التحولات السريعة التي تشهدها السياسة الأمريكية منذ تولي ترامب مقاليد الحكم تثير كثيرا من الجدل والخلاف حول دوافعها ودلالاتها وجدواها، خاصة من منظور الانسحاب من الاتفاقات والالتزامات الدولية، والتراجع إلى الحدود الجغرافية السياسية وإقامة جدران عازلة مع دول الجوار، وتخفيض مستوى الاهتمام بالعلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين، وتصعيد مظاهر الخلاف مع الخصوم التقليديين.
ولذلك، فإن كثيرا من التساؤلات أصبحت تُطرح حول أهداف هذه التحولات، وعما إذا كانت تمثل ارتباكا في طبيعية التعامل السياسي الأمريكي مع دول العالم، أم أنها تعبر عن اتجاه أمريكي للتعامل مع القوى الفاعلة على الساحة، بشكل انتقائي، بحسب تفهم هذه القوى للأفضليات الأمريكية وتقبُلها لتأثيراتها. أم أنها تعكس ازدواجية في سياسات ترامب وإدارته بين وطنية شعبوية تسعى إلى الانكفاء عن الآخر، واستعلاء، يرقى إلى حد العنصرية، في تقدير مواقف هذا الآخر، وتكييف سياساته وفقا لمصالحها.
وإذا كانت هذه التحولات قد أثبتت بوضوح أن الدوافع الرئيسية التي أصبحت تحكم توجهات ترامب تتركز في تفضيله إرضاء قاعدته الانتخابية، والحفاظ على تأييدها على أية اعتبارات أخرى، فإن واقع الأمر يشير إلى أن هذه التحولات تطرح كثيرا من الإشكاليات حول الطبيعة المتغيرة للدور الأمريكي على الساحة العالمية، وتأثيراته السلبية على صيغة التوازن في النظام الدولي، خاصة فيما تعكسه من عجز الإدارة الأمريكية على بلورة رؤية استراتيجية متماسكة لهذا النظام. فضلاً عن أن هذا الدور يكشف الأزمة التي أصبحت تطبع السلوك الأمريكي من حيث امتلاكه للقدرة العسكرية وعجزه – في نفس الوقت – على توجيهها في الاتجاه المرغوب. وذلك ليس فقط لإصرار ترامب على اتباع نهج العفوية والانطباعية في اتخاذ قرارته، وإنما أيضا لحرصه – في نفس الوقت – على إظهار اتجاهه لعدم توريط القوات الأمريكية في أية نزاعات عسكرية. وهو ما أدى، بالتبعية، إلى فقد القدرة العسكرية الأمريكية مصداقيتها نتيجة عزوف ترامب عن استخدامها في خدمة القرار السياسي الأمريكي، خاصة في ضوء تذبذب هذا القرار وتصاعد احتمالات التراجع عنه بنفس سرعة اتخاذه، الأمر الذي يعطي – في مجموعه – الانطباع بضعف القدرة الأمريكية على تحمل دور القيادة العالمية منفردة. ومن ثم سيادة الاعتقاد بأن التفوق العسكري الأمريكي لا يدخل بالضرورة في توازنات القوة الشاملة مع القوى الدولية الأخرى طالما أنه لا يخدم القرار السياسي للدولة.
ولعل إدراك القوى الكبرى والإقليمية هذا الوضع هو ما دفعها إلى التعامل مع هذه المرحلة باعتبارها مؤقتة وانتقالية، يمكن استنفاذها لتحقيق المزيد من القوة العسكرية، وبناء النفوذ السياسي والاقتصادي، دون خوف من إثارة ردود أفعال أمريكية.
v v v
وبالرغم مما تفرضه هذه التحولات على السياسة الأمريكية من أضرار استراتيجية بمصالح البلاد في ضوء اتصالها بموقع أمريكا الريادي على الساحة العالمية، وتعلقها بحسابات القدرة العسكرية الأمريكية بمنظورها الشامل، إلا أن الواضح أن هذه التحولات يمكن وضعها في إطار محاولة ترامبية غير مخططة، ناتجة عن فهم مغلوط، لأسباب تدهور القدرة الأمريكية بادعاء أنها ترجع إلى حجم الأعباء والالتزامات التي تتحملها الولايات المتحدة للدفاع عن حلفائها وشركائها، بما يستلزم مطالبتهم بالمشاركة في تكاليفها وتسديد كافة الفواتير المتأخرة. وقد تسبب هذا المنطق التجاري المبسط في خلافات واسعة بين أركان المؤسسة الأمريكية الحاكمة، وأجهزة الإعلام الأمريكية، ورؤساء دول حليفة للولايات المتحدة في أوروبا والمنطقة العربية. وذلك رغم نجاح هذا المنطق في جذب تأييد الناخبين البسطاء من أنصار الرئيس الأمريكي المتعلقين بوعوده وشعاراته باستعادة مقومات « أمريكا العظمى »، وهو الأمر الذي دل بوضوح على أن الإدارة الأمريكية هي التي تخلط الأوراق، وتتجاهل الحقائق على الأرض، حيث إن المعروف – تاريخيًا – أن التراجع الأمريكي لا يعود فقط إلى الإنفاق العسكري الذي تحملته الولايات المتحدة – راضية – باعتباره مقابلاً عادلاً لتفردها بموقع القطب العالمي الأوحد الذي تُدافع، عبره، عن خططها ومصالحها وقيمها، خاصة مع إدراكها بأن حلفاءها العرب قد شاركوا بالفعل في حربها على الإرهاب، وساهموا معها في هذه الحرب ماليًا وأمنيًا، فضلاً عن استجابة حلفائها الغربيين بزيادة مساهماتهم في ميزانية حلف الأطلنطي. وإنما يعود هذا التراجع – أساسًا – إلى عوامل أخرى كثيرة منها، نكوص الناتج القومي الإجمالي للبلاد، ونمو الاقتصاد الصيني، وظهور أوروبا الموحدة، والاحتمالات المتزايدة لبناء نظام عالمي واقتصادي جديد متعدد الأطراف، قد لا يعتمد في المستقبل المنظور على الدولار الأمريكي، وغير ذلك من أسباب.
v v v
وإذا كان الشاهد أن الولايات المتحدة تعاني من تراجع نسبي في قدراتها الاقتصادية، وتآكل في نفوذها السياسي على المستوى الدولي، فإن واقع الأمر يشهد على أنها ما زالت تمثل القوة العسكرية الأولى في العالم دون منازع، كما أنها ما زالت تحظى بأكبر قدر من القوة الناعمة المتمثلة في نمط الحياة ونموذج المعيشة وغيرها. ورغم ذلك فإن الانكفاء إلى الداخل وتحول أمريكا إلى دولة حبيسة حدودها، يمثل احتمالاً واردًا في اعتقاد بعض الدوائر السياسية النافذة في البلاد، وذلك في ظل سياسة ترامب الخارجية، وفي إطار النتائج التي أدت إليها سواء من حيث الانقسام الأمريكي داخل الكونغرس، أو بين أنصار الرئيس داخل حزبه من المطالبين بأمريكا أولاً، أو الداعين إلى الإمبراطورية الأمريكية.
إلا أن الواضح أن هذه الاحتمالات يدحضها واقع البلاد السياسي ونمط الحكم التنظيمي والقانوني فيها. حيث لا يملك الرئيس الأمريكي القدرة – وربما الرغبة – على إجراء مثل هذه التغييرات الاستراتيجية الجذرية – بمفرده- على الدور الأمريكي في الساحة العالمية، خاصة وأن مؤسسات الدولة العميقة المستندة إلى توازن السلطات، والمحتكمة إلى الدستور والقانون والخبرات التاريخية، والمؤيدة بقوة من طرف الصحافة والمؤسسات الإعلامية الكبرى، تستطيع أن تحد من اندفاع الرئيس، وأن تعقلن من توجهاته وأن تضع حدودا لسياساته في حالة تعريض المصالح الأمريكية للخطر، فضلاً عن أن الاتجاه السياسي الأمريكي المتصاعد، والذي تتشارك فيه وجهتا نظر إدارتي أوباما وترامب بالمضي قدمًا في إجراءات الانسحاب الجزئي من منطقة الشرق الأوسط، في ضوء تعدد أزماتها، وخطورة التورط في مشكلاتها، وضعف مردود النشاط الأمريكي على ساحتها، وذلك في سبيل الاتجاه إلى تركيز جهودها على مصالحها الاستراتيجية الأوسع في القارة الآسيوية، لمواجهة الطموح الصيني المتصاعد في جنوب بحر الصين، ومراقبة النشاط الروسي الراغب في البناء على نجاحاته في أوكرانيا وسوريا، ولجم سياسات كوريا الشمالية وطموحاتها في رفع حصيلة مكتسباتها. وكلها معطيات لا تُنبِئ بتخلي الولايات المتحدة عن مسؤولياتها الدولية، أو الانسحاب – بجرة قلم – من المشاركة في قضاياها الساخنة، أو التقوقع – بقدراتها الاستراتيجية الجبارة – داخل حدودها السياسية، وإنما التقدير الأغلب أنها تعيد تقييم أولوياتها، وتركيز اهتماماتها، ومد قدراتها إلى الأماكن التي تمثل لها أفضلية في تحقيق مصالحها الاستراتيجية وتثبيت مكانتها الدولية.
v v v
ومن هنا تظهر تداعيات التطورات الإقليمية والدولية، وتغير اتجاه المصالح الأمريكية إلى دفع منطقة الشرق الأوسط في أسفل قائمة أولويات الولايات المتحدة. وذلك وفق تقدير تتشارك فيه وجهتا نظر الإدارة الأمريكية السابقة والحالية استنادًا إلى الاعتبارات التالية:
أولاً : أن الولايات المتحدة أصبحت متورطة – سياسيًا وعسكريًا – أكثر من اللازم في المنطقة الأمر الذي يفرض عليها تركيز اهتماماتها وتكريس جهودها في المناطق الأكثر حيوية لمصالحها. وهو اتجاه لا يعكس، من وجهة النظر الأمريكية، ميلا أيدليوجيا أو نزوعا شخصيا، وإنما يرجع إلى تغير عميق في الديناميكية الإقليمية، وفى المصالح الأمريكية الأوسع. كما أنه لا يعكس رغبة في الانسحاب التام من المنطقة، وإنما يطمح للتعامل معها بمستوى سياسي أقل، وجهد دبلوماسي أهدأ، وإنفاق مالي أضعف.
ثانيًا: أن القول بأهمية الشرق الأوسط للولايات المتحدة لا يعني أن إنقاص الالتزام الأمريكي تجاهها سيكون بالضرورة مفيدا للمنطقة. وإنما يشير إلى أن الولايات المتحدة تريد أن تُنهي الآمال الزائفة بقدرتها على تحقيق النظام والاستقرار على ساحتها بشروطها. وذلك دون تكاليف عالية، والتزامات طويلة الأمد من شأنها أن تزيد من إحباط الرأي العام الأمريكي بمشاكل المنطقة التي لا تنتهي. وأن تُبقي على حالة عدم الوضوح بالنسبة للالتزامات الأمريكية، وأن تهدد بمخاطر تورطها في نزاعات عسكرية بالمنطقة.
ثالثًا: أن مناطق أخرى صاعدة على المستوى العالمي قد أصبحت أكثر أهمية للاستراتيجية الأمريكية الشاملة، بما يتطلبه ذلك من إعادة التوازن في توزيع القدرة الأمريكية لتخفيف التزاماتها في المناطق التي أصبحت تمثل عبئًا عليها، وتكثيفها في المناطق ذات الثقل الخاص لمصالحها الاستراتيجية.
رابعًا: أن وفرة الإنتاج الشامل في مجال البترول، وتنوع مصادره في الأسواق الدولية نتيجة تطور الوسائل التكنولوجية في عمليات استخراجه، قد أضعفت من قوة عامل البترول كدافع للسياسة الأمريكية، وقللت من قدرة دول المنطقة في السيطرة على أسعاره، كما خففت من قلق الولايات المتحدة ومسئوليتها في حماية تدفق البترول من مصادره.
خامسًا: أن النزاعات بين الدول المحلية في المنطقة التي هددت المصالح الأمريكية بشكل مباشر في الماضي، قد تم استبدالها بالتهديدات الأمنية من داخل هذه الدول نفسها، وهو الأمر الذي يُصّعِب الموقف على الولايات المتحدة في ضوء ضعف قدرتها على احتواء هذه التهديدات من الخارج. وتتضاعف خطورة هذا الوضع في إمكانية تدفقه على الدول المجاورة بما يهدد بنشر الفوضى وعدم الاستقرار على أراضيها.
سادسًا: أنه بالرغم من الاتجاه الغالب في الأوساط السياسية المؤيدة للرئيس ترامب برفض القرار الخاص بالانسحاب الأمريكي من سوريا، إلا أن تقدير الإدارة الأمريكية الحالية، إذ يعترف بخطورة احتمالات تداعيات هذا الانسحاب، بدءًا بمنح روسيا والصين مكانًا ثابتًا على ساحتها، ومرورًا بتصاعد نشاط تنظيم داعش في أراضيها، وانتهاء بتكثيف التهديد الإيراني لحلفاء أمريكا فيها ,وزيادة الطموح التركي بملء الفراغ الناتج عن الانسحاب، إلا أن هذا التقدير يؤكد محدودية قدرة ورغبة كل من الصين وروسيا في إقامة هيمنة إقليمية في المنطقة، ليس فقط لتركيز روسيا أهدافها في سوريا على عاملي القوة والمال، ولرغبة الصين في توسيع روابطها الاقتصادية بدول المنطقة دون التورط في أي من مشاكلها، إلا أن الأهم في هذا الشأن – من وجهة نظر الإدارة الأمريكية – هو إدراك الطرفين بالثقل الهائل للدور الأمريكي في إدارة الأمن الإقليمي، واقتناعهما بعدم قدرة الطرفين على تعويضه أو ملء الفراغ الناتج عن انسحابه. هذا فضلاً عن وعيهما بإمكانية استعادة أمريكا – إذا رغبت – أفضلية مكانتها وقوتها في المنطقة حتى بعد الانسحاب منها.
سابعًا: أما بالنسبة لما تمثله داعش وإيران من تهديدات في المنطقة بعد الانسحاب ، فيتجه التقدير الأمريكي إلى أن مواجهة داعش لن تتغير حساباتها وموازينها كثيرًا، لأن القوات الأمريكية المتمركزة في العراق ستظل تقوم بمحاربتها في إطار التحالف الدولي استنادا إلى استمرار التزامها بمحاربة الإرهاب في المنطقة. أما إيران فإن مواجهتها تتم من خلال مضاعفة العقوبات الاقتصادية عليها، ومحاولة إشراك الدول الأوروبية في الالتزام بفرضها، وخاصة بعد ثبوت فاعليتها في إرباك الأوضاع الداخلية الإيرانية. هذا فضلاً عن الجهود الأمريكية في التوصل إلى تحالفات أمنية مع بعض الدول الحليفة في منطقتي المشرق العربي والبحر الأحمر، وتوسيع قاعدة الدول المشاركة في مواجهة التهديدات الإيرانية. وكذلك تكثيف اتصالاتها مع روسيا لمساومتها بالانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا، مقابل إنهاء التواجد الإيراني فيها، فضلاً عن الإصرار الأمريكي على لجم الاندفاعات التركية في ضرب الحليف الكردي بعد الانسحاب، حتى لو أدى الأمر إلى تأخير الانسحاب عن بعض القواعد الأمريكية في سوريا.
v v v
هذا وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد بدأت في تخفيف التزاماتها في المنطقة بالإعلان عن قرب انسحاب قواتها من سوريا، مع الإعراب – في نفس الموقف- لتغيير سياستها في هذا الشأن في حالات (1) تعرض مصالح حلفائها الأساسين للخطر. (2) إعاقة حرية الملاحة في الممرات البحرية الأساسية (مضيق هرمز باب المندب – قناة السويس). (3) محاربة الإرهاب من زاوية ضمان أمن الشعب الأمريكي والقوات الأمريكية المتمركزة في الخارج. إلا أن الشاهد من متابعة منطق الإدارة الأمريكية في عمومه بالنسبة لموضوع الانسحاب الأمريكي من المنطقة، أنه يحوطه كثير من اللبس والغموض الذي يمكن رصد مظاهره فيما يلي:
أولا : أن الانسحاب الأمريكي من سوريا التي يتمركز فيها عدد محدود من القوات الأمريكية بصفة مؤقتة، وتقتصر الأهداف الأمريكية فيها على لجم النشاط الإيراني، وحماية الأكراد، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل. ولا يقلقها الانسحاب منها، بقرار رئاسي منفرد، في ضوء غياب مصالح حيوية لها في سوريا. كما أنها لا تمانع في تحميل المشكلة برمتها لروسيا بعد الانسحاب من سوريا. خاصة مع اطمئنانها للالتزام الروسي الصارم بأمن إسرائيل. وذلك بعكس الحال بالنسبة للانسحاب الأمريكي من المنطقة التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بنفوذ تاريخي، وترتبط بمصالح وتحالفات والتزامات مع شركائها. وتواجه صراعات وتنافسات مع خصومها، وتتواجد على ساحتها قواعد عسكرية، وتمركزات أمنية، وأساطيل بحرية وحاملات طائرات جوية. فإن الشاهد أنه يصعب الانسحاب الكامل منها إلا بقرار استراتيجي يعكس تغييرا حادًا وتحولا جذريا في الاستراتيجية الأمريكية لا يتعلق فقط بمنطقة الشرق الأوسط وإنما يتصل أيضا بامتداداتها في البحر المتوسط والبحر الأحمر.
ثانيا: أن السياسة الأمريكية الهادفة لاحتواء إيران عن طريق العقوبات الاقتصادية تشكل في حد ذاتها مشكلة تتعلق بموقف أوروبا التي ترفض بعض دولها هذه العقوبات، وترغب في استمرار الاتفاقية النووية مع إيران، وتعمل على إقامة آلية مالية مستقلة لإيجاد قنوات بديلة للتحويلات النقدية إلى إيران، وهو الأمر الذي يقلق الولايات المتحدة من جراء احتمال قيام دول أوروبية أخرى بسلوك نفس الطريق، أو أن يجري استخدام هذه الآلية في غير الأغراض المحددة لها، الأمر الذي دفعها لحث الأوروبيين على الخروج من الاتفاق وتحذيرهم من محاولة الالتفاف على العقوبات.
ثالثا: أن محاولة أمريكا احتواء إيران عبر فرض عقوبات اقتصادية عليها، ورفع يدها – في نفس الوقت- عن مواجهتها عسكريا، والإيعاز بإقامة تحالف دولي – تمثل بؤرته بعض الدول العربية الحليفة – لمواجهة الخطر الإيراني في المنطقة، تُشكل اتجاها يحمل في طياته احتمالات تعثره، من جراء الاختلافات العميقة بين الدول الأوروبية حول السياسة الأمريكية تجاه طهران، فضلاً عن عدم اجتماع الدول العربية على مقاربة واحدة من الخطر الإيراني، وغياب استعداد متساو لديهم للمساهمة في مواجهة هذا الخطر. إضافة إلى التوجس العربي من بعض توجهات السياسة الأمريكية التي تفضل إدارة الأزمة الخليجية على حلها، كما أنها لا تدرج اليمن في استراتيجيتها المضادة لإيران.
رابعا: بالرغم من اتجاه الرئيس ترامب في السير على خطوات أوباما في الانسحاب من سوريا أولا، ثم من المنطقة بعد توزيع الأدوار على اللاعبين الإقليميين والدوليين منها، إلا أن طابع التردد والمراوغة يغلب على سياساته من حيث التأكيد – من ناحية –على أن تنفيذ الانسحاب لن يغير شيئا في المنطقة، في نفس الوقت الذي يُسَّوق فيه المسئولون الأمريكيون فكرة أن الفوضى ستملأ أي فراغ يخلقه الغياب الأمريكي على ساحتها. وهو ما ينسف الأساس الذي تُبنى عليه المبررات الأمريكية للانسحاب المتمثل في هزيمة داعش وزوال التهديد الذي تشكله على القوات الأمريكية وحلفائها في المنطقة.
خامسا: أن العراق – بمجمل توجهاته السياسية – لا يخفي تحفظاته على استمرار التواجد العسكري الأمريكي على أراضيه، خاصة في حالة تجاوز أهداف هذا التواجد من محاربة الإرهاب، إلى مراقبة أو مواجهة النشاط الإيراني في المنطقة. وذلك في ضوء حساسية الموقف الداخلي العراقي – بحمولاته الطائفية والمذهبية والسياسية –من اتخاذ أية مواقف يُشتم منها “مناوئة” إيران. فضلا عن رغبته في أن يكون له علاقات طيبة بكافة دول الجوار، أيا كانت توجهاتها، لشدة حاجته إلى توفير الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار في البلاد.
سادسا: ومع ذلك فإن الشاهد أن التقديرات السابقة التي يجري رسم ملامحها العامة وتحديد خطوطها العريضة في مؤسسات الحكم الأمريكية، وأجهزة الدولة العميقة، يمكن أن تتعرض لتقلبات المزاج النفسي، والتقدير الانطباعي للرئيس الأمريكي، الأمر الذي قد يضعف من تأثيراتها، ويربك تراتيبيتها، ويخل بتوازنها حتى إذا تراجع عن موقفه بعد حين.
v v v
وبناء على التقديرات السابقة يمكن تحديد الإطار العام للسياسة الأمريكية في المنطقة. في سياق التغيرات التي تشهدها الاستراتيجية الأمريكية، والعوامل التي تمر بها عملية اتخاذ القرار في واشنطن، والظروف المتقلبة على ساحة المنطقة، والاعتراف بحقيقة أن ما يكون في صالح السياسة الأمريكية قد لا يكون في صالح دول المنطقة، في الملامح التالية:
أولا: أن الولايات المتحدة لا تستطيع الانسحاب من المنطقة ككل حيث إن مصالحها الاستراتيجية ما زالت تتطلب تواجد قدراتها وقواتها وقواعدها العسكرية على الساحة، وإن كان هذا التقدير لا ينفي اتجاهها إلى تخفيف التزاماتها، ووضع ضوابط لسياستها في مناطق، وإعادة توزيع تواجدها في مناطق أخرى تبعا لتغيرات المصالح الأمريكية الشاملة.
ثانيا: أن الواضح أن أمريكا ستمضي في استراتيجيتها لاحتواء إيران بوسائل سياسية واقتصادية، بينها التوسع في فرض عقوبات اقتصادية عليها. وحشد الدول الحليفة ضدها، ومحاولة إقامة تحالف عربي لاحتوائها، والربط ما بين السلام في المنطقة ومواجهة إيران على ساحتها، وإن كانت ردود الأفعال السائدة هي الاستجابة لإدانة إيران سياسيا، والتحفظ على اتخاذ إجراءات عقابية ضدها. وهو ما يظهر جليا في مواقف الدول الأوروبية الرئيسية، خاصة في ضوء تقدير بعضها أن الرئيس الأمريكي يبالغ في استعراض قوته ضد إيران وفنزويلا لتغطية انسحاباته من سوريا وأفغانستان.
ثالثا: أن التوقع أن تمضي السياسة الأمريكية في إجراءات الانسحاب من سوريا، وتحميل روسيا مسئولية التطورات الجارية على ساحتها، والنتائج المترتبة عليها، سواء أكانت متعلقة بالترتيبات الروسية الإسرائيلية في الأراضي السورية للحفاظ على أمن إسرائيل من التحركات الإيرانية، أو متصلة بمحاولات إيران المتوقعة لإعادة التموضع في الأراضي السورية عقب الانسحاب، أو دافعة للطموحات التركية لملء الفراغ الناتج عن الانسحاب واستثماره في ضرب الأكراد. وكلها مهمات تزيد من أعباء روسيا، خاصة في ضوء تشككها في موقف ترامب من الانسحاب، خاصة بعد قراره بالإبقاء على عدد محدود من القوات الأمريكية، تنضم إليها قوات أوروبية، لضبط المنطقة الأمنية في شمال شرق سوريا.
v v v
هذا وإذا كانت الولايات المتحدة تتحرك بتأن في المنطقة، وفى حسبانها وقع التحرك الروسي على ساحتها، إلا ما يطمئنها في هذا الشأن هو علمها بأن روسيا لا تمتلك القدرة – أو الرغبة – في السيطرة على مقدرات المنطقة، إذ أنها تحرص على تخفيف التورط في أية منافسات ليست لها موقع الأفضلية فيها. فضلاً عن أنها رغم استفادتها من تراجع الاهتمام الأمريكي النسبي بالمنطقة، فإنها ليست مسئولة عن هندسة التحول الكبير للسياسة الأمريكية فيها. ولذلك فإنه في ضوء غياب الاعتبارات الأيدليوجية عن السياسة الروسية، وعدم تقيدها بالقيم التي تقيد أمريكا وأوروبا نفسها بها، فإنها تحرص على الحفاظ على علاقات «وظيفية» مع جميع الأطراف بما فيها الفرقاء المتعادون. كما أنها تدير شبكة من العلاقات السياسية والاقتصادية بين إيران وتركيا وإسرائيل. وتظهر حساسية الدور الروسي في جمعه بين كافة المتناقضات التي تشهدها ساحة المنطقة. إذ بالرغم من المكاسب الكثيرة التي حققتها روسيا من الجانب العربي في سياق الأزمة، فإنها ما تزال متمسكة بالتحالف مع إيران. كما أنها تراهن على تحالف مع تركيا لقاء منحها – بشروط – رقعة من النفوذ في سوريا. وذلك في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على درجة من التنسيق مع إسرائيل تمكنها من ضرب بعض التمركزات الأمنية الإيرانية في سوريا، لقاء الإبقاء على باب المساومة مفتوحا مع الولايات المتحدة. ¢