمانين وتشلو، و 18 سوناتا للكمان والباص.

وقد اشتهروا جميعُهم بمؤلفاتهم التي لعبت فيها الآلات الوترية الدور الأكبر. ومن كبار العازفين المؤلفين أيضًا: نذكر” تارتيني” Tartini (1692-1770) وأهم أعماله: حوالى150 كونشرتو للكمان، أكثر من مِئة سوناتا للكمان والباص بمصاحبه الكيبورد، وقد أدخل” تارتيني” الكثيرَ من التقنيات الحديثة إلى العزف على الكمان ومنها تقنيته الترجيف (تريمولو)، وهي طريقة ترجيف القوس على حرف موسيقي واحد (Termolo)، والعزف المتقطع ستاكاتو (Staccato)، وتقفيز القوس (سوتييه) (Sotille`) ،ومن مؤلفاته التي جمعت كل هذه التقنيات بشكل كبير مركز أذكر: “التريل الشيطاني” والتريل (Trille) هو طريقة عزف حرفين متجاورين عادةً الواحد تلو الآخر وترديدهما بأقصى سرعة، ووصفت القطعة بالشيطانية؛ لصعوبة أدائها من الناحية التقنية، وكان” تارتيني” أول من وضع ذقنه على الجهة اليسرى من الكمان (كالدارج لليوم)، من إضافات “تارتيني” أيضًا يذكر المؤلف تغير شكل القوس وطوله، وأُضيف أن القوس في عصر الباروك (عصر” باخ” الذي سبق عصر الركوكو والعصر الكلاسيكي)، كان قوسًا بكل معنى الكلمة مقوسا من تحت إلى فوق، وكان شكل القوس هذا السبب الأساسي في  طريقة الكتابة للوتريات المعروفة بها موسيقى “باخ” وكل عصر الباروك، والتي تقتضي ألا يؤدي القوس في اتجاه واحد أكثر من حرفين موسيقيين؛ وذلك في الحالات الاستثنائية وذلك لقصر طوله، أما في أكثر الحالات فحرفًا واحدًا؛ وذلك لأن شكل القوس وحجمه كان يتطلب وضع كوع اليد اليمنى حاملة القوس على عظْمة الحوض.

” تارتيني” غيَّر شكل القوس وجعله مقوّسًا بقدر قليل جدًا من فوق إلى تحت، وبعكس القوس السابق كما أنه زوَّد طوله إلى 61 سنتم، فحرّر بذلك اليد اليمنى من جميع عوائق القوس السابق وزوَّد إمكانية العزف في نفس اتجاه القوس، وقد جمع” تارتيني” كل التقنيات الجديدة التي أدخلها على العزف في مؤلفِه” خمسون تنويعا لليد اليمنى”.

 ينتقل المؤلف إلى” لوكاتيلي” (Locatelli) (1695-1764) الذي ابتدع تقنية هامة جدًا في العزف على الكمان، هي وضعيات (بوزيسيون – Position) لليد اليسرى أي انتقالها وتغيير وضعيتها من قاعدة رقبة الكمان إلى فوق مقتربة من جسم الكمان، هذه الوضعيات تعطي الآلة إمكانات كبيرة جدًا في التعبير الموسيقي والتقني وتكبِّر المساحة الصوتية للآلة.

يصل المؤلف هنا إلى أعظم عبقري عرفته آلة الكمان : “نيكولو باغانيني” (Pagnini) (1782-1840)، أوصل باغانيني تقنية العزف على الكمان إلى المطلق، وأُضيف أن هناك الكثير من أعماله لم تُعزف حتى الآن؛ لصعوبتها التقنية الفائقة، بالرغم من انتشار تقنية العزف المتقدمة جدًا في جميع معاهد الموسيقى في العالم؛ ووجود مجموعة كبيرة من عباقرة العزف على هذه الآلة.

 أدخل” باغانيني” طريقة استخراج الأصوات الهارمونية العالية جدًا كصوت الفلوت العالي جدًا (فلاجوليتو) (Flageoletto) أو فلاوتاتو (Flautato)، بواسطة اللمس الخفيف جدًا على الوتر بدلا من الضغط عليه، وقد أبتدع أيضًا تقنية “البيشيكاتو” (Pizzicato) (النقر بواسطة الإصبع ) باليد اليمنى واليسرى، وقد وضع” باغانيني” كل عبقريته التقنية في كونشرتاته للكمان والأوركسترا وخصوصًا في “نزواته” الأربعة والعشرين (Caprice- كابريس) للكمان المنفرد.

ينتقل المؤلف إلى المدرسة الألمانية وعلى رأسها “يوزيف يواكيم” المجري الأصل(1831-1907)، وأهم أعماله (تحويلاته لرقصات “برامز” الهنجارية من الأوركسترا إلى الكمان)، ويُعتبر” يواكيم” مؤسس إحدى أهم مدارس التربية الكمانية في العالم بالرغم من سلبية كبيرة تتعلق بطريقة الإمساك بالقوس أدت إلى إعاقة حركة اليد اليمنى أمام التقنيات السريعة.

وعلى رأس المدرسة (الفرانكو-بلجيكية) العازف” كروتسر” وأذكر هنا أن” بيتهوفن” أهداه أحد أعظم مؤلفاته (السونانا التاسعة للكمان والبيانو) والتي لا تُعرف الآن إلا باسم “سوناتا كروتسر”.

كوستر لم يعزف هذه السوناتا لاحتقاره لأي موسيقى ليست فرنسية ؟! وقد طوى النسيان أعمال “كروتسر”، ولم يبقَ منها سوى 40 نزوة للكمان المنفرد وبعضٌ من كونشرتاته للكمان.

 عرفت المدرسة الفرنسية عازفين أساتذة كبارا لهم وزنهم الكبير في الحياة الموسيقية الأوروبية: كـ “جورج إينيسكو” الروماني و”جاك تيبو”، وأُضيف أن” تيبو” مات بحادثة تحطم طائرة هو وابنته عازفة الكمان أيضا، وقد تحطم معهما كمانان من صنع “ستراديفاريوس” العظيم .

ينتقل المؤلف إلى المدرسة الروسية (أواخر القرن التاسع عشر) في مدينة “سانكث بيترسبورج” وإلى مؤسسيها” ليوبولد آوير” و”فينيافسكي” البولوني، الذي أُطلق عليه لقب “باغانيني بولونيا” (1835-1880) ومعظم أعماله مكتوبه للكمان منها 2 كونشرتو للكمان والأوكسترا وهي مشبعة بالروح القومية البولونية.

ومن تلاميذ” آوير” عباقرة العزف على الكمان في القرن العشرين : “إيلمان وتسيمبا ليست” وخاصة” هايفتس” وغيرهم، ثم ينتقل المؤلف إلى المدرسة الروسية الحديثة ومقرها مدينة “أوديسا” وعلى رأسها المربي العبقري” ستوليارسكي” وأُضيف هنا أنه من المفارقات الغريبة أن هذا المعلم العبقري كان عازفا عاديا فقد كان يحتل دائما آخر طبقة من طبقات عازفي الكمان في الأوركسترا.

ومن تلاميذ “ستوليارسكي” العازفون الروس الراحلون”اويستراخ وكوغان وفايمان” (قدمتُ معه بمصاحبة الأوركستر السمفوني في مدينة إركوتسك -على ضفاف بحيرة بايكال- سنة 1977 الكونشرتو الثاني للكمان والأوركسترا معا)، كذلك أُضيف إلى لائحة تلاميذه المربين -في معهد تشايكوفسكي فترة دراستي فيه- “بامبولسكي بانكيليفتش” و”إليزابيت غيللز” (أخت عازف البيانو العبقري” إميل غيللز” وزوجة عازف الكمان العبقري” ليونيد كوغان”.

الفصل الرابع

 مبادئ احتضان الكمان، من أهم واضعي هذه المبادئ” ليوبولد موتسارت” (1719 -1787) والد الموسيقي العبقري “ولفغانغ أمادييوس موتسارت” (1756-1791). أهم نقاط هذا الفصل هو وضعية الجسم بشكل يؤمِّن ارتخاء العضلات، نُضيف أن هذا الشرط مشترَك لجميع أنواع الأداء الموسيقي من العزف على جميع الآلات إلى قيادة الكورال والأوركسترا وحتى الغناء؛ فهو الشرط الذي يؤمن حرية وراحة جميع عضلات الجسم التي تسمح بالأداء لمدة طويلة دون حصول تشنّجات عضلية، ويقول المؤلف أن هذا الشرط ضروري جدًا؛ فهو مرتبط بشكل جذري بجميع أعضاء الجسم حتى لو أن الرقبة تشنّجت ينتج عن ذلك إعاقة وصول كمية الأُوكسجين اللازمة إلى العضلات مما يؤدي إلى تشنّجها بدورها، وهذا يمنع وصول الأوكسجين إلى الرأس بالكمية الضرورية فيَشُلّ هذا بدوره عملية التفكير والتركيز في أثناء الأداء الموسيقي.

ينتقل المؤلف إلى المعطيات الضرورية لتطوير الاحتراف التقني في اليد اليمنى ثم اليسرى ووضعها الأنسب؛ لوقايتها من التشنج ثم يشرح دور الدورة الدموية والعلاقة المتبادلة بينهما وبين تشنج العضلات، ويعرض بعد ذلك أمراض الاحتراف العزفي (العزف الحرفي)، التي تقسم إلى الأمراض الجسميّة العادية (البرد والوعكات الصحية الأخرى) والأمراض المتأتَّية عن عدم أخذ قوّة اليد العضلية والجهد الموكل إليها بعين الاعتبار، ويقول أن عدم التوازن بين قوه اليد والجهد الموكل إليها قد يؤدي إلى نتائج وخيمة تلحق الضرر الفسيولوجي باليد وتضطر العازف في بعض الحالات إلى ترك العزف نهائيا.

وتُسمى هذه الأمراض أمراض الاحتراف ومن أهم أسبابها:

  1. تسريع العزف قبل الوقت وهذا يؤدي إلى التوتر.
  2. عزف قطع موسيقية تقنياتها لا تتناسب والحالة الفيزيولوجية ليد العازف.
  3. التمرين لساعات طويلة دون أن يكون العازف قد عوَّد يديه على العزف لمدة طويلة من دون استراحة وهنا تكمن أهمية وضرورة التمرين التربوي مع أستاذ متخصص يعرف هذه المخاطر ونتائجها.

الفصل الخامس

السمع الموسيقي، يتعرض المؤلف هنا إلى السمع الموسيقي وشروط العزف السليم البعيد عن النشاز أي عن العزف غير النظيف، ويذكر العناصر التي تأتمر بالسمع الموسيقي وأولها جمال الصوت، هنا أنوِّه بين الصوت الخاص بالآلة نفسها الذي لا يعتبر العازف مسؤولا عنه، والصوت الذي يجترحه العازف من آلته.

 وأُضيف أن هذا الصوت هو مسؤولية العازف ويخضع إلى التهذيب والتدريب ويمكن بل يجب تحسينه، ويذكر المؤلف هنا أسباب العزف غير النظيف الذي يولد النشاز: الخوف في أثناء العزف أمام الجمهور خاصة إذا كان العزف منفردا، وأُضيف أن هذا الخوف وإن لم يؤثر سلبيا على عزف العبقري” ليونيد كوغان”، إلّا أنه سبَّب له قرحة مزدوجة في المعدة بالرغم من النظام الصارم في حياته الخاصة، ويقول المؤلف أن حالة النشاز هذه تلازم العازف حتى يتمالك نفسه فيسيطر على تفكيره وأصابعه، لكن المؤلف هنا لا يذكر سببا جوهريا مهما لوجود النشاز وهو انعدام السمع الموسيقى الجيد وعدم التمييز بين النظافة والنشاز، فإذا كان للسبب الأول (الخوف) طريقة للتغلب عليه فالسبب الثاني (انعدام السمع الموسيقي) لا علاج له.

ويذكر المؤلف العناصر التي يتكون منها السمع الموسيقي : الإحساس باللحن والإيقاع والطابع الصوتي والتغييرات الصوتية والاحساس بالجملة الموسيقية وموهبة تحسس الشكل الموسيقي، إلى جانب هذا أُضيف أن السمع الموسيقي نوعان : السمع المطلق الذي يميز ارتفاع الصوت بحد ذاته من دون مقارنة مع أصوات أخرى، والسمع النسبي الذي يربط معرفة ارتفاع الصوت بمقارنته مع غيره من الأصوات، هذا السمع يتأثر بأسباب تعرض صاحبه إلى النشاز أثناء العزف وهي مجموعتان:

  1. الأسباب الذاتية الداخلية المتعلقة بالعازف نفسه: وهي التعب الجسدي لذلك فإن الشرط الأول للعزف النظيف هو في كون العازف في حاله ارتياح جسدي، السبب الثاني هو عدم السيطرة الفكرية على العزف؛ لذلك فإن تحديد أوقات العزف يجب أن يتزامن مع أوقات الراحة الفكرية والجسدية الضرورية للعزف النظيف.
  2. الأسباب الخارجية: الأصوات الخارجية كالضجيج والأحاديث الجانبية التي تزعج وتشتت تركيز العازف؛ بسبب اختلاطها مع الأصوات المطلوبة أدائها فتحدث توترا بالآلة السمعية عند العازف هذا ما أثبته “هلمهولتز” العالم الألماني في (الرياضيات والفيزياء والفيزيولوجيا والعلوم الطبيعية) في كتابه “بحث في الإحساس السمعي كأساس فيزيولوجي للنظريات الموسيقية”، والذي برهن فيه أن الكلام هو العنصر الأكثر إزعاجا للسمع الموسيقي في  أثناء الدرس وأُضيف في أثناء السمع أيضًا؛ لأنه يتكون من أصوات كثيرة العدد تتلاحق وتتوالى مع أنواع من الضجيج فتؤثر سلبيًا على خلايا السمع مؤدية بها إلى الإرهاق القوي”.

السبب الخارجي الثاني للعزف النشاز يعزوه المؤلف إلى العزف من دون تركيز وبطريقة ميكانيكية آلية وهذه الطريقة تؤدي إلى تعطيل السمع الموسيقي بل إلى ضياعه التام.

يصل “هلمهولتز” في كتابه إلى مفهوم التناغم الصوتي أو التنغيم (Intonation) وهو ضبط علوِّ الصوت في أثناء العزف لتجنبه النشاز، وقد أفرد المؤلف لهذه الظاهرة الفصل الأخير من كتابه موضوع دراستنا.

واستنادا إلى ما سبق يؤكد المؤلف أن التنغيم هذا يعتبر العنصر الأول من عناصر تربية العزف على الكمان؛ لذلك وجب على الأستاذ عدم تمرير ولو صوت واحد ناشز من دون التشديد على ضرورة نظافته النغمية، كما يجب على الأستاذ التشديد على النقد الذاتي عند تلميذه في أثناء العمل البيتي، ومن الشروط الأساسية للتنغيم الصحيح عدم مرافقة عازف كمان مبتدئ على بيانو غير مضبوط الأصوات (غير مدوزن) وإلا اضُّطر عازف الكمان لا شعوريا إلى أن يتبع البيانو نغميًا فيفقد بذلك نظافة عزفه.

القسم الأخير

 من هذا الفصل يشرح فيه المؤلف علاقة الدوزان الطبيعي بالدوزان المعدل، والدوزان المعدل هو نظام تتابع الأصوات الموسيقية الثابتة كنظام تتابع الأصوات في البيانو والجيتار لسبب القواطع المعدنية المثبتة على رقبته، أما الدوزان الطبيعي هو النظام الصوتي في الآلات غير الثابتة الأصوات كما في جميع الآلات الوترية القوسية في الأوركسترا (عائلة الكمان)، وكما في العود هذا الفرق بين هذين النظامين الصوتيين يخلق بعض المشاكل الصوتية خصوصًا عند عزف آلة طبيعية الدوزان مع آلة معدلة كالبيانو.

الفصل السادس

 في تنظيم الواجبات البيتية: يتطرق هذا الفصل إلى الواجبات البيتية التي برأي المؤلف تلعب دورا حاسما في تطوير وبلورة الشخصية الموسيقية عند التلميذ العازف، هنا يُذكر حسنات وسيئات ظاهرة التعود التي هي أساس التراكم النوعي للعازف.

 هذا التعود سيف ذو حدين: فكما أنه يقود عملية تراكم العادات الإيجابية الحسنة فإنه أيضا يقود عملية تراكم الأخطاء إذا لم نتداركها في الوقت المناسب وإلا تصبح صعبة التصحيح.

ينتقل المؤلف إلى برنامج العمل اليومي وكيف يجب أن يراعي طريقة استعمال الوقت وتقسيمه على المسائل المطروحة في مجرى الدروس، هنا وجب التنبيه إلى مسألة مهمة: (الراحة) ويقول المؤلف أن نظام العمل يجب أن يتبع درجة تطوير التلميذ، فيحدد المؤلف حسب المدارس التربوية مدة الدراسة اليومية للتلميذ المبتدئ مع مدة الاستراحة اللازمة ،أما بالنسبة إلى عملية تراكم التدريب فأُضيف” يجب ألا تتعرض عملية التراكم إلى التوقف”؛ لأن التوقف عن التمرين ولو ليوم واحد يؤثر على عملية التراكم بل يؤدي إلى قطعها فكم بالحري عندما تطول مدة التوقف هذا. ويقول بهذا الصدد عازف البيانو والمربي الروسي الشهير في القرن التاسع عشر” أنطون روبينشتاين” “إذا توقفت عن العزف يوما واحدا ألاحظ أنا الفرق، وإذا توقفت يومين يُلاحظ أصدقائي الفرق، وإذا توقفت ثلاثة أيام يلاحظ الجمهور الفرق”.

الفصل السابع

 التنغيم على الكمان هذا الفصل يُعادل بحجمه كل الفصول الأخرى مجتمعة، ويتكلم عن ظاهرة موسيقية في غاية الأهمية وهي التنغيم على الكمان باليد اليسرى، من هنا تظهر حقيقة هامة جدًا وخطيرة وهي أنه ليس هناك حتى في الموسيقى الأوروبية أصوات مطلقة ثابتة؛ فلكل صوت على الكمان ما يُسمى بالمنطقة النغمية وهذه المنطقة تحدد نظافة الصوت المعزوف فإذا كانت دوسة الإصبع خارج حدود هذه المنطقة جاء الصوت ناشزا، وإن الدوسة الصحيحة في حدود المنطقة النغمية تختلف من عازف إلى آخر، وقد تعطي أحيانا إحساس بالنشاز مع أن العزف صحيح، وأذكر في هذا الصدد الحفلة التي أقيمت في مسرح البولشوي في موسكو لمناسبة أحد الأعياد فجمعوا لها كبار عازفي الكمان في الاتحاد السوفياتي، مُشكلِين فرقة وتريَّة لتقديم بعض الأعمال الموسيقية، ومن ضمن العازفين كان “أويسترخ وكوغان” أهم عازفي” سوفيات” ومن أهم العازفين في العالم، وفي أثناء التدريبات التي حضرتُها كانت بعض الأصوات تبدو نشازا وكان “أويسترخ” يوقف التدريب ويطلب من كل عازف أداء هذه الأصوات لوحده فكانت صحيحة، ولكن عندما كانوا يعاودون العزف معا كان الإحساس بالنشاز يعود، وأذكر أيضًا الحفلة التي حضرتها وعزف فيها” أويسترخ” (أحد أعظم عازفي الكمان في العالم) مع “ريختر” (أحد أعظم عازفي البيانو في العالم ) – سوناتات للكمان والبيانو لبيتهوفن، وكيف كان العزف في بعض الأحيان يبدو نشازا مع أن” أويسترخ” يعتبر من “أنظف” العازفين على الكمان في العالم، وقد اختبروا نظافة عزفه على الآلات الإليكترونية فجاءت مطلقة.

 سبب الإحساس بالنشاز(بالرغم من عدم وجوده)؛ هو أن الكمان ذا الدوزان الطبيعي لم يكن يتجانس دائما مع البيانو ذي الدوزان المعدل والثابت، ويقول المؤلف “أن ظاهرة المنطقة النغمية تُستعمل للترجيف التجميلي على الكمان (فبراتو-vibrato)، وشرط العزف الصحيح للترجيف هو أن تكون الدوسة في وسط المنطقة هذه حتى يأتي الترجيف ضمن حدودها، فإذا كانت الدوسة داخل الطرف الآمن في للمنطقة النغمية يأتي الترجيف باتجاه الأعلى نشازًا خارج المنطقة، كذلك عندما تكون الدوسة على الطرف الأسفل من المنطقة فسيأتي الترجيف باتجاه الأسفل ناشزا”؛ لذا فإن أساتذة العزف على الكمان يمنعون تلاميذهم في بداية دراستهم من استعمال الترجيف؛ كي لا يستعمل في تنظيف العزف بطريقة اصطناعية غشاشة، فلا يُسمح لهم باستعمال الترجيف إلا حين يصبح التنغيم بواسطة دوسة الإصبع نظيفًا.

أضيف أن أهم ما في دراسات هؤلاء المربين المذكورين في هذا الفصل- أنه حتى الأصوات المعدلة ليست ثابتة؛ بل ترتفع وتنخفض حسب مكانتها على السلم الموسيقي نفس الشيء نجده في غناء الكورال؛ فإن نفس الحرف يتغير تنغيمه حسب درجاته في السلم الموسيقي، فالدرجة السابعة(الحساس) يجب أن تكون متوترة باتجاه الأعلى إلى الدرجة الثامنة جواب (الدرجة الأولى الأساسية في السلم الموسيقى) فلو أخذنا مثلا سلم “فا” ماجور فإن درجته السابعة (الحساس) هي “مي” التي تعزف على الوتر الأخير المفتوح من دون دوسة اليد اليسرى، وذلك حسب الدوزان الغربي للكمان : (صول، ري، لا ، مي ). ما العمل هنا ؟ فاذا عزفت حرف “فا” نظيفا كما يُتحتِّم النظام المعدل جاءت هذه المسافة (مي – فا) نشازا مع الإحساس بأن حرف “فا” جاء ناشزا باتجاه الأعلى بالرغم من نظافة الحرفين.

النشاز يأتي بسبب عدم التمكن من رفع حرف “مي” لكونه يُعزف على وتر مفتوح هنا وجب خفض حرف “فا” كي تأتي هذه المسافة (مي- فا) نظيفة على السمع بالرغم من معارضة ذلك للنظام الصوتي المعدل المطلق.

وأضيف أخيرا أن هذه الظاهرة الثابتة وهذه الحقيقة العلمية- لها أهميتها القصوى في الممارسة الموسيقية وقد اكتشفتها في أثناء تنفيذي للتوزيع الأوركسترالي لآلات” الفانفار” (الآلات الخشبية والنحاسية فقط)، الذي كتبته لنشيد “لبنان ثائر” للمؤلف الموسيقي المصري د.فتحي الخميسي ونظم أخيه د.أحمد الخميسي، ونفذته على الكومبيوتر في أواسط الثمانينات في القرن المنصرم، واستعملت في التوزيع آلتي الترومبيت (البوق) النحاسية واكتشفت أنه كلما التقت الآلتان في التوزيع على حرف واحد انخفض حجم الصوت وقوته إلى قوة آلة واحدة أي إلى النصف، وللحصول على حجم صوت آلتين كان عليّ أن أُحدث نشازا اصطناعيا على الكومبيوتر على هذا الحرف ومن هنا اكتشفت أن سبب تضخم صوت الأوركسترا كلما زاد عدد العازفين فيها هو النشاز النسبي بين العازف والأخر الذي يحدثه اختلاف الدوسة في منطقة التنغيم؛ وإلا كان حجم صوت الأوركسترا، لو كانت دوسة التنغيم مطلقة بين العازفين بحجم آلة واحدة ، حتى لو كان عدد فريق الكمنجات أو مجموعة أية آلات أخرى غير محدود.

 وأُضيف أن هذه الحقيقة الثابتة والعلمية نظريا وعمليا تأتي ردا على بعض الموسيقيين الذين يهاجمون الموسيقى العربية دون أن تكون لديهم القاعدة العلمية لذلك، بل دون أن يدروا أن العلم ضدهم بما يقولون كتساؤل البعض: “أيه سيكا تريدون ؟ سيكا مصر أم سيكا لبنان أم سيكا العراق أم سيكا تركيا؟ ” ؛ وذلك لسبب اختلاف هذه الدرجة الموسيقية من بلد إلى آخر. فاذا كانت الحروف الاثنا عشر التي تؤلف السلم الموسيقي الغربي المعدل نظريا تختلف من عازف إلى آخر ومن موضع إلى آخر على السلم الموسيقي، فإن اختلاف حرف واحد “السيكا” من بلد إلى آخر لا أظن أنه يخلق مشكلة إلا عند الذين يبحثون عن المشاكل، أولئك الذين لا يريدون أن يروا في الموسيقى العربية إلا عيوبًا ويريدون بأية وسيلة -حتى غير علمية – إسقاط الصفة العلمية عنها.

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى