في الوقت الذي تركز فيه الدول العربية اهتماماتها على مخاوفها الأمنية، وعداواتها الإقليمية، وانتفاضاتها الشعبية، وأزماتها الداخلية، وانقساماتها البينية، تتحرك إسرائيل بكل نشاط وجدية تجاه تنفيذ أهدافها المخططة، بدعم كامل من الإدارة الأمريكية، استنادا إلى تشارك الطرفين في التوجهات الشعوبية، وسيادة الفكر اليميني المحافظ على سياستيهما. وفي علاقة التقارب الوثيقة بين المسئولين فيهما عن متابعة ملف النزاع العربي الإسرائيلي سياسيا وإيدلوجيا، وهو الأمر الذي ظهرت آخر تجلياته في القرارات الأمريكية بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وما تلاها من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وترجع خطورة هذه القرارات ليس فقط في تعارضها مع قرارات الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي، وقواعد التعامل المتعارف عليها بين الدول، وإنما لدلالاتها السياسية على أن الطرفين لم يعد يحركهما حافز التوصل إلى حصيلة أكثر فاعلية في المفاوضات، بل يسعيان إلى المضي قدما في وضع إطار مختلف للعلاقات العربية الإسرائيلية، يعتمد على الاعتراف بالحقائق على الأرض، ووضع النزاع في خانة الصراع الديني/الإثني، والاستناد إلى المحفزات الاقتصادية –على حساب الجوانب السياسية- في التعامل مع القضية الفلسطينية. مع استخدام التفوق العسكري الإسرائيلي لفرض واقع جديد على المنطقة ودولها.
v v v
ولعل التعبير الأوضح عن هذا الواقع لا يتمثل فقط في الموقف الأمريكي الحاسم في إصراره على تقويض موقع الفلسطينيين، وتجميد الاتصالات الأمريكية بهم، وإضعاف الدعم الإنمائي الأمريكي والدولي لهم، وحث الدول العربية على الانفتاح على إسرائيل للاستدارة عليهم وتهميش دورهم. وإنما أيضا فيما تُظهره الآراء والأفكار التي تدور في الأوساط الأمريكية والإسرائيلية النافذة – تصريحا وتلميحا – والتي تفسر المواقف وتكشف حقيقة النوايا، وطبيعة الأهداف في المنطقة والتي تتمثل في التوجهات التالية:
أولاً: الزعم بأن مخاطر إعادة الجولان إلى إسرائيل لا يتعلق فقط بتحالف نظام الأسد مع إيران، بل لأن سوريا- بطبيعتها- ليست كيانا مستقرا. ولذلك فإنه حتى إذا برز يوما في دمشق نظام موال للولايات المتحدة، ومحبذ للاستقرار الإقليمي، فلن يكون الأمريكيون قادرين على الرهان على بقائه واستمراره.
ثانيا: أن هذا المنطق ينسحب أيضا على الفلسطينيين الذين يعانون من حالة «مرَضية» من فقدان الاستقرار، ومن الانقسام في الرأي، والاختلاف في الإيدليوجية السياسية بين الفصائل المختلفة. وهو انقسام يتعلق في الأساس – بالرغم من تعدد وجوهه – بمبدأ السلام مع إسرائيل. وهو ما يدفعها إلى الادعاء بأن تأكيد ضمان أمنها لن يتم إلا عبر الانخراط في عمليات «توسع دفاعي»، بما يستتبع بالضرورة اتجاهها إلى الاستيلاء على مزيد من الأراضي التي تحقق لها هذا الهدف، ويبرر –بالتالي- سعيها للحصول على اعتراف أمريكي بحقها في ضم الأراضي المقام عليها المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
ثالثا: أن محصلة هذه الأفكار تتوافق إلى حد كبير مع آراء عدد مؤثر من المشرعين المؤيدين لإسرائيل في الكونجرس الأمريكي، الذين يعتبرون أنه حان الوقت للتخلي عن نوازع الانحناء للتقاليد الدبلوماسية، والاستجابة للضغوط الدولية، والعودة إلى المفاهيم المثبتة لنصر الحليف الإسرائيلي، والتي تتمثل في قيام السياسة الأمريكية بالإجراءات المؤكِدة لاعتقادها بانتصار إسرائيل على الفلسطينيين، وأهمها التخلي عن مفهوم الالتزامات المتقابلة مثل الأرض مقابل السلام، وحل الدولتين، وقيام الطرفين –الإسرائيلي والفلسطيني- بتنازلات وتضحيات «مماثلة». وهو الأمر الذي يعني في النهاية حصول إسرائيل على اعتراف أمريكي صريح بسيادتها على أراضي الضفة الغربية استنادا إلى تبريرات دينية/إثنية. هذا فضلا عن تسابق هذا اليمين لإمرار قرارات وإجراءات داخلية في إسرائيل تؤكد مبدأ «التفوق اليهودي» وحصرية التمتع بحقوق المواطنة لهم في دولة إسرائيل «اليهودية».
رابعا: أن الولايات المتحدة التي ظلت على مدار عقود تتبع أسلوب الغموض الدبلوماسي في التعامل مع مشكلة النزاع العربي الإسرائيلي باعتباره أفضل نهج لتسوية هذا النزاع أو إدارته. قد قررت إدارتها الحالية المضي قدما في اتجاه معاكس بإقدامها على تحديد المواقف، وتوضيح الأمور بشكل يصعب تأويله على نحو يغاير واقع الانحياز المطلق لإسرائيل، وكان من أبرز دلالاته قيام الرئيس الأمريكي بتأييد نتنياهو في الانتخابات التشريعية الإسرائيلية الأخيرة بشكل كامل وعلني، عبر إغراقه بعدد من «الهدايا» –وأهمها القدس والجولان- والتي وإن جاءت على حساب حقوق الفلسطينيين وبعض الدول العربية، وخصما من مكانة الولايات المتحدة وسمعتها الأخلاقية، إلا أنها فتحت الآفاق أمام فوز نتنياهو في الانتخابات ما أدى إلى مسارعة ترامب بمباركة نتائجها عبر تأكيده بأنها تعزز من فرص السلام في المنطقة.
خامسا: أن اتجاهات نتنياهو القاطعة – والتي انعكست ملامحها أثناء حملته الانتخابية الأخيرة – تبين بجلاء أبعاد خططه وأهدافها من حيث الادعاء بأن إسرائيل لا تستطيع حل الأزمة، ولكنها تستطيع الاستمرار في إدارتها. وأنها تعتمد على ثلاثة عناصر تتمثل في الجدار الحديدي، واستنفاذ الوقت، واتباع طريق عدم الحل. مع تحمل توابع هذا الموقف أيا كانت الضغوط التي تتعرض لها عربيا وأوروبيا ودوليا. وهو الأمر الذي يفسر تحالف نتنياهو مع أشد عناصر اليمين تطرفا في إسرائيل، الذين لا يخفون اعتقادهم بضرورة ضم كافة الأراضي المحتلة لإسرائيل، وتشجيع العرب –حتى الإسرائيليون منهم – على ترك البلاد لأنه ليس هناك –من وجهة نظرهم –سلام ممكن أو مرغوب معهم.
سادسا: ومع ذلك فإن الشاهد أن هناك شعورا عاما بالقلق لدى دوائر أمريكية وإسرائيلية تجاه توجهات نتنياهو في هذا الشأن، وما تؤدي إليه من تفاقم الانقسامات داخل إسرائيل. فضلا عن إصرار نتنياهو – ربما لصرف الأنظار عن الاتهامات الجنائية الموجهة إليه واستجداء أصوات الناخبين لإنقاذه من عواقبها – علي إظهار نفسه بمظهر الوحيد القادر على حماية إسرائيل ضد أعدائها. ومعاملة كل من له آراء مخالفة في هذا الشأن باعتباره انتهازيا أو خائنا، فضلا عن مهاجمته للصحافة الحرة، وخصومه السياسيين. إضافة إلى التأثيرات السلبية التي تشيعها الأجواء «العنصرية» لسياسته، وتثير التناقض بين فكرة يهودية الدولة وما يتبعها من تفرقة ضد العرب الإسرائيليين، وصورة إسرائيل التي تتفاخر بها باعتبارها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
v v v
ومن هنا، تظهر طبيعة الدوافع التي تقف وراء محاولات نتنياهو في الانفتاح على الدول العربية، ليس فقط من حيث انعكاساتها على حملته الانتخابية، وإنما أيضا لمحاولة استثمار حالة الاضطراب والتفاعل التي تفاقم حدة التوتر في المنطقة، وخاصة تجاه إيران. وتقديره بأن مثل هذه التطورات، التي تستدعي بالضرورة مشاعر التوجس ونوازع القلق لدى الدول الخليجية، خاصة في ضوء افتقاد دول المنطقة إلى إطار عمل أمني جماعي، وتصاعد إيقاع ممارسات إيران التوسعية، وزيادة حدة التوتر بينها وبين الولايات المتحدة في المنطقة. هذا فضلا عن رغبة نتنياهو في مواجهة الاتهامات التي تُحمّله مسئولية عزلة إسرائيل نتيجة سياساته تجاه الفلسطينيين. مما يدفعه إلى العمل على تقوية علاقاته مع دول غير صديقة ونجاحه في تحقيق هذا الهدف مع دول أوروبا الشرقية وبعض الدول الآسيوية والإفريقية. إلا أنه من الواضح أن الدول العربية، وخاصة الخليجية منها، هي التي تمثل المسعى الأكبر لجهده في هذا الشأن باعتبار أن نجاحه في تحقيق هذا المسعى يمثل «اختراقا» في جدار الرفض العربي لإسرائيل. كما يعتبر نجاحا لسياسته في اتجاه تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية، والمشاركة في أية تحركات أمنية ضد إيران، دون أن يقابلها تقديم أية تنازلات من جانبه في القضية الفلسطينية. وهو الأمر الذي يؤكد مقولته بأنه يؤمن بتحقيق السلام من خلال القوة. ويرى أن تشكيل التحالفات في المنطقة يجب أن يتم عبر الاعتراف بقيمة إسرائيل كثقل تكنولوجي ودفاعي واستخباراتي. ومن هنا كان اتجاهه لتجاوز المبادرات و المعادلات السابقة والتركيز على أن يكون انفتاحه على العالم العربي مستندا إلى ثلاثة ركائز سياسية، ليس بينها القضية الفلسطينية و تتمثل فيما يلي:
أولا: وضع إيران في المنطقة، وما أصبحت تشكله من تهديد سياسي، وإيدليوجي، وعسكري لكل من الدول العربية وإسرائيل. وأنه في ضوء ما هو معترف به إقليميا ودوليا من أن إسرائيل أصبحت القوة العسكرية الأضخم في المنطقة، والدولة الوحيدة التي تمتلك قدرة نووية على ساحتها. واعتمادا على رغبة إسرائيل في تجنب مواجهة الخطر الإيراني وحدها، باعتباره يشكل تهديدا إقليميا لكافة دول المنطقة، يستوجب التعاون المشترك بينها لمواجهته بما يؤدي لطمأنة الدول العربية على أمنها من التهديد الإيراني من ناحية، ويسفر -في نفس الوقت- عن تعزيز تموقع إسرائيل في المنطقة، ويمنحها شرعية أكبر في حركتها ضد إيران.
ثانيا: تقدير إسرائيل بحاجة دول الخليج إلى منصة أمن ومراقبة متطورة يمكن أن تشكل عامل ثقة أمنية لهذه الدول من أية تفاعلات داخلية إرهابية، أو تهديدات أمنية خارجية. خاصة مع خبرة إسرائيل الواسعة، وحيازتها لأنظمة متطورة لمواجهة هذه التحديات.
ثالثا: أن الدول العربية، والخليجية منها بصفة خاصة، رغم علاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة، إلا أن هذه العلاقات يحدها الاعتماد على صلات طيبة بشخصيات نافذة في واشنطون كبديل لافتقادها للدعم الواسع من الكونجرس والشعب الأمريكي. فضلا عن المشكلات التي يمكن أن يسببها داعمو إسرائيل في واشنطون للمصالح والمطالب العربية، خاصة في ضوء تمتعهم بنفوذ سياسي قوي لدى أصحاب القرار في واشنطن. لذلك فإن الانفتاح العربي الإسرائيلي يمكن أن يساهم في التخفيف من هذه المعارضة، وقد يسفر عن إعادة تأكيد الولايات المتحدة لالتزاماتها الأمنية تجاه هذه الدول خاصة إذا تم ربط أمنها بالأمن الإسرائيلي.
v v v
وإذا كانت بعض الدول العربية- وخاصة الخليجية – قد استجابت لمحاولات الانفتاح الإسرائيلية من خلال استقبال بعض كبار المسئولين الإسرائيليين في بلادهم، أو السماح لبعض الوفود الشعبية بزيارة إسرائيل، أو إجراء مقابلات بين شخصيات عربية وإسرائيلية على مستوى أكاديمي. إلا أن الشاهد أن هذه التحركات لم تتخط حدود جس النبض، أو استكشاف النوايا، أو إبقاء الخيارات مفتوحة أمام أية احتمالات مستقبلية. كما أنها لم تتجاوز هذا الإطار إلى طرح أفكار أو تقديم مبادرات، أو القيام بوساطات، أو اتخاذ مواقف مغايرة للموقف العربي العام من القضية الفلسطينية، وتجاه السياسات الإسرائيلية.
وبالرغم من وجود اتجاه عربي عام لا يُخفي اعتقاده بمسئولية الفصائل الفلسطينية – عبر تعميق انقساماتها، وتوسيع خلافاتها، وتضارب حساباتها – عن تهميش قضيتهم، وإفقادها الزخم الدولي والعربي والداخلي، لاسيما في أوساط الأجيال الأصغر سنا. وذلك في نفس الوقت الذي تتغافل فيه عن حدة التطورات والتفاعلات المستجدة على الساحة العربية، والتي أصبحت تتطلب – أحيانا- تغيرا في الأولويات، وتركيزا على مصالح وطنية أكثر إلحاحا. إلا أن الواضح، مع ذلك، أن تيار الدعم العربي لحقوق الفلسطينيين لم يضعف اندفاعه، كما أن الموقف العربي من رفض أية مبادرات أو صفقات تُخرج القضية عن مسارها المتفق عليه عربيا، أو لا تنسجم شروطها مع المعايير الدولية ما زال محتفظا بمبدأيته وتماسكه.
v v v
وبذلك يمكن القول إن محاولات الانفتاح الإسرائيلية على الدول العربية – طالما أنها تتم في إطار سياساتها المتشددة والمنغلقة– ستظل تعاني من ضيق المساحة، وصعوبة التحرك، وانسداد الأفق، خاصة في ضوء التقدير العربي العام والإدراك الرسمي الكامل للاعتبارات الآتية:
أولا: أن شعور التماهي العربي مع الفلسطينيين، ونوازع العداء لإسرائيل مازالا متجذرين بعمق في النسيجين الثقافي والسياسي في المجتمع، وتتصاعد وتيرته مع تصاعد تشدد الحكومة الإسرائيلية وتبلور أهدافها التوسعية في الأراضي المحتلة. وبالتالي يصعب تخلي الدول العربية ببساطة عن مواقفها التي اتخذتها لعقود طويلة سواء في مساندة الحقوق الفلسطينية، أو إدانة الممارسات الإسرائيلية. خاصة وأن أي تغير في موقفها قد يؤدي إلى منح الفرصة لقوى «الممانعة» لإثبات مزاعمها بأنها الداعمة الحقيقية للقضية الفلسطينية، بما قد يمكنها من استقطاب الأعداء الداخلين من معارضين أو متشددين أو إرهابيين في الدول المعنية.
ثانيا: أن اتخاذ أية مواقف متهاونة حيال القضية الفلسطينية، وإعطاء إسرائيل انطباعا زائفا بتخفيف الالتزام العربي تجاه هذه القضية، في وقت تعاني فيه المنطقة من اضطراب إقليمي متصاعد، وتشهد فيه أحوالها سيولة في الأوضاع وتقلبا في التوجهات، من شأنه تعريض الدول المعنية لمواقف محرجة إذا ما تغيرت الظروف، ووجدت نفسها عالقة في الجانب غير الصحيح من المعادلة.
ثالثا: أن مساعدة إسرائيل على تحقيق اندماج أكبر لها في المنطقة –مع افتقاد حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية – قد يكون له آثار جانبية معقدة، كما أنه قد يثير احتمالات يصعب توقعها. من حيث تمكين إسرائيل من تحقيق مكاسب مجانية دون مقابل، وذلك في وقت تكون قد ترسخت فيه فكرة عدم الحاجة لمعادلة حل الصراع في مقابل إقامة علاقات مع العالم العربي، وهو ما يضع الفلسطينيين في موضع أكثر انعزالا بعد أن يجري حرمانهم من مصدرهم الأساسي في الضغط على إسرائيل، في نفس الوقت الذي قد يجد الجانب العربي نفسه في موقف محفوف بالمخاطر دون أن يكسب به أكثر مما لديه أصلا.
رابعا: أن معادلة الربط بين التقارب مع إسرائيل، وتحقيق علاقات مع الولايات المتحدة قد لا تسفر بالضرورة عن النتائج المرتقبة منها عربيا. وتظهر دلالة هذا التقدير في موقف الكونجرس الأمريكي من المشاركة الأمريكية في حرب اليمن، وواقعة اغتيال الصحفي السعودي في إسطنبول، واستصدار قانون جاستا حول الإرهاب، وذلك رغم موقف نتنياهو المعلن من تأييد الجانب العربي في هذه القضايا. هذا فضلا عن استبعاد فكرة ربط الأمن الإسرائيلي بأمن دول الخليج ثمنا لاستعادة الولايات المتحدة لالتزاماتها الأمنية تجاه هذه الدول، ليس فقط لمواقف مبدئية ومبررات سياسية وشعبية، وإنما أيضا من واقع تقدير سياسي وأمني بأن سعي إسرائيل الدؤوب للدخول في نطاق عمل القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط يمكن أن يضع الحاجات الأمنية العربية تحت رحمة متطلبات إسرائيل الأمنية.
v v v
ولا يبقى بعد ذلك إلا الإشارة إلى أن التقارب بين بعض الدول العربية وإسرائيل لا يمثل في حد ذاته «المشكلة»، إذ أن الجانب العربي قد تجاوز هذه المرحلة عبر ارتضائه تطبيع العلاقات مع إسرائيل في مبادرة السلام العربية، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في رفض الجانب الإسرائيلي التقيد بأية مسئوليات بمقتضى مبدأ تقابل الالتزامات بين طرفي المعادلة، وإصرارها على التعامل مع الفلسطينيين من موقع المنتصر، وكذلك في الموقف الأمريكي الداعم لهذا الاتجاه عبر الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على كل من القدس والجولان، وإسقاطهما من جدول أعمال المفاوضات المفترضة، ومن خلال تجنب توصيف وضع القوات الإسرائيلية في الأراضي العربية باعتبارها قوات احتلال، بما قد يشير إليه هذا الموقف من احتمالات لاعتراف أمريكي قادم بالسيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المقامة عليها المستوطنات. هذا فضلا عن التصور المعلن لنتنياهو حول السلام من خلال القوة، ورفضه الربط بين العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية وبين تطور عملية السلام مع الفلسطينيين. وكلها عوامل توضح بجلاء الطريق المسدود الذي تسير فيه ما يسمى «بصفقة القرن». وما تثيره من مشاعر القلق والتوجس، نتيجة ما جرى تسريبه منها، وما سبقها من قرارات أمريكية اعُتبرت بمثابة تهيئة المناخ السياسي لها، ووضع اللبنات الأساسية لتنفيذها. خاصة مع الاعتقاد العربي بقيام الصفقة على افتراضات هشة، وأوهام متخيلة سواء للواقع العربي أو للظروف الفلسطينية، التي تتضح دلالاتها فيما يلي:
أولا: افتراض إمكانية تهميش دور الفلسطينيين، والاعتماد على بعض الدول العربية لإقناعهم، أو الضغط عليهم لقبول بنود الصفقة، أو على الأقل قبول التحاور حولها.
ثانيا: توهم إمكان تراجع المشاعر الوطنية الفلسطينية، وخفوت نوازع ارتباطهم بالأرض وتمسكهم بحلم الدولة. وإمكان قبولهم التعويض بحوافز اقتصادية ترفع عنهم المعاناة، ثمنا لموافقتهم على تجاوز حل الدولتين، والموافقة على منظور جديد لمباحثات السلام تسقط بمقتضاه قضايا التفاوض الخمس.
ثالثا: افتراض إمكانية قبول الدول العربية بدعم خطة سلام أمريكية لا تتضمن مسارا واضحا نحو إقامة دولة فلسطينية، وإساءة التقدير بالنسبة لقوة الإرادة الشعبية العربية في رفض مثل هذا المسار، وذلك تحت وهم وهن التأييد العربي الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية، وافتراض أن حرص الدول العربية على علاقاتها بالولايات المتحدة ستردعها عن ترف رفض الصفقة.
رابعا: التقدير بإمكانية تسوية القضية الفلسطينية من خلال سياسة الصفقات والمقايضات، واللجوء إلى أسلوب التهديد والفرض إذا لم يتم الاستجابة للمطالب الأمريكية، والاعتماد على فريق مفاوِض لا يُعرف عنه دراية خاصة بالشئون الخارجية، أو خبرة سابقة بتعقيدات وخفايا النزاع العربي الإسرائيلي. وانحصار “كفاءته” في تأييده المطلق لإسرائيل.
v v v
ومن هنا، كان التوقع العربي العام بفشل هذه الصفقة لاستنادها إلى تغير المعطيات الأساسية على ساحة المنطقة، ولتعاملها مع القضية الفلسطينية بمنطق التسوية الفوقية التي تُفرض بحكم موازين القوى الجديدة، وشروط الواقع الفلسطيني واحتياجاته المعيشية، إضافة إلى وهم اعتبار أن هذه الظروف تمثل فرصة لتطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية، خاصة الخليجية منها. وهو الأمر الذي يفسر –في مجموعه- الموقف العربي المتحفظ علي التقدير الأمريكي، والحريص على اتخاذ سياسة النأي بالنفس عن الصفقة، واعتبار أن ما صدر من مقدمات لها، وطُرح من تسريبات حولها، لا يشجع الدول العربية على دعمها، أو محاولة إقناع الفلسطينيين بها، أو تطوير العلاقات مع إسرائيل على أساسها.
ومع ذلك فإن المعتقد أن خطورة هذه الصفقة تتجاوز المعطيات السابقة، وتتمثل امتداداتها وتشعباتها في الاعتبارين التاليين:
أولاً: أن ممارسة الأمريكيين أقصى الضغوط على الفلسطينيين قد تضع السلطة في موقف مالي بالغ الحرج، وقد تهدد استقرار وضعها السياسي، وإنما لن تجبرها على قبول الصفقة، ولن تردع الدول العربية والإسلامية عن الاستمرار في تأييد الفلسطينيين ورفض الصفقة، خاصة وأن إسرائيل نفسها توافق عليها بتحفظ ليس بهدف تحقيق السلام مع الفلسطينيين وإنما بأمل الانفتاح على دول الخليج.
ثانيا: أن صفقة القرن الأمريكية –رغم توقع فشلها – ستظل تطرح نفسها مستقبلا على الإدارات الأمريكية القادمة، نتيجة صعوبة التراجع عن الأسس التي وضعتها للمقاربة الأمريكية من النزاع العربي الإسرائيلي، خشية من ردود الأفعال الساخطة والضاغطة من حلفاء إسرائيل في الداخل الأمريكي.